اعترافات علماني تائب!
اعترافات علماني تائب!
بقلم: سعيد ناشيد
أيها المتعصبون والمتشددون والمتطرفون، يا أحبائي في الدين والوطن، وفي الله والإنسانية جمعاء (!) بملء إرادتي ودونما إكراه أو تكفير أو إرهاب، أود أن أعترف لكم وأمامكم وبحضوركم، إن كنتم من الحاضرين، بأني بفضلكم صرتُ أمتلك إيمانا قويا ليس مثله مثال، واعتقادا واثقا لا يفسده شك أو سؤال، ويقينا ثابتا لا يهزه سجال ولا يحركه جدال، "كجلمود صخر حطه السيل من عل". كل الامتنان لكم أهل الفضل والفضيلة؛ لأني كنت غافلا فانتبهت، ضالا فاهتديت، جاهلا فتعلمت. جزاكم الله خيرا كثيرا وأجزى لكم أجرا موفورا في الدنيا وفي الآخرة.
أما بعد.
أربعة عشر قرنا من الزمن الهجري مرت وأنا غارق في الجهل والجهالة والإثم والضلالة، لا أفقه شيئاً في ديني ولا أدرك جوهر عقيدتي. فقد كنت، في أعظم أيامي ومعظم آمالي، مشغولا بمسائل الجبر والخوارزميات، وبالطب والنجوم والخيمياء، وبالترجمة والموسيقى والمقامات، وبعلم لا ينفع، وعين لا تدمع، وقلب لا يخشع، بل كنت مشغولا بكل ما يشغل العباد عن إعداد الزاد ليوم المعاد. فما أظلمني، وما أضلني (!) لكنكم اليوم، وفي نهاية التاريخ الهجري، أحققتم الحق وأزهقتم الباطل، وأبلغتم الرسالة بأمانة، ومنكم تعلمت كيف أكون… مسلما.
كنت جاهلا لا أعلم، غافلا لا أفهم؛ طالما ظننتُ أن الإسلام فطري بلا كهنوت، طبيعي بلا طاغوت، سمح بلا جبروت ولا جهلوت (من الجهالة). وكنت أرى الإسلام إشراقة وشوقاً بلا حاجة لأي سلطة أو تسلط، ولا إلى لجان تفتيش أو أجهزة مراقبة أو ترصد عن قرب أو عن بعد. غفرانك ربي فقد كنت من الخاسرين.
في جاهليتي الألفية، والتي استغرقت مني أربعة عشر قرنا منذ فجر الإسلام وإلى غاية "جاهلية القرن العشرين"، لم أكن أومن بإله يغار على شعبه، أو يغضب من أبنائه، أو يحرض بعض أتباعه على بعض أوليائه، أو يسلط بعض حراسه على رقاب الناس أجمعين، أو متعطش للأضاحي البشرية وللدماء؛ فقد كنت أظن بأن الله متعال و"غني عن العالمين".
وبفضلكم أدركت وجود ركن سادس من أركان الإسلام، لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهو الإيمان بوجود مؤامرات شيطانية تهدد الإسلام وتهدف إلى الإساءة للذات الإلهية. ويصبح الأمر كما لو كان عصابا وسواسيا جماعيا، فيبدو الله أحوج ما يكون إلى حماية خاصة، وإلى شرطة دينية، وإلى ضابطة قضائية، وإلى محامين يرافعون عنه في محراب المحاكم، وإلى مقاتلين أشداء يقاتلون بالسيوف والخناجر والعصي والهراوات والتكبير والتهليل، وإلى أحزاب سياسية تهيّج الهائجين أثناء الانتخابات، وإلى نقابات وأنصار ومشجعين ومسيرات تأييد، وإلى حراسة دائمة، مؤدى عنها أو بالمجان. وليس ثمة من عيب في الإصابة بالعصاب، بل كل العيب في من يهزؤون أو يتهكمون.
كنت إخال الإسلام قناعات حرّة، لا تحتاج إلى راتب شهري أو رصيد بنكي، ولا إلى منح خاصة للدراسة أو الدعاية أو التحريض، ولا إلى تعويض على الأتعاب أو تفرغ مهني. كنت جاهلا عندما ظننت أن الشؤون الدينية مجرد تطوع طوعي لوجه الله تعالى.
وبفضلكم انقشعت عورة الحق ورفع عنا الحرج، وبدا الإسلام مجرد توظيف وتجنيد وتجييش وتحريض وتأجير، وأصبح هناك مقابل أتعاب الإمامة والفتوى والدعوة والتبليغ والدعاية والتحريض راتب شهري من الدولة، أو منح من مراكز خاصة، دون احتساب التعويضات على البرامج الإذاعية والإشهار رفقته أو أدناه، فضلا عن الإكراميات السلطانية أو السلفية، وهلم جهلا وكهنوتا.
كنت مخطئا إذ ظننتُ أنّ الإسلام شوق يسكن القلوب الحرة بلا ثرثرة ولا كثرة كلام حول كلام الله، وبأنه إنصات للصمت الذي هو صوت الله قبل أن يحجبه صوت الشيخ المجلجل أو الواعظ المولول. كنت أظن بأن الإصغاء لكلام الله يعني أن نقيم داخل منطقة الشوق إلى المعنى الإلهي والذي لا أحد يطفئه، بمعنى لا أحد يدركه، مصداقا لقوله "ما يعلم تأويله إلا الله".
كنت مخطئا إذ ظننت بأن الإسلام هو أن لا نقدس نصا أو كلاما أو إنسانا أو كاهنا من كان، وأن لا نؤمن بوجود أي نص مقدس؛ طالما أن الله أكبر من كل نص يُقدس.
كنت مخطئا إذ ظننت أن سياسة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، حين تصر على تهديد حرية الناس في القول والإبداع والضمير، فإنها تدمر الشرط الأول والأهم لكل أخلاق، والذي هو الحرية. لماذا؟ بالجواب الإسلامي؛ لأن الحرية شرط من شروط التكليف، بزوالها يرفع كل تكليف، بمعنى تزول المسؤولية الأخلاقية عن الإنسان. وبالجواب العملي؛ لأن السوط يفسد الضمير وينتج عبيداً ومنافقين. لكني كنت مخطئا؛ لأني لم أكن أعلم أن حكم الله لا يقوم سوى على حد السيف، وأن الإسلام لا يحتاج إلى مواطنين أحرار ومسؤولين أمام ضمائرهم، وإنما يحتاج إلى مجرد عبيد يخافون من السوط والرجم والجلد والسب والشتم والقذف، أو أنهم يخافون من نظرات بعضهم البعض، وهذا يكفي.
طيب.
شكرا لكم أيها المتطرفون والمتعصبون والمتشددون. فقد عريتم تخلفنا وكشفتم السوأة التي كنا نخشى أن تنكشف. وأصبح معنى الإسلام أن ندير دبرنا للتاريخ ونتبول في سراويلنا على الحداثة، ثم نعوي في البراري ونملأ الدنيا صياحا: "وا إسلاماه، وا محمداه، وا ويلتاه، وا ويحتاه" ! وهكذا دواليك إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا أو على الإسلام السلام.