تسامح السّادة وتسامح العبيد
تسامح السّادة وتسامح العبيد
بقلم: علا شيب الدين
"التسامح" كلمة جذّابة وأنيقة، تبهرنا لأننا اعتدنا أن نأخذ من اللغة ظاهرها وشكلها ونتكاسل عن الذهاب بعيداً إلى ما وراء الحرف كوننا لا نجيد الغوص في عالم المعنى الأكثر غنى وثراءً وخصوبة.
إن مفهوم التسامح يحتاج إلى إعمال عقولنا فيه بحيث يتم فهمه بعمق أكثر، ذلك أنه في كثير من الأحيان قد ينطوي على اللاتسامح والخديعة.
لذلك فمن الأهمية بمكان استعراض مفهوم التسامح كحريّة وعبوديّة، كقوّة وضعف، وذلك انسجاماً مع العنوان الذي استلهمتُ روحه من الفيلسوف الألماني"نيتشه"
التسامح بالمعنى الضعيف، المخادع، المضلل (تسامح العبيد)
إننا نحن جماعة البشر تغرينا كثيراً أخلاق الشّهامة والصّفح….ونُعجب كثيراً بالأشخاص المتسامحين الذين يظهرون بمظهر المتواضعين (عمّالين الحسنات)، وبالمقابل نتباهى بأننا متسامحون مع الآخرين المباينين لقناعاتنا وأخلاقنا….إلا أن ذلك يفترض أننا نتسامح مع الآخر على الرّغم من أنه مختلف عنّا، كما يفترض أن الحق هو معنا وإن الآخر على خطأ ومع ذلك نتسامح معه لأننا خيّرون ومعطاؤون ، وهذا يفترض أيضاً أنه يحق لنا وحدنا فقط أن نكون موجودين ومع ذلك نتساهل ونسمح بوجود الآخر المختلف عنّا.
والسؤال هنا: من نحن كي نسمح أولا نسمح بوجود الآخر المختلف عنّا والذي يجب أن يوجد ووجوده طبيعي تماماً شئنا أم أبينا؟!
من جهة أخرى قد نتسامح بقناعاتنا الخاصة من أجل ضرورات حياةٍ مشتركة وعامة، فيكون التسامح هنا مستنداً على أمرنفعي، ذرائعي ، مصلحي، حيث أننا بهذه الحالة نتخلى عن ذواتنا ونتسامح ونتساهل بأفكارنا من أجل مصلحةٍ ما أو مسايرةٍ ما أو مجاملةٍ ما، تجعلنا مقبولين في محيطنا، وكلّ ذلك مساوَمَة على الذات ومصداقيّتها لا أكثر ولا أقل.
وأحياناً نتسامح بما لا نستطيع عمليّاً منْعه أو بما يكلفنا منعه ثمناً باهظاً، فحينما يعجز شخصٌ ما عن أخذ حقه يلجأ إلى التنازل عنه بحجة أنه متسامح وفاضل ونبيل، وهكذا فالمرء قد يتسامح بمخالفة أو بالخروج عن اللياقة أو بالكذب أو بالفساد والرّشوة أو باستبداد السلطة دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية… وبكلمةٍ واحدة يتسامح المرء بهذا المعنى بالتطرّف وبالغلو إفراطاً وتفريطاً.
والإنسان المتسامح بهذا المعنى يمتلك عن نفسه فكرة عظيمة وهو يشعر بكرم الشّهامة والعطاء وأنه يمتلك التفوّق الحقيقي. ونحن نقدّس الأثرياء الذين يتحسّنون بجزء من أموالهم على آخرين فقراء، تقتحم ذاكرتي هنا أغنية لـ"زياد الرّحباني" تقول كلماتها باللهجة اللبنانية (شوهالإيام اللي وصلنالا، قال إنوغني عمْيعطي فقير، كنّوالمَصاري قشطتْ لحالا، عهيْدا نتفي وهيْدا كتير).
كما أن المتسامح بهذا المعنى يشعر بكرم الصّفح، ويعيش على أنه الغفور الرّحيم ويؤمن بأنه على الحق الأفضل، ويتوضّح هذا الكلام مثلا في موقف شخص مسلم حينما يتسامح مع آخر مسيحي أو العكس،(هذا إذا افترضنا افتراضاً أن هناك تسامح، ذلك أننا لا نشهد تسامحاً مزيّفاً ولا صادقاً في الواقع بل صراعاً قد يكون دمويّاً بين الأديان والمذاهب والطوائف والملل)، هذا النوع من التسامح يتضمّن في داخله أن المسلم مقتنع أنه هو الصّح وأن تعاليم دينه هي الأصح، ومع ذلك فهو يتكرّم ويتسامح مع المسيحي، أي أن المسلم في تسامحه المضلل هذا مع المسيحي يريد أن يقول له إنني أستوعبك وأتسامح معك لأنني أكثر منك إيماناً أو أكثر منك خيراً أو لأنني أكثر منك قوة، وكذلك الأمر حينما يحدث العكس أي أن يتسامح المسيحي مع المسلم بهذه الطريقة، إذن هنا يبدو التسامح وكأنه تنازل وليس اعترافاً بحقّ الآخر في الوجود أو بحقّ الآخر في أن يمتلك ما يشاء من الأفكار أو بحق الآخر في أن يؤمن بما يشاء، أو كأنّ التسامح هنا عبارة عن مِنّة (منحة) يهبها الإنسان لإنسان آخر بحيث يصبح وجود الآخر أو عدم وجوده رهناً بذلك التسامح الوهمي.
ومن سمة التسامح بهذا المعنى أن يكون ذا حدود وضبط، وعلى سبيل المثال إن الحاكم أو صاحب السلطة يبدو على أنه لا يعترف بحق ولا بحرية، إنما يمنحها، فهو يهب الحرية ويحدّدها أيضاً ويتنازل بإعطاء حقّ مع إحاطته بنظم وقواعد وأحكام، إنه في سخائه وتسامحه يبذل عطاءً وتسامحاً صادراً عن مشيئته الطوْعيّة أكثر مما يصدر عن مجرّد عدالة وحق وحرية، وهذا ما نعيشه في دولنا العربية مثلاً عندما يُفسح المجال للتعبير عن رأي ما، وخصوصاً حينما تودّ السلطات أن تظهر بحلّةٍ ديمقراطيةٍ مدنيةٍ عصريةٍ تجعلها تبدو أكثر شباباً بعد أن هرمَتْ بما فيه الكفاية، فيكون ذلك وكأنه نوع من التنازل أو مكرُمة من السلطة، ويبدو ذلك للعامّة السذّج كأنه تسامح مفرط ويستحق التقدير والتبجيل، في حين أن الرأي والتعبير عنه هو في الحقيقة حقّ من حقوق الإنسان الطبيعية وليس لأيّ إنسان على وجه الكرة الأرضية الحق في أن يقبل أو يمنع الرّأي والتعبير عنه، ذلك أنه في كليهما أي (القبول والرّفض) مهزلة كبرى، فالقبول بهذا المعنى هو التسامح المضلل، والرّفض هو القمع السلطوي لحقّ طبيعي للإنسان ألا وهو الرأي. إن التسامح على هذا المنوال يشيد نظام اللامساواة، إنه يمنح مواطنيّة محدودة، من الدرجة الثانية أومن الدرجة الجزئية.
أمّا أنْ يدخل مفهوم التسامح في مجال القانون! فهذا يعني تأويل القانون بما يتفق والتسامح وهذا يدلّ على عدم احترام القانون ويدلّ أيضاً على ضعف السلطة والقضاء وتفسّخهما وإذ ذاك يكون التسامح هزيمة السلطة وهزيمة الحق.
التسامح بالمعنى القوي، النّبيل، الصادق (تسامح السّادة)
التسامح بهذا المعنى لا يستند إلى الصّفح ولا إلى الشّهامة ولا إلى الضّعف ولا إلى حساب نفعي ذرائعي، إنه اعترافٌ بتعدد المواقف الفلسفية الإنسانية، اعترافٌ بتنوّع الآراء، اعترافٌ بوجود قناعاتٍ مختلفة، اعترافٌ بأهمية تعدّد الأعمال والعادات الأخلاقية الناجمة عنها وعن ضرورة التوفيق بينها داخل نظام مدني وسياسي وعن جذريّتها وأشكال اختلافها.
فإذا أخذنا عن "هيغل" عبارة (الاعتراف المتبادل) وهذا الاعتراف يستند إلى شرعيّة الفوارق والاختلافات باعتبارها مبدأ وجود الإنسان، في أشكال وجوده اللامحدودة التنوّع التي يستطيع ابتكارها، عندئذٍ لا يبقى التسامح (منحة) توهَب كما يُوهَب عطاءٌ أو امتياز، إنه لا يبقى براعة ولا فنّ التّغاضي ولا أسلوباً من أساليب ستر العجز. إنما سيكون طرازاً إنسانياً صرفاً لصنع التعايش على إرادة فهمٍ متبادلٍ بين الناس مما يشهد على حريتهم باختلافهم.
هكذا يكون التسامح فن العيش المشترك، ولكن على مَبْعدة وإقامة مسافة والتطلع دوماً إلى الحفاظ على الحدّ العادل بين ضرورات الحياة العامة وضرورات الحياة الخاصة.
التسامح بهذا المعنى لا ينفي ضروب التعارض ولا التباين ولا حتى النّضال، ولكنه يعترف بأن تأكيد الذات يمرّ بـ(الاعتراف بالآخر) من حيث تشابهه الأساسي ومغايرته الأساسية على قدر سواء، فالمتسامح الصادق القوي النبيل لا يتسامح ولا يُقدِمُ على عملٍ إنساني راقٍ إلا بقدر ما يجهد لفهم الآخرين فهماً صادقاً من حيث أعمق فوارقهم وأصالاتهم.
تصبح الغاية من التسامح بهذا المعنى هي إدراك كلّ واحدٍ من الخصوم الذين يعترف بعضهم ببعض أنهم شركاء، وهذه الغاية لا تتوخّى الإقناع بقدر ما تتوخّى حمْل الآخرين على فهم المرء والاعتراف به من حيث اختلافه، وإذا عدنا إلى المثال السابق ذكره يصبح موقف المسلم من المسيحي وتسامحه معه موقف اعتراف به وبإيمانه وبحريته في اعتناق أو عدم اعتناق تعاليم دينه والعكس بالعكس بالنسبة إلى موقف المسيحي من المسلم، هكذا تكون إرادة العيش المشترك وبهذا النوع من التسامح سوف يسود الحب والوئام والسلام من خلال قبول الآخر فتتحقق معادلة (أنا + أنت) وبكلينا تكتمل الحياة.
مفهوم التسامح بوجهيه الصادق والمضلل يقودنا هنا للحديث عن الفارق بين الإيديولوجي (سواء أكانت الأيديولوجية دينية أم سياسية أم اجتماعية…) والفيلسوف.
فالإيديولوجي يريد أن يفهمه الآخرون دون أن يسعى هو لفهمهم، إنه يزعم امتلاك الحقيقية وهذه الحقيقة هي عقيدته المقدّسة وكل ما يخالف هذه العقيدة يجب زجْره وفرض هذه الحقيقة عليه. إذن (الإيديولوجية صراع). أما الفيلسوف فهو من يتعايش مع الآخر بصدق، وتكون المنافسة سلميّة بين فلسفات وفلاسفة يختلفون اختلافاً أساسيّاً وجذريّاً، حيث يوجد صداقة مبنية على أساس تقدير الفوارق والاختلافات واحترامها والتضامن الناجم عنها، إذن(الفلسفة فهم).
المصدر: http://www.alawan.org/%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%91%D8%A7%D8%AF%D8%A9.html