الوسطية في ضوء القرآن الكريم

الوسطية
في ضوء القرآن الكريم

الشيخ ناصر بن سليمان العمر

المقدمــة
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فإنّ المتأمل في الواقع الذي تعيشه الأمّة اليوم يرى بَوْنًا شاسعًا في مشاربها وأهدافها، واختلافًا في منطلقاتها وغاياتها.
يرى الإفراط والتفريط، والغلوّ والجفاء، والإسراف والتقتير: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (الحج: من الآية45).
هذا على مستوى الأمّة عمومًا، فإذا انتقلنا إلى حال الدّعاة والمصلحين الذي أقضَّ مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمّتهم، فطفقوا يبحثون عن سبل العلاج وطوق النَّجاة، لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضّلالة إلى الهدى، نجد انعكاس واقع الأمة على حالهم، فمنهم المشَرِّق، ومنهم المغرِّب، ترى المفرِط والمفرِّط، نرى بين هؤلاء الدّعاة والمصلحين من غلا وأفرط في الغلوّ، فنشأت جماعات تكفير وهجرة، وعادت سوق الخوارج رائجة، وهناك من فرَّط وجفا، وأضاع معالم الدّين وأصول العقيدة، حرصًا على جمع النَّاس دون تربيتهم، ففشا الإرجاء، وانطمست معالم التَّوحيد، وحقيقة العبادة.
وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الأثر، وتصحِّح الطّريق، وتدلُّ الناس إلى الصِّراط المستقيم، على منهج أهل السنة والجماعة، وسلف الأمّة؛ ينفون عن هذا الدّين غلوّ الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المنافقين والمرجفين. ووسط هذا الواقع المؤلم، والاضطراب المهلك، تشتدّ الحاجة إلى دلالة الأمّة إلى الصّراط المستقيم، والمنهج العدل المبين، لإنقاذها من كبوتها، وإيقاظها من رقدتها، وتبصير الدّعاة والمصلحين بالمنهج الحقّ، والطّريق البيِّن الواضح: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153).
لقد وقفت طويلا عند مسألة الغلوّ والجفاء، والإفراط والتَّفريط، وأدركت أن الأمّة بأمسِّ الحاجة إلى منهج الوسطيَّة منقذًا لها من هذا الانحراف، الذي جرَّ عليها المصائب والمشكلات.
ووجدت أنّ القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في شتَّى جوانبه، أصولا وفروعًا، عقيدةً وعبادةً، خُلقًا وسلوكًا، تصوُّرًا وعملا.
ولقد جاء منهج الوسطيَّة من خلال القرآن الكريم في أساليب عدَّة، تصريحًا وإيماءً، مفصَّلا ومجملا، خبرًا وإنشاءً، أمرًا ونهيًا.
واقتناعًا منِّي بأهميَّة هذا الموضوع، ومسيس الحاجة إليه، فقد عزمت على الكتابة فيه، وهذا يقتضي أن أعيش مع كتاب الله متأمِّلا لآياته، متفكِّرًا في دلالاته، مستوعبًا لما كتبه المفسِّرون حول تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة.

القضية التي يعالجها البحث
مفهوم الوسطيَّة وحقيقتها ضلَّ فيها كثيرون، وبيان ذلك كما يلي:
1- هناك من فهم أن الوسطيَّة تعني التَّنازل والتَّساهل، فإذا رأوا مسلمًا قد التزم الصّراط المستقيم، وسار على هدي النبوَّة، قالوا له: لماذا تُشدِّد على نفسك وعلى الآخرين ودين الله وسط؟ ولذلك نجد في واقعنا المعاصر أن أكثر الذين يُرمَون بالتَّطرف والغلوّ وأخيرًا بالأصوليَّة ( ) هم من الذين التزموا بالمنهج على وجهه الصَّحيح.
ومن أسباب ذلك الجهل بحقيقة الوسطيَّة.
2- وفي المقابل نجد فئة من المتحمِّسين المندفعين، يصفون أصحاب المنهج الحقّ، الذين لم يوافقوا هؤلاء على أفكارهم، ولم يسايروهم في حماسهم واندفاعهم يصفونهم بالتَّساهل والتَّهاون، وعدم الغيرة، بل وأحيانًا بالتَّنازل والممالأة.
ومنشأ ذلك - أيضًا - جهلهم بحقيقة الوسطيَّة، مع أنهم يدَّعونها، لكنهم لا يفهمونها على الوجه الصحيح.
3- وهناك فئة ثالثة ليست من هؤلاء ولا أولئك، وهم حريصون على الالتزام بالمنهج الصحيح، ولكنَّهم يقعون في أخطاء أثناء ممارستهم للدعوة قولا أو فعلا، وسبب هذا الأمر عدم تصورهم لمنهج الوسطيَّة تصورًا شاملا، وقصرهم هذا المنهج على بعض آحاده.
4- والنتيجة التي نتوصل إليها من ذلك كله أن هذا المنهج بحاجة إلى تفصيل وبيان، لا لخفائه في ذاته، بل هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن خفاءه من الأمور النسبيَّة التي تعود إلى بُعد كثير من الناس عن منهج القرآن والسنة، وضعف حصيلتهم العلميَّة، وممارستهم التعبديَّة والدعويَّة.
والخلاصة أنَّ هذا البحث معنيُّ بإيضاح مفهوم الوسطيَّة، وتحديد مدلولها في ضوء القرآن الكريم، تعريفًا وتأصيلا، وتحديدًا، وتطبيقًا.
وهذا هو المعنى الشّامل الذي نفهمه من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فمن منطوق هذه الآية انْطَلَقْت، وفي ضوئها سرتُ وكتبتُ، ومن مفهومها موافقة ومخالفة حقَّقتُ وبيَّنتُ.
وكنت أضع القضيَّة التي جئت أعالجها نصب عيني في كل ما سطَّرتُ ودوَّنتْ.
مخطط البحث
بدأت البحث بتعريف الوسطيَّة، واشتمل هذا المبحث على ما يأتي:
1- الوسطيَّة في اللغة.
2- استعمالات الكلمة في القرآن الكريم.
3- أحاديث نبوية في (الوسط).
4- تحرير معنى الوسطيَّة.
ثم انتقلت إلى مبحث آخر وهو أسس فهم الوسطيَّة، واشتمل على ما يلي:
1- مقدمة لهذا المبحث.
2- الغلو والإفراط.
3- الجفاء والتفريط.
4- الصّراط المستقيم.
ثم عقدت مبحثًا لبيان ملامح الوسطيَّة، وتضمّن الحديث عن الملامح التالية، بعد مقدمة المبحث:
1- الخيرية.
2- الاستقامة.
3- اليسر ورفع الحرج.
4- البينيَّة.
5- العدل والحكمة.
وأخيرًا ذكرت دليلا تطبيقيًّا يجمع هذه الملامح.
وهذه المباحث الثلاثة، تعتبر أركانًا أساسيَّة، ومنطلقات منهجيَّة لمعرفة حقيقة الوسطيَّة في حدودها الشرعيَّة، بل إن مضمون تلك المباحث هو المعيار الذي نستطيع من خلاله أن نعرف هل هذا الأمر وسطيًا أو هو يتضمَّن إفراطًا أو تفريطًا؟
وهي كذلك وسيلة للبحث عن المنهج الوسطيّ في كل قضية تعرض لنا، فمن خلال تلك المباحث نخرج المنهج وننقحه، ثم نحقّقه.
وبعد تحرير تلك الأصول والمنطلقات، عقدت أهمَّ مباحث الكتاب، وهو بيان تقرير القرآن الكريم لمنهج الوسطيَّة، حيث بيَّنت عناية القرآن بهذا المنهج، وذكرت الأمثلة التطبيقيَّة التي توضح ذلك، وجاء هذا الباب مشتملا على المباحث التالية:
1- مقدمة توضيحيَّة.
2- وقفة مع سورة الفاتحة.
3- منهج الوسطيَّة في الاعتقاد.
4- منهج الوسطيَّة في التَّشريع والتَّكليف.
5- منهج الوسطيَّة في العبادة.
6- منهج الوسطيَّة في الشّهادة والحكم.
7- منهج الوسطيَّة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
8- منهج الوسطيَّة في الجهاد في سبيل الله.
9- منهج الوسطيَّة في المعاملة والأخلاق.
10- منهج الوسطيَّة في كسب المال وإنفاقه.
11- منهج الوسطيَّة في مطالب النفس وشهواتها.
وأخيرًا ذكرت بعض الشواهد المتفرِّقة التي تؤكد هذا المنهج وتبيِّنه.
وختمت البحث بخاتمة مناسبة ربطت فيها بين الهدف والنتيجة.
وبعد:
فقد بذلت جهدي في إخراج هذا الموضوع، فما كان فيه من حقّ وصواب فمن الله وحده (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (البقرة: من الآية255). (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء: من الآية113). وما كان فيه من تقصير وخطأ فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفر الله.
فلله الحمد والشكر والمنَّة، والثَّناء الحسن، على فضله، وتيسيره، وإعانته، وتوفيقه، ثم أشكر كل من أسهم في إخراج هذا البحث سواء كان إسهامًا مباشرًا أو غير مباشر( ) فلهم مني الشّكر وجميل الدّعاء.
والحمد لله أولا وآخرًا.
إن تجد عيبًا فسدَّ الخللا
جلَّ من لا عيبَ فيه وعلا

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الطائف
26/3/ 1413 هـ

تعريف الوسطيَّة
الوسطيَّة في اللغة
جاءت كلمة (وسط) في اللغة لعدّة معانٍ، ولكنها مُتقاربة في مدلولها عند التأمّل في حقيقتها ومآلها.
قال ابن فارس: (وسط): الواو والسّين والطّاء: بناء صحيح يدلّ على العدل والنّصف.
وأعدل الشيء: أوسطه، ووسطه، قال الله  (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسِه - بفتح السين - ووسْط القوم - بسكونها -، وهو أوسَطُهم حسبًا - إذا كان في واسطةِ قومه وأرفعهم محلا ( ).
ومن هذا الكلام يتَّضح أن (وسط) تأتي بفتح السّين وسكونها، وفتحها أكثر استعمالا كما سيأتي.
ويمكن إجمال المعاني التي جاءت تدلّ عليها هذه الكلمة فيما يلي ( ) .
1- (وسْط) بسكون السّين تكون ظرفًا بمعنى (بين)، قال في لسان العرب: وأمَّا الوسْط بسكون السّين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزان نظيره في المعنى وهو (بين)، تقول: جلست وسْط القوم، أي: بينهم، ومنه قول سوار بن المضرب:
إنيّ كأنـيّ أرى مـن لا حيـاة
ولا أمانـة وسْـط النَّاس عُريانـًا ( )

قال د. زيد الزيد: وقد أشارت بعض المعاجم اللغوية إلى التفريق بين كلمة وسَط - بالتحريك - ووسْط بالسكون، فقالوا: إن كل موضع يصلح فيه (بين) فهو بالسّكون، وما لا يصلح فيه (بين) فهو بالفتح.
وقيل: كل منهما يقع موضع الآخر، قال ابن الأثير في غريب الحديث: وهو الأشبه ( ).
وقال الزبيدي: وقديمًا كنت أسمع شيوخنا يقولون في الفرق بينهما كلامًا شاملا لما ذكر، وهو السّاكن متحرّك، والمتحرّك ساكن ( ).
2- وتأتي - وسَط بالفتح - اسمًا لما بين طرفي الشيء وهو منه، ومن ذلك: قبضتْ وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدّار، وهذه حقيقة معناها كما ذكر ابن برّي ( ).
3- وتأتي - بالفتح أيضًا - صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره: كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار.
وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها، وهو أجودها، ورجل وسط ووسيط: حسن ( ).
4- وتأتي وسط - بالفتح - بمعني عدل، قال ابن فارس: وسط: بناء صحيح يدلّ على العدل، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه.
وقال ابن منظور: ووسط الشيء وأوسطه: أعدله.
وقال الفيروزآبادي: الوسط - محركة - من كل شيء: أعدله ( ).
5- وتأتي (وسط) بالفتح - أيضًا - للشيء بين الجيد والرديء.
قال الجوهري: ويقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء.
وقال صاحب المصباح المنير: يُقال شيء وسط، أي بين الجيد والرديء ( ).
ومنه ما ورد في الحديث:  ولكن من وسط أموالكم فإنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه  ( ).
6- ويقال (وسط) لما له طرفان مذمومان، يراد به ما كان بينهما سالمًا من الذّمِّ، وهو الغالب.
قال الراغب: وتارة يُقال لما له طرفان مذمومان ( ).
ومثال ذلك: السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر ( ).
قال محمد باكريم ( ) وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينيَّة، والتوسط بين الطرفين، فتقول: (وسوطًا): بمعنى المتوسّط المعتدل، ومنه قول الأعرابي: علمني دينًا وسوطًا، لا ذاهبًا فروطًا، ولا ساقطًا سقوطًا، فإن الوسط هاهنا المتوسّط بين الغالي والجافي ( ).
و(وسيطًا) أي: حسيبًا شريفًا، قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلا، قال العرجي:
كأنّي لم أكن فيهم وسيطًا
ولم تك نسبتـي فـي آل عمـرو ( )

و(الوسيط): المتوسّط بين المتخاصمين ( ).
و(التوسط): بين الناس من الوساطة ( ) وهي الشفاعة.
و(التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط ( ).
و(التوسيط): - أيضًا - قطع الشيء نصفين ( ).
و(وسوط الشمس): توسّطها السماء ( ).
و(واسطة القلادة): الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها ( ).
وقال فريد عبد القادر: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والنصفة، والجودة، والرّفعة، والمكانة العليّة.
والعرب تصف فاضل النّسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه، أي من خيارهم وأشرافهم ( ).
وأختم ما قيل في معنى الوسط بهذا الكلام للشيخ ابن عاشور، حيث قال أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والوسط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلاّ بعد اختراق ما يُحيط به، أخذ فيه معنى الصّيانة والعزّة؛ طبعًا: كوسط الوادي لا تصل إليه الرّعاة والدّواب إلا بعد أكل ما في الجوانب، فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعًا: كوسط المملكة يجعل محلّ قاعدتها، ووسط المدينة يجعل محل قصبتها؛ لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدوّ بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه.
فمن أجل ذلك صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية، قال زهير:
هم وسط يرضى الأنـامُ بحكمهـم
إذا نـزلت إحـدى الليالـي بمعضـل

ويقال: أوسط القبيلة، لصميمها.
وأمّا إطلاق الوسط على الصّفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، كالشّجاعة بين الجبن والتهوّر، والكرم بين الشُّحِّ والسرّف، والعدالة بين الرّحمة والقساوة، فذلك روى حديث:  خير الأمور أوسطها  وسنده ضعيف ( ).
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عُرفيَّتين ( ).
ومن خلال ما سبق اتَّضح لنا المعنى اللغوي لكلمة (وسط)، وما تصرّف منها، وأنها تئول إلى معانٍ متقاربة.
استعمالات الكلمة في القرآن الكريم
وردت كلمة (وسط) في القرآن في عدَّة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعدّدة، حيث وردت بلفظ: (وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)( ) و (الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238)( ) و (أَوْسَطِ) (المائدة: من الآية89)( ) و (أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28)( ) و (فَوَسَطْنَ) (العاديات: من الآية5)( ) .
وسأذكر معنى كل كلمة حسب ورودها في القرآن الكريم، وكلام المفسرين حولها، مستشهدًا لذلك ببعض ما ورد في السنة النبويَّة.
أولا: كلمة "وسطًا":
وردت في قوله - تعالى - في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).
وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:
1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري  قال: قال رسول الله،   يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا. فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا). والوسط: العدل  ( ).
وروى الطبري بإسناده عن النبي،  في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال:  عدولا  ( ).
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين، كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها بـ "عدولا".
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها "جعلكم أمة عدولا". وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي،  وبين الأمم ( ).
2- قال الإمام الطبري: وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط، قال ابن زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهـم
إذا نـزلت إحـدى الليالـي بمعظَـمِ

قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيل هم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أبناءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم ( ).
3- قال ابن كثير ( ) وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله،  وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد ( ) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله،   يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا). قال: الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم  رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة ( ).
4- وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية: سبب نـزولها أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدل بين الناس، فنـزلت هذه الآية.
والوسط: العدل، قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة.
وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل والخيار، ومنه قوله - تعالى -: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)(القلم: من الآية28). أي: أعدلهم وخيرهم.
قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نـزلت إحدى الليالي بمعظم

وأصل ذلك أن خير الأشياء أوسطها، والغلوّ والتقصير مذمومان.
قال أبو سليمان الدّمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه جعلت قبلتكم وسطًا بين القبلتين، فإن اليهود يصلون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما ( ).
5- قال صاحب المنار: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). هو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما ( ).
6- وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي: عدلا خيارًا.
وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين، وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كل على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النَّجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذين لا يُنجسّون شيئًا ولا يُحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143) بسب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم ( ).
7- وقال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية:
وإنها للأمَّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ.
أمَّةً وسطًا في التصوّر والاعتقاد، أمَّةً وسطًا في التّفكير والشّعور، أمَّةً وسطًا في التَّنظيم والتَّنسيق، أمة وسطًا في الارتباطات والعلاقات، أمَّةً وسطًا في الزَّمان، أمَّةً وسطًا في المكان، ثم قال: وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنّها تخلَّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتَّخذت لها مناهج مختلفة، ليست هي التي اختارها الله لها ( ).
هذه أهمّ أقوال المفسِّرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير اتَّضحت معانٍ سيأتي اعتبارها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في فصول لاحقة.

ثانيًا: كلمة "الوسطى"
وقد وردت هذه الكلمة في قوله - تعالى - في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) وسأذكر أقوال المفسِّرين في هذه الآية ممَّا له علاقة مباشرة في معنى "الوسط" حيث سيتَّضح سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسِّطة بين الصَّلوات، أو لأنَّها أفضل الصّلوات، أو لكليْهما معًا؟ دون الوقوف عند أي الصَّلوات هي، وما سيرد حول هذه القضيَّة فهو لبيان المعنى فقط.
1- ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصَّلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلَّة من قال: إنَّ الصّلاة الوسطى هي العصر، ثم قال بعد أن رجَّح أن الصَّلاة الوسطى هي العصر:
وإنما قيل لها الوسطى: لتوسّطها الصَّلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهنّ.
والوسطى: الفعلى من قول القائل: وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطًا، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذّكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانًا ( ). وعندما ذكر قول من قال: إن (الوسطى) هي صلاة المغرب، وهي قول: قبيصة بن ذؤيب، عقَّب الطبري على ذلك قائلا:
ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله: (الوسطى) إلى معنى التوسّط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلا بين الأمرين، كالرَّجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطًا طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى أنَّها ليست بأقلِّها ولا أكثرها.
ومن أجل فهم كلام الإمام الطبري في تعقيبه على ابن ذؤيب أذكر كلام قبيصة بن ذؤيب، قال: الصلاة الوسطى: صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تُقصر في السَّفر، وأنّ رسول الله،  لم يؤخِّرها عن وقتها ولم يُعجّلها ( ).
2- وجه ابن الجوزي أقوال العلماء في المراد بالصَّلاة الوسطى قائلا: وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها أوسط الصَّلوات محلا.
والثاني: أوسطها مقدارًا.
والثالث: أفضلها.
ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
فإن قلنا: إن الوُسطى بمعنى الفُضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنَّها أوسطها مقدارًا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعًا.
وإن قلنا: إنَّها أوسطها محلا، فللقائلين: إنَّها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى.
ومن قال هي الفجر، قال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار.
وقال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار.
فأما من قال: هي المغرب، فاحتجّ بأن أوّل صلاة فرضت الظّهر، فصارت المغرب وُسْطى.
ومن قال: هي العشاء، فإنَّه قال: هي بين صلاتين لا تقصران ( ).
ومن خلال ما سبق يتَّضح ارتباط كل قول بمعنى (الوسط) في ضوء المعاني التي سبق بيانها.
3- وقال القاسميّ في تفسيره:
و"الصلاة الوسطى" أي: الوسطى بين الصَّلوات، بمعنى المتوسّطة، أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط.
فعلى الأوّل يكون الأمر لصلاة متوسّطة بين صلاتين، وهل هي: الصّبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصّحابة والتَّابعين.
وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطّول والقصر، أقوال - أيضًا- عن كثير من الأعلام.
ثم قال: سنح لي وقوي بعد تمعّن احتمال قوله - تعالى -: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) بعد قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) (البقرة: من الآية238) لأن يكون إرشادًا وأمرًا بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسّطًا، لا طويلا مُملا، ولا قصيرًا مُخلا، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيّده الأحاديث المرويَّة عنه،  في ذلك قولا وفعلا.
ثم مرَّ بي في القاموس حكاية هذا قولا، حيث ساق في مادة (وسط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: أو المتوسّطة بين الطّول والقصر، قال شارحه الزّبيدي. وهذا القول ردّه أبو حيّان في البحر.
ثم سنح لي احتمال وجه آخر، وهو أن يكون قوله: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) أريد به توصيف الصَّلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنَّها فُضلى، أي ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفُضلى من قولهم للأفضل: الأوسط ( ).
4- أما رشيد رضا فقال:
والصَّلاة الوسطى هي إحدى الخمس، والوسطى مؤنَّث الأوسط، ويستعمل بمعنى التوسّط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعنى الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون، ولذلك اختلفوا في أيّ الصّلوات أفضل، وأيّتها المتوسّطة ( ).
5- وأختم كلام المفسّرين حول هذه الآية بما ذكره ابن عاشور في تفسيره، حيث قال:
فأمّا الذين تعلّقوا بالاستدلال بوصف الوسطى فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبّع ما ورد في تفضيل بعض الصّلوات على بعض، ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط، وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد، فذهب يتطلّب الصّلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب ( ).
وبهذا التفسير لمعنى (الوسطى) من خلال كلام المفسّرين المتقدّم نلحظ الارتباط بين هذه الكلمة وموضوع الوسطيَّة الذي هو مدار هذا البحث، سواء أكانت بمعنى التوسّط بين شيئين أم بمعنى الخيار الأفضل، وسيأتي مزيد بيان لهذه القضيَّة - إن شاء الله - بعد عرض جميع الآيات.

ثالثًا: كلمة (أوسط)
وقد وردت هذه الكلمة في آيتين:
الأولى في قوله - تعالى -: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89).
والثانية في سورة القلم في قوله - تعالى -: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) (القلم:28).
وقد ذكر المفسّرون معنى كل كلمة في موضعها، فمنهم من جعل معناهما واحدًا، ومنهم من فرَّق بين مدلوليهما، وإليك تفصيل ذلك:
الأولى: آية سورة المائدة:
1- قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) أعدله.
قال عطاء: أوسطه: أعدله.
وقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفَّر أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمر: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتّمر، والخبز والسَّمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.
وقال آخرون: من أوسط ما يُطعم المكفّر أهله، قال إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عُسره ويُسره.
ثم عقَّب الطبري على ذلك بقوله:
وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تُطعمون أهليكم في القلّة والكثرة ( ).
2- وقال ابن الجوزي:
في قوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.
الثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعَبِيدَة، والحسن، وابن سيرين ( ).
3- وقال القرطبي:
تقدَّم في سورة البقرة أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منـزلة بين المنـزلتين، ونصفًا بين طرفين، وعن ابن عباس، قال: كان الرجل يقوت أهله قوتًا فيه سعة، وكان الرّجل يقوت أهله قوتًا فيه شدَّة، فنـزلت: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) وهذا يدلّ على أن الوسط ما ذكرناه، وهو ما كان بين شيئين ( ).

4- وقال الزمخشريّ:
(مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) من أقصده، لأنَّ منهم من يُسرف في إطعام أهله، ومنهم من يُقتّر ( ).
5- وأختم هذه الأقوال في معنى (أوسط) فيما قاله سيد قطب حيث قال:
و(أوسط) تحتمل من (أحسن)، أو من (متوسّط)، فكلاهما من معاني اللفظ، وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأنَّ المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام ( ).
الثانية: آية سورة القلم:
1- قال الطبري:
وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28). يعني أعدلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
قال ابن عباس: أوسطهم: أعدلهم، وبمثل ذلك قال مجاهد، وسعيد، والضّحَّاك.
وقال قتادة: أي أعدلهم قولا، وكان أسرع القوم فزعًا، وأحسنهم رجعة ( ).
2- وقال القرطبي:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم ( ).

3- وقال ابن كثير:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضّحاك، وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم ( ).
4- وقال ابن الجوزي:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) أي أعدلهم وأفضلهم ( ).
5- قال القاسميّ:
أي: أعدلهم وخيرهم رأيًا ( ).
ومما سبق يتَّضح لنا أن كلمة (أوسط) في آية المائدة فسَّرت على عدَّة أوجه وبعدَّة معاني، منها: الأفضل، وبين القليل والكثير، وبين الجيّد والرديء، أو الشدَّة والسّعة. أمَّا آية القلم فاتَّفق المفسِّرون ( ) على تفسيرها بمعنى الأفضل والخيار وهو الأعدل.

رابعًا: كلمة (فوسطن) .
وردت في قوله - تعالى -: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات:5) وذلك في سورة العاديات، الآية الخامسة.
وقد ذكر المفسِّرون أنَّ معناها من التوسط في المكان، وهذه جملة من أقوالهم:
1- قال الطبري:
يقول - تعالى ذكره -: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم - بالتخفيف -، ووسّطته - بالتّشديد -، وتوسّطته، بمعنى واحد ( ).
2- وقال ابن الجوزي:
قال المفسّرون: المعنى: توسّطن جمعًا من العدوّ.
وقال ابن مسعود: فوسطن به جمعًا، يعني مزدلفة ( ).
3- وقال القرطبي:
(جَمْعاً) (العاديات:5) مفعول بـ "وسطن" أي: فوسطن بركبانهن العدوّ.
يُقال: وسطت القوم أسِطُهم وسْطًا وسطَة أي: صرت وسطهم.
يقال: وسطت القوم - بالتّشديد والتخفيف - وتوسّطتهم، بمعنى واحد.
وقيل: معنى التّشديد: جعلها الجمع قسمين، والتّخفيف: صرن وسط الجمع ( ).
4- وقال القاسمي:
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات:5) أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء، ففرَّقته وشتَّته.
يقال: وسطت القوم - بالتَّخفيف - ووسّطته - بالتَّشديد وتوسّطته، بمعنى واحد ( ).
5- وقال سيد قطب:
وهي تتوسّط صفوف الأعداء على غرَّة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب ( ).
ومن خلال ما سبق يتَّضح أن معناها التوسّط والوسط.
أحاديث نبوية في (الوسط)
السنة شارحة للقرآن، ومبيّنة له، وقد وردت بعض الأحاديث التي فيها الدّلالة على معاني (الوسط).
ولأهميّة التعمّق في فهم مدلول هذا المصطلح، فسأذكر بعض الأحاديث التي ورد فيها ما يدلّ على هذا المعنى، مع توضيح المراد حسب سياق الحديث، حيث قد يكون فيه دلالة على الوسط لا على الوسطيَّة.
1- عن أبي سعيد الخدريّ  قال: قال رسول الله،   يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بّلغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله - جل ذكره -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسولُ عليكم شهيدًا).  والوسط: العدل رواه البخاري ( ).
والمراد بهذا الحديث واضح، وهو أن الوسط فسّر هنا بالعدل، وهو المقابل للظّلم، حيث إن أمّة محمد،  شهدوا بما علموا، (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) (يوسف: من الآية81). وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوًى مع نوح، عليه السلام - وحاشاهم من ذلك - ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأنّى لهم ( ) ذلك، وهذا هو العدل، لأنَّ الظّلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشَّهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم، والشّهادة بالحقّ دون النّظر لصاحبه عدل، فأمَّة محمد،  ممّن قال الله فيهم: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف:181).
2- روى الترمذي قال: لما نـزل قوله - تعالى -: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1-4) خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكَّة: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1-4) قال ناس من قريش لأبي بكر، فذلك بيننا وبينك، زعم صاحبك أن الرّوم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى - وذلك قبل تحريم الرّهان - فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرّهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع: ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسمّ بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، فسمّوا بينهم ست سنين ( ).
والستّ هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها ثلاث وبعدها ثلاث.
3- عن عبد الله بن معاوية الغاضري  قال: قال رسول الله،   ثلاث من فعلهنّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه  ( ).
والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب، وهو مثل قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89). كما سبق.
4- عن جابر بن عبد الله  قال:  كنا عند النبي،  فخطّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطّ الأوسط، فقال: "هذه سبيل الله"، ثم تلا هذه الآية: (وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)  [سورة الأنعام، الآية: 153]. ( ).
والوسط هنا: هو الشيء بين الشيئين، متوسّط بينهما.
ونجد بيان هذا الصّراط في الحديث الآتي:
عن النّواس بن سمعان  قال: قال رسول الله،   ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفي الصّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى الصّراط داعٍ يدعو يقول: يا أيّها النَّاس اسلكوا الصّراط جميعًا، ولا تعوجّوا، وداع يدعو على الصّراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنَّك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسّتور حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصّراط كتاب الله، والدّاعي من فوقه واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم  ( ).
5- وقال   إنَّ في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتين كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة، أو أعلى الجنة  ( ).
قال الحافظ بن حجر: قوله:  أوسط الجنة أو أعلى الجنة  المراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)( ).
6- وقال   البركة تنـزل وسط الطّعام، فكلوا من حافَّتيه، ولا تأكلوا من وسطه  ( ).
والوسط هنا: نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية. أو هو أشبه ما يكون بمركز الدّائرة ومنتصفها.
7- وعن عبد الله بن مسعود   أن رسول الله،  خطَّ خطًّا مربَّعًا، وخطّ وسط الخطّ المربّع، وخطوطًا إلى جانب الخطّ الذي وسط الخطّ المربّع، وخطًّا خارجًا من الخطّ المربّع، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان الخطّ الأوسط، وهذه الخطوط إلى جانبه الأعراض تنهشه  ( ).
والوسط هنا: هو ما كان بين عدَّة أطراف والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.
8- وقال   وسّطوا الإمام وسدُّوا الخلل  ( ). أي اجعلوه وسط الصّف - في منتصفه - من أمامه، بحيث يكون طرفا الصّفّ متساويين بالنّسبة لموقف الإمام.
9- وقال   لعن الله من جلس وسط الحلقة  ( ). وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تمامًا، وإنَّما من جلس في داخلها بعيدًا عن أطرافها فهو في وسطها.
10- وقال   أنا زعيم بيت في رَبَضَ الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسطِ الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه  ( ).
والوسط هنا ما كان بين الرّبض والأعلى.
11- وقال   لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحبّ إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أُبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السّوق  ( ).
والمراد بالوسط - هنا - الوسط المكاني.
12- وقال   ليس للنساء وسط الطّريق  ( ).
ومعنى الوسط كما في الحديث الذي سبقه الوسط المكاني، وهو ما كان بين الشيئين وهو منه، لأن المشروع في حقّ المرأة أن تكون بجانب الطّريق لا في وسطه، لما يحدث من فتنة بسبب بروزها وتعرّضها للرّجال.
هذه بعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (الوسط). ومعناه، ومنها ما يدلّ على معنى الوسطيَّة، ومنها ما ليس كذلك، إذ لا تلازم بين (الوسط) و(الوسطيَّة)، فكل وسطيَّة فهي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلا على الوسطيَّة، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزّماني ونحوه، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله -.

تحرير معنى الوسطيَّة
من خلال ما سبق اتَّضح لنا أن كلمة (وسط)، تستعمل في معانٍ عدَّة أهمّها:
1- بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
2- قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
3- وتستعمل لما كان بين شرّين وهو خير.
4- وتستعمل لما كان بين الجيّد والرديء، والخير والشَّرّ.
5- وقد تُطلق على ما كان بين شيئين حسًّا، كوسط الطّريق، ووسط العصا.
وقد تأتي لمعانٍ أخرى قريبة من هذه المعاني سبق ذكرها، ولا أجد حاجة لإعادتها.
والمهمّ - هنا - متى يُطلق لفظ (الوسطيَّة)؟ بل على ماذا يُطلق هذا المصطلح؟
فهناك من جعل مصطلح الوسطيَّة مُرادفًا للفظ الخيريَّة، ولو لم يكن بين شيئين - حسًّا أو معنى - قال فريد عبد القادر:
ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفًا خاصًّا محدّدًا للوسطيَّة، فنقول: بأن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من: العدالة، والخيريّة للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم. ثم قال:
أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسّط بين طرفين، مهما كان موضع هذا الوسط - الذي تمَّ اختياره - من صراط الله المستقيم، التزامًا وانحرافًا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث ( ).
ويؤكّد هذا المعنى في موضع آخر، فيقول:
ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظّلم، والصّدق وسط ولا يقابله إلا الكذب ( ).
وهناك من جعل (الوسطيَّة) من التوسّط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيريَّة التي دلَّ عليها الشَّرع، قال الأستاذ فريد عبد القادر:
وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرَّبانيّ، استعمالا فضفاضًا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطيَّة في مفهومهم تعني التَّساهل والتَّنازل.. إلخ ( ).
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطيَّة، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتَّضح ذلك فيما سيأتي:
وقد تأمَّلت ما ورد في القرآن والسنَّة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطيَّة)، فتوصَّلت إلى أن هذا المصطلح لا يصحّ إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان:
1- الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2- البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطيَّة.
والقول بأن الوسطيَّة ملازمة للخيريَّة - أي أنّ كلّ أمر يوصف بالخيريَّة فهو (وسط) - فيه نظر، والعكس هو الصّحيح، فكل وسطيَّة تلازمها الخيريّة ( ) فلا وسطيَّة بدون خيريَّة، ولا عكس.
فلا بدَّ مع الخيريَّة من البينيَّة حتى تكون وسطًا.
وكذلك البينيَّة - أيضًا - فليس كل شيء بين شيئين أو أشياء يُعتبر وسطيًّا وإن كان وسطًا. فقد يكون التوسّط حسيًّا أو معنويًّا، ولا يلزم أن يوصف بالوسطيَّة كوسط الزمان أو المكان أو الهيئة ونحو ذلك.
ولكن كل أمر يوصف بالوسطيَّة فلا بد أن يكون بينيًّا حسًّا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ أيَّ أمر اتَّصف بالخيريَّة والبينيَّة جميعًا فهو الذي يصحْ أن نُطلق عليه وصف: الوسطيَّة، وما عدا ذلك فلا ( ).
وسأذكر بعض الأمثلة التي توضّح ذلك:
1- جاء وصف هذه الأمة بالوسطيَّة في قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وصح عنه،  أنَّه فسَّر الوسط هنا بالعدل ( ) وفي رواية:  عدولا  ( ). والمعنى واحد.
وإذا نظرنا إلى العدل وجدناه يتضمَّن معنى الخيريَّة، والعدل كذلك يُقابله الظّلم، والظّلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أي منهما ( ).
ولذلك فقول صاحب (الوسطيَّة في الإسلام) ( ) .
"ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم". قول غير مسلَّم في أصله ومثاله، أمَّا الأصل فقد بيَّنْتُه سابقًا، وأمّا المثال: فإنَّ الظلم له طرفان كل منهما يصدق عليه وصف الظلم، والعدل وسط بينهما. ويوضّح وسطيَّة الإسلام ووسطيَّة هذه الأمة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلو فيهم كما غلت النصارى فـ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلَّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذَّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابًا، كما قال - تعالى -: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79،80) ومن ذلك أن المؤمنين توسّطوا في المسيح، فلم يقولوا هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النَّصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغيّة، كما زعمت اليهود.
بل قالوا: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142) وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).
ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا.
إلى أن قال - رحمه الله - وهذا باب يطول وصفه... ( ).
وممَّا سبق يتَّضح معنى الوسطيَّة في قوله - تعالى -: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والقارئ لكلام شيخ الإسلام، يتَّضح له التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في استخراج معنى الوسطيَّة في ضوء المنهج الذي سلكه ابن تيمية - رحمه الله - للوصول إلى تحقيق هذه المسألة، وبيان اتّصاف هذه الأمَّة بهذه الصّفة الحميدة.
وقبل ذلك سلك الطبري هذا المنهج في تفسـيره لقوله - تعالى -: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) كما سبق.
2- عن عبد الله بن معاوية الغاضري  قال: قال رسول الله،   ثلاث من فعلهنَّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرة ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه  رواه أبو داود. ( ).
وهنا نجد أن الوسطيَّة واضحة في هذا التَّوجيه النبويّ، فالبينيَّة صريحة في الحديث، أمّا الخيريَّة فهي ظاهرة لمن تأمَّل من خلال ما يلي:
1- أمر الرَّسول،  بذلك دليل على هذه الخيريَّة، فلا يأمر،  إلا بخير، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29). وهل أمرُ الرسول،  إلا وحي يُوحى.
2- أنَّنا عندما نُريد أن نستخرج معنى الخيريَّة لا ننظر من طرف واحد فقط، فإذا نظرنا إلى مصلحة الفقير فقط قلنا: إنَّ الخيريَّة في السّمينة السّليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام وأغلاها.
وإذا نظرنا إلى خيريَّة الغني - في الدنيا - قلنا إن الأسهل عليه أن يُخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها.
ولكن الخيريَّة الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير ومصلحة الغني - صاحب المال - جميعًا، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطيَّة، وذلك باستخراج ما بين أفضلها وأضعفها - وهي الوسط - وذلك مثل قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89).
وهنا اتَّضح لنا التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في تحقيق معنى الوسطيَّة.
3- روى الإمام البخاريّ في صحيحه أنَّ أبا بكر  خطب يوم السّقيفة، وكان مما قال يُخاطب الأنصار:  ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا  الحديث ( ).
والوسطيَّة المرادة هنا يظهر فيها معنى الخيرية جليًّا لا لَبْسَ فيه، فأين البينيَّة؟
إن التأمّل والتّمعنّ في هذه الوسطيَّة يوصّل الباحث إلى حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ قريشًا امتازت بصفات أهّلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصّفات من الشّجاعة والكرم وسائر الصّفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات وسطيَّة بينيَّة بين مجموعة من الصّفات المتضادّة، وهم اتّصفوا بأفضل هذه الصّفات، دون إفراط أو تفريط، أو غلوّ أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنـزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم، وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم وتميزّهم عن غيرهم، واجتماع العرب عليهم دليل على قبولهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطيَّة فيهم، ويصدق فيهم قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نـزلت إحدى الليالي بمعظم ( )

والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينيَّة بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيًا، فكذلك سائر صفاتهم.
وبهذا يتَّضح أن الخيريَّة والبينيَّة - المعنويَّة -هي التي أهّلتهم لأن يكونوا وسطًا نسبًا ودارًا.
وتأمّل معي ما قاله رشيد رضا في تفسيره: قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر أي: المتوسّط بينهما( ).
وأختم هذا المبحث بكلام جيد يتَّفق مع ما ذكرتُ وقرّرتُ، ذَكَرَهُ الدكتور/ زيد في كتابه: (الوسطيَّة في الإسلام). وكان مما قال( ) .
الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذن ليس مجرّد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطيَّة جزئيَّة، كما يقال فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته، ويُراد أنَّه وسط بين الجيد والرّديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدَّى إلى إساءة فهم معنى الوسطيَّة المقصودة.
وعلى هذا فالوسط المراد والمقصود هنا، هو العدل الخيار والأفضل، إلى أن قال:
وبالتالي لم يبق معنى الوسطيَّة مجرَّد التّجاور بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها والاستفادة منها.
ثم يقول: وهو معنى يتَّسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإنَّ السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتَّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنَّب كل وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم، ويبقى الخير والفضل للوسط.
ومن خلال ما سبق من الأمثلة، وما ذكرته من الأدَّلة من الكتاب والسنَّة، والكلام المأثور من لسان العرب وأقوال السّلف اتَّضح لنا ما بيّنته من التلازم بين الخيريَّة والبينيَّة - حسيَّة أو معنويّة - في إطلاق مصطلح (الوسطيَّة).
ولهذا فعندما أستخدم هذا المصطلح في هذا البحث فإنَّني أعني به ما يصدق عليه هذا المدلول دون سواه.
وما عدا ذلك فلا يدخل في هذا البحث، وإن كان داخلا في معنى الوسط، كما سبق بيانه، فهو من الوسط لا الوسطيَّة.
وكذلك ما كان خيرًا أو فاضلا فلا يلزم أن يكون (وسطيًا) وإن كان محمودًا.
قال يوسف كمال: فهناك فضائل ليست وسطيَّة كالصدق الذي يقابله الكذب. ( ).

أسس فهم الوسطيَّة
بعد أن تبينَّ لنا أنَّ الوسطيَّة لا بدّ لها من توافر أمرين، وهما: الخيريَّة والبينيَّة، فإنَّ هناك أُسُسًا لا بدّ من بيانها، ليتحدَّد معنى الوسطيَّة على الوجه الدّقيق. وتلك الأسس مطَّردة مع شَرْطَي الخيريَّة والبينيَّة، وهذه الأسس هي:
1- الغلوّ أو الإفراط.
2- الجفاء أو التَّفريط.
3- الصّراط المستقيم.
فالصّراط المستقيم يُمثِّل الخيريَّة ويُحقّق معناها، وهو وسط بين الغلوّ والجفاء، أو الإفراط والتَّفريط، وهذا يُحقّق وصف البينيَّة وشرطها الذي ذكرت أنَّه من لوازم الوسطيَّة.
وسأقف مبيِّنًا هذه الأُسس مبتدئًا بالغلوّ والإفراط، ثم الجفاء والتَّفريط، ثم أُبيِّن معنى وحقيقة الصّراط المستقيم، وبضدّها تتبيَّن الأشياء.
وحيث إنَّ هذا البحث مستمدٌّ من كتاب الله - تعالى - فسأُركِّز على تحديد معنى هذه الأُسس من خلال القرآن الكريم والسنَّة المبيِّنة لذلك، ثم كلام المفسّرين وغيرهم من العلماء، ومن الله أستمدّ العون والتَّوفيق.
أولا: الغلو والإفراط
أما الغلوّ فقد عرَّفه أهل اللغة بأنَّه مجاوزة الحدّ، فقال ابن فارس:
غلوّ: الغين واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى به سهمًّ أقصى غايته ( ).
وقال الجوهريُّ: وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أي جاوز فيه الحدّ ( ).
وقال في لسان العرب: وغلا في الدّين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حدَّه، وفي التّنـزيل: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).
وقال بعضهم: غلوْتَ في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطّت فيه.
وفي الحديث:  إيّاكم والغلوّ في الدّين  ( ) أي: التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ، كالحديث الآخر:  إن هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق  ( ). وغلا السّهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز.
ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم ( ).
هذا معنى الغلوّ في اللغة، وقد ورد في القرآن الكريم آيتان فيهما النَّهي عن الغلوّ بلفظه الصَّريح، قال - تعالى - في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171) قال الطبري:
يقول: لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فَتُفْرِطُوا فيه.
وأصل الغلوْ في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حدّه، يقال منه في الدّين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا( ).
وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية:
والغلوّ: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه: غلا السعر، وقال الزَّجَّاج: الغلوّ: مجاوزة القدر في الظّلم.
وغلوّ النَّصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة.
وعلى قول الحسن: غلوّ اليهود فيه قولهم: إنَّه لغير رشده. وقال بعض العلماء: لا تغلو في دينكم بالزّيادة في التّشدُّد فيه ( ).
وقال ابن كثير: يَنهى - تعالى -أهل الكتاب عن الغلوّ والإطراء، وهذا كثير في النَّصارى، فإنَّهم تجاوزوا الحدّ في عيسى حتَّى رفعوه فوق المنـزلة التي أعطاها الله إيَّاها، فنقلوه من حيِّز النّبوَّة إلى أن اتَّخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوًا في أتباعه وأشياعه، ممَّن زعم أنَّه على دينه، فادّعوا فيهم العصمة، واتَّبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقَّا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال - تعالى -: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31)( ).
أمَّا الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77) قال الطبري: يقول: لا تُفْرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه ( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنَّصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطّوائف، وإيَّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن ( ).
ومنْ غُلوّ النّصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27).
قال ابن كثير في آية المائدة:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) (المائدة: من الآية77) . أي لا تجاوزوا الحدّ في اتّباع الحقّ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيِّز النبوَّة إلى مقام الإلهيَّة، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله ( ).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ، وذِكْرُ بعضها يساعد على فَهم معناه وحدّه:
1- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله،  غداة جمع:  هلمّ القط لي الحصى ، فلقطت له حصيات من حصى الحذف، فلمَّا وضعهَّن في يده قال:  نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين  ( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنَّها أبلغ من الصّغار، ثم علَّله بما يقتضي مجانية هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأنَّ المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك ( ).
2- عن ابن مسعود  قال: قال رسول الله،   هلك المتنطّعون  قالها ثلاثًا ( ).
قال النَّوويُ: هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ( ).
3- وعن أنس بن مالك  أنَّ رسول الله،  كان يقول:  لا تشدّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدِّدوا على أنفسهم فشدِّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
4- وعن أبي هريرة  عن النبي،  قال:  إنَّ هذا الدّين يُسر، ولن يُشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدَّلجة  ( ). وفي لفظ:  القصد القصد تبلغوا  ( ).
قال ابن حَجَر: والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيَّة، ويترك الرّفق إلا عجز وانقطع فيُغلب ( ).
قال عبد الرحمن بن معلا: وحتى لا يقع ذلك جاء ختام الحديث آمرًا بالتَّسديد والمقاربة، قال ابن رجب: والتّسديد العمل بالسَّداد، وهو القصد والتَّوسّط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمَّل منها ما لا يُطيقه( ).
5- وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله،  قال:  اقرأوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه  ( ).
6- وروي عنه،  أنه قال:  يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين  ( ).
وكلّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الغلوّ خروج عن المنهح ومجاوزة للحدّ، وفعل ما لم يشرعه الله ولا رسوله،  ولست بصدد ذكر الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ وتذمّه دون تصريح به، فهي كثيرة جدًّا، ومن أشهرها قصَّة الذين جاءوا وسألوا عن عمل الرسول،  في السرّ، فكأنَّهم تقالّوا، فكان من مقولتهم ما هو معروف، وكيف واجه رسول الله،  هذا الأمر ( ).
بل لم أرد حصر جميع الأحاديث التي ورد فيها لفظ الغلوّ مصرحًا به، وإنَّما اخترتُ هذه الأحاديث للدلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه، ومن ثمَّ علاقته بالوسطيَّة.
وأختم تعريف الغلوّ بهذين التّعريفين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الغلوّ: مجاوزة الحدّ بأن يُزاد في الشيء، في حمده أو ذمّه على ما يستحقّ ونحو ذلك ( ).
وقال ابن حجر في تعريفه للغلوّ: المبالغة في الشيء والتّشديد فيه بتجاوز الحدّ ( ).
وضابط الغلوّ بيَّنة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، حيث قال: وضابطه تعدّى ما أمر الله به، وهو الطّغيان الذي نهى الله عنه في قوله: (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) (طـه: من الآية81)( ).
وممَّا سبق من التَّعريف الّلغوي للغلوّ وما ورد فيه من آيات وأحاديث، وكذلك تعريف العلماء يتَّضح لنا أن الغلوّ هو: مجاوزة الحدّ في الأمر المشروع، وذلك بالزّيادة فيه أو المبالغة إلى الحدّ الذي يُخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشَّارع.

وإيضاحًا لحقيقة الغلوّ، وكشفًا لحدوده ومعالمه، أذكر هذه الحقائق.
أولا: أن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى ما يلي( ) .
1- أن يكون الغلوّ متعلقًا بفقه النّصوص، كتفسيرها تفسيرًا متشدّدًا يتعارض مع السِّمة العامَّة للشَّريعة ومقاصدها الأساسيَّة فيشدّد على نفسه وعلى الآخرين.
2- أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالأحكام، ومن صور ذلك:
(أ) إلزام النَّفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله  عبادة وترهُّبًا، ومعيار ذلك الطَّاقة الذَّاتيَّة حيث إنّ تجاوز الطاقة في أمر مشروع يعتبر غلوًّا.
ومن الأدلَّة على ذلك، ما رواه أنس بن مالك  قال:  دخل النبي،  المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي،  حلّوه ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد  ( ).
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنَّهي عن التعمّق فيها.( ).
(ب) تحريم الطيِّبات التي أباحها الله على وجه التعبّد، أو ترك الضّرورات أو بعضها، ومن أدلّة ذلك قصَّة النَّفر الثّلاثة، حيث روى أنس بن مالك  قال:  جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي،  يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي،  فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا.
فجاء رسول الله،  فقال: "إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منيِّ"  ( ).
وكذلك لو اضطرّ إنسان إلى محرَّم، كأكل الميتة أو حيوان محرَّم، وتَرْكُ ذلك يؤّدي به إلى الهلكة، فإنَّ ذلك من التّشدّد، وبيان ذلك: أن الله هو الذي حرَّم هذا الشّيء في حالة اليسر، وهو - سبحانه - الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال - سبحانه -: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173).
3- أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالحكم على الآخرين، حيث يقف من بعض النَّاس موقف المادح الغالي، ويقف من آخرين موقف الذَّامّ، الجافي ويصفهم بما لا يلزمهم شرعًا، كالفسق أو المروق من الدّين ونحو ذلك.
وفي كلا الحالين يترتَّب على ذلك أعمال هي من الغلوّ في السَّلب أو الإيجاب، كالحبّ والبغض، والولاء والهجر، ونحو ذلك.
ثانيًا: أن الغلو في حقيقته حركة في اتجاه القاعة الشَّرعيَّة والأوامر الإلهيَّة، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدَّها الشَّارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدّين، وليس خروجًا عنه في الأصل، بل هو نابع من الرَّغبة في الالتزام به ( ).
ثالثًا: أن الغلو ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تركًا ( ) فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه نوع من أنواع الغلو، إذا كان هذا التَّرك على سبيل العبادة والتقرّب إلى الله كما يفعل بعض الصّوفيَّة والنَّباتيّين ( ).
رابعًا: الغلو على نوعين: اعتقاديّ وعمليّ.
والاعتقاديّ على قسمين:
اعتقادي كلّي، واعتقادي (فقط).
والمراد بالغلوّ الكلّي الاعتقادي ما كان متعلّقًا بكلِّيَات الشَّريعة، وأمَّهات مسائلها.
أمَّا الاعتقادي - فقط - فهو ما كان متعلّقًا بباب العقائد دون غيرها، كالغلوّ في الأئمَّة وادِّعاء العصمة لهم، أو الغلوّ في البراءة من المجتمع العاصي، أو تكفير أفراده واعتزالهم.
ويدخل في الغلوّ الكلّي الاعتقادي الغلوّ في فروع كثيرة إذ أن المعارضة الحاصلة به للشَّرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلوّ في أمر كلّيّ ( ).
أمَّا الغلوّ الجزئي العمليّ، فهو ما كان غلوًّا في جزئيَّة من جزئيَّات الشَّريعة ومتعلّقًا بباب العمليَّات دون الاعتقاد، فهو محصور في جانب الفعل سواءً أكان قولا بالّلسان أو عملا بالجوارح ( ).
والغلوّ الكّليّ الاعتقاديّ أشدّ خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلوّ العمليّ، إذ أنَّ الغلوّ الكليّ الاعتقاديّ هو المؤدّي إلى الشّقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصّراط المستقيم، وذلك كغلوّ الرّافضة والخوارج ( ).
خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة؛ بل الغلوّ تجاوز الأكمل إلى ما يؤدّي إلى المشقَّة ونحوها، إذ ليس الأكمل في كميَّة العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدَّة تتعلّق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.
فالصَّدقة - مثلا -: يُراعى فيها: المتصدِّق، والمتصدَّق عليه، والمال المتصدِّق به، ولا يُسمَّى كمالا كليًّا بالنَّظر للكمال الجزئيّ.
قال ابن المنيّر: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل ( ).
سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أنَّ هذا المرء من الغُلاة، باب خطير، لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يُدركون حدود هذا العمل، ويعلمون أبواب العقيدة وفروعها، لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، فقد يكون الأمر مشروعًا ويوصف صاحبه بالغلوّ، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسِّكين بالكتاب والسنَّة يُوصفون بالغلوّ والتّطرُّف والتَّزمُّت ونحوها.
ولذلك فإنّ المقياس في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنَّة، وليست الأهواء والأعراف، وما تواضع عليه النَّاس، وقد ضلَّ في هذا الباب أُممٌ وأفراد وجماعات.
وبعد أن تبينَّ لنا معنى (الغلوّ) لغة وشرعًا، وما يتعلَّق به من معانٍ وأقسام، أبيِّن معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتَّضح صلته بالغلوّ:

الإفراط
لغة هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ.
قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحدّ في الأمر، يقولون: إيَّاك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنَّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته ( ).
وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي: جاوز فيه الحدّ ( ).
وفي لسان العرب: وأمر فُرُط، أي: مجاوز فيه الحدّ.
والفُرطة - بالضم -: اسم للخروج والتقدّم، ومنه قول أم سلمة لعائشة: إن رسول الله،  نهاك عن الفُرْطَة في البلاد، وفي رواية: نهاك عن الفُرْطَة في الدّين، يعني السّبق والتقدّم ومجاوزة الحدّ.
والإفراط: الإعجال والتقدّم، وأفرط في الأمر: أسرف وتقدَّم.
وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط( ).
قال - تعالى -: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طـه: من الآية45).
قال الطبري: وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي، يقال منه، أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدَّى.
وأمَّا التَّفريط فهو التَّواني، يُقال منه: فرَّطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه.
قال ابن زيد: (نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) (طـه: من الآية45) قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك أو أمرك، يفرط ويعجّل ( ).
وقال الفرَّاء: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) (طـه: من الآية45) قال: يعجّل إلى عقوبتنا( ).
ونخلص ممَّا سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحدّ، والتقدّم عن القدر المطلوب، وهو عكس التَّفريط - كما سيأتي-.
ومن خلال ما سبق يتَّضح من تعريفي الغلوّ والإفراط أنَّ كلا منهما يصدق عليه: تجاوز الحدّ، وقد فسَّر الغلوّ بالإفراط كما سبق.
وإن كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثَّاني في بعض ما يستعمل فيه.
فالذي يُشدّد على نفسه بتحريم بعض الطيِّبات، أو بحرمان نفسه منها وصف الغلوّ ألصق به من الإفراط، والذي يُعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدَّى بها حدود مثل تلك العقوبة فوصف الإفراط ألصق به من الغلوّ، فنقول: عاقبه وأفرط في عقوبته. وهكذا.
والذي يعنينا في هذا المبحث أن كلا من الغلوّ والإفراط خروج عن "الوسطيَّة" فكل أمر استحقّ وصف (الغلوّ) أو (الإفراط) فليس من الوسطيَّة في شيء.
ثانيًا: التفريط والجفاء
بعد أن عرَّفنا معنى الغلوّ والإفراط، وما يدّل عليه كل منهما، نقف الآن مع ما يقابلهما، وهو: التَّفريط والجفاء. والتَّفريط في اللغة هو التَّضييع كما في لسان العرب.
وقال الزَّجَّاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28). أي كان أمره التَّفريط وهو تقديم العجز.
وفي حديث عليّ  لا يرى الجاهل إلا مفْرِطًا أو مفرِّطًا، وهو بالتخفيف: المسرف في العمل، وبالتّشديد المقصِّر فيه.
ومنه الحديث:  أنَّه نام عن العشاء حتى تفرّطت  أي: فات وقتها قبل أدائها.
وفرّط في الأمر يُفرِّط فرطًا، أي: قصَّر فيه وضيَّعه حتى فات، وكذلك التّفريط ( ).
ومنه قول الرسول،   أما إنَّه ليس في النوم تفريط  ( ). وإذن فالتَّفريط هو التَّقصير والتَّضييع والتَّرك.
قال ابن فارس: وكذلك التَّفريط، وهو التَّقصير، لأنَّه إذا قصر فيه فقد قعد به عن رتبته التي هي له( ).
وقال الجوهري: فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصَّر فيه، وضيَّعه، حتى فات، وكذلك التَّفريط ( ).
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع.
قال - تعالى -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها.
قال السّدي: أما (يَا حَسْرَتَنَا) (الأنعام: من الآية31) فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة( ).
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم، فقولهم: (فَرَّطْنَا) (الأنعام: من الآية31) أي: قدَّمنا العجز.
وقيل: "فرَّطنا" أي: جعلنا غير الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا ( ).
وقال - تعالى - في سورة الأنعام - أيضًا-:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه ( ).
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناه في أمّ الكتاب ( ).
وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38) قال: لم نغفل، ما من شيء إلا وهو في الكتاب ( ).
وقال - تعالى -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعـام: من الآية61).
قال الطبري: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: "لا يُفرّطون". لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: "لا يفرّطون". لا يضيِّعون ( ).
وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).
قال الطبري: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف ( ).
قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80) قصَّرتم في شأنه ( ).
وقال - تعالى - في سورة النحل: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (النحل:62).
قال سعيد بن جبير: (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (النحل: من الآية62) منسيّون مضيّعون.
وقال الضَّحَّاك: متروكون في النَّار.
وقال قتادة: مضاعون.
وقال آخرون: إنَّهم معجلون إلى النَّار مقدّمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانًا في طلب الماء إذا قدّموه لإصلاح الدّلاء والأرشية. وقيل غير ذلك. ورجّح الطبري أن معنى (مُفْرَطُونَ) (النحل: من الآية62) مخلّفون متروكون في النَّار، منسيّون فيها ( ).
وقال - تعالى - في سورة الكهف: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28).
روى عن مجاهد: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) ضائعًا.
وروي عنه: ضياعًا.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب، قول من قال: معناه: ضياعًا وهلاكًا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذ أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرّياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حدّه، فضيّع بذلك الحقّ وهلك ( ).
وقال ابن الجوزي: في الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنّه أفرط في قوله، روي عن ابن عباس.
والثاني: ضياعًا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة، سرفًا وتضيّيعًا.
الثالث: ندمًا، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة.
الرابع: كان أمره التَّفريط، والتَّفريط: تقديم العجز، قاله الزَّجَّاج ( ).
وفي سورة الزمر: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر:56).
قال الطبري: يقول: على ما ضيَّعت من العمل بما أمرني الله به، وقصَّرت في الدنيا في طاعة الله.
وروي مثل ذلك عن مجاهد والسّدّي ( ).
وقال القاسمي: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ) (الزمر: من الآية56) أي قصَّرت. (فِي جَنْبِ اللَّهِ) (الزمر: من الآية56) أي في جانب أمره ونهيه ( ).
هذه هي الآيات التي ورد فيها ما يدلّ على التَّفريط، كما بيَّنت من خلال أقوال المفسّرين، وكلّها تدلّ على التَّضييع والتَّقصير، والتَّرك والتَّهاون، مع اختلاف يسير بين مدلول هذه المعاني.
وكلّها في مقابل الإفراط والغلوّ، كما سبق بيانهما.

أما الجفاء
فقال ابن فارس: الجيم والفاء والحرف المعتلّ يدلّ على أصل واحد: نبو الشيء عن الشيء، من ذلك: جفوت الرجل اجفوه، وهو ظاهر الجفوة، أي: الجفاء، وجفا السَّرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا.
وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئًا يُقال جفا عنه يجفو.
والجفاء: خلاف البّر، والجفاء: ما نفاه السّيل، ومنه اشتقاق الجفاء ( ).
وقال ابن منظور( ) جفا الشيء يجفو جفاءً وتجافى: لم يلزم مكانه، كالسَّرج يجفو عن الظّهر، وكالجّنب يجفو عن الفراش، وفي التَّنـزيل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: من الآية16) وفي الحديث:  أنه كان يجافي عضديه عن جنبيه في السّجود  ( ) أي يباعدهما.
وفي الحديث:  إذا سجدت فتجاف  وهو من الجفاء: البعد عن الشيء، ومنه الحديث:  اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه  ( ). أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته.
قال أبو عبيد في معنى الجفاء في الحديث: والجافي عنه التَّارك له، وللعمل به.
وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: قال،   الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار  ( ).
وفي الحديث الآخر:  مّنْ بدا جفا  ( ). بالدّال المهملة، خرج إلى البادية، أي: من سكن البادية غلظ طبعه، لقلّة مخالطة النَّاس.
والجفاء غلظ الطّبع.
وفي صفته،  ليس بالجافي المهين، أي ليس بالغليظ الخلقة، ولا الطّبع ( ).
وقال - تعالى -: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (الرعد: من الآية17). قال الطبري: وأمَّا الجفاء، فإني حدّثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنَّى، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: يُقال: قد أجفأت القدور، وذلك إذا غلت فانصبّ زبدها، أو سكنت فلا يبقى منه شيء.
وقد زعم بعض أهل العربيَّة من أهل البصرة أن معنى قوله: (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (الرعد: من الآية17) تنشفه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى: في معنى نشف ( ).
وقال - تعالى -: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: من الآية16). قال الطبري: تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع عن مضاجعهم التي يَضْطَجعون لمنامهم، ولا ينامون.
وتتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء: النبو.
وإنَّما وصفهم - تعالى ذكره - بتجافي جُنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصّلاة.
ثم قال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأنَّ جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلا منهم بدعاء ربّهم وعبادته، خوفًا وطمعًا، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلا.. إلخ ( ).
ومما سبق يتَّضح أن الجفاء هو النبوء والتَّرك والبعد، وهو غالبًا ما يحدث خلاف الأصل والعادة.
وأكثر ما يرد الجفاء لما هو محظور ومنهيّ عنه، كالجفاء بما يقابل الصلة والبّر، والجفاء الذي هو من الشّدة والغلظة، ونحو ذلك.
وسأذكر بعض الأمثلة التي يتَّضح فيها معنى التَّفريط والجفاء:
1- تأخير الصلاة عن وقتها تفريط، ولذلك ورد في الحديث:  أمَّا إنّه ليس في النوم تفريط، إنَّما التَّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتى يجيء وقت الصَّلاة الآخر  ( ).
2- رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة تفريط.
3- إهمال تربية الأولاد، تفريط.
4- ترك الأخذ بالأسباب، تفريط.
5- تأخير عمل اليوم إلى الغد - دون سبب - تفريط.
6- الغلظة في المعاملة، جفاء.
7- عقوق الوالدين، جفاء.
8- قطع الأرحام وعدم صلتهم، جفاء وتفريط.
9- عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم، جفاء وتفريط.
10- السلبيَّة مع واقع المسلمين وشئونهم وشجونهم، جفاء وتفريط.
وبهذا يتبيَّن معنى التّفريط والجفاء، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا. وهما يُقابلان معنى الغلوّ والإفراط.
وعند التَّأمّل في استعمال العرب لهما يلحظ أن الجفاء يستعمل - غالبًا - فيما فيه قصد الأمر من التَّرك والبعد وسوء الخلق. أمَّا التَّفريط فمنشؤه - غالبًا - التَّساهل والتَّهاون.
والخلاصة:
أنَّ كل أمرٍ اتَّصف بالتَّفريط أو بالجفاء، فإنَّه يُخالف الوسطيَّة، وبمقدار اتّصافه بأيّ من هذين الوصفين يكون بعده عن الوسطيَّة وتجافيه عنها.
ثالثًا: الصراط المستقيم
بعد أن عرفنا مدلول الغلوّ والجفاء والإفراط والتَّفريط، نأتي للحديث عن الصّراط المستقيم.
إنَّنا بدون فهم معنى (الصّراط المستقيم)، وتحديد مدلوله، لا نستطيع فهم (الوسطيَّة) على معناها الصّحيح.
وقد ورد لفظ (الصّراط المستقيم)، في القرآن الكريم عشرات المرَّات، وجاء - أيضًا – بلفظ (صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء: من الآية68) و (صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: من الآية16) و (صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153) ونحو ذلك.
ففي سورة الفاتحة نجد قوله - تعالى -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ثم يفسّره بأنه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7).
وفي البقرة جاء قوله - تعالى-: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية142). وجاء بعد هذه الآية مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين. وعيسى، عليه السلام، في سورة آل عمران يقول لقومه: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51).
ونجد أن سورة الأنعام من أكثر السّور التي ورد فيها الحديث عن الصّراط المستقيم: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39) (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية87) (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية126) (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية161) وفي سورة إبراهيم سمَّاه صراط العزيز الحميد. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: من الآية1) وفي طه، وصفه بالسّويّ، فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) (طـه: من الآية135) وفي الحجّ أضافه للحميد فقال: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج:24) وفي المؤمنون عرَّفه دون وصف أو إضافة: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون:74) وفي مريم يقول إبراهيم، عليه السلام، لأبيه: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم: من الآية43) ويقول الله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153).
هذه بعض الآيات التي وردت في "الصّراط" فما معناه؟:
قال الطبري: في قوله - تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6).
أجمعت الأمَّة من أهل التَّأويل جميعًا على أنَّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، من ذلك قول جرير الخطفي:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوجّ الموارد مستقيم ( )

وقال ابن عباس: قال جبريل لمحمد،   (اهدنا الصّراط المستقيم): يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوِجَ له  ( ).
قال الطبري: وإنّما وصفه الله بالاستقامة، لأنَّه صواب لا خطأ فيه ( ).
وقال: كل حائد عن قصد السّبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق( ).
وقال ابن كثير: واختلفت عبارات المفسّرين من السَّلف والخلف في تفسير الصّراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله ورسوله( ).
وأعرِضُ الآن بعض أقوال المفسّرين الذين أشار إليهم ابن كثير - رحمه الله - ( ).
فقد روى الطبري عن عليّ بن أبي طالب  عن النبي،  أنَّه قال:  وذكر القرآن فقال: هو الصّراط المستقيم ( ).
وقال أبو العالية: هو رسول الله،  وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر، قال الحسن: صدق أبو العالية ونصح.
وقال القاسمي في تفسير لهذه الآية في سورة الفاتحة: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهمّ نأثره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجليلة، قال - رحمه الله تعالى -: ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف الواقع من المفسّرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًّا، وإنًّما هو اختلاف تنوّع، أو اختلاف في الصّفات أو العبارات.
وعامّة الاختلاف الثابت عن مفسّري السَّلف من الصحابة والتَّابعين هو من هذا الباب.
فالله - سبحانه وتعالى - إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) فكل من المفسّرين يعبّر عن الصّراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حقّ، بمنـزلة ما يُسمي الله ورسوله، وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدلّ على صفة من صفاته.
فيقول بعضهم: الصّراط المستقيم: كتاب الله أو اتّباع كتاب الله.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو الإسلام أو دين الإسلام.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو السنَّة والجماعة.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو العبوديَّة، أو طريق الخوف والرضى والحبّ، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنَّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات.
ومعلوم أنَّ المسمَّى هو واحد، وإن تنوّعت صفاته وتعدَّدت أسماؤه وعباراته ( ).
ثم قال في موضع آخر: فإنَّ الصّراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نُهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن، والإسلام، وطريق العبوديَّة، وكل هذا حقّ، فهو موصوف بهذا وبغيره ( ).
قال القاسمي: الصّراط المستقيم: أصله الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
ويُستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطّريق الواضح للحسّ، كالحقّ للعقل، في أنَّه: إذا سير بهما أبلغا السّالك النّهاية الحسنى ( ).
قال ابن عاشور: والصّراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار لمعنى الحقّ الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله؛ لأنَّ ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.
والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قوّمته فاستقام.
والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيمًا، وهو الجادّة، لأنَّه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضلّ فيه سالكه، ولا يتردّد ولا يتحيَّر.
والمستقيم هنا مستعار للحق البيّن الذي لا تُخالطه شبهة باطل، فهو كالطّريق الذي لا تتخلّله بنيات. ثم قال: والأظهر عندي أنَّ المراد بالصّراط المستقيم: المعارف الصالحات كلّها من اعتقاد وعمل ( ).
هذه بعض أقوال المفسّرين في معنى الصّراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة.
وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصّراط المستقيم سبق ذكر بعضها، فإنَّ معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولبيان ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات بإيجاز:
قال - تعالى -: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية87) قال مجاهد: وسدَّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ، وذلك دين الله الذي لا عِوَجَ فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربّنا لأنبيائه، وأمر به عباده( ).
وفي قوله - تعالى -: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية126) قال الطبري: هو صراط ربك - يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه ( ).
وفي قوله - تعالى -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153) قال الطبري: هو صراطه، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده، (مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153) يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق ( ).
وفي قوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية161) قال الطبري: يقول: قل لهم: إنَّني أرشدني ربي إلى الطّريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفيَّة المسلمة، فوفّقني له ( ).
وفي سورة الأعراف: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) قال الطبري: يقول: لأجلسنَّ لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله الحقّ، وهو الإسلام وشرائعه.
ونقل نحو ذلك عن مجاهد ( ).
وفي قوله - تعالى - في سورة مريم: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم: من الآية43) قال الطبري: يقول: أبصِّرك هدي الطّريق المستوي الذي لا تضلّ فيه إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه( ).
وفي قوله - تعالى -: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون:74) قال الطبري: يقول عن محجّة الطّريق، وقصد السّبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلون( ).
وبهذا يتَّضح أن معنى الصّراط في جميع هذه الآيات معنًى واحدًا، وإن اختلفت العبارة والسّياق.

الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم
مما تقدَّم يتَّضح أن معنى الصّراط المستقيم يدلّ على الوسطيَّة في مفهومها الشَّرعي الاصطلاحيّ الذي سبق تقريره، وبخاصّة أن ما جعلته لازمًا لمفهوم الوسطيَّة وإطلاقها قد تحقَّق في معنى الصّراط المستقيم، فالخيريَّة والبينيَّة ظاهرتان في هذا الأمر.
فنجد في سورة الفاتحة لمَّا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) عرَّفه فقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7) ثم حدَّده فقال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) فجعل الصّراط المستقيم طريق الخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين.
وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضّالين.
وكذلك في سورة البقرة قال الله - تعالى -: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة: من الآية142) فقال بعدها مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وقد تحدَّث المفسّرون عن الكاف في هذه الآية، وذكر غير واحد أن (الكاف) للرّبط بين جعلهم أمَّة وسطًا وهدايتهم للصّراط المستقيم ( ).
ونـزيد الأمر وضوحًا في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في ذلك:
فعن جابر بن عبد الله  قال:  كنَّا عند النبي،  فخطَّ خطًّا وخطَّ خطين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطَّ الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فتفرَّق بكم عن سبيله)  ( ).
وذكر القرطبي في تفسيره، قال: ذكر الطبري في آداب النّفوس حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان، أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصّراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد،  في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثمَّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصّراط انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابن مسعود: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153)( ).
وبالتأمّل فيما سبق يتَّضح لنا ما يلي:
1- أنَّ الصّراط المستقيم: يمثل قمَّة الوسطيَّة وذروة سنامها وأعلى درجاتها، وآيتا الفاتحة والبقرة حجَّة قاطعة في ذلك.
2- أن الوسطيَّة تعني الخيريَّة، سواء أكانت خير الخيرين أو خيرًا بين شرّين أو خيرًا بين أمرين متفاوتين، وقد سبق تفصيل ذلك.
3- أنَّ المقياس لتحديد الخيريَّة هو الشرع، وليس هوى النَّاس أو ما تعارفوا عليه أو ألفوه، فإنَّ مفهوم الوسطيَّة عند كثير من الناس تعني التّنازل أو التَّساهل بل والمداهنة أحيانًا، حيث يختارون الأمر بين الخير والشرّ وهو إلى الشرّ أقرب في حقيقته ومآله، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا.
4- أنَّ هناك عوامل كثيرة، وأصولا معتبرة ( ) تجب مراعاتها عند تحديد مفهوم الوسطيَّة وتطبيقها على أمر من الأمور، حيث إن قصر النظر على أمر دون آخر يؤدّي إلى خلاف ذلك ومجانية للصّواب.
5- وخلاصة الأمر: أنَّه يجب عند النظر في أيّ أمر من الأمور لتحديد علاقته بالوسطية ومدى قربه أو بعده منها دقَّة النّظر والاعتبار في حقيقة هذا الأمر دون الاقتصار على ظاهره فقط، ثم إلى أي هذه الأسس هو أقرب، مراعيًا في ذلك أمور عدَّة - كما أشرت في الفقرة السّابقة - وكلّها تنطلق من القواعد الشّرعية والضّوابط المنهجيَّة، فإذا اتَّضح قربه في حقيقته ومآله إلى الصّراط المستقيم فهو داخل في الوسطيَّة التي نتحدث عنها، أمَّا إذا كان إلى الغلوّ أو الجفاء أو الإفراط أو التَّفريط أقرب حقيقة ومآلا فليس من الوسطيَّة في شيء، وإن حسبه النَّاس كذلك، وقد زلَّت في هذه المسألة عقول وأقدام.

ملامح الوسطيَّة
للوسطيَّة ملامح وسمات تحفّ بها، وتُميِّزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بآحادها.
وقد توصّلت إلى تحديد أهمّ تلك السّمات والملامح، باستقراء القرآن الكريم، وما ورد في وسطيَّة هذه الأمَّة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطيَّة.
إنَّ تحديد هذه الملامح مهمّة أساسيَّة في مثل هذا البحث، حتى لا تكون الوسطيَّة مجالا لأصحاب الأهواء وأرباب الشّهوات.
ذلك أنَّ الوسطيَّة مرتبة عزيزة المنال، غالية الثَّمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمَّة، ومحور تميّزها بين الأمم؟! جعلها الله خاصيَّة من خصائصها، تكرّمًا منه وفضلا (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد: من الآية21).
إنَّ أهمّ سمات الوسطيَّة ما يلي:
(أ) الخيريَّة.
(ب) الاستقامة.
(جـ) اليسر ورفع الحرج.
(د) البينيَّة.
(هـ) العدل والحكمة.
وكل سمة من هذه السّمات يندرج تحتها عدد من آحادها.
وسأعرض لكل سمة بما يُناسب المقام، ويفي بالغرض، والله الموفّق والمعين.
وأحسب أنَّ هذه الملامح بمجموعها تصلح ضابطًا لتحديد الوسطيَّة ومعرفتها، بما يجيب عن السّؤال الذي لا بدّ أن يرد في أذهان الكثيرين:

أين ضابط الوسطيَّة؟ وكيف نميزّها عن غيرها؟
أولا: الخيريَّة
قال الله - تعالى - في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143) وقال في سورة آل عمران: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) وقد ذكرت أن من معاني الوسطيَّة الخيريَّة، قال ابن كثير - رحمه الله -: والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال لقريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي خيرها ( ).
وفي تفسيره لقوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) قال: يعني خير النَّاس للنّاس، والمعنى: أنَّهم خير الأمم وأنفع النَّاس للنَّاس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي خيارًا ( ).
وقال الطبري: مقرّرًا خيريَّة هذه الأمَّة (أمَّة الوسط): فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران: من الآية110)؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الآية أن هذه الأمَّة خير الأمم التي مضت، وإنَّما يقال: كنتم خير أمَّة لقوم كانوا خيارًا فتغيّروا عمّا كانوا عليه؟!
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنَّما معناه أنتم خير أمَّة، كما قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) (الأنفال: من الآية26) وقد قال في موضع آخر: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف: من الآية86) فإدخال كان في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأنّ الكلام معروف معناه.
ولو قال - أيضًا - في ذلك قائل: (كُنْتُمْ) (الأعراف: من الآية86) بمعنى التَّمام، كان تأويله: خلقتم خير أمَّة، أو وجدتم خير أمَّة، كان معنى صحيحًا( ).
وفي تفسيره لقوله - تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: وأمّا التّأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم ( ).
وممَّا سبق يتَّضح أن الخيريَّة ممَّا فسر به معنى الوسطيَّة التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمَّة، فما هي هذه الخيريَّة التي نعرف بها وسطيَّة هذه الأمَّة؟
قال الطبري في تفسير آية الخيريَّة:
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، إذ كنتم بهذه الشّروط التي وصفهم - جلّ ثناؤه - بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمَّة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتُؤمنون بالله، أخرجوا للنَّاس في زمانكم ( ).
قال رشيد رضا:
والحق أقول: إنّ هذه الأمَّة ما فتئت خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، حتَّى تركت الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.
ثم قال: وقد بيَّن الفخر الرازي كون وصف الأمَّة هنا بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان علّة لكونها خير أمَّة أُخرجت للنّاس، فقال:
واعلم أنَّ هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علّة تلك الخيريَّة، كما تقول: زيد كريم، يطعم النَّاس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم.
وتحقيق الكلام أنَّه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونًا بالوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف.
فهنا حكم - تعالى - بثبوت وصف الخيريَّة لهذه الأمَّة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطّاعات، أعني الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيريَّة معلّلة بهذه العبادات ( ).
وقال القاسمي:
ثم بيّن وجه الخيريَّة بما لم يحصل مجموعه لغيرهم، بقوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) فبهذه الصفات فضّلوا على غيرهم ممن قال - تعالى - فيهم: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: من الآية150).
قال أبو السّعود:
(وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) أي إيمانًا متعلّقًا بكلّ ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء، وإنّما لم يُصرّح به تفصيلا لظهور أنّه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنَّه هو الإيمان بالله - تعالى - حقيقة( ).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تدلّ على خيريَّة هذه الأمَّة منها:
1- روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية أن رسول الله،  قال:  إنَّكم تتّمون سبعين أمَّة أنتم خيرها وأكرمها على الله ( ).
2- وقال   أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ فقال: نصرُ بالرّعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمدَ، وجعل التّراب لي طهورًا، وجعلت أمّتي خير الأمم ( ).
فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبيّن خيريَّة هذه الأمَّة، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، وقد جمع المفسّرون بين معنيي الخيريَّة والوسطيَّة، حتى جاء أحدهما تفسيرًا للآخر، كما مرَّ معنا.
ولأهمّيَّة بيان معنى الخيريَّة، فسأذكر أبرز أوجه هذه الخيريَّة، ليتَّضح لنا معنى الوسطيَّة.
أبرز أوجه خيرية هذه الأمَّة ( )
قال الأستاذ سيد قطب:
فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (المائدة: من الآية18). كلا إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر( ).
إنَّ هذه الخيريَّة لها أسباب، ولها حقيقة، حقيقة لا بدّ أن توجد في الواقع، وأن ترى في الحياة، وليست مجرّد تصوّر ذهني، وفلسفة غائبة.
إنَّ هذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة، وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها.
1- الإيمان بالله: قال - سبحانه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110). فقرن الله - جلّ وعلا - بين خيريَّة هذه الأمَّة والإيمان به - تعالى -، بل جعل الإيمان هو سبب الخيريَّة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فرع عن الإيمان، وأثر من آثاره.
وهل يمكن أن نتصوّر خيريَّة دون إيمان بالله - تعالى -؟ والإيمان بالله - تعالى - يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام، لأنَّ العلماء ذكروا أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهنا جاء ذكر الإيمان وحده، فهو يشمل الإيمان والإسلام.
وعند التّأمل في معنى الإيمان كما ورد في حديث جبريل المشهور، قال:  أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه  ( ). نجد الشّمول والتكامل، كما قال - سبحانه-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285).
فالإيمان بالله يشمل الأمور العقديَّة والعمليَّة، الظاهرة والباطنة، ما يتعلّق منها بعالم الغيب والشّهادة، ما كان منها في الدّنيا أو الآخرة.
والإيمان بالله أعمق دلالة وأثرًا ممّا قد يتصورّه كثير من النَّاس، فليس هو مجرّد التّصديق كما فسّره بعض المتكلّمين، ممّا أودي بكثير من النَّاس إلى اعتناق مبدأ الإرجاء، وهم لا يعلمون، وهم بهذا السّلوك والتّفسير فرّغوا الإيمان من معناه الحقيقي ومدلوله الصّحيح.
وإنّما هو علم واعتقاد وعمل، والإسلام من لوازم الإيمان، فمقتضى الإيمان بالله وكتبه ورسله، يستلزم العمل بما أمر به الله في كتابه، وعلى لسان رسوله،  ولهذا فإن شرط الإيمان في تحقيق الخيريَّة جاء مغنيًا عمّا يشمله من أركان الإيمان والإسلام.
ولذلك فإنَّنا قبل أن نحكم بخيريَّة جماعة أو فرد أو عمل، لا بدّ من التّحقّق في توافر شرط الإيمان فيه بمعناه الشّامل المتكامل، فقد قال - سبحانه-: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )(آل عمران: من الآية110). مع أنَّهم يدّعون الإيمان، ولكن العبرة بالحقائق لا بالدّعاوى.
وعند التّأمّل في قوله- تعالى-: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) أجد أن فيه معنى الخير والإنشاء، فهو خبر عن حقيقة واقعة بإيمان هذه الأمَّة، حيث تميّزت عن غيرها في شمول هذا الإيمان واستمراره، ويكفي دليلا عن شمول إيمانها شهادتها لبعض رسل الله يوم القيامة بأنهم قد بلّغوا رسالة ربّهم إلى أقوامهم. فهذا الإيمان الموجود والمتحقّق أهَّلها لهذه الخيريَّة.
ثم فيه معنى الإنشاء والطلب، حيث جعل من لوازم الخيريَّة وجود هذا الإيمان، فكما أن هذا الإيمان موجود في هذه الأمَّة بجملتها وبخاصّة القرون المفضّلة، فإنّ على من أراد من أفراد هذه الأمَّة أن يكون من خيارها أن يُحقّق معنى الإيمان في نفسه، بمعناه الشّامل المتكامل.
فإذا تحقّق الإيمان تحقَّقت الخيريَّة، وإذا تحقَّقت الخيريَّة في صورتها الشَّرعية وجدنا الوسطيَّة في أسمى معانيها، مقرونة بأقوى أركانها ومبانيها.
2- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من خصائص هذه الأمَّة العمليَّة قيامها بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهذه شهادة الله لها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: من الآية110).
والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78، 79). ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله،  إلى يومنا الحاضر وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع ولم يترك كما فعل بنو إسرائيل.
قد نجد ضعفًا في زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، ولكنَّه لا يصبح حالة مستقرَّة، ولا تعدم الأمَّة آمرًا أو ناهيًا ولو كانوا قلَّة قليلة، وهذا مصداق قول الرسول،   لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك  ( ). الحديث.
فالطائفة المنصورة موجودة إلى قيام السَّاعة، وهي طائفة ظاهرة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر.
وكما ذكرت في موضوع الإيمان، فإن ذكر الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في هذه الآية خبرًا وإنشاءً، فهو خبر عن حقيقة واقعة ومستمرَّة، حيث إنَّ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مستمرّ في هذه الأمَّة إلى قيام الساعة، وهو كذلك (إنشاء) فمن أراد الخيريَّة فلا بدّ أن يقوم بهذا الرّكن العظيم، حتى تتحقّق له الخيريَّة التي جعلها الله من خصائص هذه الأمَّة، ففيه معنى الأمر - أيضًا-.
وقد يسأل سائل: أليس الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فرعًا عن الإيمان، فلماذا أفرده دون سائر أبواب الإيمان العمليَّة؟
وألخّص الجواب على هذا السؤال بما يلي:
1- أهميّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وأثره المباشر في تحقيق الخيريَّة دون سواه.
2- أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، سياج الإيمان، وركن أساس لبقائه وحمايته.
3- أن أغلب الأعمال خاصّة غير متعديّة، أمّا الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، فإنّ نفعه لا يقتصر على فاعله بل يتعدّاه إلى المأمور والمنهي، وكذلك إلى الأمر المأمور به والمنهيّ عنه، فمثلا الأمر بالصلاة، لا يقتصر نفع هذا الأمر على جهة واحدة بل يشمل عدّة أطراف:
(أ) الآمر: حيث قام بما أوجبه الله عليه، وهذه عبادة له نفعها وأجرها.
(ب) المأمور: حيث ينتفع بهذا الأمر إن استجاب له، وقد يكون هذا الأمر سببًا لهدايته.
(جـ) المأمور به: فإن الأمر بالصلاة سبيل للمحافظة عليها واستمرارها، وهذا فيه من النّفع العظيم ما لا يخفى.
4- أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر له صفة الشّمول، فليس متعلّقًا بعمل معيّن، بل يشمل كل معروف وكل منكر، بينما سائر الأعمال نجدها أعمالا مخصوصة معينة، فالصيام يتعلّق بعمل مخصوص، والزّكاة والحج وغيرهما كذلك. ولذلك فهو يشترك مع الإيمان في صفة الشّمول، حيث إن الأمر بالمعروف يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام.
والرسول،  قال في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري:  من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان  ( ). فجاء المنكر مُنَكّرًا هنا دلالة على عمومه، أي: أيّ منكر يراه المسلم، فهو يشمل كل منكر، كما أن الأمر يشمل كل معروف، فيدخل في ذلك جميع ما شرعه الله، فيؤمر به وينهى عن مخالفته ( ).
وممّا سبق يتبيَّن لنا أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، من أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، له صور متعدّدة، وليس محصورًا بحالة أو صفة واحدة كالكلام مثلا، بل قد يكون باليد أو اللسان أو العمل - كالقدوة مثلا - فمن صلّى أمام الناس لم يقوموا إلى الصلاة فهو داخل في الأمر بالمعروف، وإن لم يتكلّم، وكذلك من تصدَّق ليُقتدى به، فهو من الأمر بالمعروف، ومن خرج من مجلس فيه منكر فإنَّه من تغيير المنكر، ولو لم يتكلّم. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (الأنعام: من الآية68) وأضعف أبواب تغيير المنكر أن يكون في القلب كما ورد في الحديث.
وأخيرًا:
فإنّه إذا تحقّق الإيمان بمعناه الشّامل المتكامل، وجاء الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يحوطه ويحرسه، فإنّنا سنرى الخيريَّة التي أخبرنا الله بها ماثلة أمام أعيننا، لا يزيغ عنها إلا هالك.
هذه أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، وما عداهما من أوجه فأرى أنها داخلة فيما ذكرت دلالة أو ضمنًا.
ثانيًا: الاستقامة
الوسطيَّة استقامة، ولو لم تكن على نهج الاستقامة لكانت انحرافًا، والانحراف إمّا إفراط أو تفريط، وذلك ضد الوسطيَّة ومباين لها، كما سبق بيان ذلك.
وهناك شعور لدى بعض النَّاس أن الوسطيَّة تعني التنازل - ولو قليلا- عن حقيقة الأمر والنّهي، ولقد عبَّر أحد الباحثين عن هذا الشّعور الذي يختلج في صدور بعض النَّاس، حيث طرح سؤالا ورّد عليه، وممّا قاله: هل المقصود بالوسطيَّة مرونة الأمَّة، بحيث لا تصطدم بالأفكار والمبادئ الأخرى عند الالتقاء بها، بل قابليّتها للأخذ والعطاء والتّنازل عن جزء ممّا عندها، من أجل تنازل الطّرف الآخر، والالتقاء عند نقطة وسط تُرضي جميع الأطراف؟
ثم ردّ على هذا المسلك وبيَّن مخالفته لحقيقة الوسطيَّة ( ).
ومن هنا فإنَّ من ملامح الوسطيَّة، بل وضوابطها الاستقامة، ولذلك فمن ادَّعى الوسطيَّة مع خروجه عن الاستقامة، فهذه ليست الوسطيَّة الشّرعية في شيء، بل هي وسطيَّة نسبيَّة غير التي نتحدَّث عنها.
ولذا فإنَّ من المناسب - ونحن نتحدَّث عن ملامح الوسطيَّة - أن أُبيِّن معنى الاستقامة وحدودها ليتضح المراد:
فقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة وتحثّ عليها، فالله - جلّ وعلا - يقول لرسوله،  (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121). وفي سورة الشورى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15).
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30). وفي سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16). وفي سورة فصلت: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت: من الآية6). فهذه الآيات وغيرها تبينّ منـزلة الاستقامَّة ومكانتها.
وحيث إنَّ لزوم الصّراط المستقيم استقامة على دين الله وشرعه، وهذا عين الوسطيَّة وجوهرها، فسأقف مع (الاستقامة) وقفة مناسبة، تعريفًا وبيانًا.
تعريف الاستقامة:
قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصلت: من الآية30)( ). وقال ابن القيّم: الاستقامة ضد الطّغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء( ).
وقال القرطبي: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشّمال ( ).
وقال ابن القيم: قال عمر  الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنّهي، ولا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثّعالب( ).
وقال ابن القيم - أيضًا -: فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في النِّيَّات والأقوال والأعمال.
ثم قال: فالاستقامة: كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصّدق، والوفاء بالعهد( ).
وهذه المعاني متقاربة، ويفسّر بعضها بعضًا.
أحاديث في الاستقامة:
في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله  قال:  قلت يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم"  ( ).
وعن ثوبان  عن النبي،  قال:  استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصّلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن  ( ).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله،   سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنَّه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل  ( ).
وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك  عن النبي،  قال:  لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتَّى يستقيم لسانه  ( ).
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا:  إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلّها تكفّر اللسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا  ( ).
وروى الترمذي عن أنس بن مالك   أن رسول الله،  قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: "قد قالها النَّاس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممّن استقام"  ( ).
أقوال العلماء في الاستقامة:
سُئل الصديق  عن الاستقامة فقال: ألا تشرك بالله شيئًا. قال ابن القيم: يريد الاستقامة على محض التّوحيد ( ).
وفي قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30). فسَّر السَّلف الاستقامة فقالوا: ( )
قال عمر  استقاموا لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثّعالب.
وقال عثمان بن عفان  استقاموا: أخلصوا العمل لله.
وقال علي بن أبي طالب  استقاموا: أدّوا الفرائض.
وبمثل ذلك فسَّرها ابن عباس .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: استقاموا على محبّته وعبوديَّته، فلم يلتفتوا عنه يُمنة ولا يُسرة.
ومن أقوال العلماء في الاستقامة:
قال ابن القيم: الاستقامة تتعلّق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنِّيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة( ).
وأختم الكلام عن الاستقامة بما قاله ابن القيّم في مدارج السَّالكين ممَّا يتَّضح معه علاقة الاستقامَة بالوسطيَّة، وأنَّه لا استقامة بلا وسطيَّة، ولا وسطيَّة دون استقامة.
قال ( ) وهي - أي الاستقامة - على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، لا عاديًا رسم العلم، ولا متجاوزًا حدّ الإخلاص، ولا مخالفًا نهج السنَّة.
قال ابن القيم شارحًا قول الهروي: هذه درجة تتضمَّن سنَّة أمور: عملا واجتهادًا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادًا، وهو السلوك بين طرفي الإفراط - وهو الجور على النّفس - والتَّفريط بالإضاعة.
ووقوفًا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفًا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص.
ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة. فبهذه الأمور الستَّة تتمّ لأهل هذه الدّرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة، إمَّا خروجًا كليًّا، وإمّا خروجًا جزئيًّا.
والسّلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا، وهما:
الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنَّة، فإنَّ الشّيطان يشمّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنَّة، أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا على السنَّة، وشدَّة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النّفس، ومجاوزة حدّ الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزّيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النّوم، فلا يزال يحثّه ويحرّضه، حتَّى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدّها، كما أن الأوّل خارج عن هذا الحدّ، فكذا هذا الآخر خارج عن الحدّ الآخر ( ).
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنَّة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التَّفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السَّلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشّيطان فيه نـزغتان: إما إلى تفريط، وإمّا إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيّهما ظفر، زيادة أو نقصان ( ).
وهذا الكلام عن الاستقامة هو عين الوسطيَّة وجوهرها.
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج
إنَّ من أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا عندما ننطق كلمة (الوسطيَّة) هو معنى اليسر والتّيسير، ورفع الحرج، وهذا الفهم صحيح فإنَّ من أبرز سمات الوسطيَّة: التّيسير ورفع الحرج.
وقد تقرَّر فيما مضى أنَّ هذا الدّين هو دين (الوسط)، فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط.
واليسر ورفع الحرج مرتبة عالية بين الإفراط وبين التفريط، وبين التشدّد والتنطّع وبين الإهمال والتضييع.
قال الدكتور/ صالح بن حميد:
رفع الحرج والسّماحة والسّهولة راجع إلى الاعتدال والوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطّع والتّشديد حرج من جانب عسر التكليف، والإفراط( ) والتّقصير حرج فيما يؤدّي إليه من تعطيل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشّرع. قال - تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فالتوسّط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل( ).
ولأهميَّة بيان عناية الإسلام بهذا الجانب وتأكيده عليه، فسأذكر بعض ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة، وأئمة السّلف من الصّحابة وغيرهم، مع ذكر أقوال بعض المفسِّرين حول آيات التّيسير ورفع الحرج.
مع التنبيه إلى أنَّني لن أستقصي ما ورد في ذلك لصعوبته أوّلا، ولعدم الحاجة إلى ذلك ثانيًا، حيث يغني القليل عن الكثير. (وعن البحر اجتزاء بالوشل).
وقبل أن أدخل في ذكر الأدلّة من الكتاب والسنَّة أذكر تعريفًا موجزًا للتيسير ورفع الحرج فأقول:( ) .
أولا: تعريف اليسر والوسع:
قال البقاعي في تفسيره - نقلا عن الحرالي-: اليسر عمل لا يُجهد النّفس ولا يُثقل الجسم ( ).
ونقل هذا القول القاسمي في تفسيره ( ).
وقال الرازي: في معنى الوسع: إنَّه ما يقدر الإنسان عليه في حال السّعة والسّهولة، لا في حال الضّيق والشِّدَّة، وأمّا أقصى الطّاقة فيسمَّى جهدًا لا وسعًا، قال: وغلط من ظنَّ أن الوسع بذل المجهود( ).
وقال ابن منظور في تعريف اليسر: ( ) .
اليسر: اللّين والانقياد.
والميسرة: السّعة والغنى.
وتيسير الشيء واستيسر: تسهّل.
واليسر: ضدّ العسر.
ويقول الدكتور/ صالح بن حميد بعد أن ذكر بعض هذه الأقوال:
يظهر من ذلك أن اليسر والوسع: ما يُقدم عليه الإنسان من غير أن يلحقه مشقَّة زائدة، ومن غير أن يحتاج لبذل كلّ ما لديه من طاقة ومجهود، وعقّب قائلا: ومن هذا فإنّ ما ذكره ابن حزم في أصول الأحكام من أنَّ: (العسر والحرج ما لا يستطاع، أمَّا ما استطيع فهو يسر). ليس بدقيق، ولا سيَّما في إطلاق الشرع، إذ أنَّ هناك أمورًا يستطيع المكلّف عملها، مع لحوق مشقَّة أو عسر، فجاء التَّخفيف فيها إلى ما هو أيسر، ولو بذل غاية جهده وطاقته لقام بها، ومنه يتبين أن عدم الاستطاعة ليست معيار العسر الشّرعي( ).
وأختم أقوال العلماء في تعريف اليسر والوسع بما قاله الزمخشري: "إن الوسع هو ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، ولا يحرج فيه، فالله لا يكلّف النّفس إلا ما يتّسع فيه طوقها، ويتيّسر عليه دون مدى غاية الطّاقة والمجهود، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلّي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من شهر، ويحجّ أكثر من حجّة" ( ).
هذا ما يتعلّق بتعريف اليسر والوسع، أمّا رفع الحرج فإنَّ تعريفه يستلزم تعريف الحرج أولا: قال في لسان العرب:
الحرج: الإثم.
وقال أحمد بن يحيى: والتّحريج: التّضييق.
وقال ابن الأثير: الحرج في الأصل: الضيق.
وقيل: الحرج: أضيق الضّيق، ونسبه للزَّجَّاج في موضع آخر. وحرَّج فلان على فلان: إذا ضيَّق عليه( ).
هذا تعريف الحرج في اللغة، أمَّا في الاصطلاح: (كل ما أدَّى إلى مشقَّة زائدة في البدن أو النَّفس أو المال حالا أو مآلا)( ).
قال ابن عباس في قوله- تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). توسعة الإسلام، ما جعل الله من التّوبة والكفّارات( ).
وقال الضّحاك في تفسير الآية: جعل الدّين واسعًا ولم يجعله ضيِّقًا( ).
وقال مقاتل بن حيان: لم يضيق الدّين عليكم ولكن جعله واسعًا لمن دخله، وذلك أنَّه ليس مما فرض عليهم فيه إلا وقد ساق إليهم عند الاضطرار فيه رخصة( ).
وبعد هذا التّعريف للحرج يكون رفع الحرج هو:
(إزالة ما يؤدّي إلى هذه المشاقّ الموضَّحة في التَّعريف. ويتوجه الرّفع والإزالة إلى حقوق الله - سبحانه وتعالى - لأنَّها مبنيَّة على المسامحة، ويكون ذلك إمّا بارتفاع الإثم عند الفعل، وإمَّا بارتفاع الطّلب للفعل، وحينما يرتفع كل ذلك ترتفع حالة الضّيق التي يعانيها المكلّف حينما يستشعر أنَّه يقدم على ما لا يُرضي الله، وهذا هو الحرج النفسيّ والخوف من العقاب الأخرويّ.
كما يرتفع الحرج الحسيّ حينما يكون التّكليف شاقًّا فيأتي العفو من الله - سبحانه وتعالى - إمَّا بالكفّ عن الفعل الموقع في الحرج، وإمَّا بإباحة الفعل عند الحاجة إليه)( ).
ففي قوله، عليه السلام، حينما سئل عن التّرتيب بين أعمال يوم النّحر من الرّمي والحلق والطّواف والنَّحر:  افعل ولا حرج  ( ). إباحة لترك التّرتيب بين هذه الشَّعائر، ورفع للإثم عمَّن لم يرتّب كترتيب رسول الله،  في نسكه حينما قال:  خذوا عنِّي مناسككم  ( ).
وبعد أن تبيَّن لنا معنى التّيسير والوسع ورفع الحرج أذكر الأدّلة على ذلك من الكتاب والسنَّة، وأقوال السَّلف في ذلك:

الأدلة من القرآن الكريم:
وردت آيات كثيرة جدًّا تُبيِّن أنَّ هذا الدّين دين يسر، وأنَّ الله قد رفع الحرج عن هذه الأمَّة فيما يشقّ عليها، حيث لم يكلّفها إلا وسعها.
وسأذكر أدلَّة التّيسير، ثم أدلَّة رفع الحرج، ثم أدلَّة عدم التَّكليف بغير الوسع والطّاقة.
1- أدلة التيسير والتخفيف قال الله - تعالى-: (بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
وقال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
وقال  (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى:8).
وقال في سورة الانشراح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5، 6).
وفي سورة الطّلاق: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (الطلاق: من الآية4).
وقال - جلّ من قائل -: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: من الآية7).
هذه بعض الآيات التي تفيد التّيسير على هذه الأمَّة.
قال القاسمي في تفسير أية البقرة: قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الآية( ).
وقد ذكر المفسّرون في تفسيرهم لهذه الآيات أن الله أراد لهذه الأمَّة اليسر ولم يرد لها العسر( ).
2- أدلة رفع الحرج من أقوى الأدلّة وأصرحها في الدّلالة على رفع الحرج قوله - تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78).
قال الطبري في تفسير هذه الآية: جعل الدّين واسعًا ولم يجعله ضيّقًا( ).
وقال ابن كثير: أي: ما كلّفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا( ).
وقال- سبحانه-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: من الآية6).
وفي سورة التوبة: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: من الآية91).
وقال في سورة الأحـزاب: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: من الآية38).
وفي سورتي الفتح والنور: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: من الآية61).
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج على هذه الأمَّة، وأنَّ الله لم يجعل في التّشريع حرجًا، وبعض هذه الآيات وإن كانت خاصّة في أحكام معيّنة، ولكنَّنا نجد التّعليل عامًّا، فكأنّ التّخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام والفروض بإعادة الشيء إلى أصله وهو رفع الحرج عن هذه الأمَّة، فكل شيء يؤدّي إلى الحرج لسبب خاصّ أو عامّ فهو معفوّ عنه، رجوعًا إلى الأصل والقاعدة.
3- أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة قال- سبحانه- في سورة البقرة: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286). وفي الآية نفسها: (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286).
وقال الله- تعالى- كما في الحديث الصحيح:  قد فعلت ( ) وكذلك قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
قال الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد: (والوسع ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، فقوله- تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطّاقة، فلا يكلّفها بما يتوقَّف حصوله على تمام صرف القدرة، فإنَّ عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر، ولكنَّ الله جلّت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمَّة اليسر ولم يرد بها العسر)( ).
ومن الأدلّة على أنَّ التكليف بحدود الوسع والطّاقة قوله- تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (لأعراف:42).
ويقول- سبحانه- في سورة المؤمنون: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (المؤمنون: من الآية62).
قال القاسميّ: فسنة الله جارية على أنَّه لا يكلف النّفوس إلا وسعها ( ).
بل جاء تقرير هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الجزئيَّة فقال- سبحانه-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية233).
وكذلك في سورة الطلاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7).
وكذلك- أيضًا- في سورة الأنعام: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأنعام: من الآية152).
هذه هي الآيات التي وردت مبيّنة أنَّ التّكليف بحسب الوسع والطّاقة، ولا شكَّ أنَّ الأحكام الشَّرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ اليسر سمة هذا الدّين، والتّوسعة على العباد خاصِّيَّة من خصائصه، فهي الحنيفيَّة السّمحة والوسطيَّة التي لا عَنَتَ فيها ولا مشقَّة( ).

الأدلة من السنة النبوية:
جاء في سورة براءة وصف الرسول،  (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128). وكذلك فقد جاءت الأحاديث عنه،  تبين يسر هذا الدِّين، وتحمل النّهي عن التّشدّد والتّعمّق والغلوّ، بل ترك،  كثيرًا من الأعمال رحمة بأمّته وخشية من أن يشقّ عليها، وهذا يخالف يسر الدّين وسماحته ( ).
وسأذكر بعض الأحاديث التي تؤكّد حقيقة يسر الإسلام وبعده عمَّا يخرج عن منهج الوسطيَّة.
وقد تنوَّعت أساليب رسول الله،  في توجيه أمّته لهذه الحقائق وتأصيلها.
فنجد في الأحاديث ما جاء صريحًا في بيان أنَّ هذا الدّين دين اليسر والسّماحة، وأنَّه،  بُعِثَ بذلك.
فقد روت عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله،  قال:  إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا  ( ).
وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن:  يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا  ( ).
وقال،  مبَيِّنًا حقيقة هذا الدين:  إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا  ( ).
وروى ابن عباس عنه،   أنه قال لما قيل له: يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة"  ( ).
وجاء في روايات أخرى:  بُعثت بالحنيفيَّة السّمحة  ( ).
وفي رواية:  إنَّ أحبّ الدّين إلى الله الحنيفيَّة السّمحة  ( ).
وعن عروة الفقيمي- رضي الله عنه- قال:  كنَّا ننتظر النبي،  فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله،  "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر"  ( ). وما خير رسول الله،  بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ( ).
وفي مسند الإمام أحمد، قال: قال،   إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره  ( ).
وقال،  في حديث محجن بن الأدرع:  إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير  ( ).
وهذه الأحاديث صريحة في بيان يسر هذا الدّين وسماحته.
ونجد من أساليبه،  في هذا الجانب ما ورد في النّهي عن الغلوّ والتنطّع.
فعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله،   إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين  ( ).
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله،   هلك المتنطّعون  قالها ثلاثًا ( ).
وعن أنس بن مالك  أن رسول الله،  كان يقول:  لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم  ( ).
ومن أساليبه- أيضًا-  ترك العمل مخافة المشقَّة على أمَّته: ومن ذلك قصَّة صلاة التَّراويح،  حيث صلى،  ذات ليلة في رمضان فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى القابلة فكثر النّاس، ثم اجتمعوا في الليلة الثَّالثة أو الرّابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أنيّ خشيت أن تُفرض عليكم"  وفي الرّواية الأخرى:  فتعجزوا عنها  ( ).
وعن أبي هريرة  أن رسول الله،  قال:  لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كل صلاة  ( ).
بل إنَّه يعمل العمل فيندم على ذلك مخافة المشقَّة على أمّته: فقد روت عائشة - رضي الله عنها-  أن رسول الله،  خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: "إنّي دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إنّي أخاف أن أكون قد شققت على أمّتي"  ( ).
ووصل من رحمته،  وتيسيره على أمّته وكرهه للمشقَّة عليهم ما يفيده هذا الحديث الذي رواه أبو قتادة، حيث قال،   إنّي لأقوم إلى الصّلاة وأنا أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصّبي فأتجوّز كراهية أن أشقّ على أمّه  ( ).
ومن أساليبه في ذلك نهيه،  لأصحابه عن أعمال تؤدي إلى المشقَّة والعسر:
 فقد جاء رجل إلى رسول الله،  فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا  قال أبو مسعود الأنصاري راوي الحديث: فما رأيت النبي،  غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال:  أيّها الناس إن منكم منفّرين، فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة  ( ).
 ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال،  حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد  ( ).
وجاء في الصّحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك   أن النبي،  رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني، وأمره أن يركب  ( ).
ومثل ذلك  قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول،  فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها‍! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال  أأنتم الذين قلتم كذا وكذا، أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي  ( ).
وأختم هذه الأحاديث بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني بسنده عن نافع عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال:  خرج رسول الله،  في بعض أسفاره فسار ليلا فمرَّ على رجل جالس عند مقراة له- وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء- فقال له عمر: يا صاحب المقراة: ولَغَتْ السّباع الليلة في مقراتك؟
فقال له النبي،  "يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور"  ( ).
ومما سبق من هذه الأحاديث يتبيَّن لنا سماحة هذا الدّين ويسره، وبعده عن الغلوّ والتّشدّد وما يؤدّي إلى المشقَّة والعسر.

أقوال السلف ( )
ما ذكرته من الأدلّة من الكتاب والسنَّة يغني عمَّا سواه، بل إن آية واحدة أو حديثًا واحدًا صحيحًا حجَّة في ذلك.
ولكن لأبين أنَّ قضيّة يسر هذا الدّين وسماحته ووسطيَّته أصبحت منهجًا عمليًّا، استجابة لله ورسوله، فسأذكر بعض ما ورد عن السّلف في هذا الباب، مع الاختصار دون إخلال أو إقلال.
يقول عبد الله بن مسعود  مبيّنًا منهج الصّحابة في ذلك: "من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد،  كانوا أفضل هذه الأمَّة، أبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه،  ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم" ( ).
وقال- أيضًا- إيَّاكم والتّنطّع، إيَّاكم والتّعمّق، وعليكم بالعتيق ( ).
وقال أنس بن مالك  كنّا عند عمر  فسمعته يقول: "نهينا عن التّكلّف" ( ).
قال الدكتور/ صالح بن حميد: هذه الصّيغة وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنَّها تدلّ على البعد عن التّكلّف هو منهج عمر وغيره من الصّحابة ( ).
وقد مرَّ عمر- رضي الله عنه- في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب، فقال رجل مع عمر: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب: لا تخبرنا، ومضى ( ).
وروي أن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- سئل عن الجبن الذي تصنعه المجوس؟ فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه ( ).
وقال الإمام الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإنَّ أيسرهما أقربهما إلى الحقّ لقوله- تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
وقال معمر وسفيان الثوري: إنما العلم أن تسمع بالرّخصة من ثقة. فأمَّا التّشديد فيحسنه كل أحد( ).
وقال إبراهيم النخعي: إذا تخالجك أمران فظنَّ أن أحبهما إلى الله أيسرهما ( ).
وروي عن مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز: أفضل الأمرين أيسرهما لقوله- تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (البقرة: من الآية185)( ).
والآثار في هذا كثيرة جدًّا، وما مضى فيه الكفاية- إن شاء الله-.

وبعد:
فإنَّ المتأمّل لهذه الآثار من الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمَّة يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقع وفهم كثير من المسلمين، وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها، حيث إنَّه يوجد هناك من لو سئل عن هذا الأمر لأجاب الإجابة الصّحيحة، ولكن عند التأمّل في واقعه وتعامله والتزامه ومنهجه لا نجد إلا الإفراط أو التّفريط.
والعجب أن بعض هؤلاء كأنَّه أغير على دين الله من رسول الله،  بل من الله- جلّ وعلا- الذي يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). وهذا لا يعني- أيضًا- التّفريط والتَّساهل والتّهاون بحجّة أن هذا الدّين يسر، وهو ما يبرّر به كثير من المقصّرين والعصاة أفعالهم، فإنَّ تحديد مفهوم اليسر والتّوسعة إلى الشَّارع لا إلى أهواء النَّاس ورغباتهم وما ألفوه ودرجوا عليه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلوّ ولا جفاء (كلا طرفي قصد الأمور ذميم). ثمَّ إن قضيَّة التّيسير والتّوسعة قضيَّة منهج متكامل وليست تتعلّق بجزئيَّة أو جزئيَّات كما قد يتصَّور بعض النَّاس.
وبهذا التّعريف والشّمول ندرك أنَّ هذا الأمر يندرج في منهج الوسطيَّة التي هي سمة من سمات هذه الأمَّة، وخاصيَّة من خصائصها، فلن نستطيع أن ندرك حقيقة الوسطيَّة إلا إذا فهمنا سمة اليسر والتّوسعة ورفع الحرج، وإلا تصبح الوسطيَّة معنى مفرغًا من حقيقته، وقولا نظريًّا لا وجود له في الواقع، وبذلك يفقد هذا الدّين خاصيَّة لها أثرها في حياة النَّاس ومآلهم.
رابعًا البينيَّة
ذكرت في مبحث سابق أنَّ البينيَّة من لوازم وصفات الوسطيَّة، وحيث ذكرت ذلك مختصرًا فإنّي أزيده هنا وضوحًا وبيانًا، فأقول:
إنَّ إطلاق لفظ البينيَّة يدلّ على وقوع شيء بين شيئين أو أشياء، وقد يكون ذلك حسًّا أو معنى.
وعندما نقول: إنَّ (الوسطيَّة) لا بدّ أن تتَّصف بالبينيَّة، فإنَّنا لا نعني مجرَّد البينيَّة الظَّرفيَّة، بل إنَّ الأمر أعمق من ذلك، حيث إنَّ هذه الكلمة تعطي مدلولا عمليًّا على أن هذا الأمر فيه اعتدال وتوازن وبُعد عن الغلوّ والتّطرف أو الإفراط والتَّفريط.
وبهذا تكون البينيَّة صفة مدح، لا مجرَّد ظرف عابر.
ومن هذا التَّفسير جاءت علاقة البينيَّة بالوسطيَّة، وقد رأيت جمهورًا من العلماء ربطوا بين الوسطيَّة والبينيَّة، ولا غرابة في ذلك، فإنَّ لهذا أصلا في اللغة والاشتقاق، كما سبق بيان ذلك، وهو المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق هذه الكلمة.
ولأهميَّة هذه القضيّة( ) فسأذكر بعض أقوال العلماء، ومن قال بذلك منهم في القديم والحديث:
1- الإمام الطبري: حيث قال في تفسيره: وأنا أرى أنَّ الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله- تعالى ذكره- إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النّصارى الذين غلو بالتَّرهّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه.
ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبيائهم، وكذبوا على ربّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها( ).
2- شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرتُ كلامه سابقًا، وأُعيد بعضه هنا، حيث قال في العقيدة الواسطيَّة:
فإنَّ الفرقة الناجية أهل السنَّة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمَّة، كما أنَّ الأمَّة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله- تعالى- بين أهل التّعطيل الجهميَّة، وأهل التَّمثيل المشبّهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبريَّة والقدريَّة وغيرهم.
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيديَّة من القدريَّة وغيرهم.
وفي باب أسماء الإيمان والدّين بين الحروريَّة والمعتزلة وبين المرجئة والجهميَّة.
وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج ( ).
3- رشيد رضا حيث قال: قالوا: إنَّ الوسط هو العدل والخيار، وذلك أنَّ الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتَّفريط ميْل عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.
ثم ذكر قولا لأستاذه محمد عبده حيث إنَّه يرى- أيضًا- أنَّ الوسط هو المتوسّط بين أمرين مع كونه خيارًا ( ).
4- يوسف القرضاوي فقد قال: ونعني بها- أي الوسطيَّة- التوسّط أو التّعادل بين طرفين متقابلين أو متضادّين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتّأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقّه، ويطغى على مقابله، ويحيف عليه، ثم ذكر بعض الأمثلة في ذلك ( ).
5- محمد قطب حيث بين في كتابه "منهج التَّربية الإسلاميَّة" أنَّ الوسطيَّة هي التّوازن، والتّوازن هو العدل، حيث قال في قوله- تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وسطًا في كل شيء، متوازنين، في كل ما تقومون به من نشاط.
ثم بين أنَّ الوسطيَّة تعني التَّوفيق بين أشياء كثيرة، كالتَّوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتَّوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة... وهكذا( ).
6- عبد الرحمن بن ناصر السّعدي، وانظر ما قاله في رسالة القواعد الحسان لتفسير القرآن، القاعدة (24): وبالجملة فإن الله العليم الحكيم أمر بالتوسّط في كل شيء بين خلقين ذميمين، تفريط وإفراط، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)( ).
7- عمر سليمان الأشقر، فقد اعتبر الوسطيَّة هي الأمر الوسط بين أمرين متطرّفين، حيث قال: من المعضلات التي لم ينجح المشرّعون من البشر في حلّها التّطرّف في التّشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلّما يوفّق واضعو القوانين إلى التوسّط والاعتدال.
وقال في موضع آخر: وإذا نظرت إلى الشّريعة الإسلامية وجدتها وسطًا في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي( ).
8- عمر بهاء الدين الأميري، فقد تناول الوسطيَّة من منطلق التوسّط بين شيئين، حتى إنَّه اعتبر من وسطيَّة هذه الأمَّة التوسّط الجغرافي في المكان والمناخ. وممَّا قال: وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمَّة أن جعل وسطيَّتها في كل مجال:
فهي موطن الرّسالة الأولى، وفي ساحتها الحضاريَّة المشعّة المترامية الأطراف- من بعد- في مناخ محتمل، وجوّ مسعف، لا في مناطق بركانيَّة زلزاليَّة، ولا لاظية استوائيَّة، ولا متجمّدة قطبيَّة، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنّشاط والإعمار الحضاري.
وهي وسط في موقعها الجغرافي المهمّ، حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام، ومهد الأمَّة الإسلاميّة الأولى.
فهي الوسط بين الشّمال والجنوب، والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين إفريقيا وآسيا، وطرف ممتدّ من أوروبا، وهي الرّباط البريّ بين الطّرق المائيَّة ( ).
9- يوسف كمال، حيث قال: أمَّا الوسطيَّة في الإسلام فهي حدود لمنهج الحركة في طريق مستقيم إلى هدف، بعيد عن انحرافات في سبل شتّى تؤدّي للضّلال.
قال عنه فريد عبد القادر: إلا أنَّه قد لازم عرضه فكرة التّوسّط بين أمرين ( ).
ومن خلال ما سبق يتَّضح لنا أن صفة البينيَّة أمر أساسي في تحديد الوسطيَّة، وأنَّ هؤلاء العلماء والكُتّاب اعتبروا هذا الأمر قضيَّة مسلَّمة في تحديدهم، وتعريفهم للوسطيَّة.
وقد ذكرت الأدلّة من القرآن والسنَّة على أنَّ البينيَّة صفة لازمة للوسطيَّة، وذلك في مبحث (تحرير معنى الوسطيَّة).
وهذه البينيَّة ليست مجرّد الظّرفيَّة، وإنَّما هي التي تعطي الدَّلالة على التّوازن والاستقامَّة والعدل، ومن ثمَّ الخيريَّة، فهذه هي الوسطيَّة الحقَّة. وبهذا يتَّضح لنا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ فريد عبد القادر عندما ذهب إلى أنَّ الوسطيَّة لا تستلزم البينيَّة، ومن ثمَّ قام بتخطئة من ذهب إلى ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ممَّن ذكرت سابقًا، حيث قال:
لقد ركّزت الدّراسات السّابقة حول موضوع الوسطيَّة على مفهوم التّوسّط بين أمرين. (ثم قال):
فكانت فكرة التّوسّط بين أمرين مسيطرة على الأذهان والعقول أثناء البحث لإظهار وسطيَّة الإسلام، مع التّعبير عن هذه الوسطيَّة بالخيريَّة،(ثم حكم عليها قائلا): فكانت هذه الدّراسات تخلط أثناء البحث بين ملابسات صحيحة، ونتائج غير صحيحة.
ثم ذكر أمثلة تدلّ على عدم فهمه لما ذهب إليه أولئك الأعلام، ومن ثمَّ قام بالحكم الجائر إيَّاه ( ).

العدل والحكمة
أمّا العدل فقد صحّ فيه الحديث عن رسول الله،  حيث فسَّر قوله- تعالى-: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) بقوله: عدولا: وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، حيث قال،   والوسط والعدل  ( ).
وفي رواية الطبري: قال:  أمَّة وسطًا  عدولا ( ).
وقد بيّنت أنَّ الوسطيَّة بينيَّة، ومن ثمَّ لا بد من العدل في اختيار هذا الأمر الذي بين أمرين أو عدَّة أمور.
قال القرطبي: والوسط: العدل، وأصل هذا أنَّ أحمد الأشياء أوسطها.
ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا- تبارك وتعالى- في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانًا، وإن كنَّا آخرًا زمانًا، كما قال، عليه السلام:  نحن الآخرون الأولون  ( ). وهذا دليل على أنَّه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا ( ).
وممّا يدلّ على أنَّ العدل من ملامح الوسطيَّة قول الطبري: وأمَّا التّأويل فإنَّه جاء بأنّ الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم ( ).
ثم ساق الأدلّة من السنَّة وأقوال السّلف في ذلك.
وقال رشيد رضا: قال الأستاذ: إنَّ في لفظ الوسط إشعارًا بالسببيَّة، فكأنَّه دليل على نفسه، أي: أنَّ المسلمين خيار وعدول لأنَّهم وسط ( ).
وإذا كان الوسط شيء بين شيئين، فإنَّه يلزم لأن يكون وسطًا شرعيًا أن يكون عدلا، لأنَّه إذا لم يكن كذلك مال وانحرف إلى أحد الطّرفين، إمَّا إلى الإفراط، وإمَّا إلى التّفريط، وهذا خروج عن حقيقة العدل، ومن ثمَّ خروج عن الوسط، ولذلك جاءت صفة الحكمة ملمحًا من ملامح الوسطيَّة، وبيان هذا: أنَّ التوسّط هو توسّط معنوي، وتحديد هذا التوسّط يكون بمراعاة جميع الأطراف، تحقيقًا للمصالح، ودرءًا للمفاسد، وهذه هي الحكمة الشّرعيَّة. وبعبارة أخرى: فإنَّ الوسطيَّة أمر نسبي، يخضع تحديده لعوامل عدَّة لابدّ من مراعاتها، ولا يتحقَّق ذلك إلا بإتقان الحكمة.
ومن أجل إلقاء مزيد من الضّوء على هذه الحقيقة أذكر بعض ما ورد في الحكمة من أقوال المفسّرين، وتعريفات العلماء( ).
قال عبد الرحمن بن سعدي:
الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنـزيل الأمور منازلها، والإقدام في محلّ الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. ( )..
وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصّائب من الحركات والأعمال ( ) .
وكلام ابن سعدي وسيّد في غاية الدّلالة على صلة الحكمة بالوسطيَّة.
قال ابن القيّم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: إنّها معرفة الحقّ والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان ( ).
وقال في موضع آخر: هي: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي ( ).
وقوله: (على الوجه الذي ينبغي) من أقوى دلالات الوسطيَّة.
وقال في موضع آخر: الحكمة: أن تعطي كل شيء حقّه، ولا تعدّيه حدّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخّره عنه ( ).
ونخلص ممّا سبق: أن الحكمة لابدّ من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطيَّة، بل إن الالتزام بالوسطيَّة وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التّفريط هو عين الحكمة وجوهرها.
وذلك أنَّ الخروج عن الوسطيَّة له آثاره السلبيَّة، إمَّا عاجلا أو آجلا، وهذا يُخالف الحكمة ويُنافيها.
ومن الأمثلة التي توضّح ذلك:
أمر الابن بالصّلاة لسبع سنين، وضربه عليها ضربًا غير مبرِّح بعد بلوغ العاشرة، فإنَّنا نجد التوسّط في هذه القضية ظاهرًا بين الإفراط وبين التّفريط، وهذه هي الحكمة، حيث فرَّق بين من لم يبلغ السّابعة، وبين من بلغها، وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره، ثم من أدرك الحلم يختلف عمَّا سبق.... وهكذا، فقد نـزّل الأمور منازلها، ووضع الأشياء مواضعها.
وصدق الله العظيم: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
دليل تطبيقي لهذه الملامح
بعد أن بيّنت ملامح الوسطيَّة سأذكر دليلا عمليًّا تبرز فيه جميع هذه الملامح، حيث يمثّل أعلى درجات الوسطيَّة: عن أنس بن مالك  قال:  جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي،  يسألونه عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم؟ فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا.
فجاء رسول الله، صلى الله  فقال: إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغي عن سُنَّتي فليس منِّي  ( ).
وسأذكر ملامح الوسطيَّة واحدة واحدة، مع بيان موضعها من الحديث:
أولا: الخيريَّة:
وهذا يتَّضح من قوله،   إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له  ثمَّ يبينّ أنَّه يأخذ بالوسطيَّة: فيصوم ويفطر، ويصلّي وينام، ويتزوّج النّساء، فلولا أن هذا العمل لا يعارض الخشية والتّقوى، بل يطّرد معهما لم يذكرها في هذا المقام، واستخدم هذا أفعل التفضيل "أخشاكم - أتقاكم" وهي أعلى درجات الخيريَّة.
فاتَّضح أن هذه الوسطيَّة التي يرشدنا إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمثّل الخشية والتّقوى، وهذه هي الخيريَّة في أفضل صورها.
ثانيًا: الاستقامة: وتبرز هذه الحقيقة في قوله،   فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي 
إذن فالاستقامة هي بأن يصوم ويفطر، وينام ويرقد، ويتزوّج النّساء، والخروج عنها انحراف عن الاستقامة، فهذا العمل الذي يمثّل الوسطيَّة، لا نقول إنَّه لا يُعارض الاستقامة؛ بل هو الاستقامة بعينها، حيث جعله الرسول،  من سنَّته، وهل الاستقامة إلا الالتزام بسنَّته والأخذ بها.
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج: وهذا أمر جلّي وبيِّن، فنحن بين عملين وردا في هذا الحديث:
تبتّل وامتناع عن النّساء والزّواج مع ما في ذلك من مشقَّة وحرج.
ويقابله تزوّج النّساء مع ما في ذلك من قضاء الوطر، والمودّة والرّحمة، وإنجاب الأولاد.
الأول يمثل الانحراف عن سنة النبي،  مع ما فيه من مشقّة وعسر، والثاني يمثّل الوسطيَّة مع ما فيه من تخفيف وتيسير ورحمة، ودفع للحرج.
وقل مثل ذلك في الصّيام، والقيام.
إذن فالوسطيَّة في اليسر ورفع الحرج، وليس في التّكلّف والمشقَّة والعَنَت.

رابعًا: البينيَّة:
والأمثلة تبرهن على ذلك:
1- امتناع عن الزّواج مطلقًا - إفراط.
ويقابله التَّفريط وهو اتّباع الشّهوات دون وازع أو قيد.
وبينهما: قضاء الشّهوة والوطر، ولكن ضمن الضّوابط الشّرعيَّة، ويتمثَّل في الزّواج وهذا هو الوسط، وهو المشروع.
2- صيام دائم - إفراط.
الإفطار دائمًا - تفريط.
الصيام أحيانًا - والفطر أحيانًا - وسط بين الأمرين - وهو المشروع في ضوابطه الشرعيَّة.
3- القيام مطلقًا - إفراط.
النوم مطلقًا - تفريط.
القيام والنوم حسب الطّاقة ودون تكلّف - وسط، وهذا هو المشروع.
خامسًا: العدل والحكمة: وتبرز صفة العدل بالنّظر إلى مطالب النّفس وواجبات العبادة، فقد جعل لكلِّ منها نصيبًا، فعدل بين حقّ الرّبّ وحقّ النّفس، ولم يكن في ذلك حيف أو شطط، وحاشاه من ذلك.
أمّا الحكمة: فإنَّه بالنّظر إلى قدرة النَّفس ومدى تحمّلها، وغفلة هؤلاء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس والاندفاع، فجاء الرسول،  يضع الأمور مواضعها، ويجعلها في مسارها الطّبيعي، فإنَّ أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه( ) ولو التزم هؤلاء الرّجال بما قالوا لتعبوا عاجلا أو آجلا. ثمَّ إنَّ هذا الفعل نفسه مخالفة لصريح الحكمة وحقيقتها، وذلك أن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والإصابة في القول والعمل، وهذا هو عين ما وجَّه إليه، .
ومن خلال هذا التّطبيق العمليّ لملامح الوسطيَّة في ضوء هذا الحديث، يتَّضح المراد، ممَّا يساعد على فهم الوسطيَّة، واستنباطها في المباحث التالية إن شاء الله.

القرآن يقرر منهج الوسطيَّة
نـزل القرآن الكريم هدايةً للنّاس ونورًا، يُخرج به الله من شاء من الظّلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطيَّة عين الهداية، وحقيقتها، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضةً ترسم منهج الوسطيَّة وتدلّ عليه.
والوسطيَّة ليست محصورةً في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن من الأركان! وإنما هي منهج متكاملٌ شاملٌ، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كلّه وسطٌ، ولذلك فهذه الأمَّة هي أمَّة الوسط: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن جوهر القرآن ومقاصده.
ومن هذا المنطلق جاء القرآن الكريم مقرّرًا لمنهج الوسطيَّة في أبواب العبادات، والاعتقاد، والحكم والتحاكم، وفي باب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها من الأبواب والمجالات.
والناظر في كتاب الله لا يتلو بضع آيات إلا ويجد فيها ذلك صراحة أو إيماءً.
ولذلك فإن الذين حصروا الحديث عن الوسطيَّة في الآيات التي جاء فيها لفظ (الوسط) أو ما اشتق منه، قصروا الكل على بعض أجزائه، وإلا فإن بعض الآيات التي لم يرد فيها لفظ الوسط جاءت أقوى دلالة على الوسطيَّة من آيات ورد فيها هذا اللفظ.
وبيانًا لهذه الحقيقة وتجلية لها، سنعيش مع كتاب الله متأمّلين بعض ما ورد فيه، تقريرًا لهذا المنهج وتأصيلا له.
وتسهيلا للوصول إلى الهدف، سأذكر كل باب وبعض ما ورد فيه من آيات، معلّقًا على بعض الآيات بما يُبينّ المراد من إيرادها، ودلالتها على المنهج الذي نحن بصدده.
وأنبه إلى نقطتين مهمّتين:
الأولى: أن الآيات التي سأذكرها ليست على سبيل الحصر والاستقصاء، وإنما اكتفيت من الآيات بما كان أكثر دلالة من سواه، لأن المراد، هو بيان تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة، لا الحديث عن كل آية وردت تُقرّر منهج الوسطيَّة.
الثانية: أن الأبواب التي سأذكرها هي أبرز الأبواب التي تصلح منطلقًا للحديث عن هذا المنهج، وبخاصة أن انحراف الناس فيها عن منهج الوسطيَّة أكثر من غيرها، ولا يعني ذلك أن ماعداها ليس مهمًّا.
وهذه الأبواب هي:
1- الاعتقاد.
2- التشريع والتكليف.
3- العبادة.
4- الشهادة والحكم.
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
6- الجهاد في سبيل الله.
7- المعاملة والأخلاق.
8- كسب المال وإنفاقه.
9- مطالب النفس وشهواتها.
وقد أجد آية من الآيات تصلح دليلا في أكثر من باب، ولكنّي سألحقها بأقرب هذه الأبواب إليها، مراعاة للاختصار ودفعًا للتّكرار.
وحيث إن هناك عددًا من الآيات الدالة على الوسطيَّة غير داخلة تحت أي باب من هذه الأبواب، فسأجعلها تحت عنوان: (شواهد أخرى)، تكون ختامًا لهذه الأبواب ومكمّلة لها.
وسأفتتح الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة بوقفة مع سورة الفاتحة، في ضوء ما ورد فيها عن هذا المنهج.
ومن الله استمدّ العون وأسأله التّوفيق والسّداد.
وقفة مع سورة الفاتحة
أجد خير بداية لبيان المنهج القرآني في تقرير الوسطيَّة أن أقف مع أمّ الكتاب، حيث إنها من أولها إلى آخرها تقرّر هذه الحقيقة وتؤكدها.
ولكن أبرز آية فيها ناطقة بذلك هي قوله - تعالى – (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنّه بيّن أن هذا الصرّاط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري: أجمعت الأمَّة من أهل التأويل جميعًا على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير الخطفي:
إذا اعوج الموارد مستقيم
أمير المؤمنين على صراطٍ

قال ابن عباس:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوَجَ له( ).
ثم قال: وكلّ حائد عن قصد السّبيل وسالك غير المنهج القويم فضالٌّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق ( ).
وقد بيّن الله لنا أن الصّراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفًا الصراط المستقيم: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما يمثل منهج الضّالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضّالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضّلالة، لا يهتدون إلى الحق ( ).
وبهذا يتّضح لنا أن هناك ثلاثة سبل: سبيل الذين أنعم الله عليهم، وسبيل المغضوب عليهم، وسبيل الضالين.
ونحن مأمورون بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم، لأنَّه هو الصّراط المستقيم، وهو المنهج الوسط بين طريقين منحرفين، وهما طريقا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصّراط المستقيم فله حظّ. من أحد هذين السبيلين.
ولأن الاستقامَة تعني الوسطيَّة كما توضحها آية الفاتحة، وكما حرّرت ذلك في مبحث سابق، جاءت الآيات متعدّدة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعدّدة وألفاظ مُتقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء. ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرّر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمَّة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطيَّة والدّعوة إليها.
والآيات في هذا الباب كثيرة جدًّا أذكر بعضًا منها دلالة على المراد، وبيانًا لهذا المنهج.
قال - سبحانه -: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121). وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15).
وأجد في هاتين الآيتين ما يستحقّ التّنبيه عليه، ونحن بصدد الحديث عن الوسطيَّة، وذلك أنّه قال في الآية الأولى: (وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121) بعد أن أمر بالاستقامَّة، والطغيان هو مجاوزة الحدّ ( ). وهو خروج عن منهج الوسطيَّة إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15) واتباع الهوى خروج عن الاستقامَة، وانحراف عن منهج الوسط.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية142). وفي آل عمران: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران: من الآية101). وفي الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153). وفيها: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (الأنعام: من الآية161). وفي النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76). وفي الزخرف: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الزخرف:43).
وفي سورة الملك: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك:22).
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالّة على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الذي أمرنا باتّباعه واجتناب ما عداه، لأنّه هو طريق الحقّ والعدل والوسط، وما عداه طريق الضّلال والغواية والانحراف عن الصّراط المستقيم، وهاهو الشّيطان يُعلن هذه الحقيقة قائلا كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: من الآية16)، وصدق الله العظيم. إذ يقول: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39).
وكما بدأنا في آيات الدعوة للاستقامة نختم بها، قال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13).
وفي سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16). وفي التّكوير: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:27، 28).
وهذه الآية نصّ في أنّ القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحقّ، قال القرطبيّ: (إِنْ هُوَ) (التكوير: من الآية27) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (التكوير: من الآية27) أيْ: موعظة وزجر. (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:28) أي يتبع الحق ويُقيم عليه ( ).
ومما سبق يتّضح لنا أن سورة الفاتحة وضعَت القاعدة والمنطلق، ورسمَت المنهج وحددت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقرّرة لذلك، وداعية إليه.
أولا: الاعتقاد
لقد جاء تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في العقيدة شاملا ومتكاملا، وذلك أنّ العقيدة هي الأساس، وعليها البناء، فأيّ انحراف فيها يسري على ما سواها ويؤثر فيه.
والعقيدة من أوسع الأبواب وأكملها، حيث تشتمل على الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره، وشرّه.
وكل قسم من هذه الأقسام يشتمل على عدّة موضوعات وأجزاء.
وسأسلك في بيان تقرير القرآن للوسطيَّة - في بعض أبواب الإيمان - المنهج الإجمالي ( ). دون الدخول في التفاصيل والجزئيات، لأن ذلك يُؤدي بنا إلى التّفريع والدخول في الجزئيات، مما لا يستلزمه مثل هذا البحث، ولا تدعو الحاجة إليه هنا.
وما سيرد في ثنايا ذلك من جزئيات فليست إلا أمثلة مُختارة للوصول إلى تحقيق المعنى المراد وتقريره.
إن أعظم أصول الإيمان وأعلاها مرتبة هو الإيمان بالله، وتوحيده، توحيده في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته.
ولقد ضلّت طوائف كثيرة في هذا الباب، فهم بين إفراط وتفريط، وغلو وجفاء.
فنجد من الناس - كاليهود - من وصف الله - جل وعلا - بصفات النّقص التي يختصّ بها بعض المخلوقين، وشبهوا الخالق بالمخلوق، فقالوا: إنّه بخيل! وإنّه فقير! وإنّه لما خلق السماوات والأرض تعب فاستراح يوم السبت! إلى غير ذلك من صفات النقص التي لا تليق به - سبحانه - !!‍‍‍‍.
وجاء آخرون - كالنصارى - فوصفوا المخلوق بصفات الخالق التي يخْتّص بها، فشبّهوا المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. وقالوا: المسيح ابن الله. وقالوا: إن المسيح يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ونحو ذلك ( ).
بل هناك من أنكر وجود الله - جلّ وعلا -، وآخرون ادعوا الألوهية كفرعون. (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعـات: من الآية24). وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38).
وجاء القرآن بالمنهج الوسط، وأنكر على كل فريق من هؤلاء وغيرهم ما ارتكبوه في جنب الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا -.
وأزيد الأمور وضوحًا، فأقول:
جاء اليهود فوصفوا الله - جل وعلا - بالبخل والفقر‍! وهذه الصفات لا تليق بالبشر، فكيف بحق الله تعالى؟‍! وهذا القول والاعتقاد انحراف في العقيدة وضلال مبين.
فردّ الله عليهم بقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181).
روى الطّبريّ بسنده عن ابن عباس، قال: دخل أبو بكر الصِّديق  بيت المدارس، فوجد من يهود ناسًا كثيرًا، قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْر يُقال له أشيع، فقال أبو بكر  لفنحاص: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم إن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرّع إليه كما تضرّع إلينا، وإنّا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرِّبا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا عنّا ما أعطانا الرِّبا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب فنحاص إلى رسول الله  فقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله  لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، إنّ عدوّ الله قال قولا عظيمًا، زعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنـزل الله - تبارك وتعالى - فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) (آل عمران: من الآية181) الآية.
وأورد الطّبريّ عددًا من الروايات تُؤكّد سبب هذا النّزول ( ). وكذلك لما قال اليهود يد الله مغلولة، نـزل قوله - تعالى -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة: من الآية64). وردّ عليهم في قولهم: إنّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، فقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)( ).
والشاهد أنّ هذه الآيات وأمثالها جاءت لتردّ على هؤلاء وأمثالهم، وفي الوقت الذي جاءت لتردّ على هذا الانحراف فإنها تُقرّر المنهج الحق، وما يجب على المؤمن أن يعتقده في جنب الله - تعالى -.
وكذلك نجد الردّ على من أنكر الألوهية وادّعاها لنفسه في قصة إبراهيم مع نمروذ حيث ذكرها الله في سورة البقرة، فقال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة: من الآية258) أي: وجود ربه، وذلك أنّه أنكر أن يكون له إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38)( ).
أما النصارى فقد شبهوا المخلوق بالخالق وأضفوا عليه من الصّفات والخصائص ما لا يليق إلا بالله  فقالوا عن المخلوق كقولهم في عيسى: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق، ويثيب ويُعاقب، إلى غير ذلك من خصائص الربوبية، وصفات الألوهية التي لا تكون إلا لله - سبحانه - ( ) وهم بهذا القول قد جعلوا المسيح، عليه السلام، إلهًا، فجاء القرآن الكريم ليبينّ انحرافهم وخروجهم عن الصراط المستقيم، فقال - سبحانه -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:17). وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73).
ومن ضلال النصارى وانحرافهم أنهم سبّوا الله  وتنقّصوه من الوجه الذي أرادوا به تعظيمه، حيث قالوا: إن المسيح ابن الله. (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30). وقد ردّ الله عليهم وعلى أمثالهم مثل هذا القول وبين أنّه انحراف وضلال، فقال - سبحانه - منـزهًا نفسه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ) (البقرة: من الآية116). وقال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:88-93). وقال في سورة الأنعام: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام:101).
وهناك من أرادوا تنـزيه الله - جل وعلا - فنفوا عنه أسماءه وصفات الكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله،  فجاءت الآيات الكثيرة التي تثبت لله صفات الكمال وأسماء ذي الجلال، ومنها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:2، 3). وقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: من الآية156). وقال: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (الحشر: من الآية23). (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) (الفتح: من الآية6). إلى غير ذلك من الآيات.

وخلاصة القول:
إن القرآن جاء ليُبيّن انحراف أولئك المنحرفين، ويرد عليهم ضلالهم، وانحرافهم، ويُقرّر المنهج الحقّ، ويُبيّن ما يجب أن يعتقده المسلم في الله، من الإيمان به - جل وعلا -. (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية285). (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية136). (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ) (الملك: من الآية29). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (النساء: من الآية136). (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (الحديد: من الآية19).
وكذلك يجب أن يثبت لله ما يثبته لنفسه أو أثبته له رسوله،  وينفي عنه ما نفاه عنه نفسه أو نفاه عنه رسوله، .
قال - سبحانه -: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:180). فالإلحاد في أسماء الله وصفاته خروج عن منهج الوسطيَّة الذي رسمه القرآن وأثبته. (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء: من الآية110). والذين يصفون الله بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله،  يُلحدون في آيات الله، وهذا انحراف عن الصّراط المستقيم. (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا )(فصلت: من الآية40).
والله - جل وعلا - له صفات الكمال وأسماء الإجلال: لا يُشبه أحدًا من خلقه، ولا يْشبهه أحد من خلقه. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11).
والآيات في كتاب الله كثيرة جدًّا، جاءت مثبتة ونافية، ومنـزهة الله عما يصفه به الواصفون، - تعالى الله عما يقول الجاحدون علوًّا كبيرًا – (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ) (البقرة: من الآية116). (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنعام: من الآية100). (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: من الآية31). (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ) (النحل: من الآية57). (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) (الإسراء:43). (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمـر: من الآية67). وصدق الله العظيم. (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص:1-4).
ومما سبق يتضح لنا صفاء عقيدة التوحيد وسلامتها من تأويل المؤولين وجحد الجاحدين، وتشبيه المشبّهين، وأن الجميع قد انحرفوا عن الصّراط المستقيم، نفيًا أو إثباتًا، إفراطًا أو تفريطًا، ولذلك جاءت الآيات تلو الآيات، إثباتًا ونفيًا، وإنكارًا وردًّا وتنـزيهًا، لتقرّر المنهج الحق بين الغلوّ والجفاء، والنفي والإثبات، مما يليق به - سبحانه - وتقدّست أسماؤه، وعلا وعزّ شأنه وسلطانه.
ونجد من أصول الاعتقاد الإيمان برسل الله، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وذلك يقتضي إنـزالهم منازلهم التي أنـزلهم الله إيّاها.
وعند دراسة أحوال الأمم في هذه القضية نجد الاضطراب والتناقض والغلوّ والجفاء.
وكما ذكرنا اليهود والنصارى مثلين للانحراف في باب الإيمان بالله، فسأذكرهما هنا نموذجين - أيضًا - للانحراف في باب الإيمان بالرسل، وذلك لأن القرآن، ذكرهما في مواضع عدة، ولأنهما أشهر أُمتين قبل أمَّة محمد، .
ولنأخذ موقف اليهود من أنبياء الله ورسله ( ) .
1- أنّهم فرّقوا بين الله ورسله، وآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بمجرّد التّشهّي والعادة، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل إلى ذلك، بل بمجرّد الهوى والعصبية ( ) قال - تعالى -: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150) وهذا الأمر وإن كان يشترك فيه اليهود والنصارى، ولكنه في اليهود أكثر.
2- أنهم خذلوا أنبياءهم، ونقضوا العهود التي أخذوها عليهم، قال - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة: من الآية12).
وآيات أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل كثيرة جدًا( ) ولكن ماذا كانت النتيجة: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13). ونقض العهد والغدر يُنبئ عن مكانة الأنبياء في نفوسهم وعقيدتهم فيهم.
3- أنهم تنقّصُوا بعض الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، ورموهم بارتكاب كبائر الذنوب، ورموهم بالنقائص والعيوب، والتوراة - المحرفة - مليئة بهذا اللون، وفيها من الخزي والعار ما ينَدى له الجبين.
فنسبوا لهارون، عليه السلام، أنّه صنع لهم العجل الذي عبدوه من دون الله، ورموا نبي الله سليمان، عليه السلام، بأنه في أواخر أيّامه مال إلى ممالأة نسائه على عبادة الأوثان، وبني لهن المعابد والأوثان، وأنّه لم يكن مخلصًا في إيمانه بربه .
واتهموا نوحًا، عليه السلام، بأنّه كان يشرب الخمر، واتهموا داود ولوطًا، عليهما السلام، بالزنا، إلى غير ذلك من النقائص والتهم التي يقشعرّ لها قلب كل مؤمن ( ).
ولا يُستغرب ذلك على أولئك الذين رموا رسولهم ونبيهم موسى، عليه السلام، بالنقائص والعيوب. فقال - سبحانه - مخبرًا عنهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب:69).
4- قتلهم الأنبياء والرّسل، وقد ذكر الله ذلك في القرآن في أكثر من موضع: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة: من الآية87). وقال: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (المائدة:70). وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (البقرة: من الآية61).
ومن أشهر من قتل اليهود من الأنبياء زكريا وابنه يحيى، عليهما السلام( ).
هذه عقيدة اليهود في أنبياء الله ورسله، والذي ينظر إلى مواقفهم مع موسى، عليه السلام، وهو نبيهم ومنقذهم من فرعون، يجد العجب( ). (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) (الصف: من الآية5). فكل من وقف من الأنبياء والرسل موقف تفريط وجفاء في اليهود أسوة وقدوة.
أمّا النصارى فإن عقيدتهم في الأنبياء والرسل تتلخص في موقفين ( ) :
الأول: التفريط والجفاء مع أنبياء الله ورسله - عدا عيسى، عليه السلام، فلم يؤمنوا ببعضهم، وكفروا بمحمد،  - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150). قال ابن جرير - رحمه الله – (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: من الآية150) يعني أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمد،  وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبلهم بزعمهم، ( ) وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا،  وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم( ).
وقال - تعالى - مبينًا كفرهم بمحمد،  (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف:6).
الثاني: الغلو والإفراط، ويتمثل ذلك في غلوهم في عيسى، عليه السلام، حيث رفعوه فوق المكانة التي جعله الله فيها، وأنـزلوه فوق المنـزلة التي أنـزله الله إياها - زعموا -.
فلم يؤمنوا به عبدًا لله، ورسولا نبيًا، وإنما جعلوه هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة !! بل عبدوه من دون الله  وأضافوا إليه من الأفعال والأعمال ما لا يصح إضافته ونسبته إلا إلى الله  ( ).
قال - تعالى -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآية72). (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة: من الآية73). (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30).
وقال   لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله  ( ).
وهذان الموقفان - أي موقف اليهود وموقف النصارى - يمثلان مواقف الناس في الأنبياء والرسل في جانب الإفراط والتفريط والغلو والجفاء ( ). أمّا الموقف الحق وهو الذي قررّه القرآن وبينه، فإنه بين هذين الموقفين، فهو وسط بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، ويمكن تلخيصه فيما يلي:
1- ردّ الله على أولئك الذين انحرفت عقيدتهم في رسل الله وأنبيائه، وردّهم عن الانحراف إلى المنهج الحق تقريرًا لهذا المنهج الذي أمر الله باتباعه والالتزام به، وهو العدل والصواب فيما يجب أن يعتقده المسلم ويعامل به أنبياء الله ورسله.
فقد ردّ الله على الذين فرّقوا بين الله ورسله، وآمنوا ببعضهم وكفروا ببعض، وبينّ خطأ اعتقادهم وضلال طريقهم، فقال - سبحانه -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:151).
قال القرطبي - رحمه الله -: قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً) (النساء: من الآية151) تأكيد يزيل التوهّم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله، وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به  وكفروا بكل رسول مُبشرٍ بذلك الرسول، فلذلك صاروا الكافرين حقًا ( ).

أمّا الذين نقضوا العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم بالإيمان بالرسل ونصرتهم، فقد قال - سبحانه - مبينًا عاقبة جريرتهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13). وقال في موضع آخر مبينًا عاقبة نقض العهد والميثاق: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25).
والذين كفروا بالأنبياء، وفرّقوا بينهم قد نقضوا عهد الله وخانوا مواثيقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.
قال القرطبي: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (الرعد: من الآية25) أي: من الأرحام، والإيمان بجميع الأنبياء( ).
أمّا الذين آذوا الأنبياء، وتنقّصوهم، واتهموهم بأبشع التهم، فقد جاء الردّ عليهم إمّا مباشرًا أو غير مباشر، فالذين اتهموا هارون بأنه أمرهم بالشرك وصنع لهم العجل، قال الله مبرءا هارون: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طـه:90).
وقال عن سليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية30).
أما نوح ولوط وداود، عليهم السلام، فقد قال الله عنهم وعن غيرهم من الأنبياء والرسل الذين ذكرهم - سبحانه - في سورة الأنعام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89). وقال بعد ذلك مزكّيًا لهم وآمرًا رسوله،  أن يقتدى بهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90). وقال عن نوح: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء:3). وقال عن داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية17).
أما الذين قتلوا الأنبياء والرسل فماذا كانت عاقبتهم جزاء انحرافهم عن الطريق السوي؟ تجيب هذه الآيات على هذا السؤال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة: من الآية61). وقال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران:21).
وكذلك نجد ردّ الله على النصارى وغلّوهم في عيسى عليه السلام، حيث حكم عليهم بالكفر واللعن، قال - سبحانه -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآيتين17،72). وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73).
وقال - سبحانه -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30).
2- إن الحكم على الانحراف وبيانه وسيلة مباشرة للوصول إلى الطريق الصحيح، والمنهج المستقيم، فبعد بيان خطأ هؤلاء الذين انحرفت عقيدتهم وضلوا في رسل الله نأتي إلى بيان المنهج الحق في أنبياء الله ورسله، كما قرره القرآن الكريم، ودعا إليه في أكثر من موضع.
قال - تعالى -: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136).
قال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدّقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم( ).
وقال سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285).
وبين الله عبودية الأنبياء والرسل فقال سبحانه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء:3). وقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (صّ:45).
أمّا عيسى فقد بينّ الله المنهج الحق فيه فقال: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) (النساء: من الآية172). وقال: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) (المائدة: من الآية75) وقال: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (النساء: من الآية171) (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59).
أمّا محمد  فقال فيه - سبحانه-:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الإسراء: من الآية1). وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم:10). وقال له الله  (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: من الآية50).
وقال مبينًا حق رسوله على أمته: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح: من الآية9). وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: من الآية157). وقال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (المائدة: من الآية92). وبينّ الله بشرية الأنبياء والرسل، فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف: من الآية110). وقال: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: من الآية11). وقال: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (الإسراء: من الآية93). ومما يرسم منهج التوسط في الأنبياء قوله - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً) (الرعد: من الآية38). وقال منكرًا على المشركين قولهم في محمد،  (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: من الآية7). فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: من الآية20).
ومما سبق من الآيات اتضح لنا منـزلة الأنبياء والرسل، وعلوّ مقامهم، والمنهج الحق فيهم، فلا يجوز الغلو فيهم مع الغالين قال،   لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله  ( ). وقال، -   يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، ورسول الله، والله ما أحبّ أن ترفعوني فوق ما رفعني الله   ( ).
وكذلك لا يجوز الحطّ من قدرهم أو انتقاصهم، بل يجب احترامهم والإيمان بهم وعدم التفريق بينهم، وكذلك يجب توقيرهم وحفظ جنابهم، فهم صفوة الخلق وأرفعهم مكانة ومنـزلة. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90).
إن ما ذكرته من تقرير الإسلام لمنهج الوسطيَّة في باب الإيمان بالله ورسله دليل عملي على ما عداه من أبواب الاعتقاد، كالإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه.
وكما ذكرت سابقًا فليس المراد هو استقصاء ما ورد في ذلك، وإنما المراد إرساء قواعد الوسطيَّة وبيان أنّها منهج إلهي، فمن انحرف عنها فقد ضلّ سواء السبيل.
ولذلك جاء قوله تعالى في سورة المائدة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).
بل قال قبل ذلك في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171). وهاتان الآيتان جاءتا في سياق تقرير مسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قضية اعتقاد النصارى في عيسى ابن مريم، عليه السلام، كما سبق بيانها.
وفي إطار تقرير منهج الوسطيَّة في العقيدة يأتي قوله - تعالى – (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة: من الآية130). وملّة إبراهيم، عليه السلام، هي الملة الحنيفيَّة السمحة لا إفراط فيها ولا تفريط.
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأيّ سفه أعظم من هذا؟! قال أبو العالية وقتادة: نـزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قوله - تعالى -: )مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67)( ).
وفي سورة يونس (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (يونس: من الآية105). قال ابن كثير: أي أخلص العبادة لله وحده، (حَنِيفاً) (يونس: من الآية105) أي منحرفًا عن الشرك، ولهذا قال: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يونس: من الآية105)( ).
وفي يوسف: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية40). قال ابن كثير في تفسيرها: أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به( ).
وخلاصة القول:
إنّ الآيات جاءت متوالية متتالية، تقرّر حقيقة الوسطيَّة في باب الاعتقاد، اطّرادًا مع منهج القرآن في تقريره ذلك في جميع الأبواب - كما سيأتي -.
ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة تُؤكّد هذه الحقيقة وتبينها، ولكن لا أظن أنّها بعد ذلك تحتاج إلى بيان أو تأكيد.
وأشير إلى أنني اقتصرت على بابي الإيمان بالله ورسله، دون سواهما من أبواب الإيمان، لأنه إذا تحقّق الإيمان بالله ورسله على الوجه الصحيح فإن ذلك يستلزم تحقق بقية الأركان لا محالة، والحمد لله رب العالمين.
ثانيًا: التشريع والتكليف
سبق أن ذكرت أنّ ملامح الوسطيَّة اليسر، ورفع الحرج، وهذا أمر قرّره القرآن في أكثر من موضع، كقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) وما ذكرته هناك متّصل بما سأذكره هنا في تقرير هذه القضية.
وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في التشريع والتكاليف في فقرات متتالية، ليسهل تحرير القضية واستيعابها.
1- امتنّ الله على هذه الأمَّة في الكتاب العزيز بأن وضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، ولم يحملها ما حَمَّل من قبلها، فكان ذلك مظهرًا من مظاهر وسطيَّة هذا الدّين.
يقول - تعالى - في وصف نبيه محمد،  في كلامه  مع قوم موسى، عليه السلام: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية157). كما أن من جملة دعاء رسول الله،  والمؤمنين: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)(البقرة: من الآية286). وقد جاء في الحديث: "قال الله: قد فعلت". وفي رواية: "قال: نعم" ( ).
والإصر هو العهد الثقيل الذي في تحمّله أشدّ المشقّة.
والأغلال هي الشّدائد التي كانت في عبادتهم.
روى الطبري عن الربيع قوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286) يقول: التّشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
وقال مالك: الإصر: الأمر الغليظ( ).
وقال سعيد: الإصر: شدّة العمل( ).
وقال مجاهد: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التّشديد في دينهم ( ).
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الإصر: هو العهد، وأن معنى الكلام: ويضع النبي الأمّي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة، والعمل بما فيها من الأعمال الشّديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت مفروضة عليهم، فنسخها حكم القرآن ( ).
وفي آيتي البقرة والأعراف إشارة إلى أنه، عليه السلام، قد جاء بالتيسير والسّماحة والوسطيَّة.
قال الجشمي: دلّت آية - الآية الأعراف - على أن شريعته أسهل الشّرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية ( ).
وجاء في فوائد أبي عمرو بن مندة بسند صحيح عن أبي بن كعب  قال: أقرأني النبي،  "إن الدّين عند الله الحنيفيَّة السّمحة لا اليهودية ولا النصرانية". قال العلائي: وهذا إنما نسخ لفظه وبقي معناه ( ).
ولبيان وسطيَّة الإسلام في التّكاليف في ضوء ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله،  أذكر نماذج من الأحكام التي جاءت في التوراة التي بين أيديهم، يتبيَّن منها الأغلال والآصار التي كانت عليهم ( ).
جاء في سفر الخروج في الإصحاح الحادي والعشرين:
"من شتم أباه وأمه يُقتل قتلا. إذا نطح ثور رجلا أو امرأة وكان الثور نطاحًا من قبل، وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل".‏
وفي الإصحاح الخامس والثلاثين وفي السفر نفسه: "ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل".
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر اللاويين: "كل من مسّ حائضًا يكون نجسًا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسًا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسًا، وكل من مسّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسًا إلى المساء".
وفي الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية: "لا تحرث على ثور وحمار معًا، ولا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا".
قال الدكتور صالح بن حميد بعد أن ساق هذه النماذج: وأصدق من ذلك وأبلغ قول الحق - تبارك وتعالى - في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، تنـزيل من حكيم حميد: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) وقوله - سبحانه - في بيان أنواع من المحرمات عليهم بسبب بغيهم: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146).
وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امتنّ به على هذه الأمَّة من التخفيف، والتيسير والتسهيل، ونعت نبيه،  بأنَّه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية157).
وقد ذكر علماؤنا - رحمهم الله - شيئًا من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، منها: قطع موضع النجاسة من الثوب أو منه، ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعيّن القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدّية، وأمروا بقتل أنفسهم علامة على التوبة، وطلب منهم أداء ربع المال في الزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في البيعة، وحرمة الجماع في أيّام الصوم بعد العتمة والنّوم، وحرمة الطعام بعد النوم، وعدم التّطهير بالتيمم، وكتابة ذنب الّليل بالصّبح على الباب. ( ).
ومما سبق يتّضح دلالة آيتي البقرة والأعراف على تقرير منهج الوسطيَّة في التّشريع والتّكليف.
2- وردت آيات كثيرة تُبيّن أن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، ولا يُكلّف نفسًا إلا وسعها وقدرتها، قال - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286). (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7). وقال: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية233) وقال - جل في علاه -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأنعام: من الآية152) وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأعراف: من الآية42) وقال تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) (المؤمنون: من الآية62).
وعلى الرغم من أن قوله - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ظاهر الدلالة على عدم التّكليف إلا في حدود القدرة والميسرة، إلا أن الله - سبحانه وتعالى - قد أعقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين، يُبيّن فيه أن ما امتنّ عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ والنّسيان، وحطّ الآصار والأغلال، وعدم التّكليف بما لا يُطاق، وقد انتظم ذلك في ثلاثة أمور:
الأول: قوله - تعالى -: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286).
الثاني: قوله: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
الثالث: قوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286). قال البقاعي تعليقًا على هذه الآية: وقد عرف الله عباده المؤمنين مواقع نعمه من دعاء رتّبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلامًا بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانًا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم خفيفة سمحة، ولا حمّلهم فوق طاقتهم، مع أنَّه له جميع ذلك، وأنَّه عفا عنهم في سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم.( ).
قال الدكتور/ صالح بن حميد معلّقًا على آيات عدم التّكليف بما لا يُطاق: ولاشكّ أنّ الأحكام الشّرعية إذ كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ الشريعة مبنية على التيسير، وعدم التعسير، فهي حنيفيَّة سهلة سمحة (وسطيَّة)، فلله الحمد والمنَّة( ).
وقال الإمام الطبري: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) فيتعبدّها إلا بما يسعها، فلا يضيّق عليها، ولا يجهدها( ).
ففي كلام الطبري - رحمه الله - الدّلالة على أن هناك تكليفًا وأمرًا بالتعبد، ولكنه في حدود الوسع والطاقة، لا تضييق فيه ولا إجهاد، وهذه حقيقة الوسطيَّة.
وقال رشيد رضا في تفسير قوله - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ولا يُحاسبها إلا على ما كلّفها، والتّكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم: هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته.
والمعنى: أنَّ شأنه - تعالى - وسنته في شرع الدّين ألا يُكلّف عباده ما لا يطيقون ( ).

وخلاصة القول: إنّ هذه الآيات تُقرّر منهج الوسطيَّة في التكليف، فهناك أوامر ونواهي، ولكنها في حدود الوسع، وعدم المشقّة، وليس فيها تضييق وعسر وإحراج.
3- ومما يؤكّد ويقرّر منهج الوسطيَّة في التشريع والتّكليف الآيات التي وردت برفع الحرج، كقوله - تعالى -: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6). وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: من الآية38).
ومثل ذلك الآيات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة، كقوله - تعالى - في سورتي النور( ) والفتح: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (الفتح: من الآية17). وبعد أن بيّن - سبحانه - جواز الزواج من زوجة الابن المتبني حيث زوج رسول الله  من زينب بعد طلاق زيد لها، قال - سبحانه -: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (الأحزاب: من الآية37).
قال الدكتور/ صالح بن حميد: إن رفع الحرج، والسّماحة والسهولة راجع إلى الوسط والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتّشديد حرج في جانب عسر التكاليف، والإفراط ( ) والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشرع.
قال - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فالتوسط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل.( ).
قال المفسّرون في آيتي المائدة والحج: إن الله - سبحانه وتعالى - ما كلّف عباده ما لا يطيقون، وما ألزمهم بشيء يشقّ عليهم إلا جعل الله لهم فرجًا ومخرجًا.
ولقد كانت الشّدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمَّة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدًا قبلها، رحمة من الله وفضلا.
يقول ابن العربي: ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام ( ).
قال الطوفي الحنبلي: إن الله - تعالى - لم يشرع حكمًا إلا وأوسع الطريق إليه ويسره، حتى لم يبق دونه حرج ولا عسر.
وقال: ويحتج بهذه الآية ونحوها من رأى أنه إذا تعارض في مسألة حكمان اجتهاديان خفيف وثقيل يرجح الخفيف دفعًا للحرج( ).
ويقرّر ذلك الكيا الطبري حيث يقول: ويحتج به في نفي الحرج والضّيق المنافي ظاهره للحنيفيَّة السّمحة. وقد علّق على ذلك القرطبي بقوله: وهذا بيّن( ).
وقال رشيد رضا في تفسير آية المائدة:
ولما بيّن فرض الوضوء وفرض الغسل، وما يحلّ محلهما عند تعذّرهما أو تعسرّهما، تذكيرًا بهما ومحافظة على معنى التعبّد فيهما - وهو التيمم - بيّن حكمة شرعهما لنا مبتدئًا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشّريعة السمحة. فقال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6). أي: ما يُريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية - ولا في غيرها أيضًا - حرجًا ما. أي: أدنى ضيق وأقل مشّقة، لأنه - تعالى - غنّي عنكم، رءوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير والنفع لكم( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). أي ما كلّفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، ولهذا قال، عليه السلام:  بعثت بالحنيفيَّة السمحة  ( ). وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن:  بشّر ولا تُنفّرا ويسّرا ولا تُعسّرا  ( ). والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78) يعني من ضيق ( ).
وقد اتضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضح وبرهان قاطع على وسطيَّة هذا الدين في تشريعه وتكاليفه.
4- ونواصل ذكر الأدلة من القرآن الكريم في باب التّشريع والتّكليف التي تقرّر منهج الوسطيَّة، وأنه سمة هذا الدّين، وسرّ من أسرار عظمته، وهذه الآيات هي آيات التّخفيف والتّيسير.
قال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وقال - جلّ في علاه -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى:8). وقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشـرح:5،6). وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
فهذه الآيات تبيّن أن الله أراد بهذه الأمَّة اليسر والتّخفيف، ونفي إرادة العسر والمشقّة.
وهذه الآيات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصة، كالآية الأولى وردت في شأن الرّخصة في الصيام إلا أن المراد منها العموم، كما صرح بذلك غير واحد من المفسّرين، ومثل ذلك آية النساء، فقد وردت في سياق ما أبيح من نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر. إلا أن الذي صرح به كثير من المفسّرين أن المراد عموم التّخفيف في الشّريعة، وإرادة التيسير ورفع المشقّة( ).
قال القرطبي: قال مجاهد والضّحاك: اليسر الفطر في السّفر. والعسر: الصّوم في السفر. قال القرطبي: والوجه: عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78)( ).
وقال رشيد رضا في الآية: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وهذا تعليل لما قبله، أي: يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من أحكام، أن يكون دينكم يسرًا تامًّا لا عسر فيه( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). أي: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه، وما يقدره لكم ( ).
وقال مجاهد: أي في نكاح الأمَّة، وفي كل شيء فيه يسر ( ). ومن هنا نخلص إلى أن آيات التيسير والتّخفيف جاءت لإرساء قواعد هذا الدِّين، وذلك أن الوسطيَّة ركن من أركان ديمومة هذا الدِّين وعالميته.
5- وأختم هذا الباب بذكر بعض الأدلّة العلمية التي تؤكّد وسطيَّه هذا الدين في باب التّشريع والتكليف:
(أ) قال - تعالى - في شأن المطلقات: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: من الآية236). وقال: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241). والقضية تدور على عدة محاور؛ فإما ألا يكون هناك أي تمتيع للمطلقة، وهذا له آثاره السلبية، وبخاصة على المطلّقة التي ستستقبل حياة جديدة، تحتاج إلى تخفيف وقع الطّلاق وأثره حسّيًّا ومعنويًّا. وإمّا أن يكون هناك تمتيع مغلّظ، وهذا فيه إثقال على الزوج المطلق.
وإما أن تكون هناك متعة يُراعى فيها ظروف الزوج وإمكاناته، مع عدم إهمال حقّ المطلقة في المتعة.
وهذا هو الأمر الوسط الذي أقرّه القرآن، وأصبح شرعًا من لدن حكيم عليم.
(ب) قال - تعالى -: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة:225). وفي سورة المائدة: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة: من الآية89).
وموضوع الحنث في اليمين، إما أن يكون فيه كفارة بإطلاق، أو لا يكون فيه كفارة بإطلاق، أو التفصيل.
والأمر الأول: فيه من المشقّة والعسر ما لا يخفى.
والأمر الثاني: يُؤدّي إلى الاستهانة باليمين، وهو قادح من قوادح الإيمان.
أمّا التفصيل: وهو التفريق بين لغو اليمين الذي يصعب التحرز منها، فهذا معفو عنه، أمّا ما عداه ففيه الكفارة الشّرعية صيانة لليمين والقسم، فهذا هو الأمر الوسط، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
(جـ) قال - تعالى - في بيان كفارة اليمين: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: من الآية89).
والوسطيَّة في هذه الآية من ثلاثة وجوه:
1- أنَّ إطعام المساكين يُراعى في نوعية الطعام أو الكسوة الوسط في ذلك، وجعل المقياس الذي يُرجع إليه في اختيار هذا الوسط إطعام الرجل لأهله أو كسوتهم، فينظر في ذلك ويخرج الوسط منه.
وفي هذا تتحقق الوسطيَّة من وجهين - أيضًا -.
الأول: مراعاة الوسط في حق كل إنسان، فلم يؤخذ من أعلى ماله أو أدناه، بل الوسط منه، مراعاة للفقير - أيضًا -.
الثاني: مراعاة الفرق بين حال الغني والفقير والمتوسط، وهذا فيه من معنى الوسطيَّة ما فيه، فلم يأت الحكم بالتسوية بينهم.
2- أنَّه جعل الكفارة تدور على أحد ثلاثة أمور: إمّا الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق، والحالف مخيّر بينها دون إلزام بواحد منها، وهذا فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى.
3- إذا لم يجد الحالف أو لم يستطع على أي نوع من هذه الثلاثة انتقل إلى الصيام، وهذه رحمة من الله وتوسعة على عباده.
وبهذا اجتمعت أطراف الوسطيَّة في هذه القضية، وهي قضية جزئية يسيرة، فلا شك أن ما كان أعلى منها وأشدّ كلفة تكون مراعاة الوسطيَّة فيه من باب أولى، لأن الله غني عنًا وعن أعمالنا، ولكن التّشريع ميدان للامتحان والابتلاء، والله بنا رءوف رحيم.
(د) كذلك نلحظ الوسطيَّة في هذا التشريع، قال - سبحانه -: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (المائدة: من الآية5). والوسطيَّة تبرز في موضوع الطعام، وموضوع النكاح من أهل الكتاب، مما لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل.
(هـ) وكذلك نرى إقرار منهج الوسطيَّة في موضوع الطّلاق وأحكامُه فلم يحرم الطّلاق، ولم يجعله مُتاحًا دون قيد أو شرط أو وصف.
بل إنَّه فرّق بين الحالات التي تبينُ فيها المرأة من طلقة واحدة أو من ثلاث طلقات، وهكذا.
ولا شك أن موضوع الطّلاق وأحكامه من أقوى الأدلة على هذا المنهج الذي روعيت فيه أحوال وأوضاع تتعلّق بالرجل والمرأة والأسرة.
والآيات التي وردت في سورتي البقرة والطّلاق هي البرهان على ذلك.
هذه بعض الأدلّة العملية على الوسطيَّة التي رسمها القرآن، وأكدها في أكثر من موضع في باب التشريع والتّكاليف.
ومن خلال ما سبق، اتضحت المنطلقات الأساسية التي تُبيّن المنهج الشّرعي في التّشريع والتّكليف، حيث ذكرت أن الله وضع عنّا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وأن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، بل لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وما آتاها، وآيات رفع الحرج دلالة قويّة على متانة هذا المنهج في وسطيَّة التّشريع، يؤكد ذلك ويقرّره ما صاحب ذلك من يسر ورفع للعسر والمشقة. كل ذلك أوصلنا للحقيقة التي استهدفناها، وبدأنا بها، وهي أنَّ القرآن الكريم عنى عناية تامة في رسم منهج الوسطيَّة وتثبيته.

العبادة ( )
عن أنس بن مالك  قال:  جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي،  يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.
فقال أحدهم: أمّا أنا فأصلي الليل أبدًا.
وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء أبدًا.
فجاء رسول الله،  فقال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني  ( ).
وعن أنس بن مالك  قال:  دخل النبي،  المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به، فقال النبي،  حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد  ( ).
وعن عائشة - رضي الله عنها -  أن النبي،  دخل وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملّوا 
وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه ( ).
هذه الأحاديث صريحة في رسم منهج الوسطيَّة في العبادة فالحديث الأول في غاية البيان والوضوح، والحديث الثاني - قصة زينب - قال فيه ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق فيها ( ) والثالث قال فيه ابن حجر - أيضًا -: "عليكم بما تطيقون": أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يُطاق ( ).
وهذه الأحاديث - وأمثالها - وهي كثيرة جدًّا - جاءت على نسق ما جاء في القرآن في تحديده مسار العبادة في ضوء المنهج الوسط، وتشنيعه على أولئك الذين خرجوا بالعبادة عن مسارها الصحيح.
وقبل أن ألجّ في بيان ذلك الإطار الذي حدّده القرآن الكريم، وأرى أنّ من المناسب ذكر المناهج السائدة فيما يتعلّق بالعبادة تفريطًا وإفراطًا، فأقول:
المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم، فلو نظرنا إلى التوراة - بعد تحريفها - لوجدنا أن تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكرًا للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلّق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشّخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفًا من عقوبة عاجلة.
بل بالغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153). وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرّك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو.
وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلّقهم بالحياة وحرصهم عليها، فقال - تعالى -: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أي حياة، حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها. وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95). لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعملهم للدنيا، وعبادتهم لمآرب دنيوية: فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء.
فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثـية: من الآية24)( ).
وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنّبنا إيّاه. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).
أما المنهج الثاني وهو المنهج القائم على الروحانيات، وذلك بإعلائها وتمجيدها، وأغرقوا في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو.
وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرّم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، معذبة للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة أو برهان. (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27). ولذلك كانت حالهم ومآلهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) (الغاشية:1-4)( ).
وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصّراط المستقيم، ولذلك أُمرنا بأن نسأل الله أن يجنّبنا إياه؛ (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7).
وأمام هذا الغلو المادي الذي يمثّل التفريط في العبادة، والغلو الروحاني الذي يمثل الإفراط فيها والتفريط في حق البدن، جاء الإسلام ليُصحح المسألة، ويهدي الناس لأقوم السّبل، وأعدل الطّرق، طريق الوسط بين عبادة المادة ونسيان حق الرّوح، وبين إرهاق الروح ونسيان حق البدن، ليعطي كل ذي حقّ حقّه، وفقًا لقوله - تعالى -: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: من الآية77).
ونجد أن القرآن الكريم قد قرّر هذا المنهج في آيات كثيرة، تنتظم فيما يلي:
أولا: الآيات التي تبيّن انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح، وذلك مثل قوله - تعالى -: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64). وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل:43). وقوله: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً) (المائدة: من الآية76). وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر: من الآية3). ومثل ذلك قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
فهذه الآيات وأمثالها ترسم منهج الوسطيَّة في العبادة ببيان انحراف طريق هؤلاء الذين قلبوا العبادة على وجهها الصحيح.
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) (الحج: من الآية11) قال مجاهد وقتادة وغيرهما: (على حرف) على شك.
وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر( ) .
وانظر إلى قول القرطبي، حيث إن قوله نصّ في دلالة الآية على المراد. قال: (على حرف). على شكّ، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الحبل، وهو أعلاه المحدّد.
وقيل: (على حرف)، أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السّراء دون الضرّاء، ولو عبدوا الله على الشكر في السّراء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف.
وقيل: (على حرف). على شرط( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: من الآية3). أي ليشفعوا لنا ويقرّبونا عنده منـزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدّهر وحديثه، وجاءتهم الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه( ).

ثانيًا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضّلال: قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية64). وقال في أكثر من موضع( ) (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51).
وقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) والآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده كثيرة جدًّا، فما من نبي إلا قال لقومه: "يا قوم اعبدوا الله". قال الطبري في قوله تعالى: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (آل عمران: من الآية64). يعني بذلك - جلّ ثناؤه - قل يا محمد لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل - تعالوا: هلمّوا إلى كلمة سواء، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
والكلمة العدل: هي أن نوحّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا( ).
وقال ابن كثير في الآية نفسها: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران: من الآية64) أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية64). لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيء، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، هذه دعوة جميع الرسل، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36)( ).
وقال رشيد رضا: قال الأستاذ الإمام في قوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (آل عمران: من الآية64) لما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر، هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر، وقد فسّره بقوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (آل عمران: من الآية64) الآية( ).
وبهذا يتضح لنا أن هذه الآية نصّ في الوسطيَّة في العبادة، وهي عبادة الله وحده.
أمّا قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51). فقد قال الطبري في معناها: ذلك هو الطريق القويم، والهدي المتين الذي لا اعوجاج فيه ( ).
وقال في آية مريم: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم:36). يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه ( ).
وقال القاسمي:
(فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم: من الآية36) أي: قويم، من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضلّ وغوى ( ).
وقد سبق أن بيّنت أن الوسطيَّة تعني الاستقامة وأن قوله - تعالى -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). من أقوى الأدلة على منهج الوسطيَّة، كما يقرّره القرآن الكريم.
ثالثًا: الآيات التي جاءت في بعض أنواع العبادة في معناها الخاص كالصلاة والدعاء وغيرهما، حيث نجد فيها أمرًا بالتزام منهج الوسط، ونهيًا عن الإضاعة أو الرهبنة، وهو ما يمثل الإفراط والتفريط.
وسأذكر بعض الآيات التي وردت في ذلك، مقتصرًا على ما يُبيّن المراد، مع بيان دلالة الآية على الوسطيَّة.
1- ذمّ الله الإفراط في العبادة والغلو فيها، حيث قال في حق بني إسرائيل من النصارى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: من الآية27).
قال القاسمي: الرهبانية هي المبالغة في العبادة، والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل ( ).
وقال ابن كثير: "ورهبانية ابتدعوها" أي ابتدعتها أمَّة النصارى. (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27) أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27) أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمّ لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى الله  ( ).
وهذه الرّهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلوّ في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقّتها وصعوبتها.
وقول الله - جل وعلا -: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27) دليل على أن الله لا يشرع ولا يكلّف بما فيه غلوّ ومشقّة، كما سبق بيانه.
ولقد اعترف عدد من متأخري النصارى بخطأ هذا الغلوّ والرهبنة التي ابتدعها أسلافهم، وأنها ليست من دين الله، ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك لأن الله قد بين هذا الأمر في كتابه، ولكن هذا الاعتراف له دلالاته التي لا تخفى. وقد ذكر القاسمي بعض هذه الاعترافات تفصيلا، أذكر نتفًا منها( ).
قال صاحب ريحانة النفوس - وهو نصراني-: إنَّ الرهبنة قد نشأت من التوهّم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة، لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة. ثم قال: ونحن نقول بكل جرأة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس.
وفي كتاب البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل البابوية: إن ذم الزيجة خطأ، لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقّد بنار الشّهوة.
ثم قال: ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن نستوفيه - إلى أن قال -: ولذلك نرى كثيرًا من القساوسة والأساقفة والشمامسة، لا بل من البابوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي.
ثم قال: فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى.
وختم كلامه - الطويل - بقوله: ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات.
قال القاسمي معقبًا على ذلك: وهو حجة عليهم منهم ( ).
هذه نتيجة الرهبنة والإفراط والغلوّ الذي ذمه الله، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171). وقال: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
2- وكما ذم الله الغلوّ والرهبنة فقد ذم التفريط والتضييع والإهمال، فقال - سبحانه -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59). قال ابن كثير مبينًا دلالة هذه الآية على الخروج عن منهج الوسطيَّة.
لما ذكر الله - تعالى - حزب السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر أنه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) (مريم: من الآية59) أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ) (مريم: من الآية59) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع، لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سَيلقَون غيًّا، أي: خسارة يوم القيامة( ).
وقال الشنقيطي في تفسير الآية: فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء.
ثم قال: إن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات.
ثم قال: فإذا عرفت كلام العلماء في الآية الكريمة، وأن الله توعّد فيها من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، بالغيّ الذي هو الشرّ العظيم، والعذاب الأليم، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في ذمّ الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم: )فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون:4) )الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:5) )الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ) (الماعون:6). وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتّبعون الشّهوات، وتهديدهم، كقوله - تعالى -: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3).
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتّبعون الشّهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة المؤمنين في وصف المؤمنين، وكقوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات:40، 41).
3- وبعد أن ذكرت الآيات التي تدل على النهي عن الغلوّ والإفراط أو التفريط والتضييع أذكر بعض الآيات التي تأمر بالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط.
قال - تعالى -: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).

قال ابن كثير:
قال الإمام أحمد ( ) حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نـزلت هذه الآية ورسول الله،  متوار بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنـزله، ومن جاء به، قال: فقال الله - تعالى - لنبيه،  "ولا تجهر بصلاتك". أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110) أخرجاه في الصحيحين ( ) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به ( ).
وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نـزلت في الدعاء ( ).
قال القرطبي:
روى مسلم عن عائشة في قوله  (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) قالت: أنـزل هذا في الدعاء ( ). والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما، وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
وقال - تعالى -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ )(لأعراف: من الآية205).
قال القرطبي: (ودون الجهر) أي دون الرفع في القول، أي: أسمع نفسك، كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110). أي بين الجهر والمخافتة ( ).

وقال ابن كثير:
(تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) (الأعراف: من الآية205) أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (الأعراف: من الآية205). وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرًا بليغًا ( ).
وقال - تعالى – (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16).
قال ابن كثير:
أي جهدكم وطاقتكم.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله - تعالى -: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: من الآية102). وقال: لما نـزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم فأنـزل الله - تعالى - هذه الآية، تخفيفًا على المسلمين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16). فنسخت الآية الأولى( ).
ودلالة الوسطيَّة على هذا القول واضحة جلية.
وأخيرًا: نقف أمام قوله - تعالى - في سورة المزمل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4). ثم قال في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20). أي من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة (سبحان): (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) (الإسراء: من الآية110). أي بقراءتك( ).

وقال القرطبي:
قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) (البقرة: من الآية187). قيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر( ).
وبعد:
فقد اتضح لنا من خلال ما سبق في هذا الباب من آيات أنّ الوسطيَّة أصل في باب العبادة في معناها الخاص والعام، وأن الغلوّ والجفاء، والإفراط والتفريط منفيان عنها كما نفيا عن غيرها.

الشهادة والحكم
سبق معنا في تفسير قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). أن الرسول،  فسّرها بقوله: "عدولا"( ). وكذلك فسّرها،  بالشهادة، حيث ذكر شهادة هذه الأمَّة لنوح، عليه السلام، ثم قرأ،  (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143). الآية ( ).
ولا مُنافاة بين التفسيرين، بل أحدهما مكمّل للآخر، لأن الشهادة المعتبرة عند الله ما كانت عدلا.
ومن هذا المنطلق فقد جاءت آيات كثيرة تبيّن وجوب العدل في الشهادة، وكذلك في الحكم - أيضًا - والشهادة هي إحدى مقدّمات الحكم في كثير من الأحكام، بل في كلها إذا اعتبرنا إقرار المرء على نفسه شهادة، وهو كذلك.
وإذا كان العدل يعني الوسط، كما تقرّر، فإن أمر الله بالعدل في الشهادة والحكم هو أمر وإقرار لمنهج الوسطيَّة، ويتّضح ذلك - تفصيلا - من خلال ما سيأتي - إن شاء الله -:
1- قال - تعالى - في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135). ولنتأمل ما قاله الطبري في تفسيره للآية، فإننا نجد الدلالة البينة في هذه الآية على منهج العدل والوسط، والتّحذير من الحيف والجور واتباع الهوى، وإليك بعض ما قال:
يقول الله لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (النساء: من الآية135). يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني العدل (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء: من الآية135) معناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (النساء: من الآية135). يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموا على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيّها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما، وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيها مصلحة كل واحد منهما في ذلك، وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما.
(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء: من الآية135). فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
والتعبير بالغني والفقير هو في مقام العدو أو القريب كما سيأتي في آيتي المائدة والأنعام، ويمكن استعماله في الوجهين كما يدل عليه كلام الطبري، فقد يكون بعض الناس مع الغني ضد الفقير - وهو الغالب -، وقد يكون البعض مع الفقير لفقره، ضد الغني لغناه، ولكل حالة ما يناسبها.
2- قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8).
قال الطبري في معنى الآية: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حدّدت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حدّدت لكم في أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري( ).
وهذا التفسير للآية واضح الدلالة على منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، ومثل ذلك تفسير ابن كثير، حيث قال في قوله - تعالى -: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية8). أي: لا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًّا، ولهذا قال: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8)( ).
وقد جاء قبل هذه الآية قوله - تعالى -: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (المائدة: من الآية2).
قال الطبري في تفسيرها: فتأويل الآية إذن: لا يحملنّكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون. أن تعتدّوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن ألزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم( ).
وقال رشيد رضا في تفسيره للآية: وأمّا الاعتداء على من تبغضونهم فلا يُباح لكم وأنتم حلّ، كما أنَّه لا يُباح لكم وأنتم حُرم، وإن كانوا صدّوكم عن المسجد الحرام من قبل، وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرًا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عند حدود العدل( ).
3- ومثل هذه الآية قوله - تعالى -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(الأنعام: من الآية152).
قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152) وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحق بينهم، واعدلوا، وأنصفوا، ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا يحملنّكم قرابة قريب، أو صداقة صديق، حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكمتم إليه فيه ( ).
وقال القرطبي: قوله - تعالى -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152) يتضمّن الأحكام والشهادات، (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152). أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم، كما تقدّم في النساء( ).
وقد وقفت متأمّلا لآيتي المائدة والأنعام، فوجدت أن كلا منهما تأمر بالعدل وهو طريق الوسط، ولكن كل آية اختصت بمعنى ليس في الأخرى، فآية المائدة تنهى عن الحيف والجور في حق العدوّ، وأن عداوته وبغضه لا يجوز أن يكون حائلا دون العدل في حقه، شهادة أو حكمًا، فهي تنهي عن الإفراط والغلو بالنسبة لصدور الحكم ضده، وعن التفريط والجفاء بالنسبة لحفظ حقوقه وما يجب له.
أما آية الأنعام فإنها تُحذّر من الميل والإفراط في حقّ القريب، مما يكون سببًا لعدم ثبوت الحق عليه، وهذا غلو منهي عنه، كما تنهى عن التفريط في حق خصمه بسبب القرابة، فإن عدم أداء الشهادة محاباة للقريب فيه تفريط في حق الخصم وضياع للحقوق. ومن هنا فإن هاتين الآيتين بمجموعهما ترسمان خط الوسطيَّة، وترشدان إليه، وتحذران من الحيف والميل سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.
وقد يؤدي بغض العدوّ أو حبّ القريب إلى شهادة الزّور والكذب، فيحكم على العدوّ بما ليس عليه، ويحكم للقريب بما ليس له، وكل هذا خروج عن العدل، ومن الظلم الذي لا يرضاه الله أبدًا.
أمّا آية النساء فإنها جمعت بين المعنيين كما هو واضح من سياقها، وتفسير الطبري لها، وإن كانت لمعنى ما في سورة الأنعام أقرب منها لما في سورة المائدة.
4- ونجد تطبيقًا عمليًّا لمدلول هذه الآيات ما ذكره الله في سورة يوسف في قصة زوجة العزيز مع يوسف، عليه السلام، حين راودته عن نفسه: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) (يوسف: من الآية25). وهنا حدثت المفاجأة (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) (يوسف: من الآية25). وبسرعة مذهلة يدرك المرأة كيد النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: من الآية28)، فتقلب الدعوى على يوسف: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف: من الآية25). وهذه دعوى خطيرة، ولكن يوسف، عليه السلام، يردّ هذه الدعوى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (يوسف: من الآية26)، ووقع العزيز في إشكال في هذه القضية، وبخاصة إذا كانت امرأة، لأن العادة الغالبة أنّ الرجل هو الذي يعتدي عليها، لا أن تعتدي هي عليه، وفي هذه اللحظات الحرجة يأتي الفرج: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف:26، 27)، إنها شهادة عجيبة تنطق بالعدل والصدق، مع قرابته للمرأة.
فقد وضع أمام العزيز ميزانًا دقيقًا دون حيف أو محاباة، وبدأ بما يتعلّق بالرجل أولا، وما أشبه فعل يوسف، عليه السلام به، عندما بدأ بأوعية إخوته قبل وعاء أخيه، ثم ذكر ما يتعلّق بالمرأة، ويظهر العدل في هذا من خلال ما يلي:
(أ) فعدم كتمانه للشهادة دليل على عدم محاباته للمرأة وهي قريبته.
(ب) البداءة بيوسف وعدم اقتصاره على ما يتعلق بالمرأة يدلّ على أنه لا يحابي يوسف، عليه السلام. وهنا صدر الحكم العادل المبني على شهادة العدل: (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف:28، 29).
5- وردت آيات كثيرة تأمر بالعدل، وتنهى عن الهوى، وذلك مثل قوله - تعالى – (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: من الآية58). وقوله - تعالى - في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)، وكذلك قوله - تعالى - في سورة الأعراف: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29)( )، وفي سورة (ص): (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: من الآية26) وقريب من هذه الآية ما جاء في سورة الشورى (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: من الآية15) ونجد في سورة النحل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل: من الآية126)، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة ومعلومة، وكلها تأمر بالعدل، وتنهى عن البغي والعدوان، وهذه دلالة الوسطيَّة، والنهي عن الإفراط والتفريط.
6- ومن الأدلة العملية على وجوب التزام العدل وعدم البغي أو العدوان قوله - تعالى - في سورة الإسراء: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: من الآية33). فهنا ثلاث حالات - طرفان ووسط -
أ- ضياع حقّ أولياء المقتول، كما يقع في كثير من الأزمنة، وتحمي هذا الضياع أنظمة ودول وبخاصة في عصرنا الحاضر، وبالذّات الدول التي ألغت عقوبة الإعدام، إمّا نظامًا أو واقعًا، وهو الأكثر - وبخاصة إذا كان القاتل شريفًا فهيهات أن يؤخذ الحق منه.
ب- أن يأخذ أولياء المقتول أكثر مما لهم، وهو الإسراف في القتل، وهذا ما كان يجري في الجاهلية، ويوجد في عصرنا الحاضر في بعض المجتمعات التي تأخذ بالثأر، فتقتل غير القاتل دون ذنب إلا أنه من أقرباء القاتل، أو تقتل أكثر من فرد انتقامًا وثأرًا.
ج- أن يقتل القاتل قِصاصًا، أو تؤخذ الدية، أو يكون العفو برضى أولياء القتيل. والحالة الأولى تمثل التّفريط.
والحالة الثانية تمثل التّعدي والإفراط.
والحالة الثالثة هي العدل والوسط.
ولقد نـزل القرآن بالحالة الثالثة، فقوله - تعالى -: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً) (الإسراء: من الآية33) إثبات للحالة الثالثة، ونفي للحالة الأولى، فإثبات الحقّ نفي للتفريط وإضاعة الدم، وقوله: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء: من الآية33) نهي عن الحالة الثانية، وهي التعدّي والإفراط.
قال الطبري: وأولى التأويلين بالصّواب في ذلك من تأوّل: أنّ السلطان الذي ذكر الله - تعالى - في هذا الموضع ما قاله ابن عباس: من أن لولي القتيل القتل إن شاء، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله،  أنّه قال يوم فتح مكة:  ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية  ( ).
وقوله: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء: من الآية33) يقول: فلا تقتل بالمقتول ظلمًا غير قاتله.
وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلا عمد ولى القتيل إلى الشّريف من قبيلة القاتل فقتله بوليّه، وترك القاتل، فنهى الله  عن ذلك عباده، وقال لرسوله،  قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثل به ( ).
وقال القاسمي: أي ومن قتل بغير حق - مما تقدم – (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ) (الإسراء: من الآية33) الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه. (سُلْطَاناً) (الإسراء: من الآية33) أي: تسلّطًا على القاتل في الاقتصاص منه، أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يُسرف في القتل، أي: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية، كان إذا قُتل منهم واحد قتلوا به جماعة، (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: من الآية33) تعليل للنهي. يعني: حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك( ).
وبهذا المثال ومن خلال ما سبق من آيات اتضح لنا منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، لأن الله أمر بالعدل ونهى عن الظلم والبغي.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نالت الأمَّة الخيريَّة لأسباب من أهمّها قيامها بواجب الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، واستمرار الخيريَّة مرهون بالأسباب التي نالت بها هذه الدّرجة الرفيعة.
والواقع المشاهد استمرار للواقع الماضي في أنّ هناك فئات كثيرة ضلّت في هذا الباب، فهناك كثيرون جدًّا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو قصّروا فيها تقصيرًا شديدًا، وهؤلاء سلكوا سبيل التّفريط، وآخرون - وهم أقل من أولئك - قاموا بالأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولكنهم لم يعرفوا مراتبه ودرجاته وحدوده، أو لم يلتزموا بها، فوقع كثير منهم في الغلو والإفراط.
والقلّة القليلة - ماضيًا وحاضرًا - من سلك السّبيل المستقيم، والطّريق القويم، والتزم بالمنهج الوسط الذي شرعه الله على لسان رسوله، .
وعناية بهذا الركن العظيم، ومن أجل القيام به على الوجه المشروع جاءت الآيات تلو الآيات تبيّن حكمه، وترسم معالمه وحدوده، وتزجر، عن الانحراف به وعنه ذات اليمين وذات الشمال.
وكل هذه الآيات في دلالتها جاءت لتقرّر منهج الوسطيَّة، وتصون هذا الركن عن الانحراف والتبديل، والتضييع والإهمال.
وسأختار بعض الآيات التي تبيّن هذه الحقيقة وتدلّ عليها، في ضوء المنهج الذي سلكته فيما مضى:
1- قال - سبحانه وتعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
قال ابن كثير في تفسير الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس، ولهذا قال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) - إلى أن قال -: والصحيح ان هذه الآية عامة في جميع الأمَّة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم،  ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي: خيارًا( ).
والشاهد هنا أن الخيريَّة تعني الوسطيَّة، كما وضّحت ذلك في مبحث (ملامح الوسطيَّة)، ولذلك فلابد أن يكون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يُحقّق هذه الخاصية، وينطلق من ضوابطها.
2- نعى الله على الذين أضاعوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتركوا الدعوة إلى الله فقال - سبحانه -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78، 79).
وقال - سبحانه -: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63). وقال - سبحانه -: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187). وقال - جل وعلا -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة:159).
قال ابن كثير في الآية الأولى: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) (المائدة: من الآية79). أي: كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم، والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذّر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: من الآية79).
وقال القرطبي: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ) (المائدة: من الآية79) أي لا ينهى بعضهم بعضًا. ) لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: من الآية79) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم ( ).
وقال الطبري في الآية الثانية: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) (المائدة: من الآية63). هلاّ ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشاء في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم، وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم.
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(المائدة: من الآية63) وهذا قسم من الله أقسم به، يقول - تعالى ذكره -: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان، وأكل السّحت، عما كانوا يفعلون من ذلك، وكان العلماء يقولون: ما في القرآن أشدّ آية توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها، ثم روي عن ابن عباس قوله: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية.
وكذلك روي عن الضّحاك قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنّا لا ننهى ( ).
وقال القرطبي: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي المنكر ( ).
وقال ابن كثير في الآية الثالثة: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (آل عمران: من الآية187).
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب.. إلى أن قال: وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدالّ على العمل الصّالح، ولا يكتمون منه شيئًا( ).
ومعنى الآية الرابعة قريب من معنى هذه الآية( ).
والخلاصة أن هذه الآيات - وأمثالها - جاءت لتبيّن خطورة ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تضييع هذا الركن وعدم القيام به انحراف عن الصّراط المستقيم.
وهي بهذا تحذّر المؤمنين من سوء عاقبة هذا الأمر، وترشدهم إلى طريق الحق والسلامة والنّجاة.
3- وإذا كان ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، انحراف وخروج عن الصّراط المستقيم، وهو منهج المغضوب عليهم من اليهود وأشباههم، فإن هناك انحرافًا آخر قد لا ينتبه له كثير من الناس، وهو أن يأمر الإنسان وينهى، ولكنه لا يلتزم بما يدعو الناس إليه، وينهاهم عنه، ولذلك جاءت الآيات تبين خطأ هذا المسلك وسوء هذا الفعل.
قال - سبحانه -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2، 3).
وقال - جل وعلا - حكاية عن شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود: من الآية88).
وأنبّه هنا إلى أن الانحراف ليس بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وإنما لمخالفة فعله قوله ( ) قال ابن كثير والغرض أن الله - تعالى - ذمهم على هذا الصنيع، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88)( ).
قال القرطبي في قوله - تعالى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: من الآية44).
فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذًا: أتأمرون الناس بطاعة الله، وتتركون أنفسكم تعصيه!! فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم، فعيّرهم بذلك، ومقبّحًا إليهم ما أتوا به.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: من الآية44) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها، وتنهونهم عن ركوبها، وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به، وربما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه( ).
قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه وبالبرّ، ويخالفون، فعيرهم الله ( ).
وقال ابن جريج: أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصلاة والصوم، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة ( ).
وقال رشيد رضا في قوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: من الآية44) يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السّفة، مثل من كانت هذه حاله، كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى، بحيث لا يضلّ سالكه، ثم هو يسلك طريقًا آخر مظلمًا طامس الأعلام، وكلّما لقي في طريقه شخصًا نصحه ألا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه( ).
وأختم أقوال العلماء في هذه الآية بما قال عبد الرحمن بن سعدي: فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأمّا قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير ( ) - وأيضًا - فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يُخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة ( ).
أما آيتا الصف. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3). فإنهما وإن كانتا في قضية خاصة كما ذكر المفسرون، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، كما هو مقرّر عند الأصوليين. ولذلك فإن دلالتها كدلالة أية البقرة: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) (البقرة: من الآية44) الآية.
وقال الطبري في آية هود: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88) يقول:
وما أريد أن أنهاكم عن أمر، ثم أفعل خلافه، بل لا أفعل إلا بما آمركم به، ولا أنتهي إلا عمّا أنهاكم عنه( ).
وقال النّخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقصّ على الناس( ) (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: من الآية44) ، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)( ).
والشاهد من قول النخعي أن هذه الآيات مدلولها واحد، وهو النهي عن مثل هذا الفعل، وبيان خطورة هذا الانحراف عن الصّراط السّوي.
4- وإذا كان إهمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو مخالفة الفعل للقول انحراف عن الصّراط المستقيم، وخروج عن منهج الوسطيَّة، فإن أعظم أنواع الانحراف في هذا الباب هو ما بيّنه الله تعالى في سورة التوبة مما هو من سمات المنافقين وأخلاقهم: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: من الآية67).
قال رشيد رضا: أي أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفا وعملا، كأن كلا منهم عين الآخر، كما قيل:
هل تلد الحية إلا الحية!!
تلك العصا من هذه العصية

ثم بين هذا التشابه بقوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: من الآية67) المنكر الشّرعي ما ينكره الشّرع ويستقبحه، والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة، والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل، والمنافع الفردية، والمصالح العامَة، والشّرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله.
والمعروف: ما يُقابل المنكر مقابلة تضاد.
ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضًا؟ الكذب والخيانة وإخلاف الوعود، والفجور، والغدر بنقض العهود.
ومن المعروف الذي ينهون عنه: الجهاد، وبذل المال في سبيل الله، للقتال وغير القتال ( ).
ويقول سيد قطب وهو يفسر هذه الآية ويبين وجه انحراف المنافقين: أما سلوكهم - أي المنافقين - فهو الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وهم حين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دسًّا وهمسًا، وغمزًا ولمزًا، لأنهم لا يجرءون على الجهر إلا حين يؤمنون. (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: من الآية67). فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطّريق، وقد وعدهم الله مصيرًا كمصير الكفار( ).
وبهذا يتّضح لنا أن هذا المسلك أسوأ ألوان الانحراف في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
5- ومن الآيات التي جاءت تحمل الدّلالة الصّريحة على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو الطريق الصحيح، والمنهج الحق، وأنّه لا يستوي من قام به، ومن أهمله وفرّط فيه، قوله - تعالى -:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:113، 114).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (لَيْسُوا سَوَاءً ) (آل عمران: من الآية113) أي: ليسوا كلّهم على حدّ سواء، بل منهم المؤمن ومنهم، المجرم، ولهذا قال - تعالى -: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) (آل عمران: من الآية113) أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة يعني مستقيمة( ).
ومفهوم هذه الآية أن الأمَّة التي ليست كذلك، ولم تتصف بهذه الصفات، فهي أمَّة منحرفة ضالة زائغة.
6- والآيات السابقة جاءت مقرّرة أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو طريق الخيريَّة والاستقامة، وأن ما عداه طريق الانحراف والضّلالة.
ولكن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يختلف من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، فليس كل من تصوّر أنّه قام به قد وافق الصّواب في ذلك، فكم من داعية يأمر وينهى - استجابة للآيات الداعية لذلك على وجه العموم - ضلّ في هذا الأمر، ولم يوفّق للمنهج الوسط، وهو المنهج الحق، فقد يتكلّم في مقام يجب فيه السّكوت، وقد يغلظ في حال تجب فيها اللين والرفق، وقد يلين القول فيما لا يجدي فيه إلا الغلظة والشدة، وهكذا.
ولذلك جاءت الآيات تبيّن المنهج القويم في مثل هذا الأمر، وترسم الطريق المستقيم الذي قد يخفى على الكثيرين.
ولصعوبة التفصيل في هذا الأمر، فسأذكر بعض الآيات التي تبيّن هذا المنهج وتدل عليه.
(أ) قال - تعالى -: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية108).
قال ابن عباس: قالت قريش: يا محمد: لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك، فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم. وقال قتادة: كان المسلمون يسبُّون أصنام الكفّار، فيسبّ الكفار الله  عدوًا بغير علم، فأنـزل الله هذه الآية( ).
وانظر - رحمك الله - إلى ما قاله القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمَّة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسبّ الإسلام أو النبي،  أو الله  فلا يحلّ لمسلم أن يسبّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرّض إلى ما يُؤدي إلى ذلك، لأنه بمنـزلة البعث على المعصية( ).
وقال ابن الغرس: إنه متى خيف من سبّ الكفّار وأصنامهم أن يسبّوا الله أو رسوله أو القرآن، لم يجز أن يسبوا ولا دينهم، وهي أصل في قاعدة سدّ الذرائع( ).
وبعد هذا التأصيل لمدلول هذه الآية، أذكر بعض ما قيل حولها فيما يتعلّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال السيوطي: وقد يستدلّ بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا كل فعل مطلوب ترتّب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه ( ).
وفصّل بعض العلماء في المسألة، ومن هؤلاء الحاكم، حيث قال: والذي يجب علينا بيان بغضها، وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، وأنّها لا تستحقّ العبادة، وهذا ليس بسبّ، ولهذا قال أمير المؤمنين يوم صفين: لا تسبُّوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم ( ).
وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدّين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الجمادات بأنها لا تضرّ ولا تنفع، يكفي في القدح في إلاهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها( ).
وأختم هذا الكلام النفيس حول الآية، بما قاله الزمخشري: قال: فإن قلتَ: سبّ الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النّهي عنه؟ وإنما يصحّ النّهي عن المعاصي؟
قلت: رُبَّ طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر، وهو من أجلّ الطّاعات، فإذا علم أنّه يؤدي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النّهي عن ذلك، كما يجب النّهي عن المنكر( ).

ومما سبق يتّضح أن القرآن الكريم قد وضع قاعدة في رسم منهج الوسطيَّة، وأنّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكذلك فمن الحق النظر إلى مآلات الأمور دون الوقوف عند ظواهرها فقط.
(ب) ونقف وقفة أخرى يتضح فيها أنّ الوسطيَّة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مسألة نسبيّة تختلف باختلاف ملابساتها والظروف المحيطة بها.
فإن هناك من يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يكون دائمًا باللّين، وخفض الجانب، ويستدلّ بقوله - تعالى -: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه:43، 44)، ووجه استدلاله من الآية: أن فرعون قد بلغ من العتوّ والطغيان والكبر ما لم يبلغه أحد من البشر، حيث ادّعى الألوهية، ومع ذلك يأمر الله بالإنة القول له، والرّفق معه. فإذا كان ذلك مع فرعون، فإن من هو دونه بالجرم والإثم أولى منه بالرّفق واللّين.
وآخرون يرون وجوب الشدّة والإغلاظ في القول مطلقًا، ويستدلّون بقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73). وقوله سبحانه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: من الآية123). وقول موسى لفرعون: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: من الآية102). فيقولون: إن هذه الآيات تدل على وجوب الإغلاظ والشدة مع هؤلاء، وأن اللين يكون مع المؤمنين، لقوله - تعالى -: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: من الآية88)، وأمثالها.
والحق أن هذه الآيات هي التي تؤكد صحة ما قلته من أن الوسطيَّة مسألة نسبية، تختلف باختلاف ما يحفّ بها من قرائن وأحوال، يجب اعتبارها في مثل هذه المسائل.
والقول الأمثل أنّه يجب النظر في مجموع الأدلة، وعدم الاقتصار على بعضها دون الآخر، فضلا عن ضرب بعضها ببعض - كما يفعل أصحاب الأهواء -.
وهذا المسلك - مسلك النظر في جميع الأدلة - سيؤدي إلى إعمال كل دليل في موضعه، دون إهمال الدليل الآخر أو الغفلة عنه.
ولننظر - الآن - فيما ذكرته من أدلّة كل من الفريقين، فنجد أن أمر الله لموسى وهارون، عليهما السلام، باستعمال الرفق مع فرعون، كان في أول رسالة موسى، عليه السلام، كما يدلّ عليه سياق الآيات في سورة طه، ولذلك جاء الأمر معلّلا برجاء إسلامه وانقياده (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه:44).
قال ابن كثير - بعد أن ذكر أقوال المفسرين في القول اللين -: والحاصل من أقوالهم إن دعوتهما له تكون بكلام رقيق ليّن سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ وأنجع، كما قال - تعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125).
قال الحسن البصري: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه: من الآية44) يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه ( ).
وقال القاسمي: وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما لا من الله، فإنّه لا يصحّ منه، ولذا قال القاضي: أي باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما، أنه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد، والآيس متكلّف.
والفائدة في إرسالهما، والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من آيات ( ).
أمّا آية الإسراء فإنها جاءت في نهاية المطاف مع فرعون، ولما لم تنفع جميع الآيات التي جاء بها موسى، عليه السلام، وهي تسع آيات عظيمة، فلم يكن بد من الإغلاظ له في القول (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: من الآية102). أي هالكًا، فإن الثبور: الهلاك والخسران ( ). والدليل على أن هذا الأمر كان في نهاية الأمر معه قوله - تعالى - بعد هذه الآية: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (الإسراء:103).
أمّا قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(التوبة: من الآية123). فإن هذا كان - أيضًا - في آخر العهد النبوي، حيث إن سورة التوبة من آخر ما نـزل من القرآن، وكذلك سورة التّحريم متأخرة.
ومعنى هذا أنّ الرسول،  قد خاطب المشركين قبل ذلك، ودعاهم إلى الله باللين، واستخدم معهم جميع وسائل الرفق، حتى لم يعد يُجدي معهم إلا السّيف والغلظة.
وكذلك المنافقون، لم تجد معهم وسائل المهادنة والوعظ، والرفق واللين، فكان لابدّ من الإغلاظ لهم بالقول، كالإغلاظ للكفّار بالسّيف.
وخلاصة القول: إن اللين والإغلاظ، أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه. كما قال الشاعر:
مُضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا

(ج) وأخيرًا نأتي لكلمة الفصل في هذه القضية: إذا كانت الوسطيَّة في هذا الباب تختلف باختلاف الحال والمحلّ، والزّمان والمكان، فما هو الضّابط لذلك؟
والجواب حسمه القرآن الكريم في آية واحدة، حيث قال - سبحانه وتعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125).
فالحكمة هي الضّابط، والفيصل في ذلك، فحيث كانت الحكمة كانت الوسطيَّة، وحيث فقدت فإن هناك انحرافًا إلى ذات اليمين أو ذات الشمال.
ولعلّ من المناسب أن أختم هذا المبحث بتعريف الحكمة كما عرفها العلماء.
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله( ).
وقال عبد الرحمن بن سعدي: الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرّزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال.
ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنـزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام ( ).
وقال ابن عاشور: وفسّرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب ( ).
وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصائب من الحركات والأعمال ( ).
وجماع الحكمة في قول ابن القيم: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي( ).
وبعد: فإن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله واضح جليّ، زادته هذه الأدلة بيانًا وتفصيلا.
وهذا الباب من أهمّ الأبواب - العملية - التي يجب أن يتحرّى فيها الدعاة وطلاب العلم منهج القرآن، ويلتزموا به، حتى لا تزل العقول والأقدام، فيقعوا في الغلو والإفراط، نتيجة الحماس غير المنضبط، أو يقعوا في التّفريط والتّهاون استجابة لرغبات النفس وشهواتها.
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

الجهاد في سبيل الله
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ( ) وهو ماضٍ إلى أن تقوم السّاعة ( ).
ولا عزّة للأمة ولا فخر ولا سؤدد إلا بإقامة هذا الركن العظيم.
وما تركت أمة الجهاد في سبيل الله إلا ذلّت وضعفت، وهانت على الله ومن ثمّ على خلقه.
ولقد انقسم الناس - قديمًا وحديثًا - في موضوع الجهاد في سبيل الله إلى ثلاث طوائف:
1- فطائفة يغلب عليها الحماس، والاندفاع، والإقدام، ومن حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهاد، ولذلك وقعت في مزالق كبيرة، وكان لهذا الأمر من السّلبيات ما لا يخفى.
2- وطائفة في مقابل هذه الطّائفة، فرّطت في الجهاد في سبيل الله، وتسعى دائمًا لإضاعة وإماتة هذا الرّكن العظيم، وإذا دعا داعي الجهاد، انتفضت خوفًا وفرقًا وذعُرًا، وذهبت تلتمس الأعذار للتخلّف والقعود.
3- أمّا الطائفة الثالثة فهي التي توسّطت بين الطّائفتين، فأحّبت الجهاد، ورغبت فيه، وسعت إليه، ولكن ذلك لم يدفعهم لأن يستعجلوا الشيء قبل أوانه، ولذلك التزموا بالضّوابط الشّرعية في الإعداد للجهاد، وإعلانه، والاستمرار فيه.
وكذلك إذا دعا داعي الجهاد، لم يقعدوا مع القاعدين، ولم يثّبطوا مع المثّبطين، بل سارعوا إلى إجابة المنادي غير خائفين أو وجلين.
ولقد جاء القرآن يبينّ خطأ الطائفتين، الأولى والثانية: الغالية والجافية، المفْرِطة والمفرّطة، ومن ثمّ يرسم المنهج الحقّ، منهج الطّائفة الوسط، مؤكدًا على خطورة الإفراط والتّفريط، داعيًا إلى الجهاد في سبيل الله، إذا توافرت أسبابه ودواعيه، وتحقّقت شروطه وضوابطه. وسأبيّن أسلوب القرآن في إقرار المنهج الحق، والدّلالة إلى الصّراط المستقيم.
ولنقف مع تشخيص القرآن للطّائفة الأولى:
قال الله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246).
هذه الآية خلّد الله فيها قصة من قصص بني إسرائيل، التي انحرفوا فيها عن السبيل القويم، والطّريق المستقيم.
ها نحن نرى الحماس والاندفاع للجهاد في سبيل الله، ويطالبون نبيهم، عليه السلام، بإعلان الجهاد واختيار قائد يقودهم إليه.
ويأتي نبيّهم، ويسألهم سؤالا يحمل الحقيقة: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) (البقرة: من الآية246)؟ وهنا يأتي الجواب الذي يردّده المتحمّسون دائمًا: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: من الآية246) ، وكيف كانت النتيجة: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية246).
وفي ثنايا القصّة وتفاصيلها نعايش مشاهد تبخّر هذه الدّعوى والحماس، وأول ذلك: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) (البقرة: من الآية247). وتبدأ رحلة الجهاد، ويبدأ معها تحقق ما قاله نبيهم في خوفه من عدم صدقهم وثباتهم: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) (البقرة: من الآية249). والنتيجة (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (البقرة: من الآية249). وبعد ذلك تقول فئة من البقية الباقية: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة: من الآية249).
وأخيرًا لا يثبت إلا فئة أقل من القليل، ولعل هذه الفئة التي قتلت جالوت، وانتصرت بعد ثباتها لم تكن من أولئك المتحمسين المندفعين، الذين كانوا أول الهاربين والمتخاذلين.
قال القرطبي في قوله - تعالى -: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ) (البقرة: من الآية246). أخبر - تعالى - أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب، وأن نفوسهم ربما قد تذهب (تَوَلَّوْا) (البقرة: من الآية246) أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم الممتنعة، المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها.
وعن هذا المعنى نهى النبي،  بقوله:  لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا  ( ) رواه الأئمة.
ثم أخبر الله عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى، واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله - تعالى - ( ).
وقال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفًا - قيل كان عددهم ثمانين ألفًا - وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئًا، وأخذ بعضهم الغرفة.
وقال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل، فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ( ).
وهذا نموذج آخر من نماذج المتحمسين للقتال، الذي أفرطوا في طلبه والسعي إليه، فلما تحقق لهم ذلك خالفت أفعالهم أقوالهم.
وإذا كان المثل الأول كان في بني إسرائيل، فإن هذا المثل في أمة محمد،  وهذا يؤكد حقيقة مهمة أن ذلك النموذج يتكرر في كل عصر وحين، وها نحن نراه ماثلا أمام أعيننا في زمننا الحاضر.
والحماس هو الحماس، والنهاية هي النهاية، وها هي الآيات تذكر البداية والنهاية:
قال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77).
قال الطبري: ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله،  كانوا قد آمنوا به، وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
روى الطبري بسنده عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي،  فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال:  إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حوله الله إلى المدينة أُمر بالقتال فكفوا، فأنـزل الله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ . الآية ( ).
ولننظر فيما قاله سيد قطب في هذه الآية حيث يشخص الحقيقة في أدق تصوير، قال:
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال، ويستعجلونه، وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذونًا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله.
فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله، وتهيأت الظروف المناسبة، وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخش الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر- كخشية الله، القهار الجبار، أو أشد خشية، وإذا هم يقولون في - حسرة وخوف وجزع -: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) (النساء: من الآية77).
إن أشدّ الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشدّ الناس جزعًا، وانهيارًا وهزيمة، عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة، ذلك أن الاندفاع والتهوّر والحماسة الفائقة - غالبًا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التّكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الأذى، والضيّق والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة، والدفع والانتصار بأي شكل دون تقدير لتكاليف الحركة، والدفع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشقّ مما تصوّروا، فكانوا أول الصف جزعًا ونكولا وانهيارًا، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدّون للأمر عدته، والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم، ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا، وأي الفريقين - كان - أبعد نظرًا كذلك ( ).
إنها الحقيقة التي عبّر عنها سيد - رحمه الله -، تلك الحقيقة التي لا يدركها إلا من عاشها، وذاق مرارة هذا اللون من الاندفاع والحماس، مما نراه ماثلا أمام أعيننا في صنف من الناس، لا يقدرون عواقب الأمور، ويثورون لأقل الأسباب، غافلين عن السنن الربانية، والأحكام الشرعية، والقدرات البشرية، متصورين أن طيبتهم وحسن نيتهم، ومقصدهم تكفي سببًا لانتصارهم.
وكما جاءت آية النساء، فقد جاءت آية الصف، تعالج القضية نفسها، وتبين الحقيقة ذاتها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3).
قال ابن كثير: وحملوا الآية - أي الجمهور - على أنها نـزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل بعضهم، كقوله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) (النساء: من الآية77) الآية، وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2). قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله  دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لاشك فيه، وجهاد أهل معصية الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به، فما نـزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمر الله، فقال الله - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)( ).
هذه حقيقة الاندفاع والحماس، عندما لا ينضبط بالضوابط الشرعية ولا السنن الربانية. إنه انحراف عن المنهج الحق، انحراف يمثل الغلو والإفراط، ومن ثم فهو خروج عن المنهج الوسط، المنهج الذي لا يلغي الاعتبارات المتعددة قبل اتخاذ القرار الحاسم، لخطورة هذه القضية وآثارها بعد ذلك.
ولعل في هذه الآيات عظة وذكرى لأولئك المغالين، وعبرة لهؤلاء المتعجلين المندفعين.
إن المنهج الذي يسلكه أولئك لا يؤدي إلى الأهداف التي شرع من أجلها الجهاد، بل قد يكون سببًا لتعطيل الجهاد، أو تأخيره سنوات وسنوات، ومن استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وكما جاءت الآيات تعالج قضية الإفراط والغلو، فقد جاءت تعالج قضية التفريط والتضييع.
فإذا كان أولئك المتحمسون والمندفعون قد خالفوا الصراط المستقيم في قضية مشروعية الجهاد، فإن المثبطين والقاعدين يمثلون الوجه الآخر للانحراف والضلال. وقد جاءت الآيات تلو الآيات تبين خطورة هذه الفئة، وما تحدثه من خلل وانحراف.
قال - سبحانه -: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81). ثم يبين الله خطورة ما صنع هؤلاء، يتضح ذلك. من العقوبة القاسية التي أمر الله رسوله،  أن يعاقب بها هؤلاء جزاء ما صنعوا:
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:83، 84).
وقال - سبحانه -: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:86).
وقال - جل وعلا - مبينًا خطورة القعود عن سبيل الله: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).
وقال - جل وعلا - مهددًا ومتوعدًا القاعدين عن الجهاد في سبيل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:38، 39).
وقال: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:44،45).
وقال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة:49).
وقال - جل ذكره - مصورًا حالة أولئك الذين لا يريدون الجهاد: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (محمد: من الآية20).
إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن خطورة هذا المسلك وسوء عاقبة أصحابه في الدنيا والآخرة( ).
ونقف مع تفسير هذه الآيات، وما قيل في معناها، مع الاقتصار على ما تدعو الحاجة إليه: قال الطبري في معنى قوله - تعالى -: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية81) فرح الذين خلفهم الله مع الغزو مع رسوله والمؤمنين، وجهاد أعدائه بمقعدهم (خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية81) يقول: بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول الله، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده وذلك أن رسول الله،  أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمره، وجلسوا في منازلهم( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (التوبة: من الآية38) الآية. هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله،  في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدّة الحرّ وحمارة القيظ ( ).
وقال في قوله - تعالى -: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: من الآية86).
يقول - تعالى - منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه، مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول،  في القعود، وقالوا: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: من الآية86) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال - تعالى - عنهم في الآية الأخرى: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) (الأحزاب: من الآية19)( ).
وقال رشيد رضا في قوله - تعالى -: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: من الآية45) الآية: والمعنى: إنما يستأذنك بالتخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرمًا يفوت عليهم بعض منافعهم به، ولا يرجون عليه ثوابًا كما يرجو المؤمنون.
ويرون الجهاد بالنفسي آلامًا ومتاعب، وتعرضًا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا( ).
وقال سيد قطب في قوله - تعالى -: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (التوبة: من الآية39).
والخطاب لقوم معينين في موقف معين، ولكنه عام في مدلوله، لكل ذي عقيدة في الله، والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات، واستغلالها للمعادين، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.
وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء.
(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (التوبة: من الآية39). يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله( ).
هذه بعض الآيات التي جاءت تبين انحراف المثبطين عن الجهاد، القاعدين عنه، الذين وصفهم الله بقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب:18).
والنتيجة التي نخلص منها بعد بيان طرفي الانحراف، سواء الذين أفرطوا وغلوا، أم الذين فرطوا وجفوا، تلكم النتيجة هي أن هناك منهجًا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط.
وذلكم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وركن من أركانه، وهو ماض إلى أن يأتي أمر الله، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلاَّ ذّلوا، وضعفوا، وسلط الله عليهم عدّوهم. والجهاد له شروطه وضوابطه، وأسبابه وموانعه، فإذا توافرت الأسباب وانتفت الموانع، وتحقّقت الشروط وجب أن يُنادي المنادي حيّ على الجهاد، ووجب على القادرين أن يستجيبوا للنداء، فرض عين أو فرض كفاية.
وهذا هو المنهج الوسط الذي جاءت الآيات الكثيرة تدعو إليه وتأمر به وتحث عليه، وجاءت السنة شارحة ومبيّنة، ومفصّلة لأحكام الجهاد، كما جاءت مبينة أحكام السَلم والموادعة والمعاهدات.
وقد عني العلماء - قديمًا وحديثًا - في بيان هذه القضية، وأشبعوها بحثًا وتفصيلا، وهم بذلك لم يدعوا مجالا لانحراف منحرف بدعوى الجهل وعدم الوضوح.
وأخيرًا أختم هذا المبحث بذكر بعض الآيات التي تدعو إلى الجهاد، وتثني على المجاهدين، أولئك الذين لا يتأخرون لحظة إذا دعا داعي الجهاد، وهم كذلك يستجيبون لداعي السلم والموادعة إذا جاء وقتها، وتوافرت أسباب السلم ودواعيه.
قال - سبحانه -: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41). وقال مبينًا صفة المؤمنين إذا دعا داعي الجهاد (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة:44).
وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) (الأنفال: من الآية65). وقال: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (النساء: من الآية75).
وهذه بعض الآيات التي تأمر بالقتال:
(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة: من الآية36) (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) (التوبة: من الآية12). (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: من الآية29). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: من الآية193). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).

وقال مبينًا فضل المجاهدين في سبيل الله:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة:20، 21). (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الصف:10، 11).
وأختم هذه الآيات - آيات الجهاد - بهاتين الآيتين:
قال - سبحانه - في سورة النساء: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
وقال  في سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ومما يؤكد وسطية هذا المنهج استجابتهم لأمر الله بالدخول في السلم، كاستجابتهم لأمره بالقتال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208). (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال: من الآية61)، ولكن السلم لا يعني الاستسلام والذل: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35).

الأخلاق والمعاملة
سُئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله،  فقالت: "كان خلقه القرآن"
وقد أثنى الله على رسوله،  فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
أما المعاملة فهي قرينة الأخلاق، حيث إن معاملة المرء نتاج طبيعي لأخلاقه، ولقد رسم القرآن المنهج السوي لما يجب أن تكون عليه أخلاق المسلم ومعاملاته.
وهذا الباب يسوده الغلو والجفاء، ويندر فيه المنهج الوسط، ولذلك فقد عني القرآن الكريم به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج، وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلوًا أو جفاء، إفراطًا أو تفريطًا.
ولطول الموضوع وتشعبه، وكثرة الآيات الواردة فيه، نظرًا لتعدد أجزائه ومنطلقاته، فسأقتصر على اختيار نماذج متفرقة تبين عناية القرآن الكريم به، في ضوء المنهج الذي سلكته في هذا البحث، ومن الله استمد العون والتوفيق.
الكبر والطغيان خلق ذميم، ذمه الله في أكثر من موضع في كتابه، لما له من الآثار السلبية على الفرد والمجتمع، والكبر خروج عن المنهج الوسط إلى الإفراط والغلو وحب الذات. والتفريط في حق الآخرين.
قال - تعالى - مبينًا أثر الكبر على الإنسان، وكيف أنه يؤدي إلى الحيلولة بينه وبين الإيمان. (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (غافر:56).
قال ابن كثير في تفسير الآية: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) (غافـر: من الآية35) أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة، بلا برهان ولا حجة من الله (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) (غافر: من الآية56) أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به( ).
وقال - تعالى -: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر:27). وقال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر: من الآية35). وقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: من الآية60) وقال: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحـل: من الآية29).
وقال - سبحانه -: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37).
ومن وصايا لقمان لابنه كما ذكر الله  (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).
قال ابن كثير في تفسيرها: قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك( ).
والآيات في ذم الكبر والنهي عنه، وبيان عاقبة المتكبرين كثيرة جدًا.
ومن الآيات التي جاءت تنهي عن بعض الأخلاق الممقوتة، قوله - تعالى -: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19).
ونهى الله - سبحانه - عن كتمان الشهادة لما لها من آثار في إضاعة الحقوق وسوء المعاملة بين الناس، فقال - جل وعلا -: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: من الآية283).
ومن سوء أخلاق بني إسرائيل ما ذكره الله عنهم بقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
قال عبد الرحمن بن سعدي:
وهذه غاية الجرأة على الله وعلى رسوله( ).

وقال ابن عاشور:
تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفا طبع( ).
ونقض العهد والميثاق خلق فاسد ومعاملة ممقوتة( ) ولذلك جاء ذم الناكثين العهود الخائنين للمواثيق والعقود، قال - سبحانه -: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25). وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: من الآية13).
وفي مقابل الكبر نجد الذل والضعف والخور، وبخاصة أمام أعداء الله، فإنه خلق لا يرضاه الله - جل وعلا -، فلذلك قال - سبحانه -: واصفًا المؤمنين بما هم عليه من خلق رفيع: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).
ومن هنا، ودلالة على أن الذل مسبة وعار، وليس خلقًا رفيعًا وسيرة محمودة، بين الله أنه جعله عقوبة لمن عصاه، وتكبر على رسله وهداه، فقال - سبحانه -: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (البقرة: من الآية61).
وقال: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) (آل عمران: من الآية112). وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الأعراف: من الآية152).
قال سيد قطب مبينًا أثر الذل على هؤلاء اليهود، إن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادًا عميقًا.
وليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد، استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.
وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين ( ) .
وإذا كان هؤلاء قد ضرب الله عليهم الذلة في الحياة الدنيا، فإن الذلة - أيضًا - جزاء هؤلاء وغيرهم ممن دُعي إلى عبادة الله فاستكبر وأبى، قال - تعالى -: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم:43). وقال: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (المعارج:44).
وقال - سبحانه - ممتنًا على عباده حيث أعزهم بعد الذلة والانكسار: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123).
وخلاصة الأمر: أن هذه الآيات تدل على أن تلك الأخلاق مما لا يقره الشرع لمخالفتها للمنهج الحق والطريق السوي، ولذلك جاءت الآيات تبين ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق صادق وحسن في المعاملة، بعيدًا عن الخلق الذميم سواء كان إفراطًا أو تفريطًا، وهذه الآيات هي التي ترسم المنهج الوسط في الأخلاق والمعاملة.
قال - تعالى - مثنيًا على نبيه،  (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
وقال - جل وعلا -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية159).
وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199).
وقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215).
وقال - جل وعلا - واصفًا عباده المؤمنين وما هم عليه من خلق رفيع، ومعاملة حسنة: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63) ثم قال: )وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان:72) وهذا قمة الخلق وحسن الطوية، ولذلك قال في آيات أخرى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة:15). أما غيرهم فكما أخبر الله عنهم )إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافات:35)، وفرق شاسع بين الخلقين.
ومما أمر الله به عباده، تربية على الخلق الحسن، ودفعًا لكيد الشيطان ونـزغه ما قاله - سبحانه - في سورة المؤمنون: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون:96).
وقال في سورة فصلت: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:34-36).
وكذلك أمر الله بالوفاء بالعهود والمواثيق والعقود، وذلك من صميم المعاملة التي يجب أن تكون بين المسلمين، بل حتى ولو كانت مع الكافرين، فقال - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: من الآية1) وقال: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية4).
وقال: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:19، 20). وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل:91). وقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسـراء: من الآية34).
ومن الأخلاق التي أمر الله بها، ما أمر به الزوج عندما يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، حيث قال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة: من الآية231). ومثل ذلك الآية التي جاءت في سورة الطلاق: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: من الآية2).
وكذلك من العدل وحسن الخلق في المعاملة ما جاء بالأمر بالوفاء بالكيل، قال سبحانه: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (الإسراء: من الآية35) وقال: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف: من الآية85).
ولذلك شنع الله على أولئك الذين حادوا على المنهج الوسط في الكيل والميزان، فقال: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (المطففين:1-5).
ومن الخلق التي أمر الله بها ما جاء في سورة المجادلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) (المجادلة: من الآية11).
وإذا تأملنا سورة الحجرات وما فيها من أخلاق عالية أمر الله بها، ونهى عن سيئ الأخلاق وأرذلها، علمنا الجهد المبذول لتربية هذه الأمة على الأخلاق القويمة، وتجنيبها ما وقعت فيه بعض الأمم السابقة من أراذل الأخلاق وسفسافها كأهل الكتاب عمومًا واليهود خصوصًا.
وتأمّل هاتين الآيتين لترى كيف يرسم القرآن الكريم منهج الوسطية.
قال - تعالى - في سورة القصص مخبرًا عما جرى بين موسى وشعيب ( ) عليهما السلام: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27).
وقال في سورة النساء: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء:148).
وأختم هذا المبحث بهذه الوقفة المهمة:
لما أثنى الله على رسوله،  لحسن خلقه، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) قال بعد عدة آيات: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9).
قال ابن عباس:
لو ترخص لهم فيرخصون( ).
والوقفة هنا: هناك من يتصور أن من لوازم حسن الخلق المداهنة والمصانعة.
بل تعجب إذا سمعت من يرى أن ذلك من أسس الدعوة وأساليبها.
وهذا خلل في الفهم، وقصور في التصور، وذلك أنه في السورة التي أثنى الله فيها على رسوله،  لأخلاقه الرفيعة العظيمة، نفى عنه المداهنة والمصانعة. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (القلم:9، 10) مع التنبيه إلى أن هناك فرقا بين المداهنة المحرمة، والمدرارة المشروعة فليعلم ذلك( ).
هذه بعض الأخلاق التي ذكرها الله في القرآن الكريم، جاءت لتربي الأمة على الأخلاق الفاضلة، والمعاملة المستقيمة دون تكبر وبطر وغمط لحقوق الناس، أو ضعف وخور وذلة.
لقد اتصف اليهود بالكبر والتعالي والغطرسة حتى على أنبيائهم، ورسلهم، عليهم السلام، بل على ربهم - جلا وعلا -: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153) (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) (البقرة: من الآيات68،69، 70) (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا) (المائدة: من الآية24).
واتصف النصارى بالذل والجبن، حتى كان مما يتوارثونه. "إذا صفعك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن". أما هذه الأمة فقد ربيت على العزة والكرامة، مع سمو الخلق وحسن التعامل، حتى مع الأعداء، بل وأثناء القتال والطعان، وهذه درجة لم تصل إليها أمة من الأمم الماضية، ولن تصل إليها أي أمة حاضرة: ولا عجب في ذلك فإنها أمة الإسلام، الأمة الوسط (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) ورسولها،  قال فيه مولاه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).

كسب المال وإنفاقه
قضية المال من القضايا الكبرى التي عني بها الإسلام كسبًا، وحفظًا، وإنفاقًا.
وذلك أن المال عصب الحياة، وهو بالنسبة للحياة الدنيا كالماء الذي يمشي في غصون الشجر، وكالدماء التي تجري في عروق البشر.
ولقد سلك الناس - ولا يزالون - مسالك شتى في هذا المال، كسبًا، وجمعًا، وإنفاقًا.
والكثرة الكاثرة، والغالبية العظمى ضلوا الطريق، وحادوا عن سواء السبيل.
ولذلك جاء القرآن الكريم مبينًا خطورة هذا الانحراف، وهاديًا إلى الصراط المستقيم.
وفي ضوء المنهج الذي أشرت إليه مرارًا، سأذكر بعض ما ورد في كتاب الله من آيات تبين خطوط الانحراف، وطريق الوسط الذي يجب أن يسلكه المؤمنون. (أ) في جمع المال وحبه:
وردت عدة آيات تبين خطورة الانهماك في جمع المال والمبالغة، والإفراط في حبه، وقد وردت هذه الآيات في سياق الذم لذلك. ومن تلك الآيات:
قال - تعالى -: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:19، 20).
وقد برر المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وغيرهم سبب تخلفهم، بانشغالهم بأموالهم وأولادهم: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) (الفتح: من الآية11).
وقال - سبحانه -: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:6-8).
وقال: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر:4).
وقال: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:1-4).
وقال - جل وعلا - عن أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ) (المسد:1-3).
وقال - سبحانه - مخبرًا عمن سيؤتى كتابه بشماله يوم القيامة حيث سيقول متحسرًا: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (الحاقة:27، 28).
وقال: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6، 7).
وقال: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) (القلم:13، 14).
وقال: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل:11).
وقال: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً) (الكهف:34، 35).
وقصة قارون فيها العظة والعبرة، والتحذير من الإفراط في حب الدنيا، وعدم أداء حق الله فيها: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: من الآية76) ثم يذكر الله حالة من حالات بطره وفرحه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79). وماذا كانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (القصص:81) ولم يخسر الدنيا فقط بل والآخرة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
وقال - سبحانه -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)(الحديد: من الآية20).
هذه بعض الآيات التي تبين خطوط الانحراف عن الصراط المستقيم في جمع المال وحبه، والآيات كثيرة جدًا.
ولأجل المزيد من إلقاء الضوء على هذه القضية فسأذكر شيئًا من أقوال المفسرين حول بعض هذه الآيات:
قال الطبري في قوله - تعالى -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (التكاثر:1) ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وعما ينجيكم من سخطه عليكم.
وروي عن النبي،  كلام يدل على أن معناه التكاثر بالمال( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة:1، 2) الهماز بالقول واللماز بالفعل، يعني يزدري الناس وينتقص بهم.
(الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة:2) أي: جمعه بعضه على بعض، وأحصى عده، كقوله - تعالى -: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (المعارج:18) قال السدي وابن جرير وقال محمد بن كعب في قوله: (جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة: من الآية2) ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة.
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة:3) أي: يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار. (كَلَّا) (الهمزة: من الآية4) أي: الأمر ليس كما زعم ولا كما حسب ( ).
وقال في قوله - تعالى -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:8). أي: وإنه لحب الخير وهو المال لشديد، وفيه مذهبان:
أحدهما: أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال.
والثاني: وإنه لحريص بخيل من محبة المال.
وكلاهما صحيح ( ).
وقال القرطبي في الآية نفسها: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) (العاديات: من الآية8) أي: المال، ومنه قوله - تعالى -: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (البقرة: من الآية180) (لَشَدِيدٌ) (العاديات: من الآية8) أي لقوي في حبه للمال.
وقيل: لشديد: لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد.
قال ابن زيد: سمي المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًا وحرامًا، ولكن الناس يعدونه خيرًا، فسماه الله خيرًا لذلك( ).
وقال في قوله - تعالى -: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2) أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا كسب من جاه.
قال ابن عباس: لما أنذر رسول الله،  عشيرته بالنار قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فنـزل: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2)( ).
وقال الطبري في قوله - تعالى -: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20) وتحبون المال أيها الناس واقتناءه حبًا كثيرًا شديدًا.
من قولهم: حم الماء في الحوض: إذا اجتمع.
قال قتادة: "حبًا جمًا" أي: حبًا شديدًا.
وقال الضحاك: يحبون كثرة المال( ).
وقال القاسمي في آية الكهف: "وكان له" أي: لصاحب الجنتين، "ثمر" أي أنواع من المال غير الجنتين، من "ثمر ماله" إذا كثر، (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) (الكهف: من الآية34) أي: يراجعه الكلام، تعبيرًا له بالفقر، وفخرًا عليه بالمال والجـاه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف: من الآية34) أي أنصارًا وحشمًا. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) (الكهف: من الآية35) أي بصاحبه يطوف به فيها، ويفاخره بها( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6،7) يخبر - تعالى - عن الإنسان أنه ذو فرح، وأشر بطر، وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله، ثم تهدده وتوعده ووعظه، فقال: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:8)( ).
وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد قطب في مطلع تفسيره لآيات سورة القصص، في قصة قارون، حيث قال: والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق.
وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح، مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ثم فسر قوله: (لا تَفْرَحْ) (القصص: من الآية76)( ) قائلا: لا تفرح فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.
لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال، وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران.
لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد( ).
والآيات التي مضت وكلام المفسرين حولها يُعطي الدلالة على المنهج الخاطئ الذي يسلكه كثير من الناس في جمع المال، حيث أفرطوا في ذلك وبالغوا فيه، وكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح هذا المال وبالا عليهم في الدنيا والآخرة.
إن الإسلام ليس ضد جمع المال - كما قد يتوهم البعض - بل إنه أمر مشروع جاءت الآيات الكثيرة تبين مشروعيته وأهميته، ومن ذلك قوله - تعالى - مبينًا أن المال من الله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: من الآية33) وقال ممتنًا على بني إسرائيل: (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (الإسراء: من الآية6). ويقول نوح لقومه داعيًا إياهم إلى الإيمان، ومبينًا عاقبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:11، 12).
وقال - سبحانه - آمرًا بالمحافظة على المال الذي هو من الله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: من الآية5) وقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: من الآية46) وقال: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا) (الأحزاب: من الآية27).
إذن فكما أن القرآن الكريم يحذر من الإغراق في حب المال، وقضاء الحياة في جمعه وتحصيله دون أداء حق الله فيه، ويبين عاقبة من كانت هذه حاله، فإنه لا يرضى بالرهبنة والتصوف والإعراض عن المال بالكلية. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: من الآية77) بل إنه يقر جمع المال وتحصيله، ويشرع السبل الصحيحة لذلك، وهذا ما سيتضح في الفقرة التالية:

(ب) في كسب المال
توصلنا في الفقرة السابقة إلى أن القرآن الكريم بين لنا خطوط الانحراف في جمع المال وحبه، واتضح لنا أن جمع المال مشروع، ولكن الانحراف يكون في الإفراط فيه أو التفريط، وكذلك فإن حب المال ليس رجسًا أو عارًا، بل هو أمر جبلي فطري، لا ينفي ذلك إلا مكابر أو شاذ، والشذوذ يؤكد القاعدة: وإنما الأمر المنهي عنه هو الغلو في حبه وتقديسه، والتوسط في ذلك هو المشروع: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46) (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
ومن هنا جاءت الآيات تبين الخطوط العريضة والمنطلقات الشرعية في كسب المال وتحصيله، وجاءت القاعدة التي تفرعت عنها كل القواعد: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: من الآية275).
إذن فكسب المال مشروع، ولكن ليس كل طريق يؤدي إلى ذلك جائز ومحمود.
فلا نحرم ما أحل الله من وسائل الكسب المباحة، ولا نبيح ما حرم الله من الوسائل الممنوعة: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وسأذكر بعض ما ورد من آيات تنهي عن بعض أوجه الكسب المحرمة، ليتضح من خلال ذلك أن هناك منهجًا وسطًا في ذلك لا إفراط ولا تفريط:
فقد نهى الله عن الربا، وبين أنه من الكسب المحرم بل غلظ الله في عقوبة هذا الكسب، الذي أفرط فيه كثير من الناس، - وبخاصة في عصرنا الحاضر - حتى قل أن يسلم أحد من الربا أو من غباره، والله المستعان.
قال - تعالى -: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: من الآية275) وقال: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: من الآية275) وقال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: من الآية276) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) (آل عمران: من الآية130).
وكذلك من طرق الكسب المحرمة: الميسر، وهو القمار، كما قال ابن كثير وغيره( ). وقد جاءت بعض الآيات تبين حكمه وأن الله قد حرمه. قال - تعالى -: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219) وقال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المـائدة:90، 91).
وكذلك من أوجه الكسب المحرمة السرقة. قال - تعالى -: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) (المائدة: من الآية38). وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:12).
ومن الكسب المحرم أكل مال اليتيم. قال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10).
وبالجملة فكل مال أُخذ بالباطل فهو محرم، ولذلك جاءت الآيات تنهى عن أكل المال بالباطل. فقال - سبحانه -: )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).
وقال مبينًا سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:160، 161).
وقال: (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) (التوبة: من الآية34).
وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء: من الآية29).
قال ابن الجوزي مبينًا معنى الباطل هنا: لا يأكل بعضكم أموال بعض، قال القاضي أبو يعلى:
والباطل على وجهين: أحدهما أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغضب، والخيانة.
والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار والغناء، وثمن الخمر( ).
وقال القرطبي: والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، ثم قال: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال ( ).
ومما سبق يتضح أن هناك منهجًا وسطًا في كسب المال.
فالقول بإباحة جميع المعاملات قول باطل، وهو من التفريط. وكذلك التشديد، وجعل أن الأصل في الاكتساب هو التحريم إلا ما ورد نص في إباحته قول باطل، وهو من الإفراط.
والقول الصحيح وهو الوسط أن الأصل في البيوع والمعاملات الحل والإباحة، إلا ما ورد النص بتحريمه ومنعه ( ) سواء كان المنع بدليل خاص أو عام، فمن الخاص تحريم الميسر والربا والسرقة ونحوها، ومن العام ما يدخل تحت الضرر أو الظلم أو الغرر ونحو ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه والأحكام.
(جـ) إنفاق المال
وبعد أن تبين لنا تقرير القرآن لمنهج الوسطية في جمع المال وكسبه، نقف أخيرًا مع المنهج الشرعي في إنفاق المال كما قرره القرآن الكريم.
والناس في هذه المسألة طرفان ووسط:
فهناك القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، المقترون على أنفسهم وأهليهم، فضلا عمن سواهم.
وعلى النقيض من هؤلاء، آخرون مسرفون مترفون، باسطو أيديهم كل البسط.
وبين هؤلاء وأولئك قلة من الناس سلكوا السبيل القويم، والتزموا العدل والاعتدال، واتخذوا بين ذلك سبيلا ( ).
وقد نـزلت الآيات من لدن عليم حكيم، تبين سلامة هذا المنهج، وتأمر به، وتحث عليه، مع النهي عن سلوك أي من المنهجين المنحرفين، وبيان عاقبة ذلك عاجلا وآجلا ( ).
وسأذكر من الآيات ما يبين هذا المنهج ويقرره، دون إيجاز مخل أو إطناب ممل، بل سأتخذ بين ذلك سبيلا:
فبالنسبة للطرف الأول، وهم القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، جاءت الآيات تبين انحراف هذا المنهج، وتنهى عن هذا المسلك، فقال - سبحانه -: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )(آل عمران: من الآية180) وقال - جل وعلا -: (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحديد:23، 24).
وقال مبينًا خصلة من خصال المنافقين: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة:76).
وقال سبحانه: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38) .
وقال - سبحانه وتعالى -: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً) (الإسراء:100).
قال ابن كثير في هذه الآية: يقول - تعالى - لرسوله،  قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس وقتادة: أي: الفقر خشية أن تُذهبوها، مع أنها لا تنفد ولا تفرغ أبدًا، لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال: "وكان الإنسان قتورًا". قال ابن عباس وقتادة: أي: بخيلا منوعًا.
وقال - تعالى -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (النساء:53). أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله ما أعطوا أحدًا شيئًا ولا مقدار نقير.
والله - تعالى - يصف الإنسان من حيث هو - إلا من وفقه الله وهداه - فإن البخل والجزع والهلع صفة له، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه - سبحانه وتعالى -( ).
وقال القرطبي في قوله - تعالى -: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) (آل عمران: من الآية180) هذه الآية نـزلت في البخل بالمال، والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة.
والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل، لأنه لا يذم بذلك. ثم قال: واختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: البخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك.
والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك.
وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص، وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله،  قال:  اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم 
وهذا يردّ قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح: منع المستحب، إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة ( ).
وكما جاءت الآيات محذرة من عاقبة البخل والتقتير، فقد جاءت ناهية عن الطرف المقابل وهو الإسراف والتبذير.
فقال - سبحانه -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء:26، 27).
وقال - جل وعلا -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: من الآية141).
قال القاسمي في تفسير آية الإسراء: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء: من الآية26) أي: بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه إحسانًا إلى نفسك أو غيرك. قال: وفي الكشاف: كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف.
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء: من الآية27) أي: أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي، وهذا غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان.
وقال: قال أبو السعود: وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة، للإيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله - تعالى - إلى غير مصرفها، من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له، والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه، فإن كفر نعمة الرب، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران، ونهاية الضلال والطغيان.
وقال: وقد استدل بالآية مع منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله ( ).
وقال الطبري مبينًا مدلول آية الأنعام، (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأنعام: من الآية141) قال: بعد أن ذكر أقوال العلماء: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله - تعالى - نهى بقوله: (وَلا تُسْرِفُوا) (الأنعام: من الآية141) عن جميع معاني الإسراف، ولم يخصص منها معنى دون معنى.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإسراف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب ( ) كان معلومًا أن المفرق ماله مباراةً، والباذلَه للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما كيفته له.
وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة، إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها.
وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه.
كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: (وَلا تُسْرِفُوا) (الأنعام: من الآية141) في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم.( ).
وبهذا يتضح لنا أن البخل والإِسراف ضدان قد نهى الله عنهما، وحرمهما على عباده، كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وإذا كانت الآيات السابقة، بينّت كل واحدة منها أحد طرفي الانحراف وحذّرت منه، فإنها تدل بمفهومها على أن طريق الوسط، هو طريق الاستقامة، وبخاصة إذا نظرنا إلى مجموع الآيات السابقة التي تدل على أن الإِسراف والبخل لا يمثلان المنهج الصحيح.
ومع ذلك فقد جاءت آيات تدلّ صراحة على انحراف كل من الطرفين المذكورين، وينصّ بعضها على طريق الوسط، وأنه المنهج الحق الذي يجب الالتزام به والسير فيه.
قال - تعالى - في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
وقال - سبحانه -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
قال ابن كثير في الآية الفرقان: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان: من الآية67) أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا.
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: من الآية67) كما قال - تعالى -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: من الآية29)( ).
وقال الطبري في آية الإسراء: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) (الإسراء: من الآية29).
وإنما معنى الكلام: ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئًا، إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها. (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: من الآية29) يقول: ولا تبسطها بالعطية كل البسط، فتبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئًا تعطيه سائلك. (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء: من الآية29) يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلوم نفسك على الإسراع في مالك وذهابه( ).
ومما يدل على الوسطية في النفقة قوله - تعالى -: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7). وهذا من الوسطية النسبية التي يراعى فيها حال المنفق، وما جرت العادة به ونحو ذلك.
قال القرطبي: فتقدّر النفقة بحسب الحالة من المنفِق، والحاجة من المنفَق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفَق عليه، ثم ينظر إلى حالة المنفَق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، وإن اقتصرت حالته على حالة المنفق عليه ردّها إلى قدر احتماله( ).
من خلال ما سبق ظهر لنا منهج الوسطية واضحًا جليًّا في الجمع والكسب، وإنفاق المال.
ودلتّ الآيات السابقة على النهي على الإِفراط والتفريط، ووجوب الالتزام بالمنهج الوسط، وجماع ذلك قول الله العظيم، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67). ومن أصدق من الله قيلا.
ومما سبق في تقرير وسطية الإسلام في جمع المال وكسبه وإنفاقه يتّضح انحراف كل من المنهج الرأسمالي والمنهج الاشتراكي( ).
فالنظام الرأسمالي يقوم على حرية الفرد في عمل ما يروق له من الأعمال التجارية.
فهي تعني حرية الاستثمار، وحرية الفرد في التملك، الحرية المطلقة، فهو حرّ في البحث عن الربح بشتى الوسائل والطرق.
والملكية الفردية مقدّسة، لا تمسّ، ولا يحدّها ضابط أو قيد، حتى لو أدّت هذه الملكية لاحتكار المالك للسلعة.
إن هذه الحرية بل هذه الفوضوية المطلقة - كان لها نتائج عكسية على المجتمع، حيث أوقدت نار الاحتكار والأنانية الفردية.
وبالتالي تحوّلت الحياة الاقتصادية إلى شريعة غاب، يأكل فيها القوي الضعيف.
وأدّى هذا إلى تكدس رءوس الأموال في يد طبقة معينة من أصحاب رءوس الأموال، ويقابلهم طبقة العمال الذين لا حول لهم ولا قوّة.
ويقابل المنهج الرأسمالي المنهج الاشتراكي، حيث قام على فكرة وفلسفة انتقال السيطرة على المال من أيدي أصحاب رءوس الأموال إلى أيدي الطبقة العاملة. حيث قامت على أسس من أبرزها:
1- إلغاء الملكية الفردية، وتأميم الممتلكات التجارية والصناعية، بدعوى مصلحة الجميع، والأفراد يؤدون أعمالا للدولة نظير أجور متساوية.
2- توزيع السلع والمنتوجات الاستهلاكية كل وفق حاجته.
فالاقتصاد الاشتراكي يعتمد على - دعوى - تغليب مصلحة المجتمع، ويجعل الدولة مالكة لكل شيء، وموجهة للاقتصاد، فلا يكاد يوجه للأفراد حقوق تذكر، من التملك والتنقل أو اختيار العمل، فأفقر الغني ولم يُغن الفقير.
وبهذا فإن في هذين النظامين يتمثل الإفراط والتفريط في أبشع صورة.
أمّا الإِسلام - فكما سبق بيان منهج القرآن في ذلك - يختلف عن هذين النظامين اختلافًا جذريًّا.
فهو آخذ بمصلحة الفرد ومصلحةَ المجتمع في وقت واحد، فهو يحترم الملكية الفردية ويقرّها، لأنها توافق الفطرة الإنسانية، ولكنه لا يقرّها مطلقة من كل قيودها، بل جعل لها ضوابط وقيود تحول دون الاعتداء على مصلحة المجتمع، وكذلك يحترم مصلحة المجتمع دون التعدي على مصلحة الفرد.
ففيه الإِرث والوصية والزكاة والصدقة وغير ذلك من وجوه الإنفاقُ المشروعة.
كما حرّم الاحتكار والرّبا والغشّ وغيرها من وجوه الاكتساب المحرّمة ( ).
وبهذا تحقّقت الوسطيَّة في أبهى صورها، الوسطية التي توافق الفطرة وتنميها: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: من الآية30).

مطالب النفس وشهواتها
قال الله - سبحانه وتعالى -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
قال سيد قطب: صياغة الفعل للمجهول - هنا - تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمّن هذا الميل، فهو محبّب ومزين، وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه، ففي الإِنسان هذا الميل إلى هذه الشهوات، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته، فهو ضروري للحياة البشرية، كي تتأصل وتنمو وتطرد( ).
وقال رشيد رضا بعد أن بين اختلاف المفسرين في إسناد التزيين في هذا المقام، فأسنده بعضهم إلى الله، وأسنده بعضهم إلى الشيطان. قال: وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر، وبيان حقيقة الأمر في نفسه، لا في جزئياته، وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه، ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال، وإنّما يسند إليه ما قد يعدّ هو من أسبابه، كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحًا، ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال - تعالى -: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) (الأنفال: من الآية48) وقال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: من الآية43).
وأمّا الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلاّ إلى الخالق الحكيم، الذي لا شريك له، قال  (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)( ).
وبعد أن تقّررت هذه الحقيقة: وهي أن الميل إلى شهوات الدنيا أمر فطري مركوز في خلق الإنسان، فإن الناس أمام هذه الحقيقة طرفان ووسط.
فهناك من وقف أمام هذا الميل موقفًا مغاليًا، فحرّم على نفسه الطيبات وغيرها، ومنعها من الملاذّ، وما فُطرت عليه من الزواج والمال وأطايب الملابس والمآكل، وهؤلاء يمثلهم رهبان النصارى وغلاة الصوفية، وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وتراها رجسًا من عمل الشيطان، وأصبح هذا النـزوع مذهبًا رائجًا ( ).
فهؤلاء رأوا الجسد سجنًا للروح، يحول بينها وبين أشواقها العالية، وشفافيتها السامية، فاخترعوا الرياضيات الروحية الشاقة، التي تقوم على إرهاق الجسد وتعذيبه، وتحوّله إلى شبح هزيل، يسكن المغاور والمقابر والكهوف، وينفر من كل الصلات الإِنسانية( ).
وهؤلاء أفرطوا وغلوا، وخرجوا عن سواء السبيل.
والطرف المقابل لهؤلاء، هم الذين انساقوا وراء شهوات أنفسهم، واعتبروا الحياة الدنيا هي الغاية والنهاية، وقالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثـية: من الآية24).
فأغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا لهم هدفًا ساميًا يسعون إليه، غير منافع الدنيا العاجلة، ولذائذها الفانية.
وأصبحوا كالأنعام، بل هم أضلّ سبيلا.
وهذا المنهج سقطت فيه الكثير من الأيديولوجيات، وتبعه ملايين البشر، الذين ارتموا في أحضان النفعية الغربية المادية، أو سقطوا في مخالب المادية الماركسية، التي تعيث في الأرض فسادًا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وهؤلاء فرّطوا وضيّعوا، وضلّوا عن سواء السبيل.
وبين هؤلاء وأولئك جاء القرآن بالمنهج العدل الوسط، فاعترف بحاجة الإِنسان إلى تلبية فطرته، وتحقيق بعض رغباته، دون حجر أو كبت.
ولكنه لم يترك له الحبل على غاربه، بل وضع الضوابط والحدود، وبينّ أنّ له مهمة سامية يسعى إليها أشرف من الدنيا وما فيها.
ونبينّ الآن ما جاء في القرآن تجاه كل طرف، ثم تقريره للمنهج الوسط.
أمّا الطرف الأول وهم الذين غلوا وأفرطوا، فقد جاءت بعض الآيات التي تردّ هذا المنهج وتبين انحرافه، فقال - سبحانه -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32).
وقال - سبحانه -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33).
وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (البقرة: من الآية168).
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172).
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32).
يقول - تعالى - ردًّا على من حرّم شيئًا من المآكل والمشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يُحّرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: من الآية32) أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار( ).
وقال الطبري في قوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأعراف: من الآية33).
يقول الله - تعالى - ذكره لنبيه محمد،  قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه، أيّها القوم إن الله لم يحرّم ما تحرمونه، بل أحّل ذلك لعباده المؤمنين وطيّبه لهم، وإنّما حرم ربيّ القبائح من الأشياء، وهي الفواحش، ما ظهر منها فكان علانية، وما بطن منها فكان سرًّا في خفاء.
ثم فسرّ - قوله تعالى - في آخر الآية: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: من الآية33) فقال: يقول وأن تقولوا: إن الله أمركم بالتعري والتجرد للطواف بالبيت، وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيبتموها، وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرمه، أو أمر به أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به.
فإن ذلك - أي هذا القول - هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلاً منكم بحقيقة ما تقولون، وتضيفونه إلى الله( ).
وقال رشيد رضا مفسراً قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32).
حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبداً وقربة، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك، وحرّموا من الحرث والأنعام ما بيّنه - تعالى - في سورة الأنعام، وحرّم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرًا من الطيبات والزينة كذلك، فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم، المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم، ينكر هذا التحكم والظلم للنفس، فالاستفهام في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) (الأعراف: من الآية32) إنكاري، يدل على أن هذا التحريم من وساوس الشيطان، لا مما أوحاه - تعالى - إلى من سبق من المرسلين( ).
وبهذا يتّضح انحراف هذا المنهج وبعده عن الصّراط المستقيم.
ومثلما جاءت الآيات مبينة حكم الله في هذا الطرف، جاءت كذلك تبين انحراف الطرف المقابل وميله عن الحق، وهم الذين تركوا العنان لأنفسهم تعبث كيفما تشاء، وترتع كالأنعام فيما اشتهت وهوت، دون حسيب أو رقيب أو ضابط.
قال - سبحانه وتعالى -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
وقال - جلّ وعلا -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء:27).
وقال عزّ ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد: من الآية12).
وقال: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3).
وقال: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف:20).
وقال - سبحانه -: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية200).
فهذه الآيات وأمثالها تدّل على ضلال هؤلاء وانحرافهم، حيث فرّطوا بركونهم إلى الحياة الدنيا وشهواتها، وتفصيلا لهذا الانحراف أذكر بعض أقوال المفسرين حول معنى هذه الآيات.
قال الطبري في قوله - تعالى -: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء: من الآية27) يقول: يريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، أن تميلوا عن أمر الله - تبارك وتعالى - فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم، وركوبكم معاصيه ميلا عظيمًا، جورًا وعدولا عنه شديدًا.
ثم قال بعد أن ذكر أقوال العلماء في المراد بالذين يتبعون الشهوات: فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذين لا شاهد عليه من أصل أو قياس.
وإذا كان ذلك كذلك كان داخلا في الذين يتّبعون الشهوات: اليهود والنصارى والزّناة، وكل متبع باطلا، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه( ).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) (محمد: من الآية12). قال: أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضمًا وقضمًا، وليس لهم همة إلا ذلك، ولذلك ثبت في الصحيح:  المؤمن يأكل في معي واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء  ( ).
وقال القرطبي في قوله - تعالى -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: من الآية20). أي: تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي.
وقيل: أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي.
قال ابن بحر: الطيبات: الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي: شبابه وقوّته.
قال القرطبي: قلت: القول الأول أظهر، ثم ساق الأدلة على صحة هذا القول، وذلك بتفسير عمر  للآية وغيره من السلف ( ).
وقال القرطبي - أيضًا - في قوله - تعالى -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (مريم: من الآية59) عن علي،  هو من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور.
قلت - أي القرطبي -: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان، يشتهيه ويلائمه ولا يتقيه، وفي الصحيح:  حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات ( ).
وما ذكر عن علي  جزء من هذا( ).
وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد في تفسير قوله - تعالى -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: من الآية20) قد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفذوها في الحياة الدنيا، فلم يدّخروا للآخرة منها شيئًا، واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابًا.
استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين فيها للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام، ومن ثمّ كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة ( ).
وهذه الآيات وكلام المفسرين حولها بيّنت أنّ التفريط مذموم، وعاقبته وخيمة، وأنّه مجافاة للطريق السوي، والصراط المستقيم.
وننتهي بعد ذلك إلى نتيجة محدّدة لا لبس فيها ولا غموض، وهي أن تحريم الطيبات وما أحلّ الله لعباده غلو وإفراط، ومثل ذلك - في الذّم - اتباع الشهوات وعدم منع النفس مما تشتهي حلالا كان أو حرامًا، فهذا تفريط. والطريق العدل والمنهج الوسط ما بين ذلك، وهو ما تحدّده وتُبيّنه الآيات التالية:
قال - تعالى -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31). فهذه من أوضح الآيات دلالة على المراد، حيث حددت معالم هذا المنهج، فلباس الزينة مشروع، ومثل ذلك الأكل والشرب مما أباح الله، ولو كان فيه زيادة على الحاجة والضرورة، ولكن المنهي عنه أن يكون هناك إسراف وتبذير، سواء كان الإسراف في النوع أو الكم أو العادة.

وما أجمل ما قاله القرطبي في هذا الباب، حيث قال: والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا، ولا يتكلّف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي،  يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنًا، ومعيشة النبي،  معلومة، وطريقة الصحابة منقولة( ).
وقال الطبري في هذه الآية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) (الأعراف: من الآية31) من الكساء واللباس، (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا) (الأعراف: من الآية31) من طيبات ما رزقتكم وحللته لكم، (وَاشْرَبُوا) (الأعراف: من الآية31) من حلال الأشربة، ولا تُحرّموا إلا ما حرّمت عليكم في كتابي، أو على لسان رسولي محمد، .
ثم قال: عن ابن عباس قال: أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة.
وروي عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: من الآية31).
قال: في الطعام والشراب.
وقال السدي: لا تسرفوا في التحريم.
وقال ابن زيد: لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
وقوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: من الآية31) يقول: إن الله لا يحب المتعدين حدّه، في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرّم بإحلال الحرام، وبتحريم الحلال، ولكنه يجب أن يُحلّل ما أحلّ ويحرّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به( ).
وقال ابن كثير: قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31) وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة( ).
ومن الأدلة على الوسطية والاعتدال في مطالب النفس قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168). فقوله: (كُلُوا) (البقرة: من الآية168) إباحة لما قد يتوهّم من التحريم جهلا أو غلوًّا. وقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة: من الآية168) نهى عن الحرام، والإسراف حرام، فهو منهي عنه.
قال الطبري في الآية: يا أيها الناس كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد،  فطيبته لكم، مما تحرمونه على أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل، وما أشبه ذلك، مما لم أحرّمه عليكم، دون ما حرّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجسته؛ من ميتة ودم ولحم خنـزير، وما أُهل به لغيري. ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فيهلككم ويوردكم موارد العطب.
ثم قال بعد أن بيّن أقوال العلماء في المراد بخطوات الشيطان: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض، غير أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بيّنت من أنها بُعد ما بين قدميه، ثم تستعمل في جميع آثاره وطرقه على ما قد بيّنت( ).
ومن الأدلة قوله - تعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة:201، 202).
قال ابن كثير في هذه الآية:
جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شرّ، فإن كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هيّن، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأمّا الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة( ) وتوابعه، من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمّا النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام( ).
ومن الأدلة التي تصلح في هذا المقام قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون:5-7).
قال ابن كثير في تفسيره للآية: أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنهم من زنا ولواط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحلّه الله فلا لوم عليه ولا حـرج، ولهـذا قال: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون: من الآية6)( ).
ووجه الاستدلال من هذه الآية على منهج الوسطيَّة أنه أباح لهم بعض مطالب أنفسهم كالزواج والتسري، وهذا هو الطريق المشروع لإشباع هذه الغريزة، ولكنه - أيضًا - حرّم التعدي والإسراف والإفراط والتفريط، وذلك بإتيان ما حرم الله من الزنا واللواط، بل والاستمناء على القول الراجح من أقوال العلماء( ).
وأختم الكلام في هذا المبحث بما قاله سيد قطب أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14) حيث قال:
في الآية واحدة يجمع السياق القرآني أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام، وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) (آل عمران: من الآية14) فهي شهوات مستحبة مستلذة، وليست مستقذرة ولا كريهة، والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها، إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى.
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشريّة، وقبوله بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها، إننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال( ).
هذه هي الوسطية التي رسمها القرآن الكريم فيما يتعلق بمطالب النفس وشهواتها.
وهو بهذا يمثل الواقعية والحكمة، ويوازن بين نوازع النفس البشرية وحقائق العبودية وتكاليفها.
عاشرًا: شواهد أخرى
وبعد أن ذكرت الآيات التي جاءت تقرّر منهج الوسطيَّة في إطار الأبواب الماضية، فإن هناك آيات أخرى ليست داخلة في أي باب من الأبواب السابقة دخولا مباشرًا. وهي تدلّ دلالة واضحة على هذا المنهج وتؤكده ( ).
ولذلك سأذكر بعض هذه الآيات دون استطراد في التفسير أو التعليق، وإنما سأكتفي بذكر الآية مع الإشارة إلى وجه الدلالة، وذكر قول لأحد المفسرين أو قولين، بما يؤدي الغرض ويحققه.
1- قال الله - تعالى -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9).
قال ابن كثير: يمدح الله - تعالى - كتابه العزيز الذي أنـزله على رسوله محمد،  وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل( ).
وقال القرطبي: ومعنى (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9) أي الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب( ).
وبهذا التفسير فإن الوسطيَّة داخلة في هذه الهداية من باب أولى، لأنها متضمنّة للعدل والاستقامة.
2- قال - تعالى -: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (المعارج:19- 22).
قال القرطبي: الهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه.
والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شرّ حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
والمنوع: هو الذي أصاب المال منع منه حق الله - تعالى -.
وقال أبو عبيدة: الهلوع: هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضرّ لم يصبر( ).
3- قال - تعالى -: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:5-10).
قال ابن كثير مبينًا دلالتها على الوسطية:
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (عبس:5،6) أي: أمّا الغني فأنت تعرض له لعله يهتدي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (عبس:7) أي: بمطالب منه إذا لم يحصل له زكاة - وهي الهداية -.
(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى) (عبس:8، 9) أي: يقصدك ويؤمك، ليهتدي بما تقول له، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:10) أي: تتشاغل.
ومن هنا أمر الله تعالى رسوله،  ألا يخصّ بالإنذار أحدًا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة( ).
4- قال - تعالى -: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر:15،16).
وهذا الأمر فيه إفراط وتفريط، قال ابن كثير مبينًا ذلك، وموضحًا طريق الاستقامة في ذلك.
يقول - تعالى - منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال -تعالى-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون:55، 56).
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له.
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم، لا في هذا، ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ويضيق على من يحب ومن لا يحبّ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر( ).
5- قال - تعالى – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: من الآية6).
والموقف من الخبر إذا جاء من الفاسق إمّا قبوله مطلقًا، وهذا إفراط، أو ردّه مطلقًا، وهذا تفريط، فقد يصدق خبره، وإما التثبت والتبين، وهذا هو الوسط وهو المشروع.
قال القرطبي: في الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبيت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، وقد استثنى الإجماع من ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير ( ).
وقال ابن كثير: يأمر - تعالى - بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذبًا أو مخطئًا ( ).
6- قال - تعالى -: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (لقمان: 14، 15) والأمر يدورعلى ثلاثة أوجه:
إما الطاعة وحسن الصحبة والإحسان، وإما البراء منهما مطلقًا فلا طاعة ولا صحبة ولا إحسان، وإما التوسط، وهو عدم الطاعة في معصية الله، مع الإحسان إليهما، وحسن الصحبة، وهذا هو الوسط وهو المشروع.
وقريب من هذا المعنى ما جاء في سورة الممتحنة، قال - سبحانه -: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
والدلالة في الآية واضحة جلية.
7- ومشاقة الله ورسوله خروج عن منهج الوسطيَّة، ولذلك جاء ذمها في القرآن في أكثر من موضع، قال - سبحانه -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:13). وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:4).
قال سيد قطب في تفسيره للآية الثانية: والمشاقة أن يأخذوا لهم شقًّا غير شق الله، وجانبًا غير جانبه، وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله،  حين وصف علّة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية، فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده، فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها.
ثم ليقف المشاقّون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجّح قبيح، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يُشاقّونه ( ).
8- قال - تعالى -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى:27).
قال الطبري: ولو بسط الله الرزق لعباده، فوسّعه وكثّره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير ذلك الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينـزّل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه( ).
وقال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان، من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا.
وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك ( ).
ودلالة هذه الآية: أن وسطيَّة الرزق تؤدي إلى وسطية العمل والعبادة، والإفراط يؤدي إلى الإفراط والتفريط، فأصبحت وسطيَّة الرزق مانعة من الطغيان والبغي.
9- ومما يُدلّ على ذمّ الإِفراط والتفريط قوله - تعالى -: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم:36). ومثل هذا المعنى قوله - تعالى - عن المنافقين.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58) ثم يبين لهم المنهج الحق الذي يجب أن يسلكوه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة:59).
قال القاسمي في الآية الأولى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) (الروم: من الآية36) أي: نعمة من صحة وسعة (فَرِحُوا بِهَا) (الروم: من الآية36) أي: بطرًا وفخرًا، لا حمدًا وشكرًا.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) (الروم: من الآية36) أي: شدّة (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (الروم: من الآية36) أي: من المعاصي والآثام: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم: من الآية36) أي: ييأسون من روح الله.
قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفقّه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال: (ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود: من الآية10) أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره.
وإذا أصابته شدّة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية، ثم بين المنهج الوسط.
قال الله - تعالى -: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (هود: من الآية11) أي: صبروا في الضراء، وعملوا الصالحات في الرّخاء، كما ثبت في الصحيح: عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له( ).
وأشير إلى الآية التي وردت قبل هذه الآية، وهي تدل على فساد مسلك من خرج عن منهج الاستقامة، وانحراف يُمنة ويُسرة، قال - سبحانه -: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم:33).
10- وانظر نتيجة الخروج عن منهج الوسطية والاعتدال وشكر النعمة فيما قصه الله علينا في هذه الآيات: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سـبأ:18، 19).
قال ابن كثير: وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وأحبّوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تُنبت الأرض، من بقلها وقثّائها وفُومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد، في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب، وملابس مرتفعة، ولهذا قال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: من الآية61).
وقال  (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) (القصص: من الآية58).
وانظر ماذا كانت النتيجة: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (سـبأ: من الآية19) قال ابن كثير: أي جعلناهم حديثًا للناس. وسمرًا يتحدثون به من خيرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر( ).
أمّا بنو إسرائيل فكان أمرهم كما أخبر الله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (البقرة: من الآية61).
11- الطغيان خروج عن الاستقامة، بل هو مضاد لها ومباين، ولذلك جاءت الآيات تذمّ الطغاة وتنهى عن الطغيان، وتأمر بالاستقامة:
قال - تعالى – (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).
وقال عن فرعون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طـه:43). وقال: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات:37-39).
وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (الشورى: من الآية15).
وقال: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16).
ومن ترك الطغيان واستقام فقد التزم منهج الوسط والاعتدال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )(البقرة: من الآية143).
وإلى هنا نصل إلى نهاية بيان القرآن لمنهج الوسطيَّة، وتقريره لذلك والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأشكره شكرًا عظيمًا على ما أولاه من فضل وعون وتوفيق، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد ذكرت في مقدمة هذه الرسالة أن البحث جاء يُعالج قضية الوسطية من حيث جهل كثير من الناس بها، وما ترتّب على ذلك من إفراط وتفريط.
ولذا فإنّي أجد من المناسب أن ألخص ما توصلت إليه في هذه الرسالة فيما يلي:
1- ذكرت تعريفات العلماء لكلمة (وسط)، وخلاصة ما ذكروا ما عبّر عنه محمد باكريم، حيث قال:
وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا يخرج معناها عن معاني: العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينية والتوسط بين الطرفين.
وذكرت - أيضًا - ما ذكره فريد عبد القادر، حيث قال: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير والعدل والنصفة والجودة والرفعة والمكانة العليّة.
وختمت ما قيل في معنى (الوسط) بما ذكره ابن عاشور وملخّصه:
والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تُحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء مُحيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عُرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة.
فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية. أمّا إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، فذلك مجاز.
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.
2- ذكرت ورود كلمة (وسط) في القرآن الكريم بعدّة تصاريف، حيث وردت خمس مرات، في البقرة بلفظ: "وسطًا" و "الوُسْطى".
وفي المائدة بلفظ: "أوْسَط".
وفي القلم بلفظ: "أوْسَطَهُم".
وفي العاديات بلفظ: "فَوَسَطْن".
وبينت مدلول كل كلمة في ضوء أقوال المفسرين، وكذلك ذكرت مدى دلالة كل لفظة على معنى الوسطية.
3- استشهدت ببعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (وسط).
قد ذكرت (12) حديثًا شرحت فيها معنى كل لفظة، وهل هي من الوسط أو الوسطية؟
4- وفي ختام تعريف الوسطية حررت معناها، وبينت المراد من هذا المصطلح عند إطلاقه، وكان مما قلت:
وقد تأملت ما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطية)، فتوصلت إلى أن هذا المصطلح لا يصح إطلاقه إلا إذا توافر فيه صفتان:
(أ) الخيرية أو ما يدل عليها.
(ب) البينية، سواء كانت حسية أو معنوية. فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطية.
5- هناك أسس لابد منها لفهم الوسطية، وتلك الأسس مطردة مع وصفي الخيرية والبينية، وهي:
(أ) الغلو والإفراط.
(ب) الجفا والتفريط.
(ج) الصراط المستقيم فالصراط المستقيم يمثل الخيرية ويحقق معناها، وهو وسط بين الغلو والجفاء، وهو كذلك وسط بين الإفراط والتفريط.
وقد وقفت مع هذه الأسس الثلاثة مبينًا وشارحًا، ثم توصلت إلى عدة حقائق أهمها:
أن الصراط المستقيم يمثل قمة الوسطية، وذروة سنامها، وأعلى درجاتها.
أنه يجب عند النظر في أي أمر من الأمور لتحديد علاقته بالوسطية، ومدى قربه أو بعده منها دقة النظر والاعتبار في حقيقة الأمر دون الاقتصار على ظاهره فقط، ثم إلى أي هذه الأسس هو أقرب، مراعاة في ذلك عدة أمور أشرت إليها في ذلك المبحث.
فإذا اتضح قربه في حقيقته ومآله إلى الصراط المستقيم فهو داخل في الوسطية، أما إذا كان إلى الإفراط والتفريط أقرب حقيقة ومآلا، فليس من الوسطية في شيء، وإن حسبه الناس كذلك.
6- للوسطية ملامح وسمات تحف بها وتميزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بآحادها.
وقد توصّلت إلى تحديد أهم تلك السمات والملامح باستقراء القرآن الكريم، وما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الباحثين في ضوء الكتاب والسنة.
إن تحديد تلك الملامح مهمة أساسية، حتى لا تكون الوسطية مجالا لأصحاب الأهواء وأرباب الشهوات.
وقد توصلت إلى أن أهم سمات الوسطية ما يلي:
1- الخيرية.
2- الاستقامة.
3- اليسر ورفع الحرج.
4- البينية.
5- العدل والحكمة. وكل سمة من هذه السمات يندرج تحتها بعض آحادها. وأشرت إلى أن هذه الملامح تصلح ضابطًا لتحديد الوسطية ومعرفتها، بما يجيب على السؤال الذي يرد في الأذهان.
أين ضابط الوسطية؟ وكيف نميزها عن غيرها؟
7- نـزل القرآن الكريم هداية للناس ونورًا، يخرج الله به من شاء من الظلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطية عين الهداية وجوهرها، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضة ترسم منهج الوسطية وتدل عليه. والوسطية ليست محصورة في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن واحد من الأركان، وإنما هي منهج شامل متكامل، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كله وسط، وهذه الأمة أمة الوسط. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن حقيقة القرآن وهداياته.
ومن هذا المنطلق بينت - بالتفصيل - تقرير القرآن لمنهج الوسطية في أبواب كثيرة، أجملها فيما يلي:
1- الاعتقاد.
2- التشريع والتكليف.
3- العبادة.
4- الشهادة والحكم.
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
6- الجهاد في سبيل الله.
7- المعاملة والأخلاق.
8- كسب المال وإنفاقه.
9- مطالب النفس وشهواتها.
وختمت هذه الأبواب بباب ضمنته شواهد متفرقة، تدل على منهج الوسطية وتأمر به. هذا بالإضافة إلى ما ذكرته في أول هذا المبحث من دلالة سورة الفاتحة على هذا المنهج في عدة آيات منها.
ومن خلال هذه الأبواب اتضح لنا أن الوسطية منهج حياة وتشريع متكامل، لا يقبل التجزئة والتفريق، وأن أدلة الوسطية ليست هي التي ورد فيها لفظ (الوسط) فقط، بل أعم من ذلك وأشمل، والآيات التي جاءت تدل دلالة صريحة على منهج الوسطية تربو على العشرات، إذ هي في عداد المئات.
8- وبعد بيان موجز للمسائل العلمية التي توصلت إليها في هذا البحث، أذكر أهم النتائج العملية التي نخرج بها من هذه الدراسة العلمية.
(أ) أن أهم أسباب نشوء جماعات الغلو بين المنتسبين إلى الدعوة في هذا العصر هو الجهل بحقيقة الوسطية، بل الجهل بمكانتها في الإسلام.
(ب) وكذلك أجد من الأسباب الرئيسية لقبول ما يطلقه الأعداء على الدعاة الصادقين من ألقاب وأوصاف: كالتطرف والغلو، والتزمت والتشدد، ونحوها، من أبرز أسباب قبولها ورواجها بين الناس لسببين:
1- الجهل بحقيقة الوسطية الشرعية، وتصور أولئك العامة أن الوسطية التي أمر الله بها تعني التساهل والتنازل واتباع شهوات النفس ورغباتها، ولهذا تجدهم يستخدمون هذا الفهم مقياسًا لرمي الدعاة بتلك الأوصاف والألقاب.
2- السبب الثاني وهو أهم من الأول في قوة التأثير: عدم ممارسة الوسطية على وجهها الصحيح من قبل بعض الدعاة والملتزمين، حيث تجد خللا في تطبيقها أتاح للأعداء فرصة اقتناص بعض الأخطاء والهفوات، ومن ثم إقناع كثير من الناس بصحة تلك الدعاوى وتلبيس هذه التهم الباطلة.
(ج) وأخلص إلى حقيقة عملية تكون هي المخرج مما نعانيه تجاه موضوع الوسطية، وتتمثل هذه الحقيقة فيما يلي:
1- بذل الجهود العلمية من قبل العلماء وطلاب العلم في بحث موضوع الوسطية، واستفراغ الوسع في ذلك، حيث أرى أن هناك جوانب مهمة لم تعط حقها من البحث والدراسة.
2- عقد الندوات والمحاضرات لبيان أهمية الموضوع وحقيقته، وأثره الإيجابي في حياة الناس.
3- الممارسة العلمية الواقعية لمنهج الوسطية من قبل العلماء وطلاب العلم والدعاة، مما يتيح للناس أن يروا القدوة الصالحة التي هم في أمس الحاجة إليها.
4- تربية الأمة على هذا المنهج تربية عملية شاملة، مما يقضي على الخلل الموجود في محيط المجتمع المسلم سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.
5- وأخيرًا فإن هناك لبسًا في فهم الوسطية وممارساتها من قبل بعض الجماعات والدعاة، وهذا اللبس أدى إلى أنهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فرأينا التنازل مع الأعداء باسم المصلحة، وضعفًا في حقيقة الولاء والبراء بحجة تأليف القلوب والدعوة إلى الله، ومصانعة لبعض الظالمين بدعوى دفع الشر والفتنة، وهكذا.
ولذلك لا بد من تصفية المنهج مما علق به ليكون وفق الكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك