التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية و ضرورة واقعية

التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية و ضرورة واقعية

الدكتور عبد الرحمن عطية محمود

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من سنن الله في الكون ، خلقه ثنائيات متكاملة يستقيم بها بناؤها. هذه الثنائيات تتمـثل بـ (الشيء) ، إذا صح التعبير، يقابله (آخر) متفاعل معه بإيجابية تجعل تقابلهما في ما خلقه الله منهما في أحسن تقويم .

ففي بناء المادة ، تتكون الذرة من نواة تحمل شحنة إيجابية (بروتون) هو (الشيء) ، يقابلها في إطارها ، (إلكترون) يحمل شحنة سلبية هو (الآخر) ، ومن هذه الثنائية المتفاعلة في الذرة تتكوّن صور المادة بكل ما تتضمنه من أنواع وتفرعات وطاقات .

وفي بناء الكائن الحي (الإنسان والحيوان) يتم التكوين عبر التلاقح بين البويضة (الشيء) والحيوان المنوي (الآخر) ، ليتم خلق هذا الكائـــن بكــــل مواصفاتــــه وحواسـه و انفعالاته.

ومن خلال هذا الكائن الحي (الإنسان والحيوان) يتم بناء المجتمعات الإنسانية والحيوانية : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم / الأنعام- 38 " .

هذه المجتمعات من الكائنات الحية تتكون أيضا مـن ثنائيات من الذكور والإناث (الشيء والآخر) . لحكمــــة يريدها الله سبحانـــه " وأنه خلق الزوجين ، الذكر والأنثى / النجم -45 ". ومن لقاء الزوجين تتنامى هذه المجتمعات ، بتدبير من الله ، في تنـاسق دقيــــق وثابت ومعجـز ، فلا تطغى فيــه أعــداد أيّ من الطــرفين على أعـداد الآخــر، عبر جميع مراحل الحياة .

الذكر والأنثى في النوع البشري هما نواة المجتمعات الإنسانية التي توزعت إلى شعوب وقبائل متماثلة في الخلق والطباع دون تفضيل أو تفاضــــل اللهــم إلا في التقوى و عمل الخير: " يا أيها الناس ، إنا خلقناكم من ذكـر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائـــل لتعــارفوا . إن أكــرمكم عنــــد الله أتقاكم / الحجرات 14 "

المجتمعات الإنسانية بشعوبها وقبائلها ، وبتماثلها في الخلق والطباع ، تعتري بعضها اختلافات في بعض الملامح الظاهرية بتأثير ظروف خارجة عن طبيعتها الإنسانية كاختلاف ألوانها ولغاتها بتأثير من عوامل البيئة والمناخ أو من العزلة والتباعد ، ومن دون أن يمس ذلك تلك الخصـــائص التي فطرها الله عليها : " ومن آياته خلق السماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم . إن في ذلك لآيات للعالِمين / الروم –22 " . الاختلاف في اللون (اللون ، والألوان الأخرى ) ، والاختلاف في الألسنة ( اللغة واللغات الأخرى ) . هذا الاختلاف يمثل ( الشيء والآخر ). وهو لا يعني - وتحت أي فهم - تفاضلاً أو استعلاء لدى أصحاب أي منهما على الآخرين ، فالناس سواسية ، والمجتمعات سواسية ، والتفاضل لا يكون إلا بعمل الخير.

نخلص من هذا كله إلى أن وجود الآخر في خلق الله يعني دائماً ، وفي الأصل ، تكاملاً و انسجاماً لا اختلافاً واختصاماً . فالتعايش بين البشر ، من خلال هذه المفاهيم الإنسانية و النابعة من حقيقة الأديان ، هو الأصل، وهو يمثل في أحد جوانبه حقيقة مسلماً بها في الواقع ، كما يمثل في الجانب الآخر ضرورة ماسة تتيح للمجتمعات الحياة المطمئنة الآمنة.

ولكننا ، وعلى صعيد الواقـع ، ومن خلال رصد التعامل الإنساني ، نجد لدى الكثيرين ، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأقوام إقصاء هذا الآخر أو إلغاءه.

الغرب ، وعبر تفوقه العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي ملك من أسباب القوة ما جعل كثيراً من دول العالم قاصرة بل عاجزة عن مجاراته . ومن الشعور بالتفوق ، وبسبب من فقدان الضوابط الروحية والإنسانية والأخلاقية لدى بعض قادة هذا الغرب تملكت هؤلاء عقدة الإحساس بالغطرسة ، ومن ثم تولدت عندهم عقدة النظر إلى (الآخرين) بفوقية يتعاملون معهم من خلالها باعتبارهم أشياء قابلة للاستغلال و للتسخير في تحقيق ما يودون من مصالح . ( الآخر ) عندهم هو غير الغربي ؛ الأمر الذي رسخ في أعماقهم مفهوم ( الصراع ) القائم على ( إلغاء الآخر) ، ومن ثم تعميق ما يعاني منه عالم اليوم من ويلات و كــــوارث " إن معاملة الآخر باعتباره (هو) أو ( نكرة) ، هو ما أوجد فكرة الصراع أو الإقصاء أو الإلغاء . ومن علاقة الإنسان بالإنسان أوجد التعامل مع الإنسان باعتباره غريباً أو رقماً أو شيئاً . بل إن هذه الغربة والرقمية والتشيؤ أصبحت و كأنها سمة العصر الذي يكاد ، أو هكذا يراد له ، أن كل ما فيه ومن فيه مجرد رقم أو شيء ."1

الغرب يصطنع دائماً (آخر) يضعه في مواجهته ويحمله وزر أخطائه من جهة ويجعله من جهة أخرى ستاراً يخوف به شعوبه ويحذرهم من خطره ويستغل مخاوفهم منه ليعزز قدراته العلمية والعسكرية و ليضمن سكوتهم عن ممارساتته العدوانية على الآخرين بحجة الدفاع عن أمنهم وعن مصالحهم .

هذا (الآخر) العدو – كان سحابة معظم القرن الماضي ، هوالمنظومة السوفياتية فلما انهارت ، كان لا بد للغرب من إيجاد خصم بديل ( عدو آخر) يُعزّز من خلاله حججه السابقة . فكان هذا الخصم البديل الذي اصطنعه زوراً و جعله ( الآخر) النقيض ، هو الإسلام ، واتهمه ، من خلال العـــــرب المسلمين بأنـــــه في تكوينــــــه وتكــــوين معتنقيه بأنه ( عدوالآخر) ، وبالتالي فإنه ( الآخر) الخَطِر الذي يمثل الإرهاب والذي يجب محاربته بكل الوسائل .

هذا الاتهام ضخمته وسائل الإعــلام الغربية ذات السلطان والتأثير الواسع ، وكانت نتيجته إثارة موجة من الكراهية لدى الكثيرين من أبناء الغرب لمسنا بعض آثارها في الرسوم المسيئة لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، والتي بدأت بصحيفة دنمركية ثم كررتها صحف كثيرة في دول كثيرة من بلاد الغرب . و بلغ من تطورها أن وزيــــراً في الحكـــــومة الإيطالية هو ( روبرتو كالديرولي ) بلغ من حقده وتحديه أن يلبس قميصاً رسمت عليه تلك الرسوم المسيئة ، وأن يبالغ في تحديه فيكشفه للصحفيين .

وجود مشاعر عداونية ضد المسلمين ، لها جذور قديمة لدى شرائح في الغرب ، نتيجة الجهل بالإسلام حيناً ، ونتيجة للتعصب أحياناً ، ولكنها كانت تصطدم في كثير من الأحيان بمواجهات مضادة من قبل منصفين من مفكري الغرب نفسه ، ومن قادته ممن كان لهم اطلاع واسع على الإسلام و معرفة بحقيقة تعاليمه و توجهاته.

موجة الكراهية الجديدة التي عزّزتها بعض التوجّهات الرسمية ازدادت ضراوة بعد زوال خطر المنظومة السوفياتيه ووجود حاجة إلى اصطناع (عدو) آخر بديل جعلوه هو (الإسلام) ، ثم خدمهم في تأريث هذه الكراهية تزامن هذا الطرح مع وقوع حوادث عنف عدوانية تجلّت في أحداث أيلول ( سبتمبر) وما بعدها ، وتناولت بمعظمها فئات مدنية لا علاقة لها بالنهج السياسي لدولها. وقد قارف هذه الحوادث أفراد وفئات من المتشددين الإسلاميين ، وبدوافع ، كما تكشف الوقائع ، من ردود الأفعال على احتلال دول غربية لأفغانستان ، ثم زاد الطين بلّة احتلال العراق ، ثم التهديدات لدول إسلامية أخرى ، ومحاولة التدخل في شؤونها الداخلية ؛ الأمر الذي أخذ يزيد من حدة المواجهات و يرفع من وتيرة التهديدات . والذي بدأ ينعكس تعبئة لمشاعر عدائية لدى الجماهير الإسلامية ، ولدى الجماهير الغربية في الوقت نفسه .

العدوان على المدنيين الآمنين ليس مبرراً تحت وطأة أي ظرف من الظروف وهو مرفوض على مستوى أي دين ، وبخاصة الدين الإسلامي الذي يحرم الظلم ، وإشارتنا إلى تعليل وقوع حوادث العنف ثم نسبتها إلى ردود الفعل محكومة بالمنهج التحليلي الذي يتحرى الأسباب بلوغاً لمعرفة الحقائق.

هذا الاحتقان العدائي يتوجب على العقلاء من جميع الأطراف ، وقفة ومن ثم تبديده حماية للسلام العالمي من مزيد من التدهور ، والأسلوب الأمثل لتحقيق ذلك هو أن تتم لدى كل طرف معرفة حقيقية بالآخر، معرفة ما له وما عليه ، حيث ينبني على ذلك أسلوب التعامل الصحيح بالأساليب العلمية ، وبعيداً عن الانفعال.

هذا ( الآخر) ، هو اليوم لبّ المشكلة التي انطلقت من محافل غربية سياسية وفكرية ، هذا ( الآخر) اتهم بالعنف ، وبالإرهاب وتم تحديده في هذه المحافل بأنه الإسلام ، وكثر ترداد مصطلح ( الإسلام عدو الآخر) لدى ساسة ومنظرين غربيين . وضخمته وسائل إعلامهم وخلصوا منه إلى نتائج مفادها أن الإسلام بطبيعته العدوانية إرهابي وأن المسلمين بالتالي إرهابيون ، ووظفوا أقلامهم و كتاباتهم لترسيخ هذه المفاهيم في نفوس شعوبهم .

هذه كلها طروح متجدّدة ، أحيطت بلمسات زخرفية إعلامية جعلتها مقبولة لدى كثير من الناس . وكان من نتائجها الخطيرة بــروز مصطلح ( صدام الحضارات ) الذي ابتدعه صامويل هنتنغتون ، الباحث والمنظر في معهد أولم الأمريكي الستراتيجي . ولم يكن لهذا المصطلح وجود قبل تسعينات القرن الماضي . وهدفه ، مُسْتَنتَجاً من ان الإسلام عدو الآخر، هو أن الحضارة الإسلامية هي العدو الأشـد خطراً على الغرب . و الكتاب يعج بتفصيلات مصنوعة لخدمة وترسيخ هذا المفهوم ، نكتفي من ذلك بشاهدين موجزين أحدهما قوله : " إن أشد خطوط التقسيم الحضاري عنفاً هي تلك الموجودة بين الإسلام ، وجيرانه الأرثوذوكس و الهندوس والأفارقة والمسيحيين الغربيين "2 أي هو خطـــر على كــــــل الأديان وعلى كل الأجناس ، أما ثانيهما فهو قوله : " المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية ، بل الإسلام نفسه ، فهو حضارة مختلفة ، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته ، وهاجسه ضآلة قوته " 3 وفي هذا الشاهد تصريح واضح لا لبس فيه هو أن الغرب يعتبر أن الإسلام يمثل أكبر مشكلة أمامه ، أي هو العدو الأخطر. وللإنصاف ، فــــإن مصطلح ( الغرب) الذي نستخدمه في هــذا البحث ينسحب على ( الغرب السياسي ) لا على جماهير الغرب .

( الإسلام عدو الآخر ) . مقولة تتكرر كل يوم بوسائل الإعلام الغربية المفرطة بالتطور ، وهي تعني بشكل جازم أننا ، نحن المسلمين ، نمثل هذا العدو ، الأمر الذي اقتضى ، في تصوري ، عقد مؤتمرنا هذا تحت عنوان " نحن والآخر" .

لتفنيد هذه المقولة و ردّها ، وإثبات أن الأصل في التعامل الإسلامي هو "التعايش مع الآخر" وقد أشرنا في مطـــلع البحــــث إلى هذه المسلّمة ، وبالتالي فإن التعايش مع الآخر يمثل حقيقة تاريخية ، ويمثل في الوقت ذاته ضرورة واقعية .

إننا في هذا المؤتمر لا نريد أن نساجل الآخرين بطرح مقولة مضادة مفادها ( أن الغرب هو الآخر) ، وفي تصوري أن سجلات التاريخ الحديث على الأقل ، حافلة بوقائع تؤكد أن الغرب السياسي هو( العدو الأكبر للآخر) . وربما كانت هناك ضرورة لعقد مؤتمر مماثل مستقبلاً بعنوان : " من هو العدو الحقيقي للآخر؟ " .

مؤتمرنا اليوم هو محاولة غير مباشرة للرد على جميع المقولات الظالمة التي تتهم الإسلام بأنه عدو الآخر . وهدفه تفنيد تلك المزاعم .

المقولات التي عرضناها في مطلع البحث ، تعتبر ، في تصوري ، جزءاً من لحمته ، لأنها تحدد الأسباب الحقيقية لولادة هذه المقولة بشكلها المهاجم ، ثم لتكريسها ورواجها لدى جماهير الغرب ، وهي مقولات تقتضي من الباحثين المسلمين تفنيد جميع الطروح الناجمة عنها ، ومن ثمّ إبراز الحقائق الإسلامية حولها . وهي حقائق تنبع من المرجعية الأصيلة الملزمة لكل مسلم ، وهي القرآن والسنة .

لا يكفي أن نعتقد نحن ، وأن نعلن أننا لسنا كما يظن الآخرون ، بل علينا إثبات هذا الأمر ، وأن نكون قادرين على إيصاله إليهم ، ذلك أننا مكلفون بالتبليغ ، وهدف التبليغ تعريف الناس بحقيقة الإسلام ، وبحقيقتنا ، نحن المسلمين من خلاله.

إن المجال لا يسمح الآن بالحديث عن عجز خطابينا الإسلامي والإعلامي و عن قصورهما عن متابعة مجريات الأحداث والمتغيرات ؛ الأمر الذي يجعل هذا المؤتمر وأمثاله من ضرورات التعويض المرحلية. بل تجعله في طليعة واجبات التبليغ .

من هذه المقدمات نخلص إلى أن الإسلام الـــذي هـو مرجعية المسلمين، على امتداد ديارهم ، وعلى تناوب عصورهم ، لا يمكن أن تكون نظرته إلى ( الآخر) إلا محكومة بالمعايير التي سنها الله للبشر ، وبالتالي لا يمكن لهذا الآخر ، أن يكون ، وفي جميع الظروف والأحوال، حتى المدلهمة منها ، إلا محل تقدير وإذا وقع من بعض المسلمين ، أفراداً او جماعات ، ما يغاير ذلك ، فإنه يعتبر من باب الشذوذ ، و الشاذ لا يقاس عليه ، ولا يجوز أن ينسحب على الإسلام .

الحديث عن نظرة الإسلام إلى الآخر، بشيء من الاستيعاب ، تقتضي تحديد نماذج أساسية محدودة مما يمكن أن يسمى ( الآخر) ، ومن ثم دراسة أساليب التعامل معه من منطق النصوص الإسلامية الأصيلة الملزمة . ولعل أوضح هذه النماذج في التعامل الإنساني والإسلامي تتوضح في القضايا التالية :

  1. المرأة والرجل في المجتمع الإسلامي

  2. الأقوام المختلفون انتماءً ولوناً ولغةً

  3. المسلم وغير المسلم

  4. المختلفون في الرأي

  5. المختلفون في حالات التصادم

الحديث في هذه القضايا عن العلاقة مع الآخر ، في النظر الإسلامي ، سهل وميسور ، والأدلة لمن يريدها متوفرة وبمتناول اليد . وبسط القول في هذه القضايا قد يستغرق مجلدات لا تسمح بها طبيعة البحث ؛ الأمر الذي يقتضي الاكتفاء بمقاربات ، تكشف وجه الحقيقة أمام من يرغب صادقاً في معرفة الحقيقة .

  1. المرأة والرجل في المجتمع الإسلامي:

كثيرة هي الاتهامـات التي توجـــه للإســـلام حـــول ظلـــم المـــرأة فيه :

والمطالبات بإزالة هذه الظلم و بتصحيح العلاقة مع الرجل كثيرة ؛ منها ما يصدر عن الخارج دولاً و مؤسسات ومفكرين ، وبعضها يصدر عن مستوى الداخل لدى من يرتهنون أنفسهم لقيم الغرب ولثقافته . والأمر في الحالين ، لا يعدو أن يكون صدوره عن جهل أو عن عصبية.

البيت الإسلامي المكون أساساً من الرجل والمرأة ، ثم من الأولاد ، يمثل نظاماً متكاملاً ، لا يجوز في أي بحث ذي طابع علمي ، اقتطاع جزء منه ، والحكم عليه منقطعاً عن علاقته بمجمل النظام . لأن ما قد يُظَنّ وجوده من ظلم في جانب عَبْرَهذا الاقتطاع قد يكون له ما ينفيه ويؤكد خطأ الحكم فيه جانب آخر.

وتحكم هذا النظام مبادئ تراعي العدل من جهة ، كما تراعي التكوين الطبيعي الذي فطر الله سبحانه كلاً من الرجل والمرأة عليه .

أما المبدأ الذي يراعي العدل فإنه يتمثل بقاعدة فقهية عامة تقول : " الغُنْم بالغُرم " ، فغُرم المرأة مثلاً في تحديد حقها الشرعي بالإرث هو نصف حق الذكر ، يقابله غُنمها في إعفائها من كل التكاليف المالية في الحياة الزوجية ، حيث تقع كلها : ( المهر والنفقات المستمرة ) على عاتق الرجل .

أما المبدأ الذي يراعي العدل في هذه العلاقات فَمَثَلُه ، تكليف الرجل بحكم تكوينه البدني والنفسي بالعمل والكد والقيام بجميع أعمال الخارج ، وبأعمال الدفاع يقابله تكليف المرأة ، بحكم تكوينها البدني والنفسي ، بالحمل والإرضاع و تربية الأولاد ورعاية البيت ودون أن تكلف بالعمل الخارجي ، اللهم إذا رغبت هي ، وطوعاً ، بذلك .

وعبر هذين المبدأين تكون المساواة كاملة بين الرجل والمرأة في جميع شؤون الحياة : في الفضائل التي يتصف بها المؤمنون ، وحيث تذكر فضيلة للرجل تنسحب مثلها على المرأة تُؤكد هذا الأمر النصوص القرآنية ، يقول الله تعالى : " إن المسلمين و المسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، والقانتين والقانتات ، والصادقين والصادقات ، والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين لفروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات . أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيما / الأحزاب – 35 " هذه المشاركة بالفضائل بين الرجل والمرأة ، لها مثله بالمشاركة بالتكاليف والواجبات ، لضمان سلامة المجتمع ، وذلك مؤكد أيضاً بالنصوص القرآنية : " والمؤمنون والمؤمنات ، بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة ، ويطيعون الله ورسوله . أولئك سيرحمهم الله . إن الله عزيز حكيم / التوبة 71 " و يتجلى الأمر نفسه في قوله تعالى : " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى ، وهو مؤمن فلنحييَنّه حياة طيبة ، ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون / النحل -97 " .

حقوق المرأة كاملة كحقوق الرجل ، ولها ذمة مالية مستقلة لم تكن لامرأة في العالم ، وما نقمه الغربيون على معاملة المرأة في الإسلام قارفوه هم في ديارهم وعلى نسائهم بأقبح صوره ، وهذا بعضه :

  1. نقموا على الإسلام إباحة الطلاق ، والطلاق بشروطه الإسلامية يضمن حماية للمرأة وللأسرة ، ولكن الغربيين الذين طالما هاجموا الإسلام من خلاله قننّوه وأصبح لديهم أكثر شيوعاً ، ودون ضوابط ؛ الأمر الذي جعل الأُسَر الغربية بمعظمها مفككة ، وعرّض كثيراً من أبنائها لمشاكل تعاني منها المجتمعات الغربية أشد المعاناة

  2. كما نقموا على الإسلام السماح بتعدد الزوجات ، وهو نظام يخفف كثيراً من حدة المشاكل الحادثة بسبب الخلافات التي تقع بين الزوجين وإذا كان الغربيون ، لم يقننوا حتى الآن نظاماً للتعدد ، كما قننوا للطلاق ، فإن مجتمعاتهم و تقاليدهم

سمحت بوجود العشيقات وبإباحة الزنا برضى الطرفين ، وباللواطة وبزواج المثل ؛ الأمر الذي يهدد بشكل دائم سلامة العلاقات الأسرية ، وكثيراً ما ينتهي بالطلاق الذي أشرنا إلى مغباته في الفقرة السابقة .

ج- كما نقموا على الإسلام أيضاً صَوْنه للمرأة عن العمل ، تلبية لطبيعتها مع إقرار حريتها في ممارسته ، في الوقت الذي أرهقوا فيه المرأة الغربية بالأعمال حتى الشاقة منها فكانت منهن الكناسة و سائقة الشاحنة والعاملة في المنجم ....

بعض الباحثين الغربيين ممن عايشوا الحياة الإسلامية مباشرة أدركوا هذه الحقائق و سجلوها ، ونَعَوْا على مجتعاتهم إهانة المرأة ، وقدسوا إجلال الإسلام لها ، نسمع ذلك من سيدة إنجليزية منصفة عاشت في الهند ، حيث اطلعت على حقيقة معاملة المرأة في الإسلام ، وسجلت ذلك في كتاب جاء في بعضه : " إن القانون الإسلامي ، فيما يتعلق بالمرأة ، من أرقى القوانين التي ظهرت في الدنيا ، وأكثرها عدلاً ، إنه يسبق التشريعات الغربية فيما يتعلق بالعقار وحقوق الوراثة ، وقانون الطلاق بشوط بعيد . إنه حارس لحقوق المرأة . إن كلمات الاكتفاء بزوجة واحدة ، سحرت الناس ، وصرفت أنظارهم عن التفكير فيما تعيشه النساء الغربيات من هوان و بؤس ، وقد تركها الأزواج الأولون المسؤولون عن عصمتهن على الشوارع ، وقد قضوا منهن لُُبانَتَهم وزهدهم فيهن سآمة ومللاً . فلا يلقين بعد ذلك عوناً ولا رحمة . " 4

هذه لمحات موجزة توضح العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال

من خلال نماذج محددة وتثبت أن الإسلام لم يجعل أحدهما عدواً للأخر ، كما يزعم الغربيون بل تثبت أنهما يمثلان الثنائية المتكاملة التي تعايش بعضها و تعيش في أمن وطمأنينة تفتقدهما معظم المجتمعات الغربية .

  1. الأقوام المختلفون انتماءً و لوناً ولغة :

المجتمـــــع الإسلامي يضــــم أشتاتاً من البشر متفاوتين في انتمـــاءاتهم و ألوانهم وألسنتهم وعقائدهم و لكنهم متساوون في أقدارهم وفي حقوقهم وواجباتهم ؛ ذلك لأن الإنسان - أيّ إنسان – مكرم لذاته في النظر الإسلامي " ولقد كرّمنا بين آدم / الإسراء – 70 " وهو لا يحمل أي تميّز عن غيره في التعامل اللهم إلا بالتحلّي بسجايا الخير : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم / الحجرات – 14 " .

المجتمع الإسلامي بأطيافه المتعددة يشكل لوحة إنسانية متناغمة تحكمها ضوابط المعايير العامة في التعامل وهي حق الكرامة الإنسانية و حق التميز بالتقوى والخير . والمسلم مكلف بالخضوع لهذه المعايير ، والصدع بها تحت وطأة جميع الظروف والأحوال والمناسبات ، وأي اجتراء على خدش أية قيمة منها يعد خروجاً على القيم الإسلامية ويكون حجم هذا الخروج بحجم ذلك الخدش .

التعايش بين الفئات المتعددة في هذا المجتمع عبر عشرات القرون بداية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان من صفوة أصحابه المكرّمين لدى المسلمين جميعاً ، وحتى اليوم ، سلمان الفارسي وصهيب الرومي و بلال الحبشي ، كما عرف المجتمع الإسلامي عبْرَ هذه التشكيلة الإنسانية صفوةً من القادة الذين يحظون دائماً وعبر تاريخنا الطويل بالتجلّة والتقدير ، منهم ، وعلى سبيل المثال . عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود من الأتراك. وأسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين من الأكراد ، وقطز وبيبرس و قلاوون من المماليك . ناهيك عن سلاطين بني عثمان الذين توسّدوا سدة قيادة العالم الإسلامي لعدة قرون.

المجتمع الإسلامي يعيش في داخله في وئام لا تعكره إلا صرخات من الخارج تحاول أن تدخل الخلل في بنيته الداخلية بأساليب ومداخلات تهدف إلى إضعاف عوامل المناعة الذاتية في كيانه ، ولكنها صرخات تذهب في مهب الريح تجاه تماسك اللحمة التي تشدّ أبناء المجتمع الإسلامي بعضهم إلى بعض.

  1. المسلم وغير المسلم :

الإنسان ، مسلماً أو غير مسلم ، مكرم بذاته ولإنسانيته " ولقد كرمنا بني آدم / الإسراء – 70 " وهذا التكريم جزء من العقيدة الإسلامية تؤكده أحكامها وتشريعاتها ، وهي تشمل غير المسلم حيث كان ، ولكن غير المسلم من أبناء الديار الإسلامية يتمتع ، بالإضافة إلى ذلك ، بخصوصية المواطنة التي يحميها التشريع الإسلامي وبكل ما يترتب عليها من حقوق وواجبات.

في المجتمع الإسلامي شرائح من المسيحيين واليهود وغيرهم ، كانوا من أهل البلاد قبل أن يدخلها الإسلام ، واستمروا فيها بعده ، وكانوا دائماً جزءاً من لحمة الوطن ينظمهم في حياتهم كل ما ينظم إخوانهم المسلمين .إلا ما كان من شؤون الدين والعقيدة فإن كلاً من هذه الأطراف يمارسها بكل حرية و بحسب معتقدات دينه . الشــريحة اليهودية ، وبدوافع سياسية ، وبتحريض عدواني من الخارج ، تخلّتْ عن هذه المواطنة ، وغادر معظمها الديار العربية والإسلامية ؛ الأمر الذي جعل اليهود في هذه الأيام خارج حدود المواطنة ، ومن كان خارج حدود الوطن فإن التعامل معه يخضع إلى المعايير التي يتم التعامل بها مع غير المسلمين خارج حدود الوطن سلماً أو حرباً .

الإسلام هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى الإيمان بجميع الرسالات السماوية وبتكريم جميع الأنبياء والرسل الذين اضطلعــوا بحمـــل هــــذه

الرسالات ، ودون تفريق أو تفضيل . " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ، والمؤمنون : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا وإليك المصير / البقرة - 285 " . ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم تواصل هذه الرسالات و تكاملها حين قال : " مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه و أجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة ، قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"5 والإسلام يدعو إلى برّ غير المسلم وإلى حسن التعامل مع معه اللهم إلا من باشر المسلمين بالحرب والعدوان بكل أشكاله : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطــوا إليهم . إن الله يحب المقسطين / الممتحنة – 8" .

ولا يغيبنّ عن البال أن الإسلام ، إمعاناً منه في برّ اليهود و النصارى نعتهم بـ " أهل الكتاب " تمييزاً لهم عن المشركين الذين يعبدون آلهة غير الله . وجميع النداءات القرآنية التي تتجه إلى اليهود والنصارى تعتمد هذه التسمية .

إن التاريخ يشهد ، وعبر كل فتراته ، أن المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون في الديار الإسلامية ، يتعايشون في وئام ويشكلون جميعاً لحمة المجتمع الذين يعيشون فيه ، وعلاقتهم ببعض تقوم دائماً على المودة والتقدير. وإذا صدف في بعض الفترات ما يخالف هذا التوجه من بعض المسلمين ، أو من بعض المسيحيين ، فإنها مخالفات تغاير تعاليم الدينَيْن، ثم ، لابد ، في آخر المطاف ، من التنويه بمحاولات الدس الغربية التي تدأب على استخدام سلاح التفرقة وعلى ادعاء اضطهاد غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية ، يؤكد ذلك ما يصدر عن معظم النخب السياسية الغربية حين زيارتهم للبلاد الإسلامية من أسئلة تطـــرح على المسيحيين مفادها : هل انتم مضطهدون ؟ وهل تملكون كامل حرياتكم في ممارسة عقائدكم و حقوقكم؟ ويكون الجواب دائماً مخيباً لتصــوراهم و لتطلعاتهم .

غير المسلم ، (الآخر) بالنسبة للمسلم ، والمسلم ، ( الآخر) بالنسبة لغير المسلم ، يمثلان الثنائية المتكاملة التي ترفض إقصاء الآخر. أو إلغاءَه ، والتي تعرّي كل دعاوى الزيف التي يوجّهها ساسة الغرب إلى الإسلام.

غير المسلم والمسلم ، أخوان في الكرامة الإنسانية ، وفي المواطنة ، وفي الإيمان بالله ، والتعايش بينهما في ندّية قائم حتى تقوم الساعة .

  1. المختلفون في الرأي :

البشر بطبيعة تكويناتهم التي فطرهم الله عليها ، متفاوتون في الطبــــاع و الأمزجة وأنماط التفكير ؛ الأمر الذي يثير دائماً خلافات في وجهات النظر ، يتم الاحتكام فيها في كثير من الأحيان إلى القوة لحسم الخلاف.

ونحن ، المسلمين ، بحكم التزامنا بمرجعيتنا وهي الإسلام ، فإن الموقف من الآخر حين الاختلاف في الرأي يقوم على احتــرام شخصه و احترام آرائه و معتقداته ، والتسليم له بحق الاعتقاد بما يشاء : " قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين/ الكافرون" .

وضرب لنا علماؤنا الأجلاء أمثلة في التواضع ، وفي احترام الرأي المخالف ، نسمع ذلك في قول الإمام أبي حنيفة : علمنا هذا رأي ، وهو أحسن ما قدرنا عليه ، فمن جاءنا بأحسن منه ، كان أحق . " ومثله قول الإمام الشافعي : رأيي هذا صواب يقبل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ، بل أن الإمام الوليد بن رشد يبلغ من احترامه للآخر أن يسجل تقديره بل شكره للآخر حتى ولو كان في ما يطرحه ما يصطدم مع العقيدة : " نحن نطلع على إنتاج الآخــرين . فمــــا اتفــق معنا أخــــذناه وشكرناهم ، وما كان منه مصطدماً مع عقيدتنا تركناه وشكرناهم "6

حسم الخلاف في الرأي سبيله الوحيد هو الحوار . الحوار وسيلة من وسائل التعاون بين الأفراد بعضهم مع بعض ، ومع الجماعات بعضها مع بعض أيضاً ، وإذا اقترن الحوار بالإنصاف كان من أنجع الوسائل في تصحيح الأفكار الخاطئة ، وفي التقريب بين المتباعدين ، وبالتالي فإنه يصبح ضرورة من ضرورات الوصول إلى الحق.

يقع الحوار عادة بين ذوي قناعات مختلفة ، في قضايا محدودة و هدفه دائماً الوصول إلى الحق ، ولا يتم ذلك إلا عبر الوقوف على أرضية مشتركة من تبادل الثقة ، والرغبة في إزالة سوء التفاهم وفي التخلص من الأحكام المسبقة.

للنجاح في أي حوار ، لابد له من وجود مقومات تمثل ضوابط تحكم مساره وتستند في الوقت نفسه إلى مرجعية تصحح أيّ خلل في مساره. وحضارتنا التي ينعتها العالم بالإسلامية ، وفي أي حوار لها مع الآخرين، مرجعيتها الإسلام الذي يضبط سلوك الأفراد والجماعات.

لكل حوار ضوابط ملزمة للمسلم ، سواء كان فرداً أو جماعة ، وأولها أن يتحلّى بالإنصاف بأن يشعر محاوره أنهما متساويان وأن أيا منهما قد يكون ، قبل الحوار على صواب أو على خطأ. و أكد هذا الضابط النص القرآني في تقرير هذه المساواة : " وإنا أَوْ إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين / سبأ – 24" ، بل إن الإسلام يجعل المسؤولية في عمل أي إنسان، من خلال منطق الحوار مسؤولية ذاتية لا علاقة للطرف الآخر المحاور بها : " قل لا تُسألون عما أجرمنا ، ولا نُسأل عما تعملون /سبأ- 25" . ويلاحظ في هذا النص أنه حمّل المحاور المسلم تبعة عمله في كثير من التشديد ، على افتراض خطئه ، حين نسبه إلى الإجــــــرام " قــــــل لاس تسألون عما أجرمنا " ، في الوقت الذي جعل تبعة غير المسلم خفيفة بعيدة عن التشدد : " ولا نُسأل عما تعملون " .

وحض الإسلام المسلم في حواره مع غير المسلم على لطف المخاطبة ، والبعد عن التشدد : " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي ديني /سورة الكافرون " . بل يطلب من المسلم إذا أحسّ من محاوره بعداً عن الجدية أن يحسن التصرف وأن يوقف الحوار دون جرح لمشاعر من يخاطبه : " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نبتغي الجاهلين / القصص -55"

المنهج الذي يرتضيه الإسلام للحوار ، ومن استقراء هذه الضوابط يتمثل باحترام الآخر المحاور ، ولو كان خصماً ، والتسليم له بحق الاعتقاد بما يشاء ، وعلى منحه حق المساواة مع محاوره المسلم ، مع التحلي بالانصاف في الحقوق وباللطف في التعامل . وعبر هذا المنهج يثبت أن الإسلام يرفض إلغاء ( الآخر) أو نفيه ، بل يحض على أحاطته بكل ضروب الاحترام .

و في عصرنا الحاضر الذي نعيش أحداثه والذي ساد معظم مجتمعاتنا فيه الضعف والجهل والقعود عن مسايرة التقدم العلمي ، بدأت بالظهور نذر خطيرة لدى فئات محدودة من المجتمع الإسلامي ، تتجلي في الرغبة في ( نفي الآخر) . يحدث هذا داخل جماعــات إسلامية مع بعضها ، ولدى جماعات إسلامية مع غيرها ، الأمر الذي يغاير مغايرة تامة التوجهات الإسلامية العامة التي لا يجوز الخروج عليها من خلال أي منطق منغلق أو متحجر . نلمس ذلك لدى جماعات سنية وأخرى شيعية تجاه بعضها ، كما نلمسه لدى فئة من السلفية تكفر فئات من المتصوفة ، ولدى فئة من المتصوفة تكفر فئات من السلفية ، وكما نلمسه أيضا لدى جماعات من المسلمين يرفضون أي تفاهم أو لقاء مع غير المسلمين . وكـل ذلك محكوم بدوافع من التعصب المقرون في كثير من الأحيان بالتغافل عن عمومية المقاصد .

  1. المختلفون في حالة التصادم :

المجتمع الإسلامي يضم أصنافاً من الأفراد والجماعات مختلفي منازع التفكير والعقائد والاجتهادات و المشارب والأهواء ، شأن التكوين الإنساني بعامة ، الأمر الذي يقتضي بالنسبة لكل ذي منحى وجود (آخر) مخالف له في منحاه ، وقد يشتد الأمر بالمتخالفين حتى يبلغ حالة من الصدام القتالي المحدود أو الموسّع.

التصادم القتالي قد يقع بين فئات إسلامية مع بعضها ، وقد يقع بين المسلمين وغير المسلمين ، فما هي الضوابط الإسلامية التي تحكم هذه الحالات التصادمية والتي تحدد العلاقة مع (الآخر) الذي يتم التصادم معه ؟

في حالة التصادم بين فئات إسلامية مع بعضها تكون الجماعة الإسلامية كلها مكلفة ، وبالأمر، بالتدخل لفض النزاع صلحاً ، وإذا كابر أحد الطرفين ، واستمسك ، بغياً ، بموقفه العدواني من (الآخر) وجب على الجماعة الإسلامية قتاله حتى يتم ردعه عن بغيه ، وحتى يتم إنصاف (الآخر) منه ، لا قيد على ذلك إلا الالتزام بمبادئ الحق والعدل : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . إن الله يحب المقسطين / الحجرات -9 " . وهذه المداخلة هي أعلى صور حماية ( الآخر) وأعلى صور احترامه.

أما حالات تصادم المسلمين مع غيرهم خارج الديار الإسلامية فإنها محكومة بمبدأ عام في التعامل الإسلامي ، ينطبق على علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم ، هو مبدأ (المعاملة بالمثل) وهو مبدأ ملتزم في جميع الظروف والأحوال ، ويستند إلى المسـاواة المطلقة بين البــــشر ، وعلى

رفع الظلم عبر هذه المساواة ، وهو محكوم بالتقوى لئلا يجنح به أهل الهوى عن مقاصده . و يتجلى هذا المبدأ في قوله تعالى : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . واتقوا الله . إن الله مع المتقين / البقرة – 194" والملاحظ في هذا الحكم أنه يراعي الطبيعة البشرية التي تأنف أن تُظلم دون أن يتاح لها الذود عن حقها . مع وضع قيد ملزم هو التقوى ، دفعاً للمغالاة في الرد. وتعزز هذا المبدأ بضابط آخر ملزم هو العدل في كل شؤون الإنسان حتى في حالات العداوة : " ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . أعدلوا هو أقرب للتقوى"

إن مبدأ المعاملة بالمثل ، على مثاليته ومراعاته لطبيعة النفس البشرية ، لم يكتف الإسلام به ، بل أرفقه بمبادئ أخرى دعا إلها وحبّب بها ، لتستقيم الحياة البشرية دائماً سوية ودون عقد ، من ذلك دعوته إلى التسامح والصفح والأخذ بالعفو في بعض حالات العدوان ، ودون أن يتخلى عن مبدأ المعاملة بالمثل . إنه يدعو إلى الصفح والعفو ، لا عن ضعف ، بل عن كرم طويّة و تقرباً إلى الله ، لأن جزاء ذلك الحسنى : وجزاء سيئة سيئة مثلها . فمن عفا وأصلح فأجره على الله / الشورى – 40" كما نسمعه في قولـــه تعالى : " وليعفــــــوا و ليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم / النور- 22".

وهذه النصوص ، والكثير من أمثالها تؤكد حماية ( الآخر) ولو كان معتدياً ، وذلك بالإنصاف في حماية الحقوق، ودون غلّو في المعاقبــــة ، ومع الحضّ على التسامح والأخذ بالعفو ، إمعاناً في التسامي الإنساني .

الإسلام ، وكما بَيَنّا في هذه الدراسة ، وبالنصوص الموثقة . وبالأمثلة الواقعية ، لم يكن في يوم من الأيام عدواً للآخر ، بل هو يعتبر الآخر جزءاً ثنائية متكاملة ، بعيدة عن التضاد ، وإن المجتمعات الإسلامية ، وعبر التاريخ ، تضم أطيافاً من بيئات واتجاهات مختلفة في انسجام وتفاعل ، وفي تعايش يمثل حقيقة من حقائق التاريخ .

 

1 . المهدي امبيريش : " الهوية الذاتية ، الشمولية " بحث في ندوة المائدة المستديرة في جامعة ناصر بليبيا

سنة 2003.

2 - صامويل هنتنغتون : صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي ، ص293 ( ترجمة) طلعت الشايب

وصلاح قانصوة : مؤسسة سطور – بيروت – 1999 .

3 - المصدر نفسه - ص 352

4 - السيدة آني بيزيت في كتابها : LIFE AND TEACHING OF MOHAMMED.P.3 - طبعة مدراس

في الهند سنة 1932- نقلاً عن كتاب أبي الحسن الندوي (المرأة في الإسلام) ص21- طبعة دار ابن كثير –

دمشق2002.ٍ

5 - البخاري : الجامع الصحيح ( صحيح البخاري ) 4/1212 الحديث رقم 3342 – تحقيق د. مصطفى ديب بغا – دار العلوم الإنسانية / دمشق / 1993.

6 - من كتاب الأثينية " ص436 الذي يضم مجموعة مقالات ، منها مقالة للدكتور مصطفى الشكعة يستشهد فيها بهذا النص .

 

المصدر: http://www.atida.org/makal.php?id=105

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك