الأئمة الأربعة.. نموذج التعايش الرشيد

الأئمة الأربعة.. نموذج التعايش الرشيد

د. سلمان بن فهد العودة

الموقع التاريخي للأئمة الأربعة  يلهم سنّة التعايش الرشيد التي كرّسها هؤلاء الأعلام ، كانوا امتداداً لمن سبقهم ، واتفقوا على تعظيم أسلافهم من المؤمنين ، وأثنوا على الصحابة والقرابة وأمهات المؤمنين أزواج النبي الطاهرات ، متمثلين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)

ولم يسمحوا للخلاف الذي جرى بين السالفين أن يكون أداة لشتم التاريخ, والكفر بالأسلاف , والتشكيك في رجال الصدر الأول .

ولذا اتفقوا على تجنّب محاكمة المختلفين ، أو الدخول بينهم إلا بخير .

وتعايشوا مع الاختلاف الجاري في دوائرهم الأربع الفقهية, وما وراءها بروح التقبّل والهدوء ، ولم يسمحوا أن يكون انتشار علومهم سبباً للصدام والتعارك .

بل لعلهم أصّلوا مبدأ التعايش مع المتغيرات السياسية والاجتماعية من حيث تعاملهم معها, ورسمهم للخطة الملائمة إزاءها .

والملحوظ أن أيّاً منهم لم يقبل ولاية رسمية للقضاء أو المظالم أو غيرها ، وفي الوقت ذاته لم يكن حزب معارضة ، ولم يسند أو يدعم الخارجين على سلطة الدولة ، وإن كانوا جميعاً تعرّضوا للاتهام بشيءٍ من ذلك ، وامتُحنوا فيه ، إلا أن السّياق يدلّ على أن ذلك لم يكن صحيحاً ، ولكنهم كانوا ضحية الفكرة التي ترى أن من لم يكن معي فهو ضدي ، فكان استقلالهم الفكري سبباً في الاشتباه وكثرة الوشاية وسوء الظن ، بل وتفسير القول أو الفتوى تفسيراً سياسياً .

الطريق الثالث

وهم في حقيقة الأمر يمثلون الطريق الثالث بين مجموعة السلطة ومجموعة المعارضة ، وهذا يمكنهم من أداء دور ريادي وعظيم في حفظ التوازن داخل المجتمع بين مكوناته المختلفة ، من سلطة وشعب ، وتيارات فكرية وعلمية ، وانتماءات عرقية وقبلية ، واختلافات مذهبية .

إن وقوفهم على مسافة واحدة من هذه المكونات ، واحتفاظهم بقدر من الاتصال يسمح بأن يكونوا نقطة توازن وانضباط؛ تحفظ المجتمع الإسلامي من الانخراط في مزيد من الصراعات الداخلية أو التمزق وانفراط العقد .

وهذه مهمة يُحتاج إليها اليوم أشد الحاجة في ظل اتّساع الفجوة وضعف ثقافة التعايش بين الناس مما يحضّر لنزاعات تستعدّ للظهور كلما آنست ظروفاً تخدمها .

فوجود مرجعية علمية ودوائر وسيطة تعزز قوة الضعيف وتنهنه اندفاع القوي ، وتتوسط في المعضلات ، وتنشر الوعي الضروري للحياة والفهم والتسامح ، وتشجّع على العدل وحفظ الحقوق له مما يخدم السلم الاجتماعي والأمن الوطني في أي بلد ، ويحول دون ظهور تيارات العنف والغلو والتطرف في أي اتجاه .

في بلاد العالم حكومات قوية تقابلها مجتمعات قوية أيضاً ، بروابطها وتنظيماتها ونقاباتها ومؤسساتها السياسية والتطوعية والاجتماعية ، وهذا يجعل الشعب قوياً بحكومته ، والحكومة قوية بشعبها .

ومعظم البلاد الإسلامية تفتقد هذا التوازن الضابط لمركز القوة ، الحافظ للاتصال ، إنها " المؤسسات الوسيطة " أياً كان عنوانها ، المقبولة على نطاق واسع ، رسمي وشعبي ، المعنية بأداء هذه المهمة الخطيرة التي قد لا يفطن لها الناس إلا حينما تبدأ في التآكل والتفتت .

تسييرالاختلاف المذهب والطائفي

إن الاختلاف المذهبي والطائفي ، بل والملّي ، فضلاً عمّا دونه ، ليس مؤهلاً دائماً للصراع والتطاحن ، والنص القرآني الكريم يقول : (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (الرحمن:10) ، فداخل الدائرة الإسلامية يتم التحاكم إلى الأحوال الضابطة ، والقواعد الجامعة ، والضروريات الشرعية ، وحين يتعذّر ذلك بسبب اتساع الخلاف وتجاوز المحكمات ، وعدم القدرة على تلافيه بالحوار والمجادلة الحسنة ، تبقى الدائرة الأوسع ، وهي دائرة (لِتَعَارَفُوا)(الحجرات: من الآية13) ، لتكون المعرفة بينكم أساساً للعلاقة ، ولتتبادلوا المعارف ، ولتتعاملوا بالمعروف والبر والإقساط .

وربما تلتقي مصلحتك ومصلحة مخالفك في نقطة واحدة من منافع التجارة أو الإدارة أو الصحة أو التنمية أو الصناعة أو غيرها .

ومن نافلة القول أن آراء هؤلاء الأئمة لم تكن نشازاً بالنظر إلى ما قبلها ، فهي محصلة الموروث الفقهي السابق ، يضاف إليه آراء واجتهادات جديدة لم يسبقوا إليها في مسائل ونوازل ، بل في التأصيل والتقعيد ذاته .

وعليه فإن من الخطأ الزعم بأن أقوالهم تنسخ ما قبلها وتلغي ما سواها .

والواقع أن عمل الفقهاء الكبار في المذاهب ، وإن كان يسير ضمن الإطار العام غالباً ، إلا أنه لا يخلو من اختيارات تخالف المذهب ، بل تخرج عن أقوال الأئمة الأربعة .

وقد تتبعت اختيارات الإمام ابن قدامة في المغني فرأيت له أقوالاً وترجيحات حسنة خالف فيها الأئمة الأربعة بعدما ساق مذاهبهم .

ومثل هذا تجده في كل مذهب فقهي ، لأن أقوال الصحابة والتابعين والأئمة السابقين من فقهاء السلف ليست أقل أهمية ، وفيها ثروة عظيمة ، وفقه أصيل ، واستنباط ممن عاصر التنزيل ، وهم أهل اللغة ، وقد حفظت أقوالهم كما في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومصنفات ابن المنذر ، وكثير من السنن كسنن سعيد بن منصور والبيهقي ، والذي يقرأ متغيرات الحاضر الضخمة قد يرى أن توسيع دائرة الاختيار من أقوال السلف خارج الأربعة يبدو أمراً ملحاً .

إنها اجتهادات جوهرية لرجال القرون المفضلة ، المنصوص على خيريتها ، وهي تضيف مادة جديدة وهائلة للفقه الإسلامي ، وتحقق له التنوع والاتساع .

ولئن كان عصر من العصور لا يحتاج إلى استدعاء تلك الأقوال والاعتبار بها ، والبناء عليها ، فمن اليقين أن هذا ليس هو عصرنا الذي نعيش فيه .

وقد صنف ابن رجب الحنبلي كتاباً سماه (فضل علم السلف على علم الخلف) ولئن كان العلم خير كله ، فإن فضل علم السلف يجري على الأصول والفروع معاً ، وخاصة أن فقه الصحابة بالذات كان في الفترة الأولى التي ظل فيها الفقه مقترناً بالحياة بتنوعها وحيويتها وثرائها ، وشهدت فقهاء عظاماً كأبي بكر وعمر ومعاذ وعلي وابن عباس وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

المصدر: http://www.onislam.net/arabic/fiqh-a-tazkia/fiqh-papers/130978-2011-06-01-09-28-29.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك