فلسفة التعايش
إسلام العدل
لهدم صنم الوحدويَّة لا يكفي تجنّب مركباتها والعمل على إزالتها من البنيَة التحتيَّة لأفكارنا فحسب, بل لابد من استبدالها بمنظومة فكريَّة جديدة تضمن عدم نمو بذورها مرَّة أُخرى, تلك المنظومة يُمكننا تسميتها بـ”التعايش”.
وللتعايش تعريفات عديدة نستعرض بعضها, ثم ننطلق في ظلالها محاولين فهم فلسفة التعايش وآليات بنائه كجزء من نظام الأفكار الحاكم الذي نريد.
التعريف الأول: في علم اللغة:
تعايشوا: أي عاشوا على الألفة والمودة ومنه التعايش. وعايشه عاش معه, والعيش معناه الحياة, وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدخل (1).
التعريف الثاني: في علم الطبيعة:
التعايش: هو علاقة بين نوعين من الأحياء يستفيد خلالها كلاهما من الآخر.. أي أنَّه عبارة عن تفاعلات ثابتة وطويلة الأمد بين نوعين أو أكثر من الأنواع الحية والتي قد تكون مفيدة أو حيادية أو ضارة لأحدها أو جميعها (باللاتينية Symbiosos).
التعريف الثالث: في علم الاجتماع:
التعايش: يعني قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الاختلاف واحترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية فهو وجود مشترك لفئتين مختلفتين وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف (2).
وبالتالي يمكننا أن نخلص من هذه التعريفات الثلاث إلى تعريف شامل للتعايش:
التعايش هو: “علاقة تفاعليَّة, في بيئةٍ مشتركة, بين فئات مختلفة, بغرض تحقيق استفادة أو تبادل منافع, في ظل جوٍّ من الاحترام والمودة”.
ولذا فإنَّ فلسفة التعايش تبنى على الإيمان بالآتي:
- أنَّ البيئة التي نعيش بها ملكٌ مشتركٌ بين الجميع, وليست ملكًا لأحد دون الآخر.
- أنَّ الاختلاف سيظل قائمًا بين الفئات التي تتشارك نفس البيئة, وإذا لم يحسن استغلاله تكون نتائجه غير إيجابيَّة.
- أنَّ العلاقة التفاعليَّة تبنى على الاستفادة المتبادلة, والمنافع المشتركة, وتحفظ بإعلاء قيمة العدل, وتنمو بالمودة والألفة.
- أنَّ جوهر التعايش يقع في احترام حق الآخر في أن يملك فكرًا مغايرًا لفكرك.
- ولكي نستطيع تفعيل قيمة التعايش في مجتمعاتنا ونقله من مجرَّد فكرة إلى عالم التطبيق؛ فإنَّ هناك مثلث يحكم نظام أفكارنا, ويتكون من ثلاث مستويات, وتحكمه قاعدة هامة:
الأول: ما وراء النماذج (العقيدة):
هي النصوص المقدسة أو الأفكار المرجعيَّة والمبادئ الراسخة التي لا يُقبل أن يتم التنازل عنها أو التشكيك في صحتها وهي تمثل مرجعية تفكير الفرد وقد تكون غير سماوية (هي ما يدينه الفرد ويقدسه ولا يقبل التشكيك فيه أو المساس به).
الثاني : النماذج الإدراكية:
- النموذج الإدراكي التحليلي:
وهو ما يمكن أن نسميه بالإستراتيجية أو النظرية العامة التي تشرح وتفسر التاريخ وتحلل الواقع ومن خلالها يتم استشراف المستقبل بشكل نظري فلسفي دون الخوض في إجراءات تنفيذية.
-
- النموذج الإدراكي العملي:
هو الآليات والإجراءات التنفيذية التي يمكن من خلالها تفعيل النموذج التحليلي على أرض الواقع بشكلٍ عمليّ.
وتتميز النماذج الإدراكية بالمرونة لانتفاء صفة القداسة إذ أنَّها عبارة عن أفكار موضوعة لتحقيق مبادئ مقدسة هذه الأفكار تحتمل الصواب والخطأ.
الثالث: الباراديم:
ويتم تعريفه على أنَّه النظرة السائدة في المجتمع, أو مجموع القناعات المسيطرة على المجتمع, وفي هذا النموذج يمكننا اعتباره معبرًا عن القيم العامة المشتركة في المجتمع.
أما القاعدة:
“العقيدة تبنى على المفاصلة والنماذج تبنى على التعايش”
ونضرب مثلاً بفكرة العدالة الاجتماعية, فهي كقيمة في المستوى الثالث (الباراديم) قيمة مشتركة بين جميع طوائف المجتمع, ولا اختلاف حولها, ولكن إذا ما صعدنا للمستوى الثاني وهو (النماذج الإدراكية) فسيبدأ كل أصحاب رؤية فكرية في إنتاج استراتيجيات نظرية واليات تنفيذية لتحقيق العدالة الاجتماعية انطلاقًا مما يؤمن به في المستوى الأول (العقيدة).
فنجد التيار الليبرالي والشيوعي والإسلامي كلهم يقدر قيمة العدالة الاجتماعية كقيمة عامة, ويضع كل منهم آليات مختلفة لتحقيق تلك القيمة.. هذا التقدير للقيمة العامة يأتي إيمانًا بالنصوص المقدسة وتلك الآليات تم إنتاجها اعتمادًا على تلك النصوص التي تختلف من تيار إلى آخر.
وبالتالي يمكننا أن نمرر أي فكرة على هذا المثلث, فإذا كانت في المستوى الأول (العقيدة), فلا مجال فيها للتعايش فلا يعقل أن يتنازل مسلم عن آية قرآنية مثل تلك التي تحرّم الربا, كما لا يمكن أن تجبر غير المسلم على الإيمان بحرمانية الربا دينيًّا.
أو أن يتنازل ماركسي عن نظريات ماركس الاقتصادية, أو ليبرالي عن نظرية الحرية الفردية.
بينما يمكن بكل سهولة أن يتم التوافق على قيمة عامة في المستوى الثالث (الباراديم) كقيمة نهضة الاقتصاد.
هذا التوافق ينقلنا إلى صنع مساحة مشتركة في المستوى الثاني (مستوى الاستراتيجيات والآليات), فمن السهولة أن يتفق التيار الإسلامي والتيارات الأخرى على نظام بنكي لا يستخدم الفائدة الربوية طالما يحقق نهضة في الاقتصاد الإسلامي, ينطلق فيه من مبدأ إعمار الأرض, وبضابط حرمانية الربا, والتيار الآخر من مبدأ نهضة البلد, والذي يحقق المصلحة الأكبر.
ما نخلص إليه:
- القيم المشتركة هي نقطة محورية لبناء التعايش.
- الآليات هي جوهر عملية التعايش, إذ أنها غير مقدسة فيسهل التوافق عليها طالما تحقق القيم المشتركة.
- العقيدة تبنى على المفاصلة, لذا يجب تفعيلها في هيئة آليات ونظم قابلة للنقد والتعديل.
لذا أعتقد أنَّ على كل تيار يحمل أفكارًا مقدسة تحويل تلك الأفكار إلى آليات تنفيذيَّة غير مقدسة, تحقق قيمًا مُشتركة في المجتمع حينها سيكون التعايش واقعًا نحياه لا أمنيات نتمناها.
- المصدر: http://feker.net/ar/2011/06/12/8335/