إرهاب لم يكن يصدر عن مسلمين!
إرهاب لم يكن يصدر عن مسلمين!
محمد جابر الأنصاري
"تم اختطاف رجل انكليزي, وبعد تعذيبه بقسوة تم قطع رأسه, ووضع الرأس في قفص وعرض لـ"الفرجة" في ميدان عام", هذا ليس خبراً عاجلاً من اي عاصمة عربية او اسلامية. انه خبر "تاريخي" من بكين عمره اكثر من مئة سنة ضمن فصل عن تمرد "الملاكمين" في الصين بين 1899-1900 وتاريخ الخبر تحديداً هو الثالث والعشرين من حزيران (يونيو) عام 1900.
ولا يختلف "الملاكمون" في تاريخ الصين - وهم ابرز ظاهرة ارهابية في تاريخها الحديث - عن عناصرها التقدمية والثوريـة التي ارادت تطويرها من حيث رغبة الطرفين المبدئية في "تـغـيـيـر" وضـعـها المتدهور امام قوى العالم الجديد, ومواجهة الصدمة التـاريخـيـة لأعماقـها. الا ان الفـارق الكبـيـر والهائل بينهما ان الملاكمين ارادوا "انقاذ" ذلك الوضع المتدهـور خـلال فترة قصيرة للغاية بين 1899-1900 بحرق المراحل وبأعمال ارهابـيـة مخفقة ومدمرة للذات ادت الى كارثة احتلال العاصمة الصينية بتحالف "دولي" وفرض شروط مهينة عليها وسقوط نظامها الامبراطوري وتقسيمها, بينما احتاجت الحركة التقدمية الصينية من صن يات صن (1912) الى ماوتسي تونغ (1949) الى خمسين عاماً, نعم خمسين عاماً بالكامل, من العمل والتفكير والنضال المرير والانتقال من تجربة الى اخرى مع الاتعاظ بالدروس المستخلصة, الى ان استعادت الصين وحدتها وحققت استقلالها من جديد, ووصلت الى طريق "البداية" الصحيحة, مجرد البداية, في المسيرة الصينية "الطويلة" كما سماها اهلها والتي جعلت منها اليوم قوة مرشحة لمزيد من التأثير والمكانة في مستقبل العالم, مع استجابة لافتة - قد تنطوي على مفاجآت - من جانب قيادتها وحزبها الحاكم, الذي كان "شيوعياً", لجوهر المتغيرات والمستجدات العميقة التي يشهدها الواقع الدولي والوضع الانساني.
ومن ابرز الفوارق بين حركة الملاكمين والحركة الوطنية التقدمية الصينية, ان الملاكمين اسسوا افكارهم على الخرافة والاعتقادات الباطلة المنافية لمنطق العقل والعلم, وحددوا سلوكهم ونشاطهم التنظيمي على اساسها توهماً منهم ان ذلك يمنحهم قدرات خارقة, ويجعل اجسامهم مضادة للرصاص اي يجعلها Bullet-proof (فيما يذكرنا بقصص "الخوارق" التي صدقتها سذاجة البعض منا عن المقاتلين ضد الروس, مع الاميركيين, في افغانستان!).
وعلى رغم ان حركة "الملاكمين" اصلاً كانت حركة تتعـاطـف مع الفلاحين وفقراء الارياف وتسعى الى اسقاط النظام الامبراطوري ومقاومة امتيازات الاجانب وإبعادهم عن الصين (وهي اهداف تبناها الحزب الشيوعي في ما بعد في فلسفة واستراتيجية شديدتي الاختلاف عن اولئك) الا ان حركة الملاكمين في مرحلة المواجهة الاخيرة وقعت تحت هيمنة العناصر الرجعية المتخلفة من الحرس القديم في النظام الامبراطوري وعلى رأسها الامبراطورة الأم الوصية على ولي العهد, الصبي القاصر, الامر الذي ادى الى استخدام "الملاكمين" وقوداً في صراعات السلطة والمحاولات المخفقة لمقاومة النفوذ الاجنبي بأساليب بالية تؤدي الى عكس المنتظر منها, الامر الذي دفع حكام المقاطعات, خصوصاً في الجنوب الصيني المتطور, الى مكافحة ارهاب الملاكمين ومنع تصفياتهم الدموية للصينيين المعارضين لهم وللجاليات الاجنبية المقيمة في الصين.
وثمة فصول طويلة ومثيرة في التاريخ الصيني خلال تلك الحقبة تكـشـف مـدى محـاولة الاجنـحة المختلفة والمتصارعة في البلاط الامبراطوري الصيني الاستفادة من ظـاهـرة "الملاكمين" - بصـورة خـفـيـة في اغلب الحـالات - ومعلنـة عـنـدما فرضوا سيطرتهم على العاصمة. وكانت الامبراطورة الوصية المسنة دواغر (توفيت عام 1908) اكثـر اللاعبين او المتلاعـبـين بهذه الورقة, فقد كانت تظهر تعاطفها احياناً مع الجاليات والسفارات الاجنبية في بكين جراء ما تتعرض له من بطش "الملاكمين", لكنها في احيان اخـرى تعلن رسمياً وقوفها الى جانبـهم الى ان اضطرت للهرب خارج العاصمة بأموال من الخزانة العامـة عـنـدما قررت القوى الدولية القيام باحتلال بـكـين. وذلـك عـند قــيام "الملاكمين" لـيس فقط بالسيطرة على قلب العاصمة, وانما بقـتـل السفـراء الاجانب (ومنهم الياباني والألماني) إضافة الى الاعتداء على المدنيين من صينيين وأجانب. وقاموا بمحاصرة الكنائس والكاتدرائيات وكـانـوا يصفون معتنقي المسيحية من الصينيين, وكذلك المبشرين, حول جـدرانـها ثم يـطلقـون على الجميع النار في مذابح كثيفة هزت العالم في حينه.
اللافت, وللمقارنة التاريخية المدهشة, ان قوات "التحالف" الدولي عندما احتلت بكين بثلاثة وعشرين الفاً من الجنود اليابانيين والألمان والانكليز والفرنسيين والاميركيين, باشرت بنهب العاصمة التاريخية لمملكة السماء الصينية عام 1900 في ما يشبه "نهب" عاصمة العباسيين بغداد عام 2003. ما اشبه الليلة بالبارحة... وما اشد ثبات طبيعة التعدي في النفوس, التي تتعرض لها الشعوب التي لا تملك زمام امرها.
وكان اكثر عمليات النهب "اللافتة" قيام الجنود اليابانيين - وكان عددهم ثمانية آلاف, اي القوة الاكثر عدداً بين "الحلفاء" - بالاستيلاء على مخزون الرز في العاصمة, ومخزون الفضة في الخزينة العامة, معتبرين ان هذا "تعويض" لهم عما لحقهم من اضرار جراء الصراع الياباني - الصيني في فترات سابقة.
اما جنود المانيا القيصرية فقد استولوا على أثمن مـا في متـاحـف بكين وكنوزها الاثرية من تحف, وتم نقل ذلك الى المانيا حيث بقيت في يد الالمان الى ما بعد الحرب العالميـة الاولى (1918) ثم اقتضت الظروف والضغوط الدولية بعد الحرب الى اعادتها للصين.
لقد كانت القوى "الحليفة" تحوم بأطماعها حول "مملكة السماء الوسطى" منذ امد, لكن ارهاب الملاكمين وعجز السلطة المركزية التقليدية عن ضبط الاوضاع, اعطى المبرر لتلك القوى باحتلال بكين.
هكذا فالأطماع الدولية حقيقة قائمة في كل زمان ومكان, ولكن الخطورة في لا مسؤولية القوى والعناصر المحلية التي تعطي مثل تلك المبررات للتدخل والاحتلال الاجنبي.
واذا كان الغرب يرفض النظر, اليوم, في مواقفه وسياساته التي صبت في طاحونة "الارهاب" لعقود عدة, فإن القوى الدولية التي انهت استقلال الصين قبل اكثر من قرن باحتلال عاصمتها, لا يمكن تبرئتها من بذر بذور الارهاب في التربة الصينية, وخصوصاً القوة البريطانية التي فرضت تجارة "الأفيون" على الصين وكان ذلك الهدف الرئيس من احتلالها لهونغ كونغ عام 1839.
وليس مصادفة ان قادة الملاكمين كانت تقودهم سلطات الاحتلال الى ساحات الإعـدام, وهم مخـدرون بالأفيون الذي اصبح تجارة رائجة في ظل "الرسالة الحضارية" للقوة المستعمرة!
وخلاصة الدرس, ان ثمة ظروفاً موضوعية في الاوضاع الانسانية لمختلف الشعوب والأمم, بغض النظر عن اديانها وخلفياتها, هي المسؤولة عن بذر بذور الارهاب قبل اي شيء آخر. وان مثل هذه الظواهر تستفحل لتفاعل عاملين: التعديات الخارجية المزمنة والجمود الداخلي المتطاول في نسيج المجتمع وأنظمته السياسية والاجتماعية والفكرية.
* مفكر من البحرين. الحياة 2004/08/10
المصدر: http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=68925