الظاهرة السياسية بين الديني والدنيوي

الظاهرة السياسية بين الديني والدنيوي

بقلم: رمضان بن رمضان

منذ فجر الإنسانيّة، لعبت الأسطورة دورا مهمّا في إضفاء الشرعيّة على نظم الحياة الاجتماعيّة فساعدت بالتالي على تثبيت الأشكال القائمة لتوزيع السلطة والملكيّة والامتيازات، ولكن من وجهة نظر علائقيّة ساهمت أيضا في تكريس الخضوع لصالح السلط القائمة، إمّا لحمايتها وإمّا لتبرير الطقوس الضامنة لتعزيزها. لقد استطاعت الانتروبولوجيا السياسية بأسلوب أكثر نقدا أن تكشف منظومات الإيديولوجيات التي بواسطتها تعلّل المجتمعات التقليدية نفسها وتبرّر نظامها الخاص. ففي ثنايا المدلولات السياسية للأسطورة نعثر على عناصر النظريّة السياسية.
 
I- الأسطورة تجذير للفعل السياسي:
 
لقد تصوّر مالينوفسكي(1) الأسطورة على شكل شرعة تنظّم الحياة الاجتماعيّة وتساعد تاليا في الحفاظ على الأشكال القائمة لتوزيع السلطة وتقاسم النفوذ، وحسب هذا التفسير تسهم الأسطورة في الحفاظ على الوضع القائم وإدامته لصالح السلطة القائمة وتلعب الطقوس دور الضامن لها من المخاطر المحدقة أو المحتملة من جهة وتعمل على تعزيزها من جهة أخرى. إنّ الأبحاث الجديدة والأحدث عهدا تؤكد التفسيرات التي ذهبت إلى أنّ للأسطورة دورا في بلورة بذور الظاهرة السياسية وفي احتضان الإرهاصات الأولى للفعل السياسي. فهذه الأبحاث كرّست المدلولات السياسية للأسطورة، كما عملت على إيضاح عناصر النظريّة السياسية التي تتوفر عليها بعض الأساطير(2). 
 
لقد شكّلت الأساطير بمضامينها المختلفة الحارس الأمين لتراث الشعوب والذّاكرة الحافظة لتاريخها في حين لعبت الأديان والمعتقدات دور الضامن لاستقرار المجموعة البشريّة.
يذكر جورج بلاندييه أنّه عثر في رواندا على مثال جذّاب ومغر يتصّل أوّلا بالنظام الذي عليه مؤسسة "الحكم" من ناحية وثانيا بالكيفية التي يتمّ بها حفظ تراث المجموعة وذاكرتها. كان العاهل- الملك عندما كانت رواندا لا تزال نظاما ملكيا- يمتلك حوله مجموعة من الشخصيات الرسمية التي تمثل بشكل من الأشكال حرّاس الذاكرة والدستور. لقد كانت هذه المجموعة تمثّل نوعا من المجلس الدستوري للنظام الملكي وكان هؤلاء الأشخاص يمتلكون معرفة هائلة بالأشياء. وكانوا يمتلكون الوسائل والإمكانيات المادية للتذكّر. في الواقع إن الذاكرات الجماعية موجودة في المناظر الطبيعيّة وفي الأشياء وفي الطقوس. إنّ الذاكرة الجامعيّة هي الحاضنة لتاريخ المجموعة الذي يقال وينقل بواسطة التراثات الشفهيّة ولكنّه يحمل أيضا آليات اشتغال "المؤسسة السياسية" كحفلات التنصيب التي تتخذ هيبة وقدسيّة معيّنة.
 
إنّ الطريقة التي تناولها ج. بيتّي (J.Beattie) والتي طبّقها على حالة قبيلة نيورو (Nyoro) الأوغنديّة وكذلك دراسة بعض التقاليد من قبل ج.فانسينا (J.Vansena) والمتصلة برواندا القديمة، قد كشفا أنّ هناك تلاعبا بتلك التقاليد قد يتمّ في بعض الأحيان في اتجاه معيّن مؤيّد لطائفة مهيمنة دون طائفة أخرى، وأنّ هذا التحريف قد يتضخّم مع الزّمن فينكشف الطابع الايديولوجي لهذا النظام أو ذاك(3).
 
كما قدّم إدموند ليتش (Leach Edmund) تفسيرا عاما للأساطير يسمح بكشف مدلولاتها ووظائفها السياسية من بين المدلولات والوظائف التي تنطوي عليها أو تضطلع بها. فهو يرى أنّ الأساطير تجمع التناقضات التي على الإنسان أن يجابهها وإن وظيفتها هي تأمين الوساطة بين هذه التناقضات بل وجعلها ممكنة الاحتمال. لئن سبق له أن طوّر هذه الطريقة التفسيرية للأساطير عند دراسته النظم الكاشانية، فإنّه لم يتوان في تطبيقها على المسألة التي تثيرها شرعيّة سليمان الحكيم في التراث اليهودي كصاحب سلطة لا يمكن الطعن في مشروعيتها. فرغم أنّ نصّ التوراة تناقضيّ إلاّ أنّه منسّق بحيث يظلّ سليمان دوما هو الوريث الشرعيّ للسلطة بحيث تظلّ السيادة مسوّغة للإبقاء على الوعد الإلهيّ المعطى لبني إسرائيل(5).
 
لقد كان كتاب بيير كلاستر "المجتمع ضدّ الدولة"(6) حين صدوره مثيرا ومستفزّا. كانت آراء صاحبه تذهب في اتجاه تفنيد ما تروّج له الانتروبولوجيا السياسية من تأصيل للظاهرة السياسية في عمق التاريخ الإنساني. لقد سعى هذا المفكّر الفرنسي ومن خلال اشتغاله على قبائل هندية في أمريكا اللاّتينية إلى بناء نظريّة تقوم على فكرة جوهريّة مفادها أنّ للمجتمع قدرة على منع السياسة من تشكيل نفسها كسلطة قويّة، إلاّ أنّ جورج بلاندييه لا يدحض تماما هذه النظريّة، فهو يعتبر أنّها يمكن أن تكون صحيحة في بعض المجتمعات الصغيرة الخاصّة بالقبائل الهندية الأمريكيّة ولكنّها ليست صحيحة بالنسبة إلى معظم المجتمعات البشريّة، لأنّه في الواقع لا يمكن للمجتمع أن يمنع السياسة من تشكيل نفسها كسلطة، ثمّ لأنه بحاجة إليها لكي يسيّر أعماله وينظّم شؤونه، فمن الصعب أن نتخيّل مجتمعا قادرا على إدارة أموره بنفسه وعلى معالجة صراعاته العتيقة دون سلطة تقف على رأسه(7).
 
II- الانتروبولوجيا السياسية: الإنزياح من البنية إلى التاريخ:
لقد ظلّت المعرفة الخاصّة بالشعوب البدائيّة محكومة ولفترة طويلة بآراء وأحكام مسبقة، روّجت لها نزعة عرقيّة مركزية –L’ethnocentrisme-. إنّ مقولة "الشعوب المتوحشّة" الرائجة في أوساط الباحثين الانتولوجيين والانتروبولوجيين من ذوي النزعة العرقية المركزيّة مليئة بالمعاني الهجينة، ومشحونة بالاستعلاء والغطرسة وبعيدة عن البحث العلميّ الجادّ والرّصين والمنفتح. إنّها نتاج المعرفة الوضعيّة التي سادت القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين تقريبا. هذه المعرفة ظلّت تقدّم قراءة أوروبيّة للتاريخ الإنساني مصطبغة بنظرة أحادية الجانب وتفسيرا تطوّريا نابعا من تجربتها الخصوصيّة ومعمّما بشكل اعتباطيّ على بقية أنحاء المعمورة، ومسقطا إسقاطا تعسّفيا على شعوب وثقافات متنوّعة، ذات تاريخ خاص.
 
تعتبر التجربة الغربيّة المثال الذي على بقيّة الشعوب انتهاجه والأنموذج الوحيد المفضي حتما إلى التطوّر وإلى الدخول في التاريخ، تاريخ الحضارة الغربيّة. لقد عملت هذه الحضارة على تدجين المختلف وترويض "المتوحّش" ولم تعدم في سبيل بلوغ أهدافها الوسائل الفعّالة ولا سيما العنيفة منها فلم تتردّد في استعمار شعوب وأوطان مع ما يستتبع ذلك من إبادة وتقبيل وتهجير إضافة إلى تدمير البني التحتية لتلك الشعوب: فتمّ القضاء على ثقافات وطمس الخصوصيات وتشويه للهويّات ومحاولة إلحاقها قسرا بالمركزيّة الأوروبيّة "L’eurocentrisme" باعتبارها التجسيد الفعلي لنهاية التاريخ حيث يعانق التاريخ المثال.
بفعل هذه الرؤية اعتبرت "الشعوب البدائية" ذات بنية ثابتة وخارقة للتاريخ وهي بالتالي عاجزة عن التطوّر بفعل معوّقات داخليّة يصعب على أفراد تلك الشعوب تجاوزها. إنّها مجتمعات منغلقة على نفسها محكومة بتقاليد وأعراف جامدة، ترفض التطوّر. إنّها محصّنة ضدّ فعل التاريخ وتأثيراته وبالتالي فإنّ تغييرها أو محاولة خلخلة الأسس التي إنبنت عليها لا يمكن أن يحصل إلاّ بفعل عوامل خارجيّة. 
 
إزاء هذا الإرث الثقيل من التصوّرات والأحكام والمفاهيم التي نسجتها رؤية محكومة بنزعة مركزيّة أوروبيّة وعرقيّة، تأسست على أعمال ودراسات قام بها عدد من الاتنولوجيين والانتروبولوجيين، وجدت الانتروبولوجيا السياسيّة نفسها وبحكم نوعيّة تخصّصها مرغمة على بناء نسقها المعرفي الخاصّ بها والذي وإن تقاطع مع تلك الأعمال فإنه حاول أن ينأى بنفسه عن تلك الأحكام والأفكار المسبقة إزاء ثقافات وشعوب لم يعترف بها ولا بخصوصياتها لقد كشفت تلك الأفكار والتصوّرات عجز أصحابها عن فهم الآخر وعن تقبلّه والتعامل معه كما هو. 
 
لقد حثّت الانترولوجيا السياسيّة على القيام بأبحاث ميدانيّة عدّة، وحضّت على التأمّل النظري ومن ضمن المسائل التي وضعتها صوب اهتمامها مسألة السلط والاستراتيجيات التي تنطوي عليها فاهتمت بتركيبة النظم السياسيّة وطرائق توزّع السلطة. لقد أدركت الانتروبولوجيا أنّها تعمل على واقع ديناميكيّ أساسا، فلم تهمل الحركيّة الداخليّة للمجتمعات المسماة تقليديّة وهو ما استفادت منه الانتروبولوجيا السياسيّة والتي ولئن كانت هشّة في بدايتها، فإنّه يظلّ لها الفضل في الانحراف عن المركز فعمّمت التأمّل ووسعّته ليشمل جماعات الأقزام والهنود الأمريكيين ذوي السلطة الدنيا وأبطلت مفعول السحر الذي مارسته الدولة زمنا طويلا على منظّري علم السياسة(8).
 
تدريجيا، أضحت قناعة لدى الانتروبولوجيين السياسيين أنّ الدينامية ملازمة للبنية، وأنّها لا تتجلّى فقط بالتغيّر والصيرورة بل في البحث عن توازنات داخل النموذج الذي يتبناه المجتمع، وأصبح هذا التفسير يجد قبولا لدى علماء الانتروبولوجيا السياسية ومؤخرا اقترب منه ماكس غلوكمان إذ لجأ إلى فكرة التوازن المتأرجح لتفسير ديناميكيّة بعض الدول التقليديّة الإفريقيّة ملطّفا بذلك مفهوما ظلّ إلى ذلك الحين سكونيّا جدّا. لقد فرضت طبيعة الموضوع المدروس على الانتروبولوجيا السياسيّة إحياء الجدل القديم الخاصّ بعلاقة المجتمعات القديمة بالتاريخ وذلك لسبب رئيسيّ وهو أن الحقل السياسيّ هو الحقل الذي يطبعه التاريخ بطابعه إذ كانت المجتمعات المسماة مجزّأة موجودة في التاريخ من خلال حركة تكوّنها وانحلالها المتعاقبين ومن خلال تغيّرات مذاهبها الدينيّة وانفتاحها الحرّ أو القسري على عطاءات خارجيّة فإنّ المجتمعات الدولتيّة موجودة أيضا في التاريخ ولكن على نحو مغاير تنشأ الدولة من الحدث وتتبّع سياسة مولّدة للأحداث وتزيد في التفاوتات المولّدة للاختلال والصيرورة. منذ تلك اللحظة يصبح متعذّرا على المسار الانتروبولوجي تجنّب الالتقاء بالتاريخ، ولا يعود بإمكانه التصرّف كما لو كان الزمن التاريخي للمجتمعات التقليديّة قريبا من الصّفر. 
 
يذكر المشرفون على المؤلف الجماعي :"الانتروبولوجيا السياسية" بأنّ "الزمن التاريخي" وليس "الزمن البنيوي" هو أحد الأبعاد المحدّدة للحقل السياسي. ويقترحون بالتالي "طريقة تحليل تعاقبيّة" مرتبطة بتفسير للفعل السياسي على أنّه "تطوّر" أو سلسلة مؤلفة من مراحل متميّزة ففي أواسط الستينات، توصّل جورج بلاندييه، من خلال دراسته للنظم السياسيّة الإفريقيّة إلى خلاصة مفادها أنّ القطاع السياسي هو أحد القطاعات الأكثر اتّساما بسمات التاريخ وأحد القطاعات التي تدرك فيها بصورة أفضل التعارضات والتناقضات والتوترات الملازمة لكلّ مجتمع، وهذا ما سهل على كلّ من علمي الاجتماع والأناسة أن يكونا منفتحين على التاريخ ومحترمين لدينامية البني وميّالين إلى فهم الظاهرات الاجتماعيّة الكليّة(9).
ونعثر عند المشاركين في كتاب "الانتروبولوجيا السياسيّة" موقفا مماثلا لما ذهب إليه بلاندييه. فهم يستندون إلى هيغل والجدلّية وإلى ماركس ونظريّة التناقض والتنافرات وإلى سيمل والصراع الاجتماعي وكثيرا ما يتداول بينهم استعمال مصطلح "الحقل السياسي" بدلا من النظام السياسي ومصطلح السياق بدلا من البنية بغية تكييف تحليلاتهم بصورة أفضل مع نسق الواقع المدروس، كما أنّهم يرفضون التفسير الكسول الذي يحكم على المجتمعات التقليديّة بالتكراريّة وبالإعادة الدّورية للوضع الراهن السّابق، كما يركّزون على دينامية السلطة وعلى وسائل الاختيار والتقرير وعلى رصد الصراعات وطرق حلّها. إنّ علماء الانترويولوجيا السياسية عملوا وبشكل جدّي على الفصل بين النظريّة السياسية التي باستطاعتها استيعاب أشكال متنوّعة للظاهرة السياسية وبين نظريّة الدولة كما عرفتها المجتمعات الغربيّة وهذا مكّنهم من اكتشاف المنعطفات التي تتبعها السياسة في مساراتها المختلفة والتي تبدو في أحيان كبيرة مقنّعة بقناع العلم، لقد رسّخوا قناعتهم بأنّ المجتمعات الإنسانيّة تنتج كلّها سياسة، وهي قابلة كلّها للتأثّر بحركة التاريخ.
 
III- عندما يتقنّع السياسي بالديني:
إنّ دراسة الأنظمة الاجتماعية والثقافية التي تقع خارج دائرة الغرب تكشف لنا أنّ السياسة موجودة على هيئة أشكال غير شكل الدولة، أشكال عشائريّة أو قبليّة. فلا يوجد مجتمع بشري يمكن أن ينجو من العامل السياسي أو يعيش بدونه. هناك دائما وفي كلّ مكان أعضاء محدّدون تكمن مهمّتهم في ممارسة الفعاليّة السياسيّة الخالصة. ولكنّ السؤال الذي يفرض نفسه من أين يستمدّ ممارسو السياسية سلطتهم ومن أين تنبع مشروعيّة ممارستهم لنفوذهم؟
 
في الأنظمة التيوقراطية، ظلّ الوحي يمثّل مصدر المشروعيّة العليا التي يطيعها كلّ الناس. وبما أنّ الملك أو الإمبراطور كانت تخلع عليه مشروعيّة الوحي كان تقديم الطاعة والولاء من قبل الرعيّة عفويّا وفوريّا ولا يخضع لأي جدل أو نقاش، فهو يمثّل خليفة الله في الأرض وله دين الطاعة على "المواطنين". ولكن باسم ماذا؟ وباسم من يقبل إنسان ما أن يقدّم الطاعة لإنسان آخر؟ يجيب مارسيل غوشّيه: إنّ أصل هذه العلاقة، أي علاقة الطاعة هو "مديونيّة المعنى" La dette du sens فما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أنّني أقبل بإطاعة ذلك الشخص الذي يشبع رغبتي في التوصّل إلى معنى مليء وبالتالي فأنا أطيعه طبقا لضرورة داخلية ذاتية وليس لإكراه خارجي وعندئذ تتحوّل السلطة إلى سيادة عليا ومشروعيّة كاملة لا تحتاج إلى اللجوء للقوّة من أجل أن يطيعها الناس(10). هذا المفهوم يحتاج إلى تدقيق، لا سيما حين يتمّ تعميمه على جميع فترات التاريخ التي شهدت أنظمة حكم متعدّدة ومختلفة وهذا ما سنناقشه لاحقا. 
 
إنّ دين الطاعة الذي ساد طوال قرون وقرون قد تكسّر بمجيء الثورة الفرنسيّة، لقد عاشت لأوروبا كلّها على سبيل المثال في ظلّ المشروعيّة الكهنوتيّة القديمة التي ترى في الملك أو الإمبراطور شخصا "إلهيا" وليس بشريا، خصوصا في أعين الجماهير وعامّة الناس وذلك بسبب استناد مشروعيته على الوحي الإلهي. لقد تعرّضت هذه المشروعيّة للتآكل منذ أن شهدت أوروبا حروب الأديان والمذاهب الفظيعة وكذلك حين قامت حركة الإصلاح الديني التي قادها لوثر والتي عملت على تحجيم النفوذ الواسع الذي كان يتمتع به البابا وكبار رجال الدّين الذين وصل الأمر بهم إلى حدّ المتاجرة بالدّين من أجل كسب المال وصكوك الغفران خير دليل على ذلك. فكان المذهب البروتستنتي –وكلمة البروتستانت تعني في اللغات الأوروبيّة الاحتجاج والمعارضة (protester)- صرخة في وجه الانحرافات التي أصابت الكنيسة الكاثوليكيّة والتي تجاوزت الحدود في الفساد الأخلاقي والخروج على الإنجيل ومبادئ الدّين المسيحي(11). ثمّ جاء عصر التنوير، فانتشرت أفكاره كردّ فعل على تلك المجازر وعلى التعصّب الديني الذي ساد أوروبا طوال القرون الوسطى. ولكنّ عصر التنوير ليس مجرّد ردّ فعل، إنّه تأسيس لرؤية جديدة للإنسان وللكون تقطع مع الماضي فكانط عند إجابته على سؤال ما هو عصر التنوير؟ قال: "هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر خارج قيادة الآخرين والإنسان مسؤول عن قصوره لأنّ العلّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير."(12)
 
لكنّ ميشال فوكو وأثناء شرحه لنصّ كانط حول عصر التنوير فصّل القول في النتائج التي يولّدها مفهوم كانط للتنوير واهتمّ أساسا بالجانب السياسي من تلك الاستنتاجات فقرن بين مفهوم عصر التنوير ومفهوم الثورة واعتبر كلا الأمرين متلازمين، بل إنّ الثورة في نظره هي الوليد الشرعي والحتميّ لعصر الأنوار يقول معلّقا على الدستور السياسي الذي اختاره الشعب بمحض إرادته بعد الثورة الفرنسيّة:" إنّ الثورة هي بالفعل وفي الوقت نفسه التتويج والتواصل لعصر التنوير، وفي هذا الإطار يصبح عصر التنوير والثورة من الأحداث التي لا يمكن نسيانها"(13).
 
على إثر الثورة الفرنسيّة عام 1789، تأسست مشروعيّة حديثة وعلمانية قائمة على الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن، فتولّد تبعا لذلك مديونيّة للمعنى متصلة بحقّ التصويت العام Le suffrage universel. فالرئيس المنتخب بهذه الطريقة يفرض طاعته (مديونيّة الطّاعة) حتى على القسم المضاد من المواطنين الذين صوّتوا ضدّه لصالح المرشّح الآخر المهزوم.
 
في الأنظمة السياسية القديمة ينعدم الحديث عن المعنى في بعده السياسي، سواء كان هذا المعنى معارا أو قرضا مؤجل الدّفع. فالحاكم يمارس سلطة مطلقة دون حسيب ولا رقيب ومهما كانت مشروعية السلطة في تلك الأنظمة فما يجمعها هو أنّ الرعيّة لا حقّ لها في اختيار الحاكم وهنا يسقط أحد مكوّنات مفهوم مديونيّة المعنى كما حدّده مارسل غوشيه وهو الإطاعة طبقا لضرورة داخلية ذاتية وليس لإكراه خارجي فأين الذات في كلّ ذلك وأين الضرورة الدّاخلية إذا كان الأمر قائما على الغلبة والقهر وأين هو البحث عن المعنى المليء إذا كان الاختيار مصادرا. ففي ظلّ أنظمة من هذا النوع تصبح مديونيّة المعنى كما جاء بها عصر الأنوار، أمرا غير مفكّر فيه، فالإنسان يخضع لسلطة دون أن يدور بخلده التساؤل عن مشروعيتها. 
 
قد تتعاضد الغلبة والقهر من ناحية والتوظيف السياسي للدّين من جهة أخرى ليشكّلا مشروعيّة السلطة ممّا يمكنّها من الانفراد بالحكم وتعزيز نفوذها والتخلّص من أعدائها ممّن ينازعونها تلك المشروعيّة. فـ"مديونية" الطاعة في المجتمعات القديمة مديونيّة مغتصبة تمّ سلبها من أصحابها دون استشارتهم ويتجلّى ذلك في إكراه الرعيّة على الجباية وتقديم فروض الطاعة والولاء بل أكثر من ذلك فإنّ الرعيّة مدعوّة للدفاع عن تلك الأنظمة وبذل الأرواح في سبيل بقائها واستمرارها.
 
إنّ مفهوم مديونيّة المعنى حديث العهد، فالدّين في معناه السياسي، يمكن استرجاعه عند كلّ استحقاق انتخابي وإعادة تقديمه من جديد لمن يكون أكثر جدارة بالحكم. فمديونية المعنى ومديونيّة الطاعة كلتاهما ملتصقتان بالعمليّة الانتخابية وبالاختيار الحرّ والمباشر لهرم السلطة وللنواب الجديرين بثقة ناخبيهم ضمن لعبة ديمقراطية قائمة على الشفافيّة وعلى احترام إرادة الشعب، إنّها التجسيد الفعلي للاختيار الذاتي والحرّ Le libre arbitre وهي النقيض "للاختيار" المستعبد le serf arbitre الذي يخضع لمعطى خارجي، يفرض فرضا على الإنسان.
 
إنّ القطيعة التي أحدثها عصر التنوير مع القرون الوسطى في مستوى رؤيته للإنسان ولمنزلته في الوجود، ولا سيما استتباعات تلك الرؤية على الحقل السياسي، حيث احتلّ مفهوم المواطنة مكانة مركزّية في صياغة المشروع السياسي الغربي وفي تبلور مفهوم الدولة عندهم. 
 
فعندما تمّ قطع رأس الملك لويس السادس عشر، وضع حدّ في الواقع لسيادة عليا كان يرمز لها تقديس الملك الفرنسي في كاتدرائيّة رانس، فتمّ حينئذ الانتقال من سيادة عليا إلى أخرى ومن نظام في المشروعيّة إلى نظام آخر وأصبحت محاولة العثور على المشروعيّة ملقاة على كاهل الإنسان المقطوع عن التعالي أي عن الوحي(14).
 
نحن إذن إزاء مشروعيّة جديدة للسلطة، تأسّست على أنقاض مشروعيّة قديمة لها علاقة بالقرون الوسطى. ترى هل كانت القطيعة بين المشروعيتين طلاقا بائنا أم ظلّت هناك وشائج خفيّة تربط بين الديني والدنيوي في المجال السياسي ولا سيما في ما يتعلّق بكيفيّة تشكّل السلطة وبطريقة إخراجها للنّاس، بعبارة أخرى هل تخلّصت المشروعيّة الجديدة للسلطة نهائيا من كلّ أثر للمقدّس أمّ أنّها حاولت توظيفه لتضفي على نفسها مسحة من الهيبة والقداسة وإن صاغت كلّ ذلك بلغة معلمنة بغرض التمويه عن منشئها الأصلي؟
 
بفضل توظيف الانتروبولوجيا السياسية لمفهوم المتخيّل L’imaginaire في تشريح الظاهرة السياسية وتحليل العمل السياسي أمكن اكتشاف علائق وثيقة بين عامل التقديس من جهة والعامل السياسي من جهة أخرى. فالمتخيّل يلعب دورا كبيرا في تشغيل آلية السلطة والممثّل السياسي الكبير (البطل القومي، القائد العام، الرئيس الملهم،…) هو ذاك الذي يعرف كيف يقود الواقع بواسطة المخيال. لقد أكّد جورج بلاندييه على أنّ للسلطة علاقة بالمقدّس وبالجانب الديني في كلّ المجتمعات البشريّة بما في ذلك المجتمعات الغربيّة الحديثة يقول:"ينبغي أن تبقي الكنيسة مفصولة عن الدّولة، ولكن سوف يبقى هناك شيء من التقديس في السياسة، هذا شيء محتوم وإلاّ فإنّ السياسة لا تستمرّ ولا تشتغل"(15).
 
إذا كان الغرض من استدعاء المقدّس هو استمرار بقاء السياسة وتواصل اشتغالها، أي تأبيد الفعل السياسي فما هي الوسائل المعتمدة لتحقيق ذلك الغرض؟ لم يجد السياسيون أفضل من المسرح كفنّ قادر على توليد الانطباعات وخلق الآثار في نفسيّة المشاهدين، عبر تقنية الديكور والتمثيل. لقد عمدت السلط منذ فجر التاريخ إلى إنتاج تلك الآثار وترويج الأوهام لإقناع المجتمع بكلّ ولادة جديدة للسلطة وكذلك لترسيخ مشروعيتها وذلك من خلال حفلات التنصيب الكبرى التي كانت تتمّ للملوك وللحكام بمختلف أشكالهم والتي كانت لا تخلو من مسرحة إنّه حكم ممسرح Une théatrocratie لتوليد الهيبة والانطباعات القويّة. 
 
في الواقع إنّ الحاكم لا يمكنه أن يحكم إذا كانت السلطة عارية على حقيقتها، ينبغي أن تكون مقنّعة، أي أن تبدو على غير ما هي عليه وأن توهم بأشياء كثيرة ليست حقيقيّة. فالسلطة في تجلياتها مسرح، انظر لها لحظة استلامها، انظر إلى العاهل أو الملك أو الرئيس وكيف تخلع عليه السيادة من أجل تكريس مشروعيّته في الحكم ومن أجل أن تقدّم له فروض الطّاعة، انظر إلى مظاهر الفخامة والأبّهة التي ترافق كلّ ذلك ثمّ تتبّع الآثار النفسيّة التي تحدثها في نفوس المشاهدين والمواطنين. إنّه حتى مع مجيء الجمهوريّة في فرنسا راح النظام الجمهوري يشهد طقوسا للتقديس. ففي حفلة تنصيب رئيس الجمهوريّة، وحين يشرع الرئيس الجديد في إلقاء خطابه، بعد تسلّمه السلطة من سلفه، تبدأ المدفعيّة في إطلاق قذائفها لإحداث الهيبة ولمواكبة الخطاب الرسميّ التدشيني لرئيس الأمّة ثمّ بعد ذلك يركب سيّارة مكشوفة ويصعد شارع الشانزيليزيه حتّى قوس النصر ثمّ يزور "البانتيون" حيث يقبر عظماء فرنسا وينزل إلى الدّهاليز السّفليّة ويقف خاشعا هناك. كلّ ذلك تنقله شاشة التلفزة لحظة بلحظة أمام أبصار ملايين المتفرّجين.
 
إنّه لا توجد سياسة دون إخراج مسرحيّ(16)، ودون تهويل Une dramatisation ودون طقوس وشعائر وأبّهات تثير الخشية والرهبة. ففي كلّ الأزمنة والأمكنة، تنتهي الأنظمة ولكنّ الحكم الممسرح يبقى لأنّه الآلية المثلى لفرض الهيبة وللمحافظة على السلطة. 
 
 
الهوامش:
(1)- مالينوفسكي بروسلاف انتروبولوجي اتقليزي من أصل بولندي (1884-1942) كان من خلال أعماله يدعو إلى إقامة مطوّلة لدى الشعوب المزمع دراستها، كما يدعو إلى إتقان لغاتها والانتباه لمعيشها اليومي. في أدق تفاصيله وخاصّة فهم المبادلات التي تقع بين قبائلها والاهتمام بصورة خاصة لمؤسسة رئاسة القبيلة وكيفية توزّع العمل وكذلك دور الأساطير والمعتقدات. من أهمّ مؤلفاته: 
La vie sexuelle des sauvages du nord-ouest de la Mélanésie. 
(2)- من الأعمال التي سعت إلى إيضاح الجوانب السياسية في المجتمعات التقليديّة والتي تميزت فيها الأسطورة بحضور قويّ وفعال نذكر: آبتر وفالرز اللذان اهتما بأوغندا، فانسيا لروندا القديمة وبالندييه للكونغو، غلوكمان لممالك نغوني بإفريقيا الجنوبية…
(3)- انظر جورج بلاندييه، آفاق الانتروبولوجيا السياسيّة مجلّة الفكر العربي المعاصر، بيروت العدد 39، ماي- جوان 1986، ص56.
(4)- إدموند ليتش (1910-1989) انتروبولوجي انقليزي، اشتهر بأبحاثه الاتنوغرافية ومساهماته التي نمّت عن شخصية قويّة، اهتم بالانتروبولوجيا الاجتماعية مع مالينونسكي، أقام في إقليم كردستان ثمّ اهتم بالكاشان في برمانيا، اهتم خاصّة بالجانب التاريخي لدى كل أشكال المجتمعات وركزّ بالخصوص على الآليات والتناقضات بين المعايير المثالية وتطبيقاتها الفعلية، من أهمّ مؤلفاته: نقد الانتروبولوجيا (1971)، وحدة الإنسان ومقاربات أخرى(1980).
(5)- E.Leach, the legitimacy of salomon, some structural aspects of old testament history, in arch europ de sociologie, 7,1-1966.
(6)- Clasters (Pierre) : la société contre l’Etat : recherches d’authopologie politique ; ed Minuit, Paris 1974.
(7)- حوار مع جورج بلاندييه، مجلّة الفكر العربي المعاصر، بيروت عدد 41، سبتمبر/أكتوبر 1986، ص24.
(8)- جورج بلاندييه، آفاق الانتروبولوجيا السياسية، مجلّة الفكر العربي المعاصر، بيروت 39 ماي – جوان 1986، ص54/55.
(9)- G.Balandier, réflexions sur le fait politique : le cas des sociétés africaines cahiers international de sociologie, XXXVII, 1964 pp 3-4.
(10)- Voir, Marcel Gauchet, le désenchantement du monde, une histoire politique de la religion, ED C.E.R.E.S, Tunis 1995.
(11)- Voir Stephen F. Brown, protestantism (Facts on file), Hardcover (2007), 128 pages. 
(12)- إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير، مجلّة الكرمل، العدد 13، 1984 ص60.
(13)- ميشال فوكو، كانط والثورة، مجلّة الكرمل، العدد 13، السنة 1984 ص70 ترجمة يوسف الصديق.
(14)- محمد أركون، العلمنة والدّين، دار السّاقي، بيروت ط3-1996، ص63.
(15)- حوار مع جورج بلاندييه: السلطة والحداثة، مجلّة الفكر العربي المعاصر، بيروت عدد 41/ سبتمبر-أكتوبر 1986. ص34(أجرى الحوار وترجمه هاشم صالح).
(16) voir G.Balandier, le pouvoir sur scène, Ed. Balland, 1980 Il dit : « le politique dépend encore davantage de l’art de paraitre, l’événement le met en situation, le cérémonial le ritualise, la commémoration l’entretient par la répétition. » p.151.

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك