أوهام المسلمين والعلمانية المغدورة

أوهام المسلمين والعلمانية المغدورة

بقلم: سعيد ناشيد 

راهنّا، نحن المسلمين، طويلاً على انهيار الشيوعية وهي في أوج مجدها، واستنفرنا لذلك المال والرجال، وجعلنا من أنفسنا سدّاً منيعاً يمتدّ من المغرب إلى باكستان، وأخيراً، ولأسباب لا علاقة لنا بها، انهارت الشيوعية، لكنّنا لم نجن لأنفسنا غير مزيد من التدهور والانحدار. ثمّ التمسنا من الحملة العالمية على الأحزاب الاشتراكية وعلى اليسار العالميّ، باباً آخر من أبواب نهضتنا الموعودة ورفعتنا المنشودة، ومرّة أخرى، بدأت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية تتساقط تباعا أمام مهبّ الانتخابات ورياح الثورة الثقافية المحافظة، ولم نحصد لأنفسنا من هذه المراهنة غير مزيد من الانحسار والانكسار. وتوهّمنا طويلاً بأنّ أوّل بلد إسلاميّ سيمتلك القنبلة النووية، سيقلب طاولة موازين القوى لفائدة المسلمين أجمعين، ولمّا فعلتها باكستان، انقلبت عليها الطاولة وأمست بخلاف ذلك داراً للفتن والمحن… ولمّا ساء حالنا وتردّى مآلنا، التمسنا من الحملة العالمية على قيم العلمانية الباب الأخير، نحو استرداد عزّتنا المفقودة، ثمّ ماذا؟ في غفلة من الزمن، سربلنا المقاومة بلباس الدّين، وعقدنا لواءنا على أوّل ركن من أركان الإسلام، نبتغي به تحرير كلّ شبر من أرض فلسطين، وقلنا لن يقطع رأس الاحتلال التوراتيّ غير سيف الجهاد القرآنيّ، وفي الأخير، تدهورت العلمانية داخل معظم المجتمعات المتقدّمة والمتخلّفة على حدّ سواء، داخل كيان الاحتلال وفي صفوف المقاومة، فخاب رجاؤنا وساء وضعنا وانتكست آمالنا، ودخلنا القرن العشرين خاويي الوفاض إلاّ من قضية واحدة؛ أن نحسّن صورتنا.

والآن يحقّ لي أن أقدّم نفسي بشكل جديد:

بصرف النظر عن حكاية "أركان الإسلام الخمسة"، فإنّ التاريخ والحضارة والأنطولوجيا أيضاً، رسموا لي سقف الانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية، ومثل الملايين، أحلم بنهضة ترفع الغمّة عن الأمّة، هذا الانتماء إلى أمّة تستوطن الجغرافيا الأشدّ خطورة في العالم؛ الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز والقرن الإفريقي، فضلاً عن ضواحي المدن الصناعية في الغرب، هذا التموضع اللاّإقليدي في مكان مليء بالمقعرات والمحدّبات، هذا التموقع المنذر باللاّتوقع، لا يخجلني ولا يسعدني أيضاً، لكنه يشعرني بـ"قلق الحضارة" وبـ"قلق التاريخ"، وبقدر يفوق قدرتي على التحمّل، إنّه اختبار قاس لإمكانية الوعي الشقيّ لديّ ولدى أمّة لا تقدر على تحمّل تكلفة صناعة التاريخ.

سأرفع سقف الاعتراف قليلاً، وأقول بأنّي داخل هذه الهويّة الصعبة، أنتمي إلى خيار المقاومة، غير أنّي لا أرى رأياً آخر غير أنّ الانتصار على الاحتلال وعلى الاستيطان التوراتيّ والتغلغل الإنجيليّ داخل المؤسّسات الدّولية والردّ على الهجوم الباباوي غير المحسوب أحياناً، يمرّ عبر شيء واحد؛ ليس مواجهة الحجج الغيبيّة بحجج غيبيّة مضادّة، وإنّما هو الانتصار لقيم العقلانية والعلمانية، سواء داخل الدّول أو في مستوى العلاقات بين الدّول.

سأكون صريحاً بما يمكن:

أن أكون مسلماً اليوم، معناه أن أكون عقلانيّاً وعلمانيّاً هنا والآن، وأن أنفض عنّي غبار الأزمنة الوسطى، وأنتفض في وجه كلّ الشّبكات الدّولية والمحلّية الدّاعمة أو المباركة أو المستغلّة للتطرّف الدّينيّ والتعصّب العرقيّ والطائفيّ، ثمّ أتجاوز أمراض العبد المهزوم وأوهام السيّد المنتشي بكأس النّصر حدّ الثمالة.

سأكون صريحاً بما يكفي:

إنّ من يريد لهذه الأمّة عزّة، ولهذه الحضارة نهضة، عليه أن يدرك بأن لا سبيل إلى ذلك من دون تبنّي قيم العقلانية السياسية ومبادئ فلسفة التنوير، ذلك أنّ تراجع قيم العلمانية في عالم اليوم، بفعل هيمنة الأصوليين الدينيين من سائر الديانات، وجرّاء صعود المُحافظين والمُحافظين الجدد، لم يزد وضع أمتنا إلاّ تدهوراً وحالها تردياً، كما أنّ خصوم حضارتنا، هم في نفس الوقت من أشدّ الناس عداوة لمبادئ الثورة الفرنسية وقيم فلسفة التنوير، إنّهم من يقودون اليوم، الحملة العالمية لفكّ الارتباط بين الغرب وقيم الحداثة والتنوير، بدءاً من اليمين اليهوديّ، مُروراً بالأصوليين البروتستانت، والكثير من المنظّمات شبه السرّية للفاتيكان، ووصولاً إلى من يُصطلح عليهم بالفلاسفة الجدد في فرنسا، وانتهاء بالمُحافظين الجُدد.

علينا أن ندرك، وأن نستدرك بأنّ العقلانية ليست جوهراً ثقافياً أو قوميّاً ثابتاً في بعض الثقافات دون الأخرى، كما أنّها لا تنشأ في الفراغ ومن فراغ، ولا هي تدوم وتستمرّ بسبب عوامل سحريّة ثابتة في الحضارة أو الثقافة، وإنّما تولد العقلانية من رحم العمل السياسيّ والحراك الاستراتيجي الذي قد يُميّز فضاءً محدّداً ضمن مصالح إقليمية واجتماعية محدّدة في الزمان وفي المكان.

إننا لن نتجاوز هذا العطب إلاّ حين نستأنف المشروع الذي أوقفه الغرب في منتصف الطريق، مكتفياً بتوزيع الاعتراف بين الأسياد أنفسهم، على خلاف غاية تاريخ التنوير، بحسب هيجل؛ حيث اعتراف الجميع بالجميع. الاعتراف هذه المرّة انحسر في دائرة السادة المنتصرين، عقب حروب كونية تقاتل فيها السادة إلى أن خرب العمران وخلت الأوطان، وأبقوا على الشعوب المهمّشة في قارعة الطريق، مبعدة ومستبعدة عن كلّ اعتراف بالحقّ في حداثة وعقلانية يحتكرهما المنتصرون، وفي مثل هذا الاحتكار يرتكز السادة على مبرّرين؛ إمّا ما يقوله اليمين الغربيّ الذي يرى أنّ الحداثة امتياز وميزة غربيّان، بمعنى أنّ التّخلف هو قدر الشعوب غير الغربية، أو ما يقوله اليسار الغربيّ الذي يرى أنّ لمجتمعات ما قبل الحداثة الحقّ في الاختلاف في كلّ شيء عن المجتمعات الغربية، بمعنى أنّ التّخلّف حقّ من حقوق الشعوب في تقرير مصيرها.

بين التخلّف كحقّ والتخلّف كقدر، نفس الخطاب، إنّه خطاب المنتصر في جدل العبد والسيّد، والمنتشي بكأس الحداثة المغدورة حدّ الثمالة.

سنحظى بحظنا من الاعتراف بالكرامة المتبادلة كما يجب أن تكون في عالم عادل ومنصف، لكنّ ذلك لن يكون ثمرة أيّ برنامج للتسلّح النّوويّ كما يظنّ البعض، وإنما سيكون لنا ذلك، حين نُقاتل على نفس القيم التي منحت للسّادة سيادتهم، قبل أن يخذلوها ويتنكّروا لها.

سيتمّ الاعتراف بنا في هذا العالم، كأمّة وحضارة وشعوب، حين نناضل من أجل عالم علمانيّ يعترف فيه الجميع بالجميع، بمعزل عن فرضيات الدّين والمعتقد، وسنتمكّن من تحرير الأرض والوعي والحضارة من الاحتلال والاستيطان، ومن تحصين مجتمعاتنا من الطائفية والفتنة، يوم نناضل من أجل الحريات الفردية والكرامة الإنسانية والمساواة بين بني البشر، ونقاوم من أجل قيم التنوير والحداثة والعقلانية والعلمانية، والتي هي غنيمتنا المنسيّة منذ معاركنا الوطنية ضدّ الاستعمار.

الطريق إلى العلمانية لن يكون طريق التبعية للغرب في كلّ تفاصيله، كما يزعم بعض التبسيطيين والاختزاليين، كما أنّ الطريق إلى مقاومة الاحتلال والاستعمار والاستيطان، لن يمرّ عبر رفض العلمانية، كما تزعم المقاومة الإسلامية في فلسطين وجنوب لبنان وغيرهما.

ليس ذلك هو الطريق، طالما أنّ الإتباع يقتل الإبداع، والتبعية هي الطريق المختصر نحو العبودية، أمّا العلمانية فهي طريق الحرية والسيادة، فالعلمانية لا توجد إذن ضمن مطالب السادة للعبيد، طالما أنها تعني الحرية والمساواة والاعتراف المتبادل والمتكافئ.

لم يكن الغرب متهاوناً في تبديد ممكنات العلمانية داخل ديارنا، منذ بداية الحقبة الاستعمارية، لكنّه أمسى يهدّد مستقبل العلمانية داخل حدود مجتمعاته، وذلك منذ بداية المواجهة مع المدّ الشيوعيّ، وحتى مرحلة المواجهة الحالية مع الإرهاب العالميّ. وبالجملة فإنّ تدهور العلمانية في الغرب، هو ثمن انتصار الغرب، وهو النتيجة المنطقية لسوء تدبير هذا الانتصار:

فهو النتيجة الطبيعية لدعم الغرب غير المشروط، لليمين الدينيّ اليهوديّ المذلّل، وهو ثمن دعم الغرب للحركات الدينية، من كافّة الديانات، إبان مرحلة الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعيّ، وهو ثمن دعم الغرب للنزعات الطائفية في الشرق والجنوب ومستعمراته السابقة واللاّحقة، وهو ثمن انهيار دولة الرعاية الاجتماعية وخصخصة القطاعات المتعلقة بالتربية والتعليم والثقافة والتكوين، وهو أخيراً، ثمن هيمنة الفلسفات المحافظة على المناخ الثّقافيّ الغربيّ.

العلمانية في أرضنا، لن تكون ممكنة من دون القدرة على المقاومة، مقاومة التخلّف الذي ترتضيه ظلامية العبيد، ومقاومة التبعية التي تفرضها ظلامية السادة.

وفي المقابل، فإنّ المقاومة في عالمنا العربي والإسلامي، تحتاج إلى العلمانية، لماذا؟

لأنها تسمح للمقاوم بالتفوّق الأخلاقيّ على الأسياد، إذ تحرّره من ألواح الثواب والعقاب ومن وصايا العبيد، ولأنها تسمح له بالتفوّق الأخلاقيّ على الجلاد، إذ تجعله شريكاً في العدالة الأرضية، بمعزل عن غرائز الثأر والانتقام وترانيم جلد الذات وأدعية الشماتة في الغير، ولأنها تسمح له بالانتصار الأخلاقيّ على عنف الطبيعة وشريعة الغاب وظلم التاريخ والجغرافيا.

العلمانية هي مقاومة أساطير النقاء العرقيّ، والانعزال الطائفيّ، والفرقة الناجية، وأحلام شعب الله المختار، وغرور خير أمّة أخرجت للناس، وهي القدرة على مقاومة النزعة الاستعمارية للرّجل الأبيض، هذا المصاب بعقدة الذنب عقب المحرقة وأفران الغاز، وملفّات أخرى.

لن نمتحّ فضيلة التفوّق الأخلاقيّ من معين التراث كما نتخيّل أنّه كان، لن نغتنمها من الغرب كما نتوهّمه الآن، وإنما سنمتلكها حين نوجّه مقاومتنا نحو غاية أخلاقية سامية: وحدة النّوع البشريّ وخلوده، إنها أمّ الغايات الّتي تمثّل منذ الآن، طريق النجاة والخروج من عصر التشاؤم الباعث على العدمية والظلامية.

المصدر: http://www.alawan.org/%D8%A3%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86.html

 

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك