الجدل وأخلاق الحوار

الجدل وأخلاق الحوار

مقارنة بين مفهوم المناظرة ومفهوم المحاورة

بقلم: المصطفى مرادا  

ليس التراث الفلسفي تمثالا حجريا جامدا، لكنه حيّ ويتضخّم
 كنهر قويّ يتّسع على قدر ابتعادنا عن مصدره"
هيغل/محاضرات في تاريخ الفلسفة/ ص 21

مقدمة:
تاريخ الفلسفة ليس جمعا للآراء، ولا يقدم لنا فقط المعرفة، وتبيانا بشروط النسق الذي أنتجت فيه، بل إنه بتعبير هيغل "يقدّم لنا مجموعة من النفوس الشريفة التي تغلغلت بفعل شجاعة عقلها في طبيعة الأشياء، وفي طبيعة الإنسان، وفي طبيعة الله، فأقامت لنا الكنز العظيم، كنز المعرفة العقلانية"/ محاضرات في تاريخ الفلسفة/ هيغل/ ص 17، من هنا فإننا عندما نقرأ أو ننصت أو نحاور بتعبير هايدغر، فيسلوفا كأفلاطون، فإننا نسعى إلى أن نجعل منه شيئا يعود إلينا امتلاكه، فهو "ليس تمثالا حجريا جامدا، بل نهر قويّ يتّسع على قدر بعدنا التاريخي عن مصدره" نفس المرجع ص 21، ولا يقف الأمر عندنا ونحن على بعد 24 قرنا على ولادته، بل لقد كان لأفلاطون طوال العصور تأثير هائل على مخيلة البشر، ‬ وسنقف في هذا القول على أحد أهمّ دروسه تلك المتعلقة بدور الجدل في بلوغ الحقيقة، ثم أهمية احترام أخلاق الحوار كما تتجلى في المحاورات، من خلال مدخل هو مقارنة مفهوم "المحاورة" الأفلاطونية ونوع أدبي من الحوار عرفه العالم العربي الإسلامي هو المناظرة، وسنقتصر في المحاورات الأفلاطونية على نموذج محاورة "فيدون"، الشهير بمحاورة "خلود النفس"، للمقارنة بينهما في جزئية هي استعمالهما للجدل وتأثير ذلك على أخلاقيات الحوار، وخاصة سنقف عند بعض الخصائص، التي جعلت من المحاورات فلسفة بالتواطئ، بل وأيضا تراثا أدبيا رائعا. ويجعل من المناظرة تراثا مهما في فنون الانتصار في الحوار وإفحام الخصم!!

1-الجدل طريق الحقيقة في محاورات أفلاطون:
فكما هو معلوم، فقد قيل الكثير عن الجدل الأفلاطوني، إذ هناك من اعتبره البذرة الأولى لما سيعرف فيما بعد بالهيرومونوطيقا، وهناك من استلهمه في إقرار نماذج تعليمية، كما هو الحال بالنسبة للفارابي وابن سينا في العلم الإسلامي، وطوماس الاكويني في العالم الغربي الوسيط، غير أن قيمته الفلسفية تبقى أمرا يسهل تلمسه بصريح النص ومنطوقه، فسقراط الذي يعترف بأنه لا يعرف شيئا، يحاور من هم على قناعة من كونهم يعرفون، ومهمة الجدل هو أن يبين لهم حدود ما يعرفونه، عبر خلق حقيقة ثالثة يتواضع عليها المتحاورون.

 في نهاية الحوار الذي يبدأ بسؤال سقراطي ذكي، يعمل الجدل على اشتقاق الحقيقة من إجابات المحاور، فيتولد لديه الشعور بأن الحقيقة كانت تقيم داخله، ونجح الجدل في إخراجها، فالجدل يطور الأفكار، يخلخل الاعتقادات، والأهم هو أنه يجعل المتحاورين يتعلمان أشياء جديدة، يتشاركان فيه، وفي نفس الوقت لا يفقد فيه كل طرف مكانته الاعتبارية، لما لا وهو يعتبر مشاركا في استنتاج الحقائق، يمكن العودة هنا إلى القراءة العجيبة التي قام بها "الكسندر كوريه" لأفلاطون في كتابه الشيق "مدخل لقراءة أفلاطون"/ ترجمة عبد المجيد أبو النجا/إصدار المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، 2001.
ففي "فيدون"، نجد في بداية المحاورة سقراط يسأل سيمياس سقراط : »كيف إذن يا سقراط هل لديك نية بان تحتفظ لنفسك بهذه الفكرة وتذهب؟ ألن تجعلنا نشترك معك فيها؟

فالحقيقة التي يحملها سقراط قابلة للمشاركة وغير قابلة للاحتكار، وهذه خاصية ملازمة لكل المحاورة بل لأغلب محاورات أفلاطون، باستثناء محاورة "طيماوس"، والتي نجد فيها سقراط هو من ينصت دون تعليق، وهذه الخاصية هي من جنس أخلاق المحاورة بشكل عام، حيث التقاسم والإشراك و السؤال بقصد المعرفة وليس بقصد الإذلال، والأهمّ الإنصات كقيمة مفقودة اليوم.

في محاورة فيدون وبعد أن استقر المقام بأصحابه، وتحدث سقراط باقتضاب عن اللذة التي تعقب ألم القيد، وعن أغراضه من كتابة الشعر، سأل كيبيس سقراط، سؤال البداية بالنسبة لمحاورة فيدون : »ما هو أساس أنه ليس عدلا ولا مسموحا به أن يقضي المرء على نفسه؟ وهذا السؤال أعقبه كيبيس ببرهان في غاية اللطف، ومنه أن من يعتقد بالآلهة، فإنه يعرف أنها ترعاه أكثر مما يفعل هو، وبالتالي، فالإنسان الذي يفر من رعايتهم فاقد لعقله، أما المالك لعقله فيتوق للبقاء دائما بجوارهم، ليستنتج أن الذي يليق بأصحاب العقل هو أن يحزنوا عندما يأتيهم الموت والذي يليق بفاقدي العقل هو أن يفرحوا"، لنلاحظ هنا أن كيبيس يؤمن بحقيقة "أن العقل يعني الاستمرار في التشبث بالحياة أما تمني الموت فهو من فقدان العقل"، فيدون الذي يلعب دور الحاكي يعلق "سقراط كان مستمتعا وهو ينصت إلى برهنة كيبيس"./فضيلة الإنصات والاستماع مرة أخرى.

سقراط بعد هذا، شعر بأنه مضطر إلى تقديم مرافعة أخرى، ليس أمام قضاة أثينا هذه المرة، بل أمام قضاة هم أصدقاؤه المحبّون له، ومنطلقه هو بتعبيره "أريد أن اعرض عليكم التبرير الذي من أجله يبدو لي أنه يحق للرجل الذي قضى حياته حقيقة في الفلسفة أن يكون واثقا وهو على وشك الموت، وأن يكون على أمل أنه سيصيبه الخير العظيم هناك في العالم الآخر"، وهذا هو منطلق المحاورة، لكن ما أريد التركيز عليه في هذا القول، هو تتبع قدر الإمكان خصوصية المحاورة في نموذجها الأفلاطوني، لأقارنها فيما بعد بمحاورة من نوع آخر، تنتمي للعالم العربي الإسلامي، والتي تسمى بالمناظرة وسأركز على تلك التي كانت بين متى بن يونس وأبو سعيد السيرافي.

سقراط يسأل أليس الموت شيء ما؟ وهذا السؤال/المنطلق، والذي ستليه من سقراط أسئلة كثيرة من نفس الجنس، هو سؤال بسيط، يعتمد الاستقراء، لأنه ينطلق من جزئيات معلومة لدى المحاورين، والجواب عنه دوما ما يكون بسيطا، فيبدأ سقراط في بلورة صورة عامة شمولية وساطعة يتفق عليها الجميع، وهو الحقيقة ذاتها، يسأل سقراط مثلا أليس الموت غير انفصال النفس عن الجسد؟ وغيره من الأسئلة، واغلب أجوبة محاوريه، وخاصة كيبيس، تفيد الاتفاق والتأكيد من قبيل "أعتقد هذا، هذا ظاهر، إنه لحقّ كلّ الحقّ ما تقول، نعم تماما، نعم، وكيف لا، هذا مقطوع به، تماما، هذه ضرورة مطلقة بلا شك..»إلى أن يتفق مع حقيقة مناقضة لما كان قد برهن عليه في أول الأمر.

يخاطب سقراط محاوريه بكلمات تفيد احترامه لهم، وهذه نقطة مهمة، لكوننا سنقف عند العكس في مناظرة متى والسيرافي، حيث سيظهر الجدل ليس باعتباره طريقا للحقيقة بل طريقا للغلبة، فنراه ينادي سيمياس بالصاحب، يناديه بسيمياس الموفق، وباسمه الشخصي تارة أخرى، والأمر نفسه مع كيبيس فهو نراه يستأذنهم في إتمام حديثه، ويشفق عليهم من استرساله، كأن يقول "هل تريد أن نتحدث عن تلك الأمور بتفصيل؟ وخلاصته، لتكون قطعية من جانبه، فهو يقول مثلا، في نهاية الجزء الأول من المحاورة "الآن إذا كنت نجحت في أن يكون دفاعي أكثر إقناعا في نظركم مما كان في نظر القضاة الأثينيين، إذن فسيكون هذا عظيما"، وهكذا تستمر المناظرة على إيقاع لا مكان فيه للسخرية من الآخر أو الإزماع في إذلاله، هناك أسئلة إشكالية، وأكد إشكالية، ثم أجوبة مرفقة بالدليل و الحجة، فنجد سقراط يعتمد المنطق و العقل تارة و التاريخ تارة أخرى، ونجده أيضا يعتمد الأسطورة والشعر لتوصيل فكرته.

نجد الخاصية ذاتها في المحاورات الأخرى، والمدهش في محاورة "أقريطون" مثلا والتي دارت حول موضوع احترام القانون، حي سيعرض أقريطون على معلمه سقراط مساعدته على الفرار من السجن، المدهش أن سقراط لم ينطق ولو كلمة واحدة تفيد احتقار القضاة أو العامة الذين أساؤوا فهمه وصوتوا بالأغلبية على قرار إعدامه، فقد دافع عن ضرورة احترام قرارهم لأن فضيلة احترام القانون أهم رذيلة عدم احترامه، فحتى وإن كانت في هذه الأخيرة خلاصه الشخصي، فإن شعور سقراط بالمسؤولية اتجاه مدينته بقيت أهم لديه من حياته، الأمر ذاته في "المحاكمة"، فهو كان واعيا بخطورة التهمة التي ألصقت به، ومع ذلك ظل محاورا كما عهده الناس في كل المحاورات، شريف النفس ملتزما بكل أخلاق الحوار، من فهل نجد الخاصية ذاتها في المناظرة كما عرفها العالم العربي الإسلامي؟

2 -الجدل طريق العناد والمغالبة في المناظرة:
أورد أبو حيان التوحيدي في كتابه الشيق، "الإمتاع و المؤانسة"/الليلة الثامنة، أورد مناظرة مفصلة، جرت بين رجلين يمثلان نسقين فكريين مختلفين، الأول هو متى بن يونس المنطقي، والثاني هو أبو سعيد السيرافي النحوي في حضرة الوزير ابن الفرات.

فإذا ما تم الإقرار بما يتميز به الجدل في المحارات الأفلاطونية، كونه طريقا للحقيقة والمشاركة فيها، بما سبق ذكره، فإننا عندما نقرأ هذه المناظرة نتوصل إلى كون الجدل لا يكون دوما طريقا للحقيقة، بل حلبة صراع تفضي بالضرورة إلى انتصار طرف، وإقرار طرف آخر بهزيمته، وما يدل على هذا الأمر في المناظرة، هو أن السيرافي بادر بسؤال متى عن المنطق، بسؤال ليس إشكالي بل سؤال اختباري يفيد الاختبار و الامتحان، فكان رده على جواب "متى" بان خطأه "قال أخطأت"، دون أن يدعه يقدم براهين على صحة تعريفه للمنطق، كما فعل سقراط مع كيسيس، ويمكننا أن نحصي تعابير جدلية تفيد ليس فقط معنى التخطيء بل ومعنى التحقير وإنزال "متى" منزلة الجاهل والمدعي، فنقرا السيرافي وهو يقول "أنت كما قال الشاعر حفظت شيئا وغابت عنك أشياء"، ويقول له أيضا،" هذا جهل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه لهم"، ويقول أيضا بقصد تجهيله" لم تزري على اللغة العربية مع جهلك بحقيقتها"، وفي مكان آخر يقول للسيرافي "لقد موهت بهذا المثال ولكم عادة بمثل هذا التمويه"،ويصفه بالتعصب واتباع الهوى، فيقول : » أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى"، ويصفه بالجنون وذهاب العقل، فيقول : » وما أظن احد يدفع هذا الحكم ممن يرجع إلى مسكة عقل أو نصيب من إنصاف"، ويصفه بكونه من العوام المتكبرين فيقول :" وهذه رتبة العامة أو رتبة من هم فوق العامة بقدر يسير" بل ويذهب العناد بالسيرافي إلى حد أن يطلب من متى حضور مجلسه العلم للدرس، وهو طلب ينسف الحوار كما نعلم، لأنه ينزل السيرافي فيه نفسه منزلة «الأستاذ» وينزل محاوره "متى"، منزلة التلميذ.

ولأن الجدل وفق معاني المغالبة، لا بد أن يفضي لانتصار طرف على حساب آخر، فإنه لما أيقن السيرافي بعدم قدرة "متى" على الإجابة في المسائل التي جادله فيها، فإنه أراد إظهار انتصاره، بأن قال له "لست نازعا عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق"، بل ويمتد عناد السيرافي ليصل في آخر المناظرة إلى وصف المناطقة كلهم، وخاصة الكندي، والذي ذكره بالاسم، مع أن الرجل غير موجود، في ضرب سافر للفضيلة الأخلاقية بكونه "مريض العقل، فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب"، وحصل ما كان للسيرافي، بأن اعترف له الوزير بن الفرات بانتصاره قائلا له : »عين الله عليك يا شيخ، فقد نديت أكبادا وأقررت عيونا، وبيضت وجوها، وحكت طرازا لا يبليه زمان ولا يتطرق إليه الحدثان".

3-استنتاجات هامة :
نعود ونؤكد أن هناك فرقا بين استعمالات الجدل العلمية واستعمالاته المناظراتية، فاستعماله العلمي أسسه الحكيم أفلاطون في محاوراته، وطبقه في ترتيب الموجودات ترتيبا تصاعديا، أي من الموجودات الأخس إلى الموجودات الأسمى، التي ليست لها طبيعة وليست في طبيعة، واكتمل بنيان الجدل بما هو طريق العلم عند أرسطو، حيث رتبه هو أيضا ضمن الأرغانون على أنه متعلق برتبة ما للبشر، يتمثلون الحقائق ومثالات المبادئ الأولى بالاقتناع، وهذا الأمر انتبه إليه الفلاسفة والمفكرون المسلمون، حتى أن أبا حامد الغزالي، في كتابه "مقاصد الفلاسفة"، والذي يعتبر مقدمة لكتابه الشهير "تهافت الفلاسفة"، تناول "مذهب" الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات والمنطقيات، وهو فعل هذا بقصد عرض مذهبهم لهدمه، لم يستطع أن يخرج عن خيمة منطقيات أرسطو، فهو كان معتقدا، رغم انحيازه الكلامي/كتاب "فضائح الباطنية"، وانغلاقه الفقهي/كتاب "إحياء علوم الدين"، وقناعاته الصوفية المتأخرة/ كتاب "المنقذ من الضلال"، لم يستطع أن ينكر الطابع العلمي للمنطق، وبالتالي احتفاظه بالترتيب الأرسطي للجدل ضمن طرائق العلم.

وهذا أمر فهمه ابن رشد وقدره في الغزالي أيما تقدير، عندما انبرى للرد عليه في "تهافت التهافت"، فهو كما انتبه إلى ذلك الأستاذ الجابري في مقدمته لنسخة الكتاب ذاته الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية سنة 1998، لم يقل "تهافت الغزالي"، بل قال "تهافت التهافت"، وهو يقصد مناظرة الكتاب فيما غلط فيه وشنع فيه على الفلاسفة وخاصة ابن سينا، ولم يقصد مناظرة الرجل في عدته المنطقية والتي لا ينكره إلا جاحد.

إذن كل الفلاسفة المسلمين، وحتى بعض فقهاء اللغة والأصول، كانوا متأثرين بالجدل كما يظهر عند الحكيمين، وخاصة عن أفلاطون، والفقيه الوحيد الذي يمكن القول أنه أسس منهجا علميا "بديلا" للمنهج المنطقي الأرسطي، انطلاقا من منطق المناظرة هو ابن تيمية، وهذا موضوع ستكون له صلة في قول آخر قريبا، أما باقي الفلاسفة كما سبق القول، فقد آمنوا بالطابع العلمي البحت للجدل، ومارسوه في شتى كتبهم، فقد مارسه ابن سينا، وخاصة في رسائله في "أحوال النفس"، وأيضا في كتابه التعليمي "النجاة"، وفي كتابه الضخم "الشفاء"، وذلك لمجادلة أرسطو خاصة في مسالة انتماء مبحث النفس للطبيعيات، والذي يجعلها كمالا منطبعا في الجسد، ومتعلقة بقواه، فقد كان مجادلا وخصما ذا حجة، لكنه احترم دوما مكانة الاعتبار التي تليق بالمعلم الأول.

واستعمله أيضا الفارابي في شتى كتبه، ففي كتابه "السياسة المدنية"، نجده في الفصل 31 و32 و33 يتناول ما أسماه المدن الجاهلة والمدن الباطلة و المدن الضالة، وكان فيها مجادلا شرسا، وكانت الصفة ذاتها حاضرة وهو يتكلم عن السعادة في "تحصيل السعادة" و"فصول منتزعة" و"التنبيه على سبيل السعادة"، فكان فيلسوفا جدليا، آثر أن يجمع بين منهجي الجدل كما هما عند "الحكيمين : أفلاطون الإلهي وأرسطو"، وتتجلى ملامح منهجه الجدلي خاصة في كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين"، حيث جادل وناقش الذين يعتقدون بتضاد مذهبي و فلسفتي الحكيمين، وكم يسهل على القارئ العادي أن يستنتج الأمر في هذا الكتاب، غير أنه ظل ككل الفلاسفة الكبار، محترما لأخلاقيات الحوار.

نعود ونؤكد على الطابع غير العلمي للمناظرة، كما عرفها العالم العربي قديما، إذ أن هدفها استعراضي يروم إفحام الخصم وإذلاله ضدا على أخلاقيات الحوار، كما رأينا سابقا في نموذج مناظرة "متى" و"السيرافي"، وربّ معترض سينكر علينا استدلالنا بمناظرة واحدة لاستنتاج استنتاج كهذا، وسيكون ردنا عليه، بأن نضرب بأيدينا إلى نماذج أخرى، أكثرها حجية كتاب "المناظرات" لشيخ المتكلمين الأشاعرة "فخر الدين الرازي"، وهو من تحقيق الدكتور "عارف تامر"، الصادر عن منشورات "عز الدين للطباعة و النشر"، الصادر سنة 1992، وفيه نجد الرازي المتكلم يجمع فيه ستة عشر مناظرة عقدها في مناسبات عدة مع رجال ينتمون لمذاهب مختلفة، حيث يهزمهم ويذلهم بعبارات تفيد تقزيمهم وإظهارهم للعامة بمظهر الجاهلين والأدعياء.

ففي المناظرة الأولى التي جرت أطوارها في "بخارى"، ناظر الرازي فقيها يدعى "رضى النيسابوري"، والذي يصفه الرازي نفسه بكونه " ثقيل الفهم كليل الخاطر و يحتاج إلى الكلام الكثير لتحصيل الفكر القليل"، ومارس عليه كل فنون الإذلال، والمناظرة الثانية يقول الرازي لمحاوره الصابوني "لما قلت هذا الكلام حكمت عليك أنك لست من زمرة العقلاء فضلا على أن تكون من الفضلاء و العقلاء"، إلى أن يقول "فلما وجهت الكلام إلى هذا الرجل القوي، اضطرب وبقي مبهوتا ولم يجد البتة لدفعه سبيلا"، أي انهزم الصابوني وفاز الرازي، وهكذا في كل المناظرات الواردة في الكتاب، حيث منطق المغالبة ذاته هو المسيطر لا منطق الحوار وتبادل الآراء كما يقتضيه التعريف الأولي لمفهوم الحوار.

ونحن هنا لا نريد أن نثقل على القارئ المحترم في الإتيان بالمزيد من الأدلة على ثبوت ما ذهبنا إليه من وسم مناظرات التراث العربي بمناظرات الانتصار على الخصم وإذلاله و تبيان هزيمته، إذ هناك نماذج كثيرة يمكن للقارئ المتخصص الرجوع إليها، كمناظرة البيروني مع بن سينا وكيف أن البيروني استعمل في رسالته لابن سينا كلاما جارحا، دفعت ابن سينا إلى التنزه عن الرد عليه، بل كلف أحد تلامذته بالرد، وهو أبو سعيد أحمد بن علي المعصومي، وغيرها من المناظرات.

هذا باختصار شديد، صورة الجدل في المناظرة، حيث الغلبة فيها لمنطق إلحاق الهزيمة بالغير، و الجدل كطريق لا يقل قيمة عن طرق الحقيقة التي عرفها تاريخ الفلسفة، كطريق البرهان والقياس، والفرق بين جنسي الجدلين، يظهر في احترام الجدل الفلسفي لأخلاقيات الحوار وعدم احترامها في جدل المناظرة، فمن يفكر في هزم المحاور لا يحترمه، ومن يفكر في تقاسم المعرفة معه يكون ضامنا لاحترام المحاور، بكسر الواو، وهذا هو الفيلسوف بحق وحقيقة".

المصدر: http://www.alawan.org/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%84-%D9%88%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك