أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم

أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم
د.وسيم فتح الله

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد؛
فهذا بحث تناولت فيه سورة إبراهيم متدبراً متفكراً بالقدر الذي يسره الله تعالى لي، ولقد تعرضت إلى المناحي التربوية والدعوية في هذه السورة من خلال السبر والاستقراء التام لآياتها الكريمة مستعيناً – بعد الله سبحانه وتعالى – بما تيسرت لي مطالعته من كتب التفسير لا سيما التفسير المأثور، ولقد جاء البحث على إيجازه منبهاً على حقائق عظيمة شملتها هذه السورة المباركة، ولقد بدأته بالتمهيد ثم جاءت مباحثه الثلاثة حيث تناولت في أولها سورة إبراهيم بتعريف عام لا بد منه لمن رام تفيؤ ظلال هذه السورة، ثم عرضت في المبحث الثاني الملامح العامة لمنهج الدعوة في هذه السورة حيث حددت رسالة الدعوة ثم صفات الرسل ثم معوقات الدعوة ثم أساليب الدعوة، أما المبحث الثالث فتناولت فيه منهج التوجيه الدعوي في السورة وملامح المنهج التربوي فيها ثم لخصت أهم نقاط البحث في الخاتمة دون تفصيل شديد خشية الإطالة.
وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت فيما عرضت وأسأله العفو عما به زللت، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، فهو وحده المستعان وعليه التكلان.

تمهيد

لقد جاءت الشرائع السماوية المختلفة بحقيقة واحدة هي أعظم حقيقة في الكون أعني حقيقة التوحيد كما قال تعالى:" وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" ، ولكن تنوعت أساليب وطرق عرض هذه الدعوة والتأكيد عليها من نبي إلى نبي ومن رسول إلى رسول ومن قوم إلى قوم، وليست شريعة الإسلام الخاتمة بعيدةً عن هذا التعدد الأسلوبي في عرض هذه الحقيقة الخالدة مراعاةً لتنوع مشارب الناس وأفكارهم وشبههم، قال تعالى:" ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً" ، ولا شك أن هيمنة القرآن الكريم ونسخه لما سواه من كتب يستلزم شموليةً في الخطاب تناسب كافة المشارب والمنازع الفكرية حين دعوتها إلى الحق، قال تعالى:" وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله" ، وهكذا كانت طبيعة هذا الكتاب الكريم في نفس الأمر، حيث أثبت القرآن الكريم قدرته على جذب الباحثين عن الحق إليه من كل عرق وحضارة ولغة ولون ليهتدوا إلى فحوى رسالته ولتكون السمة العالمية في خطابه وأسلوبه الدعوي بارزةً منذ بزوغ شمس الدعوة فإذا بالعربي يسلم مع الحبشي والروماني مع الفارسي وإذا كان الأمر كذلك ولما كنا مخاطبين بلزوم حمل الدعوة وأداء الرسالة إلى الناس كافة كان جديراً بنا أن نقف على بعض المعالم الأسلوبية في الخطاب الدعوي القرآني لتكون زاداً للمسلم في رحلة الدعوة والجهاد البياني ، ليتمكن من خلال هذه الأساليب من خرق حجب الشبهات التي تحول دون وصول نور الحق لتبديد ظلمات القلوب.
فإذا عُلم ما سبق فإن هذا البحث ليس إلا محاولة استقراء هذه الرسالة القرآنية في سورةٍ من سوره الكريمة هي سورة إبراهيم وسنرى – بإذن الله – كيف اجتمعت العديد من سمات المنهج القرآني الدعوي في هذه السورة المباركة على قصرها وإيجازها وبساطتها، وهل الإعجاز القرآني إلا هذا!

المبحث الأول : مدخل إلى سورة إبراهيم

جدير بنا إذ عقدنا العزم على دراسة الملامح الأسلوبية التربوية والدعوية في سورة إبراهيم أن نتعرف على هذه السورة المباركة بشيء من الإيجاز، ونتعرف على موضوعها بصورة مجملة إن شاء الله.

المطلب الأول : تعريف عام بسورة إبراهيم:

هذه السورة هي السورة الرابعة عشرة بترتيب المصحف الشريف وهي الثانية والسبعون بترتيب النزول ، ومجموع آياتها اثنان وخمسون آية كلها مكية كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله ونقل مثله الإمام القرطبي عن الحسن وعكرمة وجابر، ونقل أيضاً عن ابن عباس وقتادة استثناء آيتين أو ثلاث منها نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي من قوله تعالى :" ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً " إلى قوله تعالى :" فإن مصيركم إلى النار" (الآيات من 28 إلى 30).
ولم أقف لهذه السورة أو لبعض منها على سبب نزول معين صحيح، فهي مما نزل ابتداءً لمحض الهداية، اللهم إلا ما ورد في قوله تعالى :" ألم تر الذين بدلوا نعمة الله كفراً" حيث وردت روايات عمن نزلت فيهم هذه الآية كالتي ذكرها الإمام البخاري رحمه الله عن عطاء سمع ابن عباس " ألم تر الذين بدلوا نعمة الله كفراً" قال : هم كفار أهل مكة" ولكن هذه الروايات ليست نصاً في السببية فلا تصلح للاستثناء.

المطلب الثاني : الوحدة الموضوعية لسورة إبراهيم:

يقول الدكتور عبد الرحمن الميداني:" فعلى متدبر كلام الله أن يوجه عنايته ما استطاع لاكتشاف وحدة موضوع السورة القرآنية وارتباط المعاني التي اشتملت عليها جملها بهذا الموضوع الكلي.." ، والحقيقة أن التأمل والتدبر في سورة إبراهيم يُظهر بوضوح شديد الوحدة الموضوعية فيها، بمعنى أنك تقرأ السورة من أولها إلى آخرها وأنت تعيش جواً واحداً وتستشعر معنى واحداً لا تأخذك التفريعات بعيداً عنه ولا تسمح السورة لذهنك بالشرود عنه. ولئن كان هذا هو دأب السور القرآنية كلها على تفاوتٍ في وضوح هذه الظاهرة القرآنية، فإنك لا تجد أية صعوبة في استشعار هذه الوحدة الموضوعية في سورة إبراهيم، تماماً كما هو الحال في سور أخرى كسورة يوسف وسورة ق وسورة الرحمن حيث تبرز وحدة موضوع السورة بروزاً لا يخفى على الناظر.
وإن للتعرف على وحدة موضوع سورة إبراهيم – الذي هو الدعوة إلى التوحيد – فوائد جمة أوجزها فيما يلي :
1- إن تأمل هذه الوحدة الموضوعية في سورة متكاملة من سور القرآن المكي يشير إلى الأهمية القصوى التي أولاها القرآن الكريم لموضوع التوحيد، لا سيما وأن هذه السورة ليست الوحيدة التي تتفرغ لموضوع التوحيد فها أنت أمام سور كالإخلاص والكافرون وغيرها، والشاهد أن إفراد السور القرآنية على تنوعها في الطول والقصر بموضوع التوحيد تأكيد على أهمية وأولوية هذه الموضوع في الخطاب القرآني.
2- إن تأمل التنوع الأسلوبي الذي سلكته السورة في أدائها للخطاب الدعوي تؤكد على ضرورة مراعاة هذا التنويع عند خطاب المكلفين بحيث يراعى أحوال المدعوين والشبهات السائدة والعوائق المانعة من قبول الدعوة.
3- إن الوحدة الموضوعية في سورة إبراهيم ظلت بارزةً في السورة كلها من أولها إلى آخرها وكأنها تشير للدعاة إلى مبدأ منهجي مهم وهو عدم تجاوز مسألة تقرير العقيدة والتوحيد إلى أي شيء البتة حتى يتم الفراغ من تقرير الأساس العقدي.
4- إن الوحدة الموضوعية في هذه السورة ظهرت أيضاً في السياق التاريخي الذي سردته السورة من وقائع الأمم السابقة والرسل السابقين لتؤكد مرةً أخرى على وحدة رسالة الرسل وأن دينهم التوحيد من أولهم إلى آخرهم.
5- إن الوحدة الموضوعية لسورة إبراهيم تعين المتدبر على فهم الجزئيات المذكورة في السورة ضمن هذا السياق الذي يقرر الفاصل والفارق بين الإيمان والكفر؛ بحيث إن كل انقياد لأمر وارد في هذه السورة يمثل طريقاً لتحقيق الإيمان، تماماً كما أن كل مخالفة لأمر وارد أو تلبُّسٍ بمنهيٍ عنه في السورة يشكل مورداً من موارد الكفر إن لم يكن كفراً بعينه، وتدبُّر هذا دقيق جداً كما سيظهر معنا في مثال لاحق عند الحديث عن كفران النعم إن شاء الله.
هذه بعض الملامح العامة التي أحببت أن أستهل بها رحلتنا في رحاب هذه السورة المباركة، ولسوف تتضح إن شاء الله أبعاد هذه الفوائد بشكل أدق في سياق استعراض جزئيات السورة، فهلم متكلين على الله، رب يسِّر وأعِن.

المبحث الثاني: ملامح منهج الدعوة في سورة إبراهيم

لقد جاءت سورة إبراهيم بسبرٍ شامل لأهم مقومات المنهج الدعوي الناجح، ولسوف نستعرض أهم هذه الملامح في هذا المبحث مع ذكر مواضع الدلالة عليها من السورة، ولقد أفضى بي البحث والاستقراء في هذه السورة إلى تحديد خمسة محاور رئيسية لهذا المنهج تمثلت في تقرير رسالة الدعوة وبيان صفات الداعية والتنبيه على معوقاتها وعرض لوسائلها ثم أولت عنايةً شديدة لأنواع المخاطبين بهذه الدعوة حيث ظهر التنوع الخطابي واضحاً في أساليب التوجيه المختلفة لشتى فئات المخاطبين كما سيظهر معنا إن شاء الله.

المطلب الأول : رسالة الدعوة :

لقد جاء تقرير هذه الرسالة وبيان الهدف الدعوي في هذه السورة بأسلوب سهل بسيط مباشر لا لبس فيه ولا غموض، وتتمثل عناصر هذه الرسالة في آيتين معجزتين استهلت السورة بإحداهما واختتمت بالأخرى؛ فالأولى قوله تعالى :" آلر كتابٌ أنزلناه إليك لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" ، والثانية قوله تعالى:" هذا بلاغٌ للناس وليُنذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذَّكر أولو الالباب" ، فهاتان الآيتان تقرران بكل وضوح أن هدف هذه الرسالة استنقاذ الناس أجمعين من (ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة) ، وهذا لا يتحقق إلا بتحقيق التوحيد الخالص المجرد لله تعالى كما ذكر في الآية الثانية " وليعلموا أنما هو إله واحد" ، وهنا نكتة دقيقة وهي أن ذكر التوحيد لم يكن صريحاً في فاتحة السورة وإنما جاء بهذه الصراحة في خاتمتها، ولعل الحكمة من ذلك لفت انتباه المخاطبين إلى ما في دعوة التوحيد هذه من تحقيق مصلحتهم لأن الناس مجبولة على اتباع ما فيه مصلحة لهم، فضربت الآية الأولى المثال للكفر وللإسلام بما جُبل الناس على أنه مصلحة (وهذا على سبيل التمثيل، لأن الكفر بمنزلة الظلمة والإسلام بمنزلة النور) ، ثم مضت السورة في الدعوة إلى التوحيد الذي هو حقيقة الإسلام وختمت السورة بذكر التوحيد صراحة إشارةً إلى أن هذه هي النتيجة القمن أن يصل إليها أولو الألباب والعقول النيرة حين تلتفت إلى ما جاء في السورة من توجيهات كما سيأتي. ولا بد لنا من أن نقرر جملة من المبادئ التي رسختها هاتان الآيتان فيما يتعلق بطبيعة الرسالة ومنها:
أولاً: التأكيد على عالمية الدعوة وقد جاء ذلك في فاتحة السورة في قوله تعالى:" لتُخرج الناس" كما جاء في خاتمتها في قوله تعالى:"هذا بلاغٌ للناس"، ولا شك أن في هذا تأكيداً على شمولية الدعوة من جهة وعلى أنها ناسخة ما قبلها وخاتمة الشرائع من جهة أخرى.
ثانياً: بيان تحقق هداية الإرشاد بتزيل كتاب الله عز وجل وأن هذا الكتاب هو مَعين هذه الدعوة ونبعها الصافي وهذا جليٌ في قوله تعالى :" كتابٌ أنزلناه إليك " حيث أكد على مصدرية الوحي ومحورية دور الكتاب فلا يمكن أن يستقيم حال الناس وهم له هاجرون ولا يمكن لهم الانتفاع بنذارته وهم عنه لاهون، وهذا النوع من الهداية عام لكل الناس وبه يتحقق الإعذار.
ثالثاً : بيان أن تحقق هداية التوفيق موقوفة على إذن الله عز وجل حتى لا يغتر الناس بالركون إلى عقولهم وأهوائهم ويعترفوا بالفضل لله تعالى أولاً وآخراً ويحترزوا عن أسباب خذلان الله تعالى لهم أشد ما يكونوا محتاجين إليه، وهذا الأمر واضح وجلي في قوله تعالى :" بإذن ربهم"
رابعاً : التأكيد على أن الله تعالى لا تنفعه طاعة المؤمنين ولا يضره عصيان الكافرين، وأنه سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب غير محتاجٍ لطاعة أحد من عبيده ولا آبهٍ لمن أبق منهم، ولهذا أكدت الآية على أن الله تعالى هو " العزيز الحميد " فهو تعالى العزيز بذاته (الذي لا يغلبه غالب) والحميد بذاته ( المحمود بكل لسان والممجَّد في كل مكان على كل حال) ، ولكن الذي ينتفع من سلوك هذا الصراط هو العبد المطيع الذي يعتز بسلوكه الطريق الموصل إلى مرضاة ربه مهما استوحش الطريق وقل الصاحب والرفيق، فيكفيه عزاً أنه متذلل للعزيز ويكفيه فخراً أنه متعبدٌ للحميد.

هذه ببساطة ملامح هذه الدعوة، ووصف البساطة في مقام الخطاب الشامل للناس كافة على تفاوت في المشارب والعلوم والوعي والتفكير والاستيعاب هو وصف مدح لأنه هو الأقدر على توصيل أعظم حقيقة – حقيقة التوحيد – إلى كل عقل وقلب من غير أن تحول دون ذلك تقعرات الفلاسفة وتشدقات الكلاميين وتعقيدات العلماء ، بل يمكن لأكثر الناس عاميةً وبداءة أن يدرك هذه الحقيقة بنفس الوضوح الذي يدركه جهابذة العلم.
ويمكن أن نستنبط مما تقدم عدة قضايا أسلوبية ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يلتزم بها في سياق الدعوة إلى الله تعالى وهي:
1- الوضوح في بيان ما يدعو إليه مع مراعاة القدر المشترك الأدنى لأفهام الناس.
2- مراعاة الأولويات في الدعوة فيقصر همه وجهده على مسائل التوحيد قبل غيرها.
3- شحذ الهمم ورفع المعنويات من خلال إثارة معاني العزة عند الداعية والمستجيبين له لا سيما مع وحشة الطريق للسالكين الأوائل.

المطلب الثاني : صفات الرسل:

إن الرسول هو حامل هذه الدعوة من الله تعالى إلى قومه، ، ولا شك أن الأسلوب الدعوي الناجح هو الذي يراعي متطلبات شخص الداعية ويعمل على تهذيبها كي يكون أدعى لاستجابة الناس ، ولدى تأمل هذه السورة وجدنا جملةً من هذه الملامح التي يتصف بها الرسل وهي :
أولاً: الإرسال بلسان القوم:
إن توافق لسان الرسول البشري مع لسان قومه أمر لازم لتحقق البيان عن الله عز وجل، ولهذا نجد الآية الكريمة تؤكد على تقرير ذلك حيث قال تعالى:" وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" ، وهذا أصلٌ ضروري في إقامة الحجة بهداية الإرشاد التي هي أثر من آثار رحمة الله تعالى بالناس، ولهذا كان (من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم) ، قلت: وبهذا البيان الجلي تتحقق هداية الإرشاد والدلالة على الحق ، ولذا ناسب أن يتبع ذلك بتأكيد أن هداية التوفيق لا تكون إلا بمشيئة الله مثوبةً من عنده سبحانه لمن أقبل على الدعوة مستمعاً منصتاً مخبتاً منقاداً للحق.
ثانياً: التوكل على الله :
إن الرسول والداعية الناجح هو الذي يستعين بالله على تنفيذ أوامر الله، ويتوكل على الله حين يأخذ بأسبابه مهما كانت هذه الأسباب قوية، وأي شيء أقوى من معجزاتٍ أيَّد الله تعالى بها رسله وبينات وبراهين أقام على أيديهم بها حجته، ولكن ذلك لا يكفي بل إن مقام شهود هذه الأسباب هو – بالنسبة للداعية الناجح – عين مقام شهود الفقر إلى الله وهو بذلك أشد داعٍ إلى التوكل على الله تعالى حق توكله دونما ركون لما سواه مهما كان قوياً، بل إن هذا التوكل يصبح في سياق مجابهة الرسل أقوامهم نوعاً من التحدي المعجز بحد ذاته ، فهو (كالإشارة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم بآية عظيمة وهو أن قومهم في الغالب أن لهم القهر والغلبة عليهم، فتحدَّتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله في دفع كيدهم ومكرهم وجازمون بكفايته إياهم، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم وإطفاء ما معهم من الحق) ولقد جاءت السورة بتأكيد هذا الأمر في مقام محاججة الرسل قومهم ، تأمل قوله تعالى:" قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنُّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سُبُلَنا ولَنصبرنَّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون" ، والحقيقة أنه لا يمكن أن تقوم للداعية قائمة في مواجهة مهمة البلاغ إلا بتوكل صحيح على الله تعالى، ولهذا كان توكل الرسل عليهم الصلاة السلام أكمل ما يكون من التوكل لأنه في أعلى ما يكون من المطالب وأشرف ما يكون من المراتب ، فقمنٌ بالداعية إلى الله تعالى أن يسير على خطاهم وأن يقتفي أثارهم وسننهم.

ثالثاً: الصبر على الأذى:
لقد تقدم معنا في آية التوكل قوله تعالى :" ولنصبرن على ما آذيتمونا" ، ولا شك أن في هذا إشارة جلية من الله تعالى إلى أن الرسل سيلاقون من المشاق والمتاعب ما يستلزم استحضار هذا الابتلاء والاستعداد لمواجهته، ولقد جاء التزام الرسل بهذا الصبر مؤكداً بلام القسم وبنون التوكيد مبالغةً في الثبات وإمعاناً في إظهار الثقة بالله تعالى أنه ينصرهم.
مما تقدم نستنبط عدة قضايا أسلوبية تتعلق بصفات الداعية إلى الله تعالى أوجزها فيما يلي :
1- مخاطبة الناس بما يفهمون؛ فهدف الداعية أن يوصل رسالة التوحيد إلى الناس لا أن يستعلي على القوم أو يتشدق بما لا يفهمون، وفي إرسال الله تعالى رسله بلغة أقوامهم تنبيه إلى ذلك.
2- ضرورة التزود بزاد التوكل والصبر ؛ فطريق الدعوة شاق وموحش، والمعوقات – كما سيأتي – ليست بالقليلة ولا باليسيرة، فلا بد للداعية من أن يستعد لتحمل الأذى والمشقة في سبيل البلاغ عن ربه.

المطلب الثالث: معوقات الدعوة:

إن دعوة الناس إلى التوحيد دعوة يسيرة بسيطة في حقيقتها، ولكن كائنات الظلام التي ترتعد فَرَقاً من أي شعاع من نور الحق لا تهنأ ما لم تضع المعوقات والعراقيل في طريق الدعاة، فكان من الضروري تنبيه الدعاة إلى الله تعالى إلى وجود هذه المعوقات حتى يتم التعامل معها بما يكون أرجى لنجاح الدعوة وتبليغ الرسالة، ونحن نجد السورة الكريمة تستفتح ببيان جملة من هذه الموانع وهذا أسلوب حكيم في التعامل مع قضية الدعوة، لأن الحق لا بد له من محلٍ قابل، ولا بد للمحل القابل من أن يُستفرغ من الشواغل الأخرى لأن المشغول لا يُشغل، فلنتدبر في تلك الموانع التي بينتها السورة الكريمة حيث قال تعالى :" وويلٌ للكافرين من عذاب شديد. الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلالٍ بعيد" ، وقال تعالى :" ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردُّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" ، وقال تعالى:" وقال الذين كفروا لرسلهم لنُخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودُنَّ في ملتنا" ، فهذه الآيات الكريمات قد ذكرت مجموعة من معوقات الدعوة يحسن بنا أن نتناولها بشيء من التفصيل، بعد أن ننبه إلى أن هذا البيان في السورة هو أحد الأساليب الحكيمة في إعداد الدعاة وتهيئتهم، فلا بد للداعية من أن يعلم حقيقة ما هو بصدده حتى يكون أتم استعداداً وأكثر تقبلاً لما سيواجهه من معوقات، وتأمل مصداق هذا في حديث ابتداء الوحي حين أتت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فأخبره رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏خبر ما رأى فقال له ‏ ‏ورقة:" ‏هذا ‏الناموس ‏الذي نزل الله على ‏‏موسى، يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك" فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم:" ‏أوَمُخرِجيَّ هم؟! " قال :"نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" ، قلت: فهذه إشارة واضحة إلى أن هذه سنة من سنن الله تعالى في رسله ومن أُرسلوا إليهم، وتوجيه للنبي صلوات الله وسلامه عليه ليكون مستعداً لهذا الحمل الثقيل، وصدق الله العظيم إذ قال:" إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً" ، وفيما يلي تفصيل ما ورد في هذه السورة من معوقات الدعوة :

أولاً: حب الدنيا على الآخرة:
وقد جاء هذا وصفاً للكافرين في قوله تعالى :" وويلٌ للكافرين من عذاب شديد. الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة"، وهذا المعوِّق يمكن اعتباره في الحقيقة الداء الأصيل لكل من وضع أمام الدعوة عائقاً أو اعترض طريقها بعقبة أو نحوها، لأنهم (يقدمونها [ أي الدنيا] ويؤثرونها عليها [أي الآخرة ] ويعملون للدنيا ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم) ، قلت: فالذي يعمل للدنيا يتخبط في كل أوديتها ويسير وراء كل هوى، فكلما عارض الشرعُ ودعوةُ الحق هواه أخذ يضع من العوائق والعقبات ما يحجب دعوة الحق عنه لتخليَّ بينه وبين هواه، وهذا عندي هو وجه كون هذا هو المعوِّق الأصيل للدعوة، فهو يتعدي كونه مانعاً من قبول الفرد للدعوة وتلقيها إلى تجنيد هذا الفرد تحت إمرة إبليس للوقوف في طريق الدعوة بشتى السبل كما سيلي، ولهذا كان مناسباً أن ذكرت الآية الكريمة هذا العائق أول ما ذكرت ، والله تعالى أعلم.

ثانياً: الصد عن سبيل الله :
وسبيل الله هنا بمعنى ( اتباع الرسل) ، فهؤلاء الكفار لا يكتفون برفض دعوة الرسل لهم ولكنهم يصرفون الناس عن اتباع ما جاءت به الرسل، وهذا الصد يكون بالرفض تارة وبالإكراه تارة وبالتهديد تارة وبالتشويه والتحريف تارة كما بينت الآية نفسها في قوله تعالى:" ويبغونها عوجاً" أي (يحرصون على تهجينها [ أي سبيل الله ] وتقبيحها للتنفير منها ) ، ولما كان دأب هؤلاء هو التشهير بالدعوة والدعاة فقد رد عليهم القرآن بمثل ما فعلوا فشهَّر الله تعالى بهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد وبيَّن أنهم معادون لمولاهم ومعادون للحق ومعادون لأنفسهم في اعتراض دعوة الرسل وتنفير الناس منها، ولقد ذكر الله تعالى أمثال هؤلاء في غير موضع من القرآن، فهذه الآية نظير قوله تعالى :"قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافلٍ عما تعملون" ، فكان جزاء هؤلاء من جنس عملهم ولبئس ما عملوا.

ثالثاً: الاستهزاء بالرسل :
وهذا مسلك آخر لهؤلاء الكفار وهو دليل على إفلاس حججهم بل عدمها، إذ لو كانت لهم حجة من المعقول أو أثر صحيح منقول لخاصموا به الرسل، ولكن لما أعيتهم الحيلة جحدوا " فردُّوا أيديهم في أفواههم" ، ولقد تعددت أقوال أهل التفسير في المراد من هذا الوصف، وذكر منها الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى أن معناها أن الكفار عضوا على أناملهم غيضاً مما جاء به الرسل، أو أنهم فعلوا ذلك من العجب لما سمعوا من دعوة الرسل، أو أنهم إنما يشيرون بأيديهم إلى أفواه الرسل ليسكتوا عما جاءوا به، أو أنهم كذبوهم بأفواههم إضافة إلى أقوال أخرى، ، وأول الأقوال مأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولعله أصح الماثور في الآية إسناداً، ووجهه ابن جرير الطبري بقوله تعالى :" وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" .قلت: إن تأمل هذا الوصف – أعني قوله تعالى" فردُّوا أيديهم في أفواههم"- يوحي بشيء من الاستهزاء والتهكم وهذا مشاهد ومعروف عند الناس فترى الرجل إذا تكلم بكلمة لا يحبها القوم وضعوا أيديهم على أفواههم وتهكموا وربما تبسموا أو ضحكوا استخفافاً واستهزاءً بما يقول، وعندي أن هذا لا يتعارض مع ما أُثر عن ابن مسعود رضي الله عنه بل يكون ما ذكره من عضهم على الأنامل غيظاً في حال السر واختلائهم ببعضهم البعض كما ذكر تعالى:" وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" ، ويكون ما ذكرتُه من الاستهزاء والاستخفاف والتهكم في الملأ والعلن وهذا أبلغ في الصد عن سبيل الله من كونهم يظهرون الغيظ مما جاءت به الرسل، والله تعالى أعلم.

رابعاً: إثارة الشكوك والشبهات :
وقد فضحت السورة هذا المسلك أيضاً في قوله تعالى :" وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب"، وردت عليهم رداً حاسماً في قوله تعالى :" قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض " ، ذلك أن هذه الشبهة شبهة واهية لا تستحق النقاش والجدال فكان كافياً في الرد عليها تقرير ما هو مستقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، ولكن الغرض هنا التنبيه على مدى انحطاط هؤلاء الكفرة الصادين عن سبيل الله فهم لا يتورعون عن إثارة الفتنة والشبهة مهما كانت الحقيقة بدهية في العقول، ولكن ما تقول فيمن جعل الله في قلبه مرض وعلى بصره غشاوة وفي أذنه وقر نسأل الله السلامة والعافية.

خامساً : الإيذاء الحسي والإخراج من الأرض:
وهذا التهديد الذي واجهت به أقوام الرسل الدعوة إلى الله تعالى كما حكت الآية تهديدهم:"لنُخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودُنَّ في مِلَّتنا "، ولا شك أن هذا التهديد يعتبر من المعوقات المهمة لانتشار الدعوة وتقبل الناس لها، فالمرء مجبول على حب موطنه والأنس به وكراهة الإخراج منه، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزْوَرَة فقال:" والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" ، ولقد فصلَّت آيات أخرى في كتاب الله تهديد الكفار هذا لرسلهم، فجاء قوله تعالى عن قوم شعيب :" لنُخرجنَّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودُنَّ في ملتنا قال أولو كنا كارهين" ، وقوله تعالى عن قوم لوط :" فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" ، وقال تعالى عن قريش :" وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" ، . فهذا تنبيه للرسل وللدعاة من بعدهم إلى عِظم ما سيقابلهم به قومهم، وأن هذا يجب ألا يثنيهم عن المضي قُدماً في أداء الرسالة، والله تعالى متكفل بأولئك ولئن مكروا مكراً فالله تعالى محيطٌ بمكرهم لا محالة.
بعد هذا الاستعراض الموجز لما ورد في هذه السورة من إشارة إلى بعض المعوقات الرئيسية في طريق دعوة الرسل يمكننا استخلاص جملة من العناصر الأسلوبية المتعلقة بالدعوة فيما يلي:
1- الاعتناء بتربية الدعاة وتهيئتهم لما هم مقبلون عليه من شدائد وابتلاءات، وذلك من خلال الإشارة إلى أن طبيعة الدعوة يلازمها صراعٌ بين الحق والباطل، ولما كان أهل الباطل مفلسين من جهة الحجة والدليل لم يكن لهم من سبيل سوى وضع المعوقات والعراقيل في طريق الدعوة.
2- الاعتناء بفضح أساليب الباطل في مقاومة الحق سواء أكانت أساليب مادية – كالإيذاء والطرد- أم أساليب معنوية كإثارة الشبهات والاستهزاء ونحوه.

المطلب الرابع: وسائل الدعوة :

لا شك أن رسالة التوحيد رغم بساطتها وموافقتها للفطرة السليمة تحتاج إلى مراعاة أحوال المخاطبين وما تولد لديهم من شكوك وحجب مانعة من قبول الدعوة، ولهذا تجد التعدد الأسلوبي في خطاب المكلفين سمةًَ بارزةً في القرآن والكريم، والسورة التي بين أيدينا تلتزم بهذا المنهج بطبيعة الحال لا سيما وأنها من السور المكية التي عنيت بتقرير مسائل العقيدة، وفيما يلي استعراض لأهم الوسائل والأساليب الدعوية الواردة في هذه السورة سردتها على الترتيب الوارد في السورة:

أولاً: التنبيه بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية:
لقد جاءت عدة آيات في هذه السورة منبهةً على ذلك، ففي قوله تعالى :" الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض" حيث جاء بصيغة العموم (ما) ليدل على إفراده تعالى بكل ما في السماوات والأرض (أي ملكاً وعبيداً واختراعاً وخلقاً) ، وهذا مثل قوله تعالى :"قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى" وهو (استفهام معناه الإنكار) ، وقوله تعالى :" ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد" وفيه التنبيه على أن هذا الخلق ليس خلق عابثٍ ولا لاعب تعالى الله عن ذلك، ولكن (ليستدل بها على قدرته) ، وقوله تعالى :"الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخَّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخَّر لكم الأنهار. وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخَّر لكم الليل والنهار" حيث فصلت هذه الآية في مظاهر ربوبية الله تعالى من حيث الخلق والتدبير ، وحذار أن تتوهم التكرار المحض في هذه الآيات، بل كل آية منها تأتي في موضعها لتنبه على أمر أو مسألة مستقلة ولا يمنع استعمال نفس الشاهد من تعدد المشهود عليه، فالآية الأولى استدل بها على انفراده تعالى بالملك،والآية الثانية دلت على انفراده تعالى بالخلق، والآية الثالثة دلت على انتفاء العبثية في أفعال الله تعالى، والآية الرابعة دلت على انفراده تعالى بالأمر والتدبير؛ فإذا جمعت ما تقدم وصلت إلى تقرير توحيد الربوبية الذي هو ( إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة؛ في الخلق والملك والتدبير).
وهذا التقرير من الأساليب القرآنية المعهودة التي تستثمر البدهية المطلقة المستقرة في قلوب وعقول الناس وهي أن الله تعالى هو وحده الخالق والصانع فتنطلق من هذه البدهية إلى تقرير لازمها وهو إفراد من تفرد بالربوبية بالألوهية، تأمل مرةً أخرى قوله تعالى:"قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى" تجد أن الآية وجهت إلى توحيد الألوهية – بعد تقرير إفراده تعالى بالخلق والربوبية – ببيان أن الله تعالى وحده هو الذي يغفر الذنوب – وهذا من خصائص الألوهية بلا ريب كما جاء في الحديث القدسي :" يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم" فهذا صريح في كون المغفرة متعلقة بالألوهية.
ومن جهة أخرى فلقد جاءت إحدى الآيات في هذا المقام – مقام التذكير بربوبية الله تعالى وحده – لتنبه على قضية عقدية أساسية هي قضية البعث، وذلك في قوله تعالى :" ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك علىالله بعزيز" فهذا إخبار من الله تعالى بقدرته على معاد الأبدان (بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس) وهذا من قبيل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وهذا من الأساليب القرآنية المعهودة كما في قوله تعالى:" أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير" .

ثانياً: التذكير بنعم الله تعالى :
وهذا الأسلوب قريب من الأسلوب السابق لأن نعم الله تعالى وعطاياه ومنحه من آثار ربوبيته سبحانه وتعالى، بل هو أسلوب أقرب إلى الحس والمشاهدة بحيث يصعب إنكاره إلا من جاحد للنعمة كافرٍ بها، ونحن نجد فيضاً من الآيات المذكرة بنعم لله تعالى على اختلاف في هذه النعم في هذه السورة الكريمة، من ذلك قوله تعالى:" ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرِج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور" ، وأيام الله (أياديه ونعمه عليهم) ، قلت : ولقد جاء هذا المعنى في حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"إنه بينما موسى عليه السلام في قومه يُذكرهم بأيام الله وأيام الله نعماؤه وبلاؤه.."الحديث ، وقد فسرته بذلك أيضاً الآية التالية حيث قال تعالى:" وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم" فهذه الآية صريحة في بيان أيام الله وأنها ما امتن الله تعالى به على بني إسرائيل من نعمة النجاة من عذاب فرعون وبأسه ما هو حري بهم أن يذعنوا بالطاعة والانقياد لله تعالى والإخلاص له بالعبادة، ولقد جاء مثل هذا التنبيه في خطاب مشركي قريش حيث قال تعالى:"ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.جهنم يصلونها وبئس القرار" ، حيث ذكر ابن كثير عن ابن عباس أن هؤلاء هم كفار أهل مكة ، جاءتهم نعمة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا النعمة وجحدوا بها وأهلكوا أنفسهم وقومهم في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة حيث ماتوا على الكفر والعياذ بالله.قلت: وأي نعمة أعظم من نعمة الإسلام والهداية إلى التوحيد، وأي خسارة أعظم من الإعراض عن هذه النعمة.
ثم جاءت آية أخرى في هذه السورة وهي عامة غير مختصة بمناسبة حيث قال تعالى:" وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلومٌ كفَّار" وقد اختتمت الآية بوصف الإنسان بالظلم والكفر بصيغة المبالغة، ولا شك أن وصف الظلم وصف ٌ محتمل – أعني للكفر ولما هو دونه من (وضع الشيء في غير موضعه) - وكذلك لفظ الكفر أيضاً محتمل فيحتمل المعنى الاصطلاحي بمعنى ما يناقض الإيمان كما يحتمل المعنى اللغوي بمعنى الكفران أي ( ستر نعمة المُنعِم بالجحود) ، ويقارن الدكتور عبد الرحمن الميداني بين ختم هذه الآية بما سبق وبين ختم نظيرها في سورة النحل بأن الله غفور رحيم حيث قال تعالى:"وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم" فيقول ما حاصله أن تجاهل الناس عن بعض نعم الله تعالى وعدم مقابلتها بالشكر والعرفان يتسبب في رذيلتين هما استخدام النعمة في غير موضعها وهذا ظلم، وجحود النعم كلها أو بعضها مع تفاوت في نسبة هذا الجحود، فالمؤمنون العصاة من الناس يتصفون بمقدار من هاتين الرذيلتين لا يتعارض مع صحة الإيمان وأما الكافرون يجاوزون بتلبسهم بهاتين الرذيلتين إلى دركات سفلى تتنافى مع صحة الإيمان والإسلام. فتكون آية النحل قد راعت ظلم عصاة المؤمنين وكفران النعمة فختمت بوصف المغفرة والرحمة ترغيباً وتكون الآية في إبراهيم قد تناولت ظلم الكافرين وكفرانهم للنعمة كفراً أعظم حيث يستفاد من صيغة المبالغة تجاوز هذا الظلم والكفران حدود استبقاء وصف الإيمان معها . قلت: ولعل سياق السورة – أعني سورة إبراهيم – يقترب بالوصفين ( الظلم والكفران) من معنى الكفر المخرج من الملة وهو المناسب للمقام والله تعالى أعلم، وأياً ما كان فلا شك أن وضع نعمة الله في غير موضعها وجحود هذه النعمة طريق موصلٌ إلى الكفر والهلاك ويتفاوت الناس في التردي في دركات هذا الطريق فوجب الحذر.
وحاصل هذا الأسلوب أنه يهدف إلى استثمار ما جُبلت عليه الأنفس من العرفان والشكر إلى من أسدى إليها جميلاً فما بال المرء مع ربه ومولاه الذي أورد عليه من النعم ما تتقاصر الأعمار عن تعداده ناهيك عن الوفاء به، فحري بهذا الأسلوب أن يستنقذ من في قلبه بذرة صلاح من مورد الهلاك وطريق الكفر والجحيم.

ثالثاً: أسلوب الترغيب والترهيب:
وهذا أسلوب من الأساليب القرآنية يُراعي فيه طبيعة النفس البشريه المجبولة على محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والإقبال عليه وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه، فتجد القرآن يرغب الناس في اتباع الهدى من خلال الوعد بالخير المترتب على ذلك، ويُرهبهم من اتباع الباطل من خلال الوعيد المترتب على ذلك أيضاً، ولا شك أن الجمع بين الترغيب والترهيب مراعاة للتوازن النفسي عند الإنسان فهو في بعض الحالات أشد استجابة لدواعي المصلحة فينفعه الترغيب وفي حالات أخرى يكون أشد انسياقاً وراء الهوى والشهوات فلا يرعوي إلا بالترهيب، وكان من كرم الله تعالى أن كان الوعد لازماً والوعيد بخلافه.
ولقد أوفت سورة إبراهيم هذا الأسلوب القرآني حقه، ولقد استفتحت السورة بالترهيب في قوله تعالى :"وويل للكافرين من عذاب شديد" وهو استفتاح مناسب حيث جاءت السورة لتعالج واقع الكفر والشرك فكان مناسباً أن يتجه الخطاب إلى التخلية وذلك بالترهيب والتنفير من مآل ما هم عليه، ثم تكرر مثل هذا الترهيب والتهديد في قوله تعالى:" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" وهو تهديد بزوال النعمة أي ( إن كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها "إن عذابي شديد" وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها) قلت: وهذا ينال بلا شك أعظم النعم وهي نعمة الإسلام والهداية إليه أعني هداية الإرشاد، فمن كفر هذه النعمة وجحدها ولم يكن محلاً قابلاً لها عاقبه الله تعالى بالحرمان منها فيحرمه الاهتداء بها – أعني هداية التوفيق – ويختم على قلبه والعياذ بالله وذلك هو الخسران المبين. ثم جاء التهديد بالاستبدال في الدنيا والآخرة؛ أما استبدال الدنيا فقوله تعالى :"ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد. واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" وهو خطاب للموحدين يهدد فيه بإحلالهم مكان المعارضين من الكفار، وتكرر ذلك صريحاً في قوله تعالى:" إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلقٍ جديد" وأما الاستبدال في الآخرة فهو بأن يبدلهم تعالى بمقاعدهم في الجنة مقاعد في جهنم يصلونها وبئس المصير كما قال تعالى:"من ورائه جهنم ويُسقى من ماء صديد. يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ" ويشهد لمعنى الاستبدال هذا ما ورد في حديث أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول هذا فكاكك من النار" ، ثم يأتي ترهيب آخر من حبوط الأعمال يوم القيامة مهما عظمت ومهما حسنت في ذاتها فهي ليست بشيء إذا ما أتى العبد ربَّه كافراً، قال تعالى :" مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد" وأي ترهيب أشد من هذا حين ينتظر الكفار ثواب أعمالهم فإذا (طلبوا ثوابها من الله تعالى لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء فلم يجدوا شيئاً ولا ألفوا حاصلاً إلا كما يتحصل الرماد إذا اشتدت به الريح العاصف) ، ثم تأمل بعد ذلك ما أعد الله تعالى من العذاب المقيم لمن أعرض عن صراطه المستقيم قال تعالى:"جهنم يصلونها وبئس القرار. وجعلوا لله أنداداً ليُضلوا عن سبيله قل تمتعوا قليلاً فإن مصيركم إلى النار" ، وذكر الأنداد هنا مناسب جداً لينبه سبحانه وتعالى إلى أن هذه المعبودات بالباطل لم تكن لتغني عن عابديها شيئاً وإنما حالها معهم كما قال تعالى في سورة أخرى:" إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون" ، ثم جاءت هذه الآية في مقام الترهيب حيث قال تعالى :" وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال" ، فمهما كان مكر هؤلاء فإن الله تعالى (محيط به علماً وقدرةً) وهذا ترهيب بما عند الله تعالى من القدرة والمكر الذي هو في مقابلة مكرهم السيء، والله تعالى هو خير الماكرين. وأنت ترى أن آيات الترهيب هذه فيها نوع من التدرج الذي وصل بنا رويداً رويداً إلى هذه الآية الجامعة فمهما يبذل المعاندون من جهد ومهما يمكرون من مكر فإن الله تعالى محيط بهم وهم لا يعجزونه، ولعذابه تعالى في الآخرة أشد وأبقى لو كانت لهم قلوب تفقه أو آذانٌ تسمع أو أعين تبصر.
أما جانب الترغيب فنجد الآيات قد حشدت جملةً من الوعود الجميلة التي يمكن تقسيمها إلى وعود معجلة في الدنيا وأخرى مؤجلة في الآخرة؛ أما الأولى فمنها الوعد بالزيادة لمن شكر نعمه حيث قال تعالى:" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم" ، والنعمة الواجب شهودها في هذا السياق هي نعمة الإسلام والهداية إلى كلمة التوحيد بحيث يكون ثواب من أقبل على هذه النعمة بالانقياد والشكر مزيد تثبيت وهداية وتوفيق وقد جاء هذا صريحاً في قوله تعالى :" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا" وهذا في العاجل " وفي الآخرة " وهذا في الآجل كما سيأتي إن شاء الله، ومن هذه النعم العاجلة مغفرة الذنوب وعدم إهلاكهم بها في الدنيا حيث قال تعالى:" يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى" يعني (الموت، فلا يعذبكم في الدنيا) ، ومن وعد الله تعالى لمن استجاب الله في الدنيا أن يستبدل بهم من أعرض عن ذكره ويخلفهم في الأرض، قال تعالى:"ولنسكننكم الأرض من بعدهم " فهذا صريح أنه في العاجل حيث وعد (بالعاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم جزاء "لمن خاف مقامي" عليه في الدنيا ) ، أما الوعود الحسنة والرغائب الآجلة فما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تأمل معي قوله تعالى:"وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام" وقد جاء هذا الوعد الحسن ترغيباً بعد بيان ( مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال وأن خطيبهم إبليس [كما سيأتي] عطف بمآل السعداء وأنهم يدخلون يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار سارحة فيها حيث ساروا وأنى ساروا ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون) ، قلت : وقبل هذا المآل السعيد جاءت الآية تطمئن المؤمنين أتباع كلمة التوحيد بالثبات في البرزخ حيث فتنة القبر والسؤال كما سيأتي معنا في فقرة لاحقة إن شاء الله.
والحاصل مما تقدم أن السورة الكريمة قد اعتنت أيما اعتناء بهذا الأسلوب المؤثر أعني أسلوب الترغيب والترهيب، ويمكن التأكيد مما سبق على ما يلي :
1- الاعتناء بأسلوب الترهيب عند دعوة من شط به هواه فانحرف عن جادة الحق لأنه أحرى بأن يوقظه من غفلته ويعيده إلى الجادة إن لم يكن خُتم على قلبه بعد.
2- الاعتناء بأسلوب الترغيب عند من أظهر استعداده للإقبال على الدعوة والانقياد لكلمة التوحيد وذلك تثبيتاً لهذا التوجه وتعهداً لهذا الميل نحو الحق.

رابعاً: أسلوب ضرب المثل :
وهذا أيضاً من الأساليب القرآنية المعهودة والتي تعمل على تقريب المعنى من خلال ضرب الأمثلة المعروفة، ولقد جاء في هذه السورة مثلان من أروع ما ضرب من الأمثال القرآنية دقةَ بيان وروعة أسلوب ووضوح معنى، أحدهما يتعلق بما توهمه الكفار من أعمال لهم يرجون ثوابها في الآخرة، والاخر ينطوي في الحقيقة على مثالين أحدهما للكلمة الطيبة والآخر للكلمة الخبيثة، فلنتدبر:

المثل الأول : كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف:
ضرب الله تعالى مثلاً لمن عبد مع الله غيرَه سبحانه وتعالى كيف يكون مآل أعمالهم، فيقول تعالى:"مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد" ؛ فهؤلاء يأتون بأعمال ظاهرها حَسن في دنيا أو هكذا يتوهمون فيرجون ويطلبون ثوابها يوم القيامة، وما شعر هؤلاء أن أعمالهم هذه ليست بشيء وأن ما يجدونه منها يوم القيامة مشابه لما يجده من طلب ذرات الرماد التي بعثرتها ريح عاصفة شديدة، فلا يجد هؤلاء شيئاً لأنهم بنوا أعمالهم على غير أساس صحيح، وهذا مثل قوله تعالى:"مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريحٍ فيها صِرٌّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته" ، قلت: ولكن الآية في سورة إبراهيم عامة في كل الأعمال والآية في آل عمران خاصة في الإنفاق وهو من باب التنويع البياني في القرآن الكريم حيث يذكر العام في موضع ويذكر بعض أفراده في موضع آخر ليتحقق التكامل البياني على مدى سور القرآن الكريم.

المثل الثاني: كشجرة طيبة أو خبيثة:
تنوعت أساليب القرآن الكريم في توصيل رسالة التوحيد للناس، وما ذلك إلا لأنها – أعني رسالة التوحيد – أعظم حقيقة في الكون وحري بها أن تكون محط عناية القرآن الكريم، والمتدبر في هذه الصورة القرآنية يدرك مدى ثقل هذه الكلمة واهتمام القرآن بها حتى جاء ترسيخها في عقول وقلوب الناس بهذه الصورة الرائعة والمثل البديع، قال تعالى:" ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار" ، فهذا مثل قد ضربه الله تعالى للكلمة الطيبة (شهادة أن لا إله إلا الله) فشبهها بالشجرة الطيبة ذات الجذور الراسخة الضاربة في الأرض ثباتاً والفروع المتشعبة عن أصلها الطيب فإذا بها يانعة الثمار صالحة النتاج، (فكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علماً واعتقاداً، وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والأخلاق المرضية والآداب الحسنة) ، قلت: وهذا في غاية الحسن من حيث ضرب المثل للمعاني المعقولة بالأشياء المحسوسة المستقرة في بداهة العقول والتي تتراءى للناس في معايشهم كل يوم، وإن منتهى الحسن في نتاج هذه الشجرة ذلك التثبيت عند سؤال الملكين في القبر ثم نوال رضا الله تعالى وثوابه يوم القيامة، كما قال تعالى بعد ضرب هذا المثل:"يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" ، فلقد ثبت هذا المعنى من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فذلك قوله :" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة"" ، ويأتي تكامل المشهد في عرض الصورة المناقضة، فبضدها تتميز الأشياء؛ ففي مقابل كلمة التوحيد وشجرة الإيمان – التي شبهتها بعض الأحاديث بالنخلة – تأتي الكلمة الخبيثة كلمة الكفر كالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل (لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء)

والحقيقة أن التفصيل في عناصر وحيثيات هذين المثالين يحتاج بحثاً مفرداً وإنما أردت التنويه بهذا العرض الموجز إلى ورود هذا الأسلوب في الخطاب الدعوي للسورة المباركة وتسخيره تسخيراً ناجحاً في رسم المعنى المنشود وتوضيحه أيما إيضاح، كيف لا وهو كلام الحق تبارك وتعالى. فحري بالداعية إذاً أن يتعلم كيفية تطبيق واستعمال هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى للناس "لعلهم يتذكرون".

خامساً: أسلوب القصص:
لقد أخذ القصص القرآني بُعده وتبوأ مكانه كأسلوب خطابي دعوي في سور متعددة من القرآن الكريم بعضها قصير وبعضها طويل، وبعضها – أي القصص – تعرضت له سور في آيات قلائل وبعضها الآخر استغرقت سوراً بأسرها ، ولا شك أن لهذا العرض المتنوع أهدافه التي منها استدعاء السياق معنى من معاني القصة أو جانباً من جوانبها فيقتصر على موضع الشاهد منه مع إبراز ما يستدعيه السياق ، وهكذا كان الحال في سورة إبراهيم حيث وردت جوانب من قصة موسى عليه السلام مع قومه في سياق استعراض أسلوب الدعوة بالتذكير بالنعم ، حيث قال تعالى: :" وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم" ، ثم جاءت إشارة خاطفة سريعة تذكر بمصائر المكذبين في قوله تعالى:" ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" وقد جاءت الإشارة بأسلوب قصصي مقتضب جداً بعيد عن الاستطراد الذي قد يبعد بالمخاطب عن التركيز المطلوب في هذا الخطاب الدعوي أعني خطاب الدعوة إلى التوحيد، ثم جاءت الإشارة القصصية الأخيرة من صفحة الواقع حين ذكَّرت بما أورده مشركي قريش قومهم من موارد الهلاك في قوله تعالى:"ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.جهنم يصلونها وبئس القرار" وقد تقدم أنها في مشركي قريش ومن هلك منهم يوم بدر. فهذه الإشارات القصصية الثلاث يراد منها التنبيه على مآل من كذب الرسل، ثم جاءت الإشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلام لتقرير معنى آخر نتعرض له في فقرة لاحقة إن شاء الله تتعلق بالتربية والتنشئة فنرجئ الكلام عليه إلى حينه إن شاء الله تعالى.

وحاصل ما تقدم أن يتسلح الداعية برصيد كافٍ من القصص الصحيح ذي المغزى المعين على تقرير مسائل الدعوة، لا سيما وأن أسلوب القصة أسلوب قريب من الناس يشد انتباههم ويؤثر فيهم أكثر مما تؤثر أساليب دعوية أخرى.

المبحث الثالث: ملامح منهج التوجيه والتربية في سورة إبراهيم

إن سورة إبراهيم على ما فيها من إيجاز سورة غنية بملامح الخطاب الدعوي الشامل الذي يرسخ كلمة التوحيد بشتى السبل المناسبة، ولقد تقدم معنا في المبحث السابق ملامح المنهج الدعوي وأهم سماته الأسلوبية في هذه السورة، وناسب أن ننتقل إلى تأمل توجيهات هذه السورة لمختلف فئات المكلفين والمخاطبين إضافة إلى التعرف على خصائص المنهج التربوي في هذه السورة المباركة وهذا ما نتناوله إن شاء الله في المطلبين التاليين.

المطلب الأول : منهج التوجيه في الخطاب الدعوي في سورة إبراهيم:

التوجيه (إيراد الكلام على وجه يندفع به كلام الخصم) ، والخصم في مقام الدعوة هم أتباع الباطل ومتبوعيهم، وأوجه خصومتهم معروفة يدور معظمها حول الجحود والإنكار أي جحود حق الله في إفراده بالتأله والتعبد، وعلى هذا فالمراد من التوجيه في الخطاب الدعوي إيراد الكلام والحجج والبينات على وجه تندفع به شبه القوم، فيتيقظ الغافلون من غفلتهم وتخبت لدعوة الحق قلوبٌ غلف، وتسمع آذانٌ صم، وتبصر أعين عمي بإذن الله تعالى وتوفيقه، والناظر في هذه السورة يدرك أن مدار هذا المنهج أمران اثنان هما؛ توجيه النظر في الآيات الكونية، وتوجيه النظر في الآيات الشرعية، وسأعرض لكل منهما فيما يلي إن شاء الله:

أولاً: توجيه التأمل في الآيات الكونية:
لقد جاء هذا التوجيه لدفع شبه القوم في إنكار وحدانية الله والترويج لباطل الشرك، فجاء مثلاً قوله تعالى:" ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد" ، حيث دعت إلى النظر والتفكر في هذا الخلق العظيم، وفعل (ألم تر) أي رأى القلبية كما قال القرطبي رحمه الله:"الرؤية هنا رؤية القلب، لأن المعنى ألم ينته علمك إليه؟" ، ثم تطرد الآية القياس بالتنبيه على أن من أوجد هذا الخلق العظيم من العدم قادر على أن يذهب بهذا الخلق الضعيف – أي الإنسان – المتمرد على عبادة الله سبحانه والانقياد له، فليحذر الذين يخالفون عن أمر الله إذاً أن يحل عليهم عقاب الاستبدال "وما ذلك على الله بعزيز" .
ثم تأمل في هذا المشهد الكوني الآخر حيث قال تعالى: :"الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخَّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخَّر لكم الأنهار. وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخَّر لكم الليل والنهار" ، فهو توجيه رائع إلى مشهد الخلق الكوني الناطق بكل جزئية فيه وبالتكامل والتناسق المعجز بين هذه الجزئيات تكاملاً يحكي بنفسه أن له رباً خالقاً مدبراً يستحق الحمد والتمجيد والانقياد له شرعاً تماماً كما أن هذا الكون البديع منقادٌ له كوناً وقدراً. فطوبى لمن تأمل هذا المشهد فانتفع وانتقل به من مقام الإقرار بالربوبية إلى مقام إفراد الألوهية فعرف أن له رباً يستحق وحده العبادة ففعل ففاز وسعد.

ثانياً : توجيه التأمل في الآيات الشرعية:
وهي السنن التي رتب الله تعالى على مقدماتها آثاراً شرعية من عقوبة أو ثواب، تمكين أو استخلاف، نجاة أو هلاك ونحو ذلك. ولما كان الخطاب الدعوي خطاباً شرعياً قوامه تبليغ أمر الله تعالى ونهيه ناسب أن توجه السورة الكريمة إلى ما يترتب على الأخذ بمقدمات الانقياد لشرع الله والتزام أمره ونهيه، كما ناسب أن يبين ما يترتب على هجر هذه المقدمات والأخذ بمقدمات التمرد على أمره ونهيه سبحانه وتعالى. ولقد وجهت السورة الكريمة إلى جملة من هذه المشاهد منها:
1- مشاهد الأمم الهالكة: وهذا الهلاك سنة شرعية توجه الآية النظر إليها ترهيباً للمخاطبين بالدعوة من الأخذ بمثل ما أخذت به تلك الأمم من مقدمات الهلاك كتكذيب الرسل وبث الشكوك والشبهات كما في قوله تعالى:" ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردُّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" ، بل جاءت الآية الأخرى بأشد من ذلك حينما وجهت القوم إلى النظر في الديار التي ورثوها من تلك الأمم الهالكة فهو أدعى للعظة والاعتبار قال تعالى:"وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال.وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لِتزول منه الجبال" ، فلم يغن مكر القوم عنهم شيئاً لأن سنة الله الشرعية قد قضت بأن يهلك هؤلاء ويكونوا أول ضحيةِ مكرهم فيكون تدبيرهم تدميرهم بإذن الله، وإلا فأين هم الآن وأنتم تسكنون في مساكنهم وتقطنون في ديارهم.
2- مشاهد خصومة أهل النار: فسنة الله الشرعية تقضي بأن ينال العبد الآبق عقابه في نار جهنم، وأن يتجرع – مع العذاب والألم – كأس الحسرة والندامة جراء اتباع دعاة جهنم، وإنما ذكرت هذا المشهد ضمن الآيات الشرعية لأنه مترتب على مخالفة الأمر الشرعي من جهة ولأنه لا طريق لمعرفته إلا طريق الشرع من جهة أخرى، تأمل هذا المشهد :"وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص" ، ولا شك أن العاقل من اتعظ بهذا المشهد لا من عاينه وكان من أهله.
3- خطبة إبليس: ولعل مشهد الحسرة والندامة والمخاصمة يزداد ألماً عندما يتقدم رئيس دعاة جهنم ليخطب أتباعه تأمل قوله تعالى:"وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمُصرِخكم وما أنتم بمُصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذابٌ أليم" ، فها هو رأس الكفر ورئيس دعاة جهنم يقول:(إني جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل) ، واعترف بكذبه فيما وعد به وأنه لا يملك لأتباعه ضراً ولا نفعاً ، فيا للحسرة والندامة، ويا شقاء من نسي نفسه وانساق وراء إبليس حتى صار من شهود هذه الخطبة، ويا لسعادة ونعيم من انتبه من غفوته وقدم لنفسه ففاز بالغياب عن هذه الخطبة التي يظهر من سياقها أنها (تكون من إبليس بعد دخولهم النار) والعياذ بالله.
4- مشاهد نعيم أهل الجنة:ففي مقابلة المشهدين السابقين لا بد من تمام المشهد بالتوجيه إلى النظر في مآل السعداء حيث قال تعالى:"وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام" ، فكما قضت سنة الله الشرعية أن يعاقب المتمرد على أمر ربه فقد قضت السنة الشرعية أن يكافأ المحسن على إحسانه بفضل وكرمٍ من الله تعالى، وكان من تمام التوجيه أن يستكمل عرض مشهد الجزاء ببيان عاقبة المحسن والمسيء لئلا يبقى لأحد على الله تعالى حجة.
5- مشهد يومٍ لا بيعٌ فيه ولا خلال : فمن جمع مالاً في الدنيا فليس ماله ذاك بالذي يغنيه يوم الحساب، ومن جاء معوِّلاً على نسبه وحسبه فليعد غير هذه العدة فإنها لا تغني عنه شيئاً، كما نبهت الآية الكريمة:" قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلال" ، فالآية تشير إلى أنه (لا ينفع أحداً بيع ولا فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده، ولا ينفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافراً) ،قلت: ومن جميل توجيه هذه الآية أنها قدمت بالإشارة إلى ما ينفع من صلاة وصدقة يُبتغى بها وجه الله اشتغالاً بتحصيله عما لا ينفع من مال وخِلَّة، فتأمل هذا فإنه لطيف جداً. وفي موضعٍ آخر من السورة جاء مشهد الظلمة في حالة مهينة ذليلة كان الله تعالى قد أعده لهم وحذرهم منه، قال تعالى:"ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.مُهطعين مُقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء" فيا له من مشهد ذلك الذي يسرع فيه هؤلاء إسراع الذليل المدفوع يرفع رأسه مذهولاً لا تطرف له عين لهول ما يرى قد طار فؤاده منه، وتأمل مزيد هوان في قوله تعالى:"وترى المجرمين يومئذٍ مُقرَّنين في الأصفاد.سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار" وما هذا العرض والتوجيه إلا للنذارة كما في الآية التالية:"وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخِّرنا إلى أجلٍ قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال" ، فالسنة الشرعية تقضي أن من أقسم على هذا الباطل يجازيه الله تعالى بأن يجعله من أصحاب المشهد السابق، فكما زعموا ( أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذاك) ، قلت: وهذا مقتضى عدله سبحانه تعالى، والعدل سنة شرعية ماضية،قال تعالى :"ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب"

هذه جملة التوجيهات الواردة في هذه السورة المباركة، وأقر أني لم أفيها حقها من العرض والتفصيل ولكن المقام مقام إيجاز ومرور سريع استطعنا من خلاله – بفضل الله تعالى – أن نتعرف على ملامح هذا المنهج القرآني وطريقة القرآن في عرض المشاهد والتوجيه إلى حسن تدبرها وتحقق مآلاتها، والحق أن أثر هذا العرض فيمن كان محلاً قابلاً لهو أثرٌ عظيم نرجو أن نكون ممن وفقه الله تعالى للانتفاع به.

المطلب الثاني: ملامح المنهج التربوي في سورة إبراهيم:
إن هذا المنهج يحتاج في الواقع إلى إفراده ببحث مستقل، ولكننا نستعرض الأمر من جهة تكامل منهج الخطاب الدعوي في هذه السورة لنرى أهمية الاعتناء بحسن التنشئة والتربية بنفس القدر الذي نهتم فيه بتقويم من انحرف عن الجادة وشذ عن فطرة التوحيد التي جُبل عليها. وإن المشهد التربوي في هذه السورة معروض بأكلمه في هذه الآيات حيث قال تعالى:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبَنِـيَّ أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبَّل دعاء. ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب" ، ولنتأمل أبرز معالم هذا المنهج التربوي البديع :

أولاً: هدف التربية:
إن أي تربية لا تتوجه نحو هدف معين هي تربية فاشلة لأنها هيام على غير هدى ومآلها تخبطٌ في أودية الدنيا، ولهذا كان هدف التربية واضحاً جلياً عند إبراهيم عليه السلام (واجنبني وبَنِـيَّ أن نعبد الأصنام)؛ نعم هدف التربية هو الوصول بالمربي والنشء إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية، ولقد تعزز هذا الهدف ببيان ضلال نقيضه (إنهن أضللن كثيراً من الناس)، بل وبإعلان صريح لتمحور الولاء والبراء على سلوك طريق التوحيد هذا (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم). ولما كان الشرك الذي يعكر على المسلم صفاء عقيدته متردداً بين شرك ظاهرٍ معلوم وشركٍ خفي قد يتسلل إلى النفوس من حيث لا يدري المرء كان الالتجاء إلى الله تعالى وحده – الذي يعلم الشرك الخفي كما يعلم الظاهر – ليعين المربي على تنقية صفحة التوحيد من لوثات الشرك هذه حيث قال (ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء).

ثانياً : بيئة التربية :
فالمربي الناجح هو الذي يتخير لناشئته البيئة الصالحة التي تعزز فيهم التزام أمر الله وتعين عليه، وتنفرهم من مخالفة أمره ولا تروج لباطل أهل الزيغ، تأمل معي الإشارة إلى هذا في قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً)، قلت: وأي أمنٍ أعظم من أن يعلو صوت التوحيد فلا يسمع صوت سواه، ولا يضر بعد ذلك أن يكون المكان (غير ذي زرعٍ) طالما أن كلمة التوحيد ظاهرة وبيئة التربية صافية نقية لا صولة للشيطان فيها ولا جولة. وإن الذي يقيم مع ناشئته في مجتمعٍ تفشو فيه معالم الزيغ والضلالة والفسق والكفر ليس بذاك المربي وليس بذاك الحريص حقاً على تقرير عقيدة الوحيد في قلوب الناشئة اللهم ما لم يكن مغلوباً على أمره قد استفرغ الوسع في تأمين البيئة البديلة.

ثالثاً: تحقيق معنى الإيمان عند الناشئة:
فليس الإيمان معرفة قلبية محضة، ولا هو تمتمات محرابية فارغة، بل الإيمان قول وعمل يستقر في القلب ويلهج به اللسان وتتحرك به الجوارح، وأنت ترى هذا المعنى واضحاً حين تكرر بيان الهدف من التنشئة – والذي قلنا بدايةً أنه توحيد الله وتعطيل الشرك به – فإذا بالآية الكريمة تصرح بهدف آخر (ربنا ليقيموا الصلاة)، (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبَّل دعاء) فالهدف إذاً قول القلب – أي طرح عقيدة الشرك وعبادة الأصنام جانباً- وعمل الجوارح وهو هنا الصلاة ، وذكر اللسان وهو هنا الدعاء، وهكذا تكاملت عناصر مفهوم الإيمان على الصحيح عند الفرقة الناجية أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه.

رابعاً: تحقيق صفات المربي :
فلا تربية دون قدوة وأسوة، ولا يمكن أن نتأمل خيراً من مربٍ يخالف حالُه مقالَه، ولهذا كان إبراهيم عليه السلام يشمل نفسه في كل دعاء ؛ (واجنبني وبَنِـيَّ أن نعبد الأصنام)، (رب اجعلني مقيم الصلاة)، (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)، فهذا هو المربي الناجح أو قل المربي الداعية.وهذا هو المربي الذي لا يركن إلى شهود الأسباب ولا يجزع من غيابها، بل دأبه الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه والافتقار بين يديه إلى الاتصال بحبله المتين لا يثنيه (إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ) عن (ربنا ليقيموا الصلاة) لأن تكلانه واستعانته بالله تعالى فهو يدعوه (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وينشغل بتسبيحه وحمده على الدوام (الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء). قلت: نِعمَ المربي هذا الذي يقول ويعمل، يأخذ بالأسباب ويتوكل على خالقها، يفتقر إلى الله ليصل إلى الله ويستعين بما طلبه من سبب على عبادة رب كل سبب.
وهذا المربي هو المربي الشفوق بالناشئة الحريص على هدايتهم ومصلحتهم فهو يلتمس من الله تعالى توفيقهم للتوبة والإنابة إليه تعالى (ومن عصاني فإنك غفور رحيم)، ويدعو الله تعالى أن يهيأ لهم أسباب الرفق حتى لا ينشغلوا بتحصيل أسباب العيش عن تحقيق الهدف من وراء العيش ذاته (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)
هذه بإيجاز بعض المعالم التربوية في هذه الآيات المعجزة، وحريٌ بمن التزم نهج هذه السورة أن يمنَّ الله تعالى عليه بالعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة؛ أما الدنيا فكما قال تعالى (الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء)، وأما الآخرة فرجاء عفوه ومغفرته سبحانه وتعالى (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)، ولعمر الحق ها نحن نرى آثار دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فدعوة التوحيد رايتها اليوم خفاقة بعد مئات السنين من تلك الدعوة المباركة، بل ما أرى مقارعة سيوف الحق للباطل اليوم إلا أثراً ممتداً لدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام:" ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" ، فنعمت التربية إذاً ونعم المنهج ونعم الثواب والجزاء من الله تعالى.

الخاتمة

إن الوصول إلى خاتمة هذا البحث ضرورة يفرضها واقع البحث وقصور الباحث، وإلا فإن القلب لا يكاد يستسيغ الصدور عن هذا المورد العذب إلا وفيه رغبة للمزيد، ولسوف أوجز في هذه الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث وهي:
1- إن سورة إبراهيم من السور المكية ذات الوحدة الموضوعية البارزة حيث يدور رحاها حول ترسيخ رسالة التوحيد باعتبارها دعوة الرسل أجمعين، ولقد كانت الوحدة الموضوعية لهذه السورة من مظاهر الإعجاز القرآني لغةً وموضوعاً وأسلوباً ومنهجاً جليةً واضحةً لمن تدبر فيها.
2- لقد كانت سورة إبراهيم من السور التي تنزلت ابتداءً لمحض هداية البشر مما يؤكد مرة أخرى على لزوم الدعوة إلى التوحيد وأنها دعوة عالمية الزمان عالمية المكان لا تفتقر إلى مناسبة ولا تنتظر الظروف المواتية، بل هي كلمة الحق التي يجب الصدع بها في كل زمان وفي كل مكان.
3- لقد جاء البرنامج الدعوي في سورة إبراهيم متكاملاً حيث قررت عناصر المنهج الدعوي وبينت صفات الرسل والدعاة من بعدهم، ونبهت على معوقات الدعوة وكيفية مواجهتها وفصلت في وسائل الدعوة وكيفية الإفادة منها في البلاغ عن الله سبحانه.
4- اهتمت السورة الكريمة أيضاً ببيان أساليب توجيه المدعوين إلى النظر والتدبر في آيات الله الكونية وآياته الشرعية لا سيما ما يتعلق منها بمشاهد الآخرة وهي عظيمة الأثر في تقوية داعي الإيمان وردع داعي الهوى في نفوس المدعوين والمخاطبين بالدعوة الإسلامية، مع بيان كيفية تسخير ذلك كله في الدعوة إلى الله وتقرير رسالة التوحيد بين الخلق.
5- نبهت السورة الكريمة إلى ضرورة الاعتناء بمنهج التربية الصحيحة الذي يُنشَّؤ الفرد من خلاله على التوحيد ليكون أصيلاً في نفسه أصالة الفطرة التي أودعها الله تعالى في قلبه وأخذ ميثاقه عليها، حيث نبهت على هدف التربية وضرورة تنقية بيئة التربية من الشوائب التي تحرف الناشئة عن الحق، كما عنت ببيان أهم صفات المربي وضرورة تحقيق معنى الإيمان الصحيح في قلوب الناشئة،فبمثل هذه التربية يتخرج الجيل الدعوي الذي يحمل التوحيد عقيدةً يدين بها ورسالةً يتفاني في تبليغها في أرجاء الكون.

هذه باختصار أهم معالم الفوائد المستنبطة من دراسة السورة ولقد جاء تفصيلها في طيات هذا البحث، وحري بكل مسلم أن يعكف على دراسة هذه السورة وأخواتها فهي نعم الزاد لمن أراد أن يسير في طريق الدعوة ونشر رسالة الخير في أرجاء المعمورة، وإني أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل ما كان في هذا العمل من صواب وأن يعفو عما زل به القلم، وأن يعينني على العمل بما عملت حتى أرث علم ما لم أعلم، وإنه لحريٌ بنا اليوم والبشرية تتردى في مهاوي الضلال أن نوقد شعلة الدعوة الصافية لتضيء درب البشرية من جديد فلعمري لم تكن البشرية في حاجة إلى التوحيد يوماً أشد من حاجتها اليوم فيما أحسب بسبب ما تملكته البشرية الهائجة اليوم من وسائل تخريب وترويع وتدمير تكاد تأتي على هذا المخلوق المتكبر بها والمتجبر بتوهمه الاستغناء بها عن خالقه، فأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الفوز بخدمة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د.وسيم فتح الله

فهرس المراجع

1- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن – محمد الأمين الشنقيطي – دار إحياء التراث العربي – بيروت – الطبعة الأولى - 1996
2- تفسير القرآن العظيم – الحافظ ابن كثير – طبعة دار الفتح – الشارقة – الطبعة الأولى - 1999
3- التعريفات – الجرجاني – تحقيق إبراهيم الأبياري - دار الكتاب العربي- بيروت – 2002
4- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (تفسير السعدي) – الشيخ أبة عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي – المكتبة العصرية – صيدا / بيروت – 2002
5- الجامع لأحكام القرآن- الإمام القرطبي- تحقيق عبد الرزاق المهدي - دار الكتاب العربي – بيروت - الطبعة الثانية – 1999
6- شرح العقيدة الواسطية – الشيخ محمد بن صالح العثيمين – دار الثريا للنشر – الرياض – الطبعة الأولى – 1998
7- فتح الباري شرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر العسقلاني – دار الفكر – بيروت - 1993
8- القاموس المحيط – الفيروزآبادي- مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثالثة – 1993
9- قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل – عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني – دار القلم – دمشق – الطبعة الثانية -1996
10- "موسوعة الحديث الشريف"-برنامج حاسوبي ( صحيح البخاري، مسلم، السنن الأربعة ومسند أحمد وسنن الدارمي)- شركة صخر - 1996

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك