يتمثّل التسامح كفضيلة أخلاقية في اعتبار حقّ "الآخر" في الوجود والاختلاف. إنّ "الحقيقة" ليست ملكية "الذات" وحدها وحكرا عليها. فالآخر قد يشاركني القناعات وقد يخالفني فيها. والعبرة تكون في القبول المتبادل بالاختلاف. وهذا ما يجنّب –نظريا- التعصّب والكراهية ووقوع المصادمات الدرامية، بل وقيام الحروب المميتة لكلا الطرفين.
فكم هي مريعة واقعة التعصّب في تاريخ الإنسانية! وكم من فظائع وأهوال وقعت باسم "الدين" أو "السياسة" حيث يتواجه معسكران يرى أحدهما في ذاته الخير المطلق ويرى في الآخر الشرّ المطلق! وكم هم عظماء فلاسفة التنوير وهم يتصدّون لحماقة وجهالة التعصّب الديني والسياسي ويؤسّسون لثقافة التسامح العظيمة!
وبالطبع، فلقد وجدت من قبل وقائع بعينها تؤشّر على وجود بذور وإرهاصات بل وتجلّيات أوّلية لقيم وثقافة التسامح. بل إنّ فلسفات وديانات معيّنة تستبطن-وبمعنى من المعاني- منهج التسامح وفضائله: أليست البوذية دين الرحمة الشاملة كما نقرأ ذلك في نصوصها المقدسة؟ أليس المسيح رمزا للمحبة والتسامح المطلقين كما يبشّر بذلك الإنجيل/الأناجيل؟؟ ألم يعش المسلمون واليهود والمسيحيون متسامحين في كنف الحضارة الإسلامية في مراحل ازدهارها في الكوفة وقرطبة مثلا، كما تنقل وتصف ذلك كتب التاريخ؟
لكنّ هذه الوقائع المضيئة-في الواقع- تبقى محصورة ومحدودة بعاملين:
عامل التاريخ العامّ الذي تغلبت فيه نزعات التعصّب الديني والسياسي على غيرها.
عامل الفكر المؤسس والمؤطر والذي هو المرجعية الجذرية للسلوك والأفعال وردود الأفعال، وكذا ما يؤصّل للأحكام والأفكار في عموميتها وخصوصيتها.
أوضّح: إنّ تاريخ الإنسانية هو –في عموميته- تاريخ مسار طويل –نسبيا- من أجل خروج الإنسان من دائرة القصور المفروضة عليه أو التي فرضها بنفسه على نفسه، وإدراك حالة الرشد العقلي والروحي. وهذا هو معنى التنوير بامتياز. وعليه، تكون اللحظة التاريخية التي استقلّ فيها الإنسان بذاته (بروز مفهوم الفرد وتشكله وجوديا ومعرفيا وأخلاقيا) لحظة فارقة وحاسمة في هذا الصدد. إنها –من جهة- لحظة استقلال التدبير الدنيوي عن سيطرة شريعة لاهوتية بعينها –ومن جهة أخرى- لحظة بروز العقل وترسّخه باعتباره طاقة استكشافية مبدعة لا يحدّها حدّ. وهكذا برز إلى الوجود إنسان "الأزمنة الحديثة" –على حدّ تعبير هيغل بانيا ذاتيته وحريته وعقلانيته… فتبدلت حقائق بعينها رأسا على عقب، بل وتبدل مفهوم الحقيقة نفسه: فلم تعد الحقيقة "مفروضة" و"واحدة"، وبالتالي، فرض مبدأ التسامح نفسه: فلقد اكتشف الإنسان الحديث "الآخر" في نفس اللحظة التي اكتشف فيها "ذاته".لكن ما هي هذه الذات؟ ومن هو هذا الآخر؟ وما هو مضمون التسامح المفروض؟
***
إذا اعتبرنا ديكارت وفلسفة الكوجيطو (أنا أفكر أنا موجود) إحدى العتبات الرئيسية (إن لم تكن هي العتبة الرئيسية) لاقتحام الإنسان مضمار الفكر الحديث، فالوعي الحديث هو بالتحديد وعي الذات بذاتها، ويكون "الموضوع"- بالتالي- في حالة تباعد وانفصام صميمين عن "الذات". بتعبير آخر: الوعي هو الشعور الأنطولوجي بانفصال الذات عن الموضوع، والمعرفة هي السعي العقلي لتملك الموضوع وإخضاعه.وعليه، تكون الطبيعة-مثلا- مجرد موضوع/ميدان لفتوحات الإنسان وقدراته الظاهرة أو الكامنة في القهر والإخضاع. إن الإنسان المتملك لعقله تملكا ذاتيا هو بروميثوس العصر الحديث. ومن هنا الحديث لاحقا عن المضمون الميثي (بل و الميتافيزيقي) الجديد للفكر الحديث وخاصة لما ستسبغ عليه صفات "التأليه" (الثورة الفرنسية) و"المطلق" (هيغل) و"اليقين" (الوضعية/العلموية). وعليه، يكون التسامح في هذا المنظور العقلي الجامح، واستنادا إلى هذه المرجعية الذاتية المنغلقة، محدودا بحدود المنظور والمرجعية ذاتهما، أيّ تسامح هو تجاوز عن التنابذ وليس تجاوزا للتنابذ.
***
لقد نقد كانط (1724-1804) هذا العقل الجامح نقدا أوليا وعميقا في ثلاثيته المشهورة: نقد العقل النظري، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم. وفتح هذا النقد المسمى ترنسندنتاليا (متعاليا) مسارا خصيبا في إعادة ربط علاقة الذات بالموضوع. ولكن كانط ومن سيسيرون على نهجه( الكانطيون الجدد: من هرمان كوهن إلى إرنست كاسيرر) وخصومه (من نيتشه إلى هيدغر) بقوا – وبمعنى من المعاني- حبيسي ما يمكن أن ندعوه بفلسفة الوعي الممتدة بجذورها إلى ديكارت. إن ثغرات مهمّة بل وشروخا معتبرة حدثت في صرح البناء الراسخ والمنتصب لفلسفة الوعي الذاتي، أو الفلسفة الذاتية هذه، مع فلاسفة التأويل من (شليرماخر وديلثاي إلى غادامير) والفلاسفة البرغماتيين (خاصة جورج ميد) ومنهج هوسرل الفينومنولوجي وفلاسفة اللغة (فريجه، فتجنشتاين ) وما سيعرف لاحقا بـ"المنعطف اللسني". وعليه، فخيارا آخر للواقع الإنساني صار ممكنا إذا استبدلنا براديغم الوعي الذاتي ببراديغم التواصل أو البيذاتيةintersubjectivité . وهنا يبرز اسم يورغن هابرماس ونظريته في الفعل التواصلي.
***
يحدد هابرماس الفعل التواصلي –اختزالا- في صيغة تجاوز علاقة الذات/الأنا بالموضوع/الآخر إلى علاقة الذات/الأنا بالذات/الأنا. بتعبير أخر: العلاقة هنا تكون متوجهة نحو التواصل بين شخصين (أو أكثر) حيث تلعب اللغة دور الوسيط الرمزي. إن العلاقة هنا هي بيذاتية. وبالتالي، فالهدف هو تحقيق الإقناع والتوافق وليس الإخضاع والاستمالة القصريين أو في أفضل الأحوال التحلي بفضيلة التسامح. والسبيل هو المحاججة l’argumentationحيث الحسم يكون للحجة الأقوى. إن المنطق هنا ليس أداتيا، إذ أن "الآخر" الذي أنا في علاقة معه ليس "موضوعا" أي أداةً أسخّرها لتحقيق غاية محددة حسابيا وسلفا، أو في أحسن الأحوال "آخر" أسعى إلى فهمه ممارسا "فضيلة" التسامح إزاءه. بالعكس، فهذا "الآخر" هو بدوره "أنا" كامل الرشاد والحرية وله نفس الحقوق التي لديّ في المحاججة والإقناع. وهذا ما يعرف بأخلاق المناقشة التي تؤسس عقلانيا لما ينبغي أن يكون عليه سير مناقشة عمومية بيذاتية ينخرط فيها فاعلون أحرار مستقلون وعاقلون ليس المهم تسامح بعضهم إزاء بعض، بقدر ما أن المهمّ هو اعتبار إجراءات ومساطر كونية تفرض على المتناقشين -منذ البدء وضرورة- الالتزام بقيم كونية شاملة تتجاوز مجرد قبول واقعة التسامح (أنا مقابل آخر) إلى الانخراط في دينامية التواصل (ذات عاقلة راشدة متفاعلة مع ذات عاقلة راشدة) في سعي مشترك –من جهة- لتثبيت المشترك الإنساني –ومن جهة أخرى- إعادة بنائه جماعيا. وهنا لا تثبت فضيلة التسامح إلا إزاء من ينخرط في هذا السعي الإنساني المشترك والشامل دون إنكار ولا "تكفير". وهنا تزيد قيمة التواصل درجة على مجرد فضيلة التسامح.