أي مستقبل لعلاقة الكاثوليك باليهود?
أي مستقبل لعلاقة الكاثوليك باليهود?
د. عزالدين عناية
منذ انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) والكاثوليكية تلهث لكسبِ ود الذين هادوا, في وقت لا يزال فيه أتباع التوراة غير مبالين, وما فتئوا عند قرارات السنهدرين الصادرة مع مطلع القرن الميلادي الأول, التي رفضت نبوة السيد المسيح. ففي حاضرنا تستجدي حاضرة الفاتيكان التقارب من اليهود بشتى الوسائل, وهم يمانعون ويشترطون, موظفة في ذلك الإغراءات اللاهوتية كافة, ك¯"وحدة التراث اليهودي المسيحي" و"الإخوة الكبار" و"المسيح وحواريوه يهود", لعل آخرها تنقية عبارات القداس اللاتيني, مما قد يخدش الضمير اليهودي.
جميع بابوات ما بعد الفاتيكان الثاني, من يوحنا الثالث والعشرين حتى البابا الحالي راتسينغر, باستثناء قصير البابوية يوحنا بولس الأول (1978-1978), تناوبوا بالعزم نفسه على محو مقولة "الشعب قاتل الإله (حسب الاعتقاد المسيحي)", التي جرمت اليهود على مدى قرون طويلة, وسعوا إلى تطهير تاريخ طويل حافل بالقوانين الكنسية الصادرة ضد اليهود, منذ مجمع إلفيرا سنة 306 ميلادية, الذي حجر الزواج والعلاقات الجنسية بين أبناء الملتين, مرورا بقرارات حرق أسفار التلمود في مجمع توليديو الثاني عشر سنة 681 ميلادية, إلى إلزام اليهود بحمل علامات مميزة على ألبستهم في المجمع اللاتيراني الرابع 1215 ميلادية, إلى إكراههم على السكنى داخل غيتوات منعزلة, مع مجمع بريسلافيا سنة 1267, إلى منع اليهود من الحصول على درجات أكاديمية في مجمع بازيليا 1434 كل تلك القرارات الكنسية باتت لاغية, لكن رغم ذلك لا يزال الانفتاح الكنسي يواجه تحديات جمة, في تغيير قناعات دينية تستند إلى نصوص إنجيلية صريحة الدلالة, تُحمل الوزرَ اليهودَ, فيما تعرض له السيد المسيح, مثل: "ليكن دمه علينا وعلى أولادنا" (متى 26:27), أو "فشق رئيس الكهنة ثيابه وصرخ: "قد جدف لا حاجة لنا بعد إلى شهود وها أنتم قد سمعتم تجديفه. فما رأيكم? أجابوا: "يستحق عقوبة الموت" (متى 26: 66-67). أمام هذا الماضي الذي لا يود الرحيل, لا تستطيع الكنيسة أن تنكر أن من فتنوا المسيح وسعوا في قتله ليسوا يهودا, مهما بحثت عن تأويلات ومخارج لآي الإنجيل البينة لذلك. ولكن كان لها أن تؤصل إلى أن لكل أمة ما كسبت, وما كان لأمة أن ترث إثم سلفها.
ولسائل أن يسأل, لماذا تصر الكنيسة على التقارب من اليهود, ولا تسعى بالحزم نفسه إلى التقارب من العرب? ليست الإجابة خفية في هذا الشأن ولا تتطلب نباهة ستراتيجية خارقة. وهو أن المتهودين الذين صاروا يهودا, القابضين على مقدرات الأراضي المقدسة, هم أدنى وأقرب, مصلحة وولاء وارتباطا, بالكنيسة من العرب. والظرف الحالي يفرض التحالف معهم للسير قدما في إبعاد بني يعرب عن أرض فلسطين.
ولذا ليس الحافز الرئيس للتقارب المسيحي اليهودي, البحث عن لم شمل العائلة الإبراهيمية, وتوثيق عرى التواصل بين أتباع موسى وعيسى وأحمد. فالذين هادوا والذين قالوا إنا نصارى, لا يزالون في ريب من أمرهم, أيقرون بالمسلمين إخوة, أم يخفوه إلى حين; وكذلك ليس الحافز الرئيس للتقارب المسيحي اليهودي, الحرص على تجميع عباد الواحد الأحد في جبهة مشتركة, بل التنسيق التام بين أتباع التوراة وأتباع الأناجيل, حتى لا تكون هيمنة أو وصاية, لا في الحاضر ولا في المستقبل المنظور, للعرب وسندهم من المسلمين على القدس أو على أرض الأنبياء عموما. وما قد يروج خطأ من أن نواة الألوهية المتحكمة بالتقارب المسيحي اليهودي, يصعب أن يتصالح فيها الواحد اليهودي المجرد بالثالوث المسيحي المجسد, وهي أمر عصي وستبقى عصية, لن تؤثر في التحالفات السياسية الحالية, التي تتجاوز حقائق اللاهوت لتبني مغانم المنفعة. ولذلك ستغرق الكنيسة في التنازل الواقعي لليهود وستستمر في بيع الفلسطينيين والعرب والمسلمين كلاما بشأن القدس وفلسطين.
يبقى ثبات العلاقات المسيحية اليهودية مرهونا بتواصل تأثيم وتجريم كل من يعارض ما أقره الفاتيكان وما ترتضيه إسرائيل. وهذا التأثيم الذي مس حالياً مؤرخين وكتابا وساسة ساروا ضد التيار, أكانوا يهودا أم مسيحيين أم مسلمين, سيستمر ما دامت هناك مصلحة مشتركة بين الطرفين. ولكن السؤال إلى أي مدى سيستمر منع الساسة والمفكرين من التطرق إلى مواضيع معينة, وتكميم الأكاديميات العلمية وتضييق حرية البحث فيها, فهل ذلك التبكيت القسري والقهري سيستمر لاحقا?
التقارب المسيحي اليهودي يشتغل فيه وعليه يهود تمسَّحوا. فعبر الإحصائيات الجارية في الكنيسة الكاثوليكية, يتجلى أن أعداد المتحولين اليهود إلى المسيحية ليس هينا أو قليلا, وتلك الأعداد هي أعلى بكثير من أعداد الناكصين المسلمين نحو المسيحية. هذا فضلا عن أن أعداد الخارجين من المسيحية والعابرين نحو الإسلام, هم أعلى بكثير من أعداد الناكصين المسلمين. هذه المعطيات العامة, فضلا عن كون اليهودية صارت في الزمن الحديث, بفعل عوامل سوسيولوجية, ديانة غير تبشييرية, مما أفضى الساحة ليتنافس المسيحيون والمسلمون على التبشير بدينيهما, برغم وهن أساليب الآواخر.
لقد كان انطلاق المسيحية في حضن المعبد اليهودي, إذ بقيت ردهًا من الزمن تعرف بالمسيحية اليهودية, قبل الانفصال وتشييد معبدها الخاص. ما تيسرت خلالها للحواريين الجرأة الوجودية, بعد غياب المسيح, حتى جاء بولس, فملأ المسيحية ثقة وإيمانا. خرجت المسيحية على إثره من ضيق البيعة لتشيد كنائسها, وتؤصل لعقائدها, وتصوغ لاهوتها, بكلمة لتبني استقلالها. غير أن ذلك الارتباط البدئي, عاد ليدغدغ الكنيسة من جديد, مع منتهى الألفية الثانية, بفعل تبدلات سياسية وسلطوية. كأن المسيحية في اقترابها ممن تهودوا في حاضرنا, تكفر عن ذلك الانشقاق التاريخي, بخروجها من المعبد, فتسعى إلى العودة ثانية اليه, لتتباكى عند حائط المبكى, وتتبع خط أنبياء التوراة في أرض فلسطين. إن البحث للعودة للمنبع, للأصل, للرحم, جلية تفسيراته في سيكولوجيا الأديان. فالتاريخ لا يتأسس فقط على الوقائع بل على العقائد أيضا, وقد تكون الأساطير أوغل أثرا من التعاليم.
المصدر: http://www.al-seyassah.com/AtricleView/tabid/59/smid/438/ArticleID/166006/reftab/94/Default.aspx