العلمانية ليست شراً كلها .. ولكن يمكن التعايش معها

العلمانية ليست شراً كلها .. ولكن يمكن التعايش معها

عندما يطلق مص طلح العلمانية فهو ذو وقع غير محبب لدى نفس كثير من الناس- لاسيما بعض المثقفين الإسلاميين- قبل العوام، والسؤال الذي يطرح نفسه .. هل العلمانية شرٌ كلها .. ؟ أم يمكن التعايش معها والتوافق مع بعض مبادئها ؟...

لقاؤنا مع المفكر الإسلامي الدكتور محمود مسعود أستاذ الفلسفة الإسلامية المساعد بكلية دار العلوم جامعة المنيا حول العلمانية وما يفهم من تاريخها وما نتفق ونختلف معها فيه فإليكم تفاصيل اللقاء ...

 

  • فضيلة الدكتور .. قمتم بإعداد كتاب عن العلمانية، فما القيمة العلمية لهذا الكتاب اليوم وما هي فائدته لجمهور الأمة ومثقفيها ؟
  • بسم الله، والحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسول محمد بن عبد الله، وعلى وآله وصحبه وسلم وبعد، أما موضوع  الكتاب فهو : "العلمانية بين الدين والسياسة" وهو في ثلاث أجزاء، لم يصدر منه حتى الآن في الحقيقة إلا الجزء الأول فقط في طبعة خاصة وسوف يطبع خلال هذا الشهر طبعة عامة وعنوانه: هو "جذور العلمانية في الغرب حتى صدور قانون 1905 "، والغرض من هذا الجزء بالذات هو تقصي جذور العلمانية الغربية لكي نفهمها – نحن كمسلمين - كما ينبغي خاصة عندما نعترض على بعض مقولاتها السياسية أو الحياتية، وحيث إنني قرأت كثيراً مما كتب حول العلمانية باللغة العربية ولم يرضني معظم ما كتب عن العلمانية، حيث وجدت فيه محاولة الاتهام المسبق لها بأنها مطية الإلحاد وأنها تقابل دائما الدين عموماً والإسلام بصفة خاصة، وهذا الطرح له وجهتان: أحدهما تبناها من يفهم الإسلام فهما دقيقاً من علمائنا وشيوخنا لكنه لا يجتهد أو لم يتقص بصبر وجلد فهم العلمانية وأصحاب هذه الوجهة يريحون أنفسهم وكذلك يريحون عامة المسلمين أو هكذا يتصورون، ويجعل أعداءهم متشابهين واضعين إياهم في سلة واحدة ، فليس بعد الكفر ذنب، وهذا الطرح ربما يكون بالفعل مفيد للعامة ولهذا أوافق عليه في مجال الخطابة والطرح العام، أما الوجهة الثانية وهي لمفكرين مسلمين، لكنهم على غير دراية كبرى بمنطلقات وأهداف الإسلام وإن كانوا يحسنون بعض الأحيان فهم العلمانية بتاريخها وأصولها، لكنهم يغيب عنهم مراد الإسلام في كثير من القضايا، خاصة قضية المنطلقات والمرجعية العليا ولذلك فهم يفرقون بين علمانية جزئية يقبلها الإسلام والمسلمون وعلمانية شاملة يرفضها الإسلام لكونها تقابله بعقيدة موازية أو إلحاد مضاد، وكلا الوجهتين من أناس يؤمنون بالإسلام عقيدة وشريعة، هذا بخلاف فهم العلمانيين الغربيين لها الذي يدلس على غيره من الأمم والشعوب لتزيين العلمانية وتصويرها في أبهى الصور فضلاً عن فهم إخوانهم العلمانيين العرب والمسلمين الذين يأخذون فهم الغربيين وما يدَّعونه في الظاهر على أنه صحيح بل عقيدة لا تقبل نقاشا، وهذا أكبر خطأ عند العلمانيين العرب لأنهم لو شكوا في تزييف الغربيين للعلمانية لما أصبحوا علمانيين أبداً.

     

    • فلنبدأ فضيلة الدكتور عن ماهية العلمانية؟

     

    العلمانية بفهم أصحابها لها :هي مشروع فكري نتج بعد عصر النهضة يقدم العلم والعقل ويثق بهما ثقة المعتزلة في تراثنا بالعقل، إلا أن المعتزلة كانوا يرتكزون على الوحي ليربط هذا العقل، أما العقل الغربي بلا رابط على الأقل في الظاهر، مع أنه محكوم بأطر تراثية لا يستطيع منها فكاكا، ويدعي أمام غيره من الأمم الأخرى أنه قد فلت من هذه المرجعيات التراثية وأصبح حراً حرية غير مقيدة، فليست مقيدة بتراث أو دين، وأثبتنا في كتابنا أن هذا غير صحيح، حيث إن العلمانية مرتكزة على المسيحية الغربية ارتكازاً أساسياً، تخلط هذا الدين المسيحي الرهباني مع القانون الثيوقراطي الروماني مع الفلسفة اليونانية في بوتقة واحدة وتقدمهم للناس على أنه فكر جديد يسمى العلمانية الغربية، ثم يدعي أصحابها أنها بلا رابط من تراث أو دين؛ لتظهر العلمانية حيادية وغير مرتبطة بتراث الغرب فيقبلها شعوب العالم .

     

    • ماذا نعرف عنها في العالم الإسلامي ؟

     

    هذا المفهوم الأخير للعلمانية أنها تدعي عدم تقيدها برابط يُعد أكبر خدعة مرت على العقل المسلم في العصر الحديث، ليفهم المسلم أن تلك العلمانية ما هي إلا نتاج العقل الحر، ولما كان كثير من المسلمين ومنهم العبد الفقير يثق في العقل السليم ثقة كبيرة فيمكن أن تقبل معظم أحكام ونتائج تلك العلمانية لكونها تفكيراً حراً وبريئاً، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، فبين العلمانية وبين التفكير الحر جسر من التراث الغربي دين وفلكلور وآداب وفلسفات وعقائد وتشريعات ونظم سياسية واجتماعية ضخمة، فلا يمكن أن نمرر هذا بسهولة لنقبل بالعلمانية لكونها تقبل بمنطلقات العقل ونتائج العلم التجريبي، فنحن لا نختلف مع العلمانية في هذا الجانب الأخير إنما خلافنا معها هو في هذا التل الكبير من تراث الغرب الذي يريد إقحامه في مستقبل العالم والمجتمع الدولي و المجتمع الإسلامي بصفة خاصة على أنه تفكير حر وهو ليس كذلك، لهذا أدرك المسلمون إدراكاً كلياً خطر العلمانية وإن لم يحسنوا فهمها، ولهذا أحيانا يكون فهم العوام رائعا، فبمجرد أن يشعروا ولو بالشبهة أن محارم الله تنتهك يقاومون، وهذا أجود ما عند المسلمين من فكر بسيط  لكنه متين، يحفظون به دينهم من الدخن والدخل . 

     

    • ولماذا أخذت العلمانية ضجيجا عاليا في الفترة الماضية خاصة مع بداية من الثمانينات من القرن الميلادي الماضي بصفة خاصة؟

     

    في الحقيقة أن الاشتراكية الماركسية كانت هي أحد عناصر الهجوم الغربي على العالم الإسلامي فلما انكسرت في نهاية الثمانينات على يد المسلمين الأفغان ثم ما تلاها من انحدار كبير أتى على قواعدها الفكرية والسياسية والثقافية أخذ الغرب يروج لمشروع آخر يحل محل المشروع الاشتراكي، وهذا المشروع هو المشروع الرأسمالي الغربي، وكانت دول هذا المشروع ذات قواعد فكرية راسخة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وهو العلمانية، فأطلت علينا العلمانية من باب الرأسمالية الغربية، وبطبيعة الحال قاومها المسلمون - على بساطة فهمهم لها- مقاومتهم للاشتراكية الماركسية، والعجيب أن كثيراً من قيادات الماركسية تحولوا للعلمانية لكونها فكر وفلسفة الغرب المسيطر أو من يملك المال والسلطان.

    إذن هي كانت مقابل الماركسية التي عانى منها المسلمون في ستينات القرن الميلادي الماضي؟

    نعم في العالم الإسلامي فقط، لأن العلمانية هي أصل المشروعين معا (الاشتراكية والرأسمالية) وهما متحاربان في الغرب لكنهم يُسقيان من معين واحد وهو العلمانية لكونها هي المشروع الفكري، أما الاشتراكية والرأسمالية فهما مشاريع سياسية اقتصادية منبثقة عن المشروع الفكري الكبير وهو العلمانية.

     

    • هل العلمانية دين أم مجرد رؤية فكرية مبنية على الإلحاد ؟

     

    ليست العلمانية ديناً لا في مراحلها الأولى ولا في نهاياتها اليوم، لكنها مشروع حياتي يرتكز على الموروث الثقافي الغربي خاصة الدين المسيحي الروماني ويمتزج بالفكر الفلسفي اليوناني، وليست العلمانية نزعة إلحادية إطلاقاً إلَّا إذا اعتبرنا الرهبانية المسيحية إلحاداً، حيث هي قوام العلمانية الغربية إلى اليوم، لكنها تجعل هذه الرهبانية في قلب الفرد وليست في قلب الجماعة بمعنى حرية التدين الشخصي وليست حرية التدين الجماعي، بمعنى أكثر وضوحاً ودقة فصل العبادات عن العمل العام السياسي والاجتماعي .  

     

    • معنى ذلك أن العلمانية مشروع غربي قائم على الدين الغربي وتاريخه؟

     

    نعم هي كذلك بالفعل، فالعلمانيون الغربيون يحبون تراثهم حباً جماً ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة ،لكنهم أحياناً يتهكمون ببعض المظاهر الدينية فيظن بعض الناس أنهم ضد دينهم وتاريخهم وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق ً، ونضرب لك مثلاً عن ذلك، أليست أمريكا دولة علمانية منذ نشأتها الأولى فهي قد ولدت كأمة قوية بعد عصر النهضة الأوربية ومعظم قادتها الأوائل كانوا أوربيين يحلمون أن تصبح أرض المعاد الجديدة التي بشَّر بها الكتاب المقدس، وأمريكا اليوم هي إحدى أهم ركائز الديانة المسيحية سياسياً واجتماعياً، كذلك فرنسا البلد الذي يتغنى بالعلمانية وشعارها شعاره، ستجد الهيئات المسيحية والكنائس هي الركيزة الفكرية الأساسية ومعها بعض الملحدين في أقسام الفلسفة اليوم وهم لا يمثلون في الفكر الفرنسي شيء بالنسبة لرجال الفكر الديني المسيطرين على الجامعات ومراكز المعرفة هناك، وقد عايشت النموذج الفرنسي خمس سنوات أتنقل بين مراكز الفكر والمعرفة وأسمع للمنتديات والصالونات الأدبية التي لم يخل أبداً من سيطرة الفكر المسيحي المتجزر في العقلية الفرنسية، لكن للحقيقة يجب أن أوضح أن الإعلام يكاد يكون قد فلت خاصة في السنوات العشر الأخيرة من تلك القاعدة حيث تمكن الملحدون من قيادة دفته فلهذا ربما يختلف الأمر في الصورة الإعلامية عنها في الصورة الواقعية للفكر الفرنسي بالذات، وكما أن الإعلام اليوم ممثل لشريحة واحدة مسيطرة بالمال ومؤثرة في العالم العربي هو كذلك في الغرب، فليس الإعلام صورة حقيقية للمجتمع والدليل على ذلك أننا لو رأينا النساء المحجبات في بعض الدول الإسلامية مثل الشارع المصري كم يمثلون نسبة لغير المحجبات ثم نظرنا لنسبة المحجبات في الإعلام المصري لغير المحجبات سنرى الدليل الواضح الذي يدل على أن الإعلام ليس صورة صحيحة للمجتمع، حيث نسبة المحجبات لا تزيد عن 1% في التلفاز الرسمي وغير الرسمي في حين تصل في المجتمع لأكثر من 80% فلذلك لا يغرنا تهكم الإعلام الغربي بالدين فالمجتمع خلاف الإعلام متمسك بعقيدته ودينه.

      

    • فماذا عن كتابكم في هذا الموضوع ؟

     

    كتابنا في الحقيقة كان لإثبات غرض واحد وهو أن العلمانية مشروع غربي نتقاطع معه أحياناً ونتقابل معه أحيانا أخرى، لكن لابدَّ أن نعرف أين نتقاطع وأين نتقارب وأين نختلف ونتعارض حتى نستفيد من العلمانية كمشروع حضاري إنساني دون أن نفرط في ديننا وتاريخنا لصالح دين الغرب وتاريخه، ولهذا اجتهدت خمس سنوات في قراءة المشروع الغربي والتفكير في صياغته لأمتنا وشعبنا، و لن يُرضي كتابنا هذا العلمانيين بحال وربما للأسف لن يرض عنه بعض الإسلاميين ضيقو الأفق، لكن هذا واجب حتمي عليًَ  للأمة التي أنفقت على تعليمي في الغرب سنوات خمس عندما كنت أدرس الدكتوراه في فرنسا، وأكثر من عشرين سنة قبل هذه الرحلة في مدراس وجامعات مصر.  

     

    وفي الختام نشكر باسمكم المفكر الإسلامي الدكتور محمود مسعود أستاذ الفلسفة الإسلامية المساعد بكلية دار العلوم جامعة المنيا حول هذه المحطات التي طوَّف بها معنا حول العلمانية، وحقيقتها ، وكيف نشأت؟ والأمور التي من الممكن الاتفاق معها فيها، والمختلف فيها، ونسأل الله العلي القدير أن يرزقنا الرشد والفهم السديد لديننا وأن يرزقنا العمل لصالحه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .

  • المصدر: http://islam.gov.kw/cms/meet-consult/247/ 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك