مهاد
ينطلق الحوار الإنساني دائما بوصفه نتاجا عقليا من قاعدة الإقرار بالآخر واحترام نتاجه الفكري في حقوله المتنوعة. فالحوار يعني وجود متحاورين يصغيان لبعضهما لحاجة ماسة إلى هذا التفاعل من أجل الوصول إلى نتائج مشتركة، ليس بالضرورة أن تكون متطابقة. فالمفترض أن تكون متكافئة.. تمتلك كلّ منها القدر الكافي من الندية والمساواة والأهلية.
كان الحوار الإنساني منذ البدء بين الإنسان والطبيعة حوارا غير متكافئ، حوارا يغلب عليه طابع التبعية السلبية لمعطيات الطبيعة وإملاءاتها على الإنسان، الإنسان الذي فقد إدارة الحوار مع الطبيعة وبات عبدا لنتائج تقلبات دورتها الحياتية الفيزيقية والميتافيزيقية .. فعندما تغضب الطبيعة وتثور ببركان أو زلازل أو هزة أرضية أو خسوف أو كسوف، تجد الإنسان مذعورا عن ملاحقة هذا الحوار غير المتكافئ، تراه مندحرا وسلبيا ومستسلما لأوهامه التي يصنعها لدرء هذه الظواهر. الإنسان في تطوره العقلي والروحي بدأ يمارس محاولاته الشخصية العقلية والروحية لتفسير هذه الظواهر.. وكانت مسيرته شاقة حقا وقد تكللت ببعدين:
الأول : البعد اللاهوتي الذي يمثل الجانب الروحي واليقيني لمصدر معرفة الإنسان عن أصله وفصله وعن طبيعته القاصرة في فهم بعض الظواهر الطبيعية التي هي من اختصاص السماء والآلهة، وهذا البعد قد ساهم جديا في بناء الإنسان المطمئن من قدره ونهايته .. الإنسان الذي يمتلك تفسيرا روحيا لكل ما يدور حوله، وقد ساهمت كل الديانات والعقائد السماوية والتوحيدية في إرساء هذه المتاريس والدروع في نفس الكائن البشري، لتجاوز هيمنة الطبيعة وتحويل مسار الهيمنة إلى قوة أعلى لها طاقة وقدرة غير محدودة، فسميت بالله، أو أي شيء آخر يمتلك هذه الهيمنة والشمولية، وبهذا فقد صار للإنسان أن يطمئن على مسار حياته الحاضرة والمستقبلية.
البعد الثاني: وهو نتاج العلوم الوضعية والفلسفات الإنسانية والآداب والسرديات عموما، وهذا البعد ساهم في خلق الإنسان الشكاك، القلق، المتذمر، كثير السؤال، غير المستكين لعبثية الطبيعة وكوارثها، فحاول وهو مستمر في ترويض العامل الموضوعي الطبيعي وتقديم الحلول العلمية العقلية بعرض" السبب والنتيجة" ومناقشتها بطريقة رياضية ومنطقيّة صارمة، لكي لا يترك الإنسان نهبا لمخاوف ميتافيزيقة .. لقد ساهم هذا البعد بإعلاء شأن الإنسان وعقله إلى حدّ الغرور .. ولكنه لم يساهم في طمأنينته الروحية.
حوار منْ؟
لقد تجاوز رجال الدين وطبقة الإكليروس في الديانتين المسيحية والإسلامية ، كل معطيات العقل الإنساني في حقل الحوار الروحي والعقلي وما توصل إليه الإنسان المؤمن خصوصا في أن العلاقة مع الله هي علاقة خاصة جدا، ولا علاقة لها بقدرته على العيش في كل المجتمعات التي تمتاز بتنوعها الديني والمذهبي والثقافي والاثني .. الخ.
الدين علاقة روحية جدا خاصة بين الإنسان والربّ، والإنسان يعي تماما وجوده في مجتمع متنوع عبر صياغة دستور مدنيّ يحدّد العلاقة مع الآخرين، دستور مع قوة تشريعية وتنفيذية وقضائية لحمايته من الاختراق.
تجاوز المتحاوران الإسلامي والمسيحي وراحا يدعوان إلى حوار غريب أساسه الفهم الرسمي الإسلامي والفهم الرسمي المسيحية" أي الكاثوليكية بسلطتها في الفاتيكان والإسلام في معقله في الكعبة" المسيح الكاثوليكي أو الأرثوذكسي والإسلام السني والشيعي معا !
وهنا اختلطت الأمور على الإنسان الموجود على هذا الكوكب الأرضي الذي يؤمن بأديان وعقائد متنوعة أخرى، لقد ألغى السادة ممثلو الدين الرسمي المسيحي والإسلامي كلّ البشر في كوكب الأرض، وهذا أوّل اختراق مفضوح لحرية الحوار بين البشر. مع اعترافهم المسبق بأن الديانة اليهودية هي قاتلة المسيح بعرف كهنة الحوار المسيحي، وهم المغضوب عليهم بحسب شريعة الإسلام.
ثم من قال إن المجتمعات الإنسانية تحتاج مثل هذا الحوار الأعرج، الحوار المهمش للآخرين؟
الدين هو الحل
لقد طرح المسلمون شعار" الإسلام هو الحل" منذ تأسيس الدولة الإسلامية في زمن النبي محمد والذي كان يقول " أُمرتُ أن أُقاتل الناس جميعا حتى يقولوا لا إله إلا الله ومحمد رسول الله"، فهل يستقيم هذا الفهم مع الحوار الذي يقتضي الحلول الأخرى؟
ويعترف رجال الدين المسيحيون من جانبهم، بأنهم يمتلكون الحلّ لآخرة الإنسان. المفارقة هنا أن المسلم يستحوذ على الحياة الأولى ويريد الاستحواذ على الحياة الآخرة والمسيحي بتعاليمه العلمانية يريد الحصول على الأبدية !
ولا أحد يستطيع أن يجد رابطا مشتركا بين هذين المفهومين.. فلماذا الحوار إذن؟
وعمّ يتحاور رجال الدين؟؟
الخلل موجود في ذهنية المسلم الذي يرى الحل في دينه دنيا وآخرة .. والإنسان غير المسلم يعاني غربة حقيقية في العيش في المجتمعات الإسلامية ذات الطابع الثيوقراطي الشمولي، لأنه إما أن يكون مسلما أو يدفع الجزية ويعيش كمواطن درجة ثانية..
أما في المجتمعات الغربية فلا وجود لسلطة دينية والحل هو في العقد الاجتماعي " الدستور"
الحل في قضايا الإنسان يبدأ من الإنسان وينتهي به..
خلفيات المتحاورين:
*- صرح أحد شيوخ الإسلام -الحمد لله القائل في محكم التنزيل: ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ85)آل عمران. والقائل: ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسلام 19 ) آل عمران.
إخوتي في الله وأحبتي : يُبين الله تبارك وتعالى في هاتين ِالآيتين الكريمتين أن الإسلام هو الدين الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فمن اعتقد بعقيدة تخالف عقيدة الإسلام، أو دان بدين غيره فقد خسر .
وعليه : فكل ما سوى الإسلام كفر صراح. سواءٌ أكان دينا كتابياً كاليهودية، أو النصرانية، أو وضعياً كالبوذية، والمجوسية، والدروز والبهائية.
كما انه لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال أن يعتقد بأن غير المسلمين مؤمنون، أو أن ينفيَ عنهم الكفر.
أيها الإخوة الأحبة ألا فلتعلموا: أن من المفاهيم المضللة التي يريد حكام السوء ومن لف لفيفهم من علماء السلاطين إيجادها بين المسلمين، عدم جواز نعت اليهود والنصارى بالكفر! مخالفين بذلك القرآن الكريم، حيث أنه كفـَّر صراحة كلاًّ من اليهودِ والنصارى، لقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وقوله: إن الله هو المسيح بن مريم .
وقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 ) التوبة. وهل بعد حكم الله سبحانه وتعالى حكم ؟!
وصدق فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وبأمثالهم إذ يقول: ( سيأتي على الناس زمان يسمون الخمر بغير أسمائها ) وبناءً عليه فإنه يتوجب علينا أن نسمي الأشياء
*- يرى الباحث صالح الطائي "إن الإسلام دين حواري تؤكد شريعته على أهمية الحوار مع الآخر واحترام نتائج الحوار. والحرب في الإسلام إحدى آليات التأسيس التي يشترك فيها مع كل النظم الإنسانية الأخرى. وهي ليس الآلية الوحيدة كما توحي بذلك أطروحات الجماعات الإسلامية المتشددة، وأطروحات أعداء الدين الإسلامي الذين يغفلون متعمدين عن باقي الآليات. ولا يلجأ الإسلام للحرب إلا في حالة عجز الآليات الأخرى عن تنفيذ الواجب سواء كان هذا اللجوء دفاعا عن النفس أو سعيا لنشر الدعوة بين الناس، وهو الإجراء المتبع في كل النظم العالمية في الكون حتى بالنسبة لكثير من الدول المتقدمة"!! .
*- ندّد قساوسة كبار في الكنيسة الأرثوذكسية بالجهة التي تمنح جائزة بوكر العربية بسبب اختيارها لرواية مصرية تسخر من الكنيسة وتتهمها باضطهاد رعاياها في عهود غابرة.
وأشار الأنبا مرقص مدير الإعلام بالكنيسة الأرثوذكسية إلى منح الجائزة لرواية (عزازيل) للكاتب يوسف زيدان.
وقال مرقص إن الرواية تفرد مساحات من المعلومات الكاذبة عن سلطة الكنيسة والأسلوب الذي كانت تتعامل به بين الناس في العهود الرومانية والبيزنطية، وهي رواية تهين الكنيسة لأنها تروي أباطيل وترمي رموزها بالصفات التي هم ابعد الناس عنها.
وكشف مرقص النقاب عن أن العديد من الجهات التي تمنح الجوائز باتت لا تعبأ بمشاعر رجال الكنيسة أو أتباعهم الذين يهتدون بهديهم.
وعبرت نائبة البرلمان جورجيت قيلليني عن أسفها لأن بعض الجوائز الأدبية والسينمائية أصبحت الآن تمنح للأعمال التي تهاجم الأديان وتسخر من أتباعها ورموزها على حد سواء.
وفي ذات السياق انتقد د.نجيب جبرائيل المستشار القانوني للبابا شنودة الجهة التي تمنح جائزة بوكر معتبراً أن منحها الجائزة لرواية ’عزازيل’ التي تسخر من الدور الذي لعبته الكنيسة في الدفاع عن رعاياها عبر العصور وتقلب الحقائق على بعضها البعض بمثابة دعوة صريحة للتجرؤ على السلطة الروحية للمسيحيين حول العالم.
وشدد جبرائيل على أن الكنيسة لـــن تسمح مستقبلاً لكل من تسول له نفسه بأن يتجراً عليها، وتساءل ماذا تعني أي جائزة للكاتب طالما كان العمل الذي أهله للحصول على الجائزة يمثل طعنة في ظهر كل قسّ وراهب.
وهاجم الأنبا بسنتي أسقف كنيسة حلوان جنوب القاهرة منح رواية الكاتب يوسف زيدان إحدى الجوائز المرموقة، معتبراً إياها بأنها تقلب الحقائق وتحيل الحق باطلاً والباطل حقاً، مشدداً على أن التاريخ الموثق يشير إلى أن الكنيسة في العهد الروماني كانت تتعرض للبطش والتنكيل وأن رجالها عانوا وتعرضوا للكثير من التعذيب وليس كما ادعى مؤلف الرواية بأنها كانت بمنأى عن التنكيل.
وفي ذات السياق هاجم مرقص عزيز كاهن الكنيسة المعلقة الهيئات والجهات التي تشجع الفنانين والكتاب على السخرية من الأديان بوازع أن الحرية هي حق من حقوق المبدع ولا يتوفر الإبداع إلا بها. وأعرب عزيز عن قناعته بأن استمرار بعض الكتاب في تقديم أعمال مناهضة للأديان وتسخر من رجال الدين لن يسفر في نهاية الأمر سوى عن مزيد من الكراهية لهم بين أوساط الجماهير.
غير أن زيدان وفي تصريحات سابقة كان قد رفض الاتهامات التي وجهها له بعض رجال الكنيسة، معتبراً الأحداث التي حفلت بها روايته الفائزة حقيقية وليست مفبركة أومن محض خياله. ودعا القساوسة ورجال الدين عامة لعدم التعامل بعدوانية مع الأعمال الأدبية والفنية. وشدد على أن كتب التاريخ ملأى بالأحداث التي تتحدث عن الأهوال التي حدثت في عهد الرومان والبيزنطيين ومواقف الكنيسة حينئذ، ومن الجدير بالذكر أن يوسف زيدان هو الروائي المصري الثاني الذي يفوز بجائزة بوكر العربية، حيث فاز بها الروائي بهاء طاهر العام الماضي، كما أن المحاور الإسلامي لم يقبل قطعا في نشر أيّ رواية تتحدث عن ما يروه محرما كما حدث لسليمان رشدي الروائي أو غيره من داخل المعسكر الإسلامي كطه حسين ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد والسيد القمني وهادي العلوي وغيرهم الكثير
*- يقول توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق " طوال حياتي في المناصب العامة راودتني حقيقة واحدة بقوة متنامية: ألا وهي أن عدم فهم قوة تأثير المعتقد الديني يعني الفشل في فهم عالمنا الحديث. لنستعرض الحقائق باختصار: هنالك ما يربو على بليوني مسيحي في جميع أنحاء العالم، وحوالي بليون و500 ألف مسلم، وما يفوق 900 مليون هندوسي، و400 مليون بوذي، و24 مليونا من السيخ، و16 مليون يهودي. وهذه الأرقام لا تشمل أتباع المعتقدات الدينية الأخرى، وهي أرقام متزايدة باطّراد في أغلب المناطق"
خاتمة
يفترض المفاوض" ولا أقول المحاور" لأنّ القطب المسيحي قد اختصر المسيحية في الفاتيكان والإسلامي اختصرها في الإسلام الرسمي تحديدا. يفترض أن الحوار هو اقتسام المغانم والمكتسبات من الطرفين، وإلا فلماذا يصر الطرفان على الحوار وهما باطنيا لا يعترفان ببعضهما في تقديم الخلاص الروحي للإنسان، فالمسيحي يعتقد بخلاصه بإيمانه بيسوع، والمسلم بنبيه محمد، والقضية برمتها روحية والقرار فيها فردي وعقلي محض، لا يحتاج إلى جولة من الحوارات لإقناع بعضهما بمن هو الأفضل لحياة الإنسان في آخرته أو خلوده الأبدي.. فلماذا يتحاور المتفاوضون من رجال الدين بمسائل غير دينية ؟
أليس هذا تعدّيا على حقول الإنسان الأخرى في المجتمع، كرجال السياسة وعلماء النفس والاجتماع والاقتصاد، أليس ما حصل اليوم في أزمة اقتصادية كبرى هددت مصير الغالبية من الناس ، تناقش على مستوى السياسة والاقتصاد، ولم يحرك أي رجل دين ساكنا فيها ..!!
فلماذا يتحاور رجال الدين، وعن ماذا يتحاورون؟؟