ثقافة العنف في المشهد الراهن!!..
ثقافة العنف في المشهد الراهن!!..
بقلم: أكرم البني
ما يثير القلق والخوف على حاضر مجتمعاتنا العربية ومستقبلها، أن تغدو لغة العنف لغة رائجة في حياتنا وأن تزداد أعداد الناس الذين ينساقون إلى حل مشكلاتهم عن طريق القوة والمكاسرة، أو تصفية خلافاتهم السياسية عبر اللجوء إلى العنف ووسائل القمع والقهر.
وبديهي أن العنف لا يقتصر على الاستخدام الفعلي للقوة أو التهديد باستخدامها لتحقيق مآرب سياسية في إطار صراع الأفراد والجماعات المختلفة، فله صور وأشكال أخرى، منها العنف المعنوي، عنف الكلمات والعبارات وما يتقاذفه البعض من أنواع التهم والسباب والتجريح، وكأنك أمام حروب صغيرة في قصف لغوي متبادل، لابد أن تنتهي بانتصار احدهم وهزيمة الآخر. دون اعتبار للأذى التربوي الخطير الذي يلحقه رواج هذه الظاهرة، في تنمية روح التنابذ، وتوسيع الهوة بين الناس وتشجيعهم على التخندق والانعزال، وتهيئة بيئة خصبة لنمو نزعات التعصب والتطرف ضد بعضهم البعض وضد الآخر المختلف عنهم.
فما حقيقة الأسباب التي تقف وراء حضور مناخ نفسي عام من التوتر وضيق الصدر بات يطبع السلوك اليومي ويؤثر في مختلف مناحي الحياة، والأهم ما أسباب شيوع ثقافة العنف في الحقل السياسي حتى صارت اليوم تهدد لحمة مجتمعاتنا وتأكل تدريجياً الأخضر واليابس من قيمنا الايجابية ومن أساليب الحوار والتفاهم والتوافق.
أولاً، لا يمكن تفسير انتشار ثقافة العنف في مجتمعاتنا بمعزل عن المناخ العالمي والإقليمي وبيئته الراهنة التي يحكمها صراع نفوذ حاد، أدواته الحروب وآليات السيطرة بالقوة، ومحاولات لا تنتهي للهيمنة على المنطقة، ويمكن أن نضيف ما يعتمل في النفوس جراء الشعور بشدة الحيف والظلم من سياسات الغرب المستهترة بالحقوق العربية وخاصة تجاه القضية الفلسطينية، وأيضاً تعاظم الإحساس بالقهر بسبب عدم القدرة على تعويض العجز في مقاومة التدخلات الكبيرة لأطراف دولية أو إقليمية في مسارات النزاعات الأهلية في غير بلد عربي، ثم تكرار الصور الدامية والمؤلمة التي تبث يومياً عما يخلفه العنف السياسي والاجتماعي في هذا المكان أو ذاك، لكن ما يزيد الطين بلة حقيقة أن ثقافة العنف ليست بقيمة جديدة في الوعي الجمعي العربي، فقد ساهم في تغلغلها وترسيخها، تاريخنا المشبع بآليات القمع والقهر ضد الشعوب، وبفترة طويلة لم تنقطع خلالها مجتمعاتنا عن الصراعات الدموية والحروب، الحروب العربية الإسرائيلية المتكررة، الحرب العراقية الإيرانية، حربا الخليج الأولى والثانية ناهيكم عما شهدته وتشهده بلدان عربية من حروب أهلية كحرب لبنان ثم الصومال واليمن والسودان والحبل على الجرار!!.
ثانياً، يمكن أن نعزو تقدم الأساليب العنيفة في أحد أسبابه إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها معظم المجتمعات العربية، وأوضح تجلياتها تردي الأوضاع المعيشية، وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفساد والأنشطة الطفيلية، وإذا أضفنا العجز الحكومي عن تقديم حلول لهذه المشكلات، وتنامي شعور الناس بأن فرص الحفاظ على شروط حياتهم ومصالحهم تتراجع، بدليل التدهور المتعاظم لما يسمى الطبقة الوسطى، يمكننا أن نفسر جو التشاؤم واليأس والرفض السائد، خاصة لدى الشباب، الذين يمثلون أكثر من نصف المجتمع، والمعلوم للجميع أن أكثر أعضاء الجماعات السياسية وغير السياسية، التي تعتمد الوسائل العنيفة كأسلوب للتعبير عن نفسها أو ما تعتبره تحصيلاً لحقوقها، تنتمي إلى الفئات الشبابية، من الطلبة أو الفتية العاطلين أو العاملين في مهن هامشية.
إن سوء شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، عامل مهم يمهد الطريق إلى جعل العنف وثقافته الأداة الأوضح للممارسة والسلوك، فالشحنة العدوانية والانفعالات المتوترة هي نتاج لواقع نعيشه وأهم حوافزها ضغط العوز والحاجة، والخوف من المستقبل ولنقل الشعور بفقدان الأمل واللاجدوى، ويعمق هذا الخيار اختلال المعايير المتعلقة بالمكانة الاجتماعية للفرد، حين تنحسر قيم الكفاءة والعلم والإجادة في العمل أمام تقدم قيم الكسب السريع والبذخ والقدرة على الإنفاق الاستهلاكي، وأيضاً الانعكاسات السلبية لاختلال العدالة، إن في الحفاظ على حقوق الناس، أو في توزيع الثروات، ما يؤدي إلى تفاقم الإحساس بالظلم والحرمان وإلى سخط وغضب ضد الواقع القائم والتطلع نحو تبديله، وغالباً ما تصطدم الرغبة في التغيير عند الكثيرين بواقع العجز المزمن عن الفعل والتأثير وانسداد الأفق السياسي، فتنعكس حنقاً وعنفاً في علاقتهم بمحيطهم ومجتمعهم، ليبدو سلوكهم الانفعالي أو العدواني ربما شكلاً من أشكال التعويض النفسي والمعنوي.
ثالثاً، إن تنامي نزعات العنف وثقافته يعود إلى انتشار ظواهر التعصب الفكري، بفعل خصوصية تطور الفكر العربي وتاريخه المفعم بتنافس مرضي على الهويات الإيديولوجية وصور الالتزام الأعمى بها، ومن المنطقي أن يفضي الإحساس بامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من ورائها، إلى رفض قناعات الآخرين وحقائقهم، وتسويغ ممارسة العنف ضد من يرفض هذه الحقيقة وشرعية احتكارها، ويكون رد الفعل المقابل هو المزيد من التعصب لقناعات الذات وأفكارها، فنغدو جميعنا كأننا ندور في حلقة مغلقة من التعصب والعنف والعنف المضاد يصعب كسرها والخروج منها.
والحقيقة، أن الثقافة العربية لا تزال عموماً ثقافة تستند إلى الكليات والإيديولوجيات، والفكر السياسي العربي لا يزال تالياً يشتغل على النصوص لا على الواقع، يعيد اجترار نفس المفاهيم ويحوم على الاختلافات ذاتها، بسبب تمسكه المتزمت بمرجعيته السلفية، ليس فقط السلفية الدينية بل نجدها عند مفكرين يدعون إلى تبني قيم الغرب ومفاهيمه وعند الشيوعيين أو القوميين بتكرار مقولات عتيقة ومحاولة الترويج لنماذج تم تجريبها في بلدان أخرى، وما سبق يساعد على تعميم روح الإلغاء ونكران حقوق الآخر، ويبيح ممارسة العنف ضد الرأي المختلف في محاولة لقمعه وإقصائه من أداء دوره في السياسة وفي الحياة.
وإذا جاء الكثير من المفاهيم والأفكار السائدة في ثقافتنا، استجابة لظروف معينة عشناها ولتحديات وأسئلة عرفناها، إلا أن المشكلة اليوم في تعليبها وتحنيطها ضمن رؤى وتفسيرات يدعي أنصارها أنها تصلح لكل زمان ومكان، لتمنح صفة الثبات والإطلاق وتتحول مع مرور الزمن إلى قيم مقدسة أو شبه مقدسة، غير قابله للنقد أو المراجعة، ويستحق الدفاع عنها ونصرتها عند أصحابها استخدام كل الوسائل بما فيها أعمال العنف والترويع والتخويف، في ظل عطالة كبيرة ولنقل عجز مزمن لدى غالبية القوى السياسية في مراجعة هذه الأفكار المتوارثة، وتجديد مفاهيم ومضامين قابله لمسايرة الحضارة الحديثة والاندماج فيها.
لقد درجت العادة في مجتمعاتنا أن ثمة أطرافا تدعي امتلاك الحقيقة وتنصّب نفسها وصيّة على حياة الناس وخياراتهم وتعتبر أفكارها وسياساتها أو ما تخطه من طرق وأساليب هو الصحيح والصائب ومن يعارضها هو مرفوض ومنبوذ، فتسوغ لنفسها استخدام ما يحلو لها من وسائل قمعية وشتى الأساليب التصفوية لإقصاء الآخر المختلف وتحطيمه، مستندة إلى غياب حد أدنى من العقلانية السياسية والمعرفية، وانتشار ظواهر التزمت والتسطيح والتطرف، وأيضاً شيوع سياسات تعليمية وتربوية تقوم على تغذية الإيمان بالرؤية الواحدة والحقيقة الواحدة التي لا تقبل الشك أو النقد وترفض قبول الرأي الآخر والتنوع والتعددية.
رابعاً وأخيراً، ما يعزز ثقافة العنف تزايد حاجة الأنظمة العربية للأساليب الأمنية الردعية والعنيفة للحفاظ على الوضع القائم طرداً مع تزايد تآكل شرعيتها السياسية بسبب إخفاقها في تنفيذ ما رفعته من شعارات وطنية أو قومية أو في تحقيق أهدافها في التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن تعثرها في مساراتها الاقتصادية وفي إنجاز البرامج التنموية، والأهم عجزها عن استيعاب الطاقات الاجتماعية الجديدة وتفعيلها وخاصة من أوساط الشباب. وبعبارة أخرى فإن أوضح اجتهاد وأكثره صوابية لفهم تنامي ثقافة العنف هو رده إلى طبيعة الأنظمة الحاكمة والمناخ السياسي الذي فرضته، حين غيبت الديمقراطية ومكنت نفسها بأساليب القمع والإرهاب، مبررة ممارساتها وارتكاباتها بحجة الذود عن قضايانا المصيرية، وتستمر اليوم تحت عنوان الحفاظ على الأمن والاستقرار السياسي، في رفض التنوع والتعددية السياسية وتهميش الرأي المختلف.
وإذ نتفق على أهمية الأمن والاستقرار في المجتمع، فهناك استقرار واستقرار، ويقوم الاستقرار الحقيقي على قبول المواطن الطوعي للسلطة ومنحها ثقته جراء كفاءتها في تحقيق مصالحه وجدارتها في صون كرامته وضمان حقوقه وحرياته، في حين يبدو الاستقرار الذي يتحقق نتيجة القمع وإجبار الناس على الاستكانة والخنوع وهو ما عرفناه في الأنظمة الشمولية، استقراراً شكلياً وهشاً أكدت التجارب التاريخية سرعة انهياره عند أول امتحان.
والحق إن سيطرة حكومات عربية قامت على الوصاية والاستئثار واحتكار القوة، وما نجم عنها من تضييق فرص ممارسة النشاط العام، وانحسار دور المؤسسات القادرة على معالجة مشاكل الناس، فضلاً عن ضعف المعارضات السياسية العربية جراء القمع المركز ضدها وعجزها عن فرض نفسها كطرف فاعل ومؤثر، شكلت عوامل متضافرة أفقدت الناس ثقتهم بالعمل السياسي وقادتهم، بصورة فطرية، إلى الإحباط والإحساس باللاجدوى وغالباً إلى إثارة خلافات وصراعات لا طائل منها وإلى التعبير عن رفضهم للحالة الراهنة بأساليب القوة والعنف؟!..
والنتيجة، إن رفض السياسة واستخدام وسائل القهر لضمان السيطرة، يشجع من لا يمتلكها، على التعصب ومعاداة الآخرين، وصولا إلى احتقار السياسة بدوره واستخدام أساليب القوة لنبذ الآخر وإقصاءه، فمقابل انحطاط السياسة وتغييب دورها يحضر السلوك المتخلف والردود المتوترة والمتمردة، ومقابل تضييق هوامش الحريات واحترام التعددية وحقوق الإنسان تنمو ثقافة العنف، وترتفع درجات التوتر الأهلي، وتتشجع العصبيات على التناحر والاقتتال. ما يعني إن المستفيد الوحيد من تنامي ثقافة العنف، هم أعداء الحرية، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، وقوى سياسية أصابها العمى الإيديولوجي وتحبذ القوة وتمجدها، وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة وأن من يخالفها لا يستحق العيش والحياة!.
إن تأمل المشهد العربي الراهن يوصلنا إلى اكتشاف أمراض مستوطنة لا نزال نعاني منها كأفراد وجماعات وأنظمة، تلقي بظلالها على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية، وتشجع على استشراء لغة العنف وشيوع ثقافته، كلغة وحيدة لمواجهة المشكلات التي نمر بها، منذرة مجتمعاتنا العربية بمزيد من التخلف والتفكك والتردي والانحطاط. ومن هنا فثقافة العنف لا تعد فقط انتهاكا صريحا لأبسط المبادئ والقيم الإنسانية التي حددت نمط التعاطي المتكافئ والتعامل الندي في العلاقات بين الناس، وإنما تعتبر أيضاً بتداعياتها الأخلاقية وانعكاساتها المتعددة، أحد الأسباب الرئيسة لفشل مشاريع التنمية الاجتماعية والسياسية، ولقتل الحياة المدنية وعسكرتها وتمزيق أواصر المجتمعات وتبديد طاقاتها وكفاءاتها وتركها لقمة سائغة أمام واقع وحيد، هو واقع العنف والعنف المضاد!!..
أخيراً، إن ما تعيشه مجتمعاتنا اليوم مع تنامي ثقافة العنف هو وضع شاذ وغير مقبول يفترض التعامل معه بجدية ومسؤولية، وبداية نشر ثقافة تقول دون ملل أو تهاون بأن الأعلى والأنبل في دنيانا هو احترام الكائن الإنساني وحقوقه أياً كان رأيه أو انتماؤه أو منبته، وتعتبر التعددية والخلافات في الرأي أمراً مشروعاً وطبيعياً في المجتمع، لا تعالج بالعنف والقمع، بل بالحوار والتوافق واللجوء إلى الآليات الديمقراطية وتحكيم مؤسسات الدولة والرأي العام، وتالياً بالعمل الدوؤب لنصرة قيم فكريه وأخلاقية جديدة، تظهر موقف مبدئي وحاسم ضد أساليب القمع والعنف في إدارة الصراع السياسي وترفض كل محاولات الإقصاء والاستفزاز وإثارة الحقد والبغضاء وأية دعوات للتفرقة والتحشيد المتخلف الطائفي أو المذهبي، أو العمل بالحد الأدنى، وهذا أضعف الإيمان، وفق المثل القائل، إذا لم تستطع منع طيور العنف من التحليق فوق رأسك تستطيع على الأقل منعها من أن تعشش في دماغك!!