تأملات في التواصل الثقافي

تأملات في التواصل الثقافي

في هذه الحياة الدنيا، وفي أفق تحقيق العدة الكافية لولوج العولمة الثقافية التي نعيشها عمليا، وفي أفق تحقيق ثقافة المقاومة ورفض التطبيع، بل والتصدي لهذه الآفة الخطيرة التي بدأت تعصف بالعديد من الأمم ضمن الجسم العربي والإسلامي، لأجل ذلك كله وجب علينا أن نقف وقفة تأمل في مسار حياتنا، وقفة تمكننا من استدراك ما فاتنا وتصحيح ما نحن عليه، واستشراف آفاق واسعة يكون منطلقها الحقيقي ما يصنعه الإنسان. ذلك أن الحياة ليست سوى ما تحققه فعالية الإنسان في مجتمعه ومحيطه، بل إن الحياة هي ما يفعله الإنسان في التاريخ الذي هو مجموعة أحداث يخلقها في غالبها.

وما كان لنا أن ندعو إلى إعادة صناعة تاريخنا بما ينسجم وخصوصيات المجتمع العربي المسلم، وحقائق أسلافنا، إلا لأن الفعالية التي ننشدها والتي نفتقر إليها حاليا، تعتبر شرطا أساسا في صناعة هذا التاريخ، ودونها لن نكون سوى صنيعة لأحداث الدهر وتكالب الأمم علينا.

إن الفعالية في صناعة التاريخ إنما تتحقق من خلال قراءة أحداثه، على اعتبار أن من لا يقرأ هذه الأحداث ويستفيد منها لا يملك إلا أن يسقط في الأخطاء التي سقطت فيها الأمم السابقة. حقا إن من لا يقرأ التاريخ يسقط في هفواته.

بعد توافر شرط الفعالية في المجتمع لا بد من استيعاب ماضينا، إن نحن أردنا أن نضيف أعمارًا عديدة إلى عمرنا. ثم إن حركتنا في الواقع يجب أن تهدف إلى اكتشاف ذواتنا الجمعية الاجتماعية في تنوعها وليس الفردية، إنها حركة قوامها وأساسها حوار علمي رصين سمح بين ثقافات الأمم والشعوب، وبين الإنسان والحياة، وذاك هو التفاعل الحيوي بين الإنسان ومحيطه، وتلك هي إرادة الإنسان مجسدة في فعالية واقعية وتفاعلية تصنع التاريخ استيعابا للماضي وفهما للحاضر واستشرافا للمستقبل.
إن هذا التفاعل الإيجابي الذي ننشده والذي سيصنع مجتمعا متوازنا يجب أن يتسم بخاصية أولية تكون ممهدة لما يأتي بعدها وهي القابلية للتعدد الثقافي، ومن ثم القابلية للتواصل الثقافي دون هيمنة ولا إقصاء.

**مجتمع أم تجمعات بشرية***
لقد أصبح واقع الحال يؤكد أن كل أمة، بل كل مجموعة بشرية أصبحت تبني ثقافتها وتنتجها وفق قالب خاص بها، زمانا ومكانا، وتطبعها بخصائصها الذاتية، والحاصل هو تعدد المجتمعات وتعدد الثقافات داخل الأمة الواحدة.
إن التماس الوحدة الثقافية ليس إلا التماسا للرغبة في التحجر والثبات والجمود، ذلك أن الإنسان، وهو صانع الثقافة ومنتجها، ميال بطبعه وفطرته التي فطره الله عليها للاندماج في حياة فيها حركة وديناميكية. وبتعدد الفهومات لحركية المجتمع وسيرورته تعددت أشكال فهم الحياة، وتباينت صور التعبير عنها والتعامل معها.

لقد أصبحت المفاهيم التي تشغل بال المهتمين بالثقافة والفكر عديدة بقدر تعدد الإشكالات التي تقف أمام من ينشد أمة الشهادة ويطمح إلى تحقيق ثقافة الريادة. وليس غريبا أن نجد مصطلح "الثقافة" نفسه من المفاهيم التي أصبح البحث فيها بحثا في الذات، والتدقيق فيها تدقيقا في العمق في الذات، بل إن التفريط فيه وفي خصائصه تفريط في أهم ما يميزنا عن غيرنا. ولن يبلغ البحث في هذا المصطلح يوما مداه ومنتهاه نظرًا لخاصية السيرورة الفكرية والثقافية أولاً، ولتباين زوايا النظر التي من خلالها نلج ميدان الفكر والثقافة ثانيا.

إننا نعيش اليوم وقد استقر في وعينا أننا مجرد تجمعات بشرية منتشرة هنا وهناك لا مجتمع، وأننا أفراد لا علاقة تجمعهم ولا رابطة تربط بينهم، ومن ثمة فإننا في حاجة إلى أن نعي حقيقة ذاتنا، أن نتأمل حياتنا، أن نعرف عن حقيقة ووعي نقدي وبصيرة علمية سبيلنا إلى النهوض ولتطوير حياتنا والارتقاء بها، وشرط هذا وضامنه أن ندرك معنى المجتمع، من حيث هو أمة قائمة على التكافل والتفاعل الإيجابي والتضامن المتبادل، أن ندرك حقيقة أننا أمة قال الله تعالى فيها:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".

**ثقافتنا اليوم***
لقد أصبح كل منا يرسم مصيره ومستقبله، لا مستقبل المجتمع ومصيره، ولا مستقبل أمته ومصيرها، وأصبح كل منا يتحدث عن الثقافة وعن الخصوصيات الثقافية وعن الذاتية الثقافية حديثا يكاد يوحي بغياب الإدراك الضروري لحاجة الأمة للثقافة الاجتماعية، وإلى التنشئة الاجتماعية، ثم سرعان ما بدأ بعض الكتاب يباهون، عن قصد أو جهل، بثقافاتهم المحلية دون أن يقبلوا بتنوع الثقافات بوصفها أولا ضرورة اجتماعية تاريخية، وثانيا بوصفها أساسا للتعارف والتعاون، وثالثا باعتبارها تعزيزًا لدينامية التطور الاجتماعي وضمان نهوضه. زد على ذلك عدم النظر إلى المدلولات الدينية وعدم اعتبار للضوابط الشرعية.

إن ارتقاء حياة الإنسانية في شتى الأمم وعلى مدى التاريخ رهن تنوع الثقافات، وتفاعلها التكاملي وتباين الرؤى واختلاف الآراء المنضبط وتوافر آلية اجتماعية وحبل تواصل ممدود باستمرار بين فئات المجتمع، وخاصة بين مثقفيه وسياسييه.

ولعل الحديث عن الثقافة أو الثقافات يدفعنا إلى الحديث عن موقع تنزيلها الذي هو المجتمع أولا وأخيرا. فالعلاقة بين الثقافة والمجتمع وثيقة الصلة نظريا كما في الواقع الاجتماعي، إنهما وجهان لعملة واحدة يستحيل فصل أحدهما عن الآخر، ذلك أن الثقافة لا يمكن أن توجد إلا في المجتمع، كما أن المجتمع لا يمكن أن يضمن اطراده واستمراره إلا بضابط الثقافة. إنها، بناء على ذلك، طريق متميز لحياة الجماعة ونمط متكامل لحياة أفرادها، وهي فضلا عن ذلك تمد المجتمع بالأدوات اللازمة لاستمرار الحياة فيه.

**أسئلة لا بد منها***
وبما أن الأمر كذلك ـ من وجهة نظرناـ فمن حقنا أن نسأل، والسؤال مشروع دائما، "من نحن" في علاقاتنا الاجتماعية حاضرًا ومستقبلاً بدلا من البحث في "من أنا"، ومن حقنا أن نسأل أيضا، بل أن نبحث في لماذا تفككت أواصر روابطنا الاجتماعية؟ وكيف لنا أن نتواصل من جديد؟
يحق لنا أن نسأل أولاً: ما الذي حدث في تاريخنا الاجتماعي فأصبحنا على ما نحن عليه من وضاعة أحوال: ضعف في التربية، انحلال في الأخلاق، تمكين لتيار التفسيق والعلمنة في الواقع، غياب المعاني التربوية والإيمانية الفاضلة: الحياء، والشهامة، والفضيلة، والتضحية، والمروءة، ... ما الذي أذهب كل هذه المعاني وأحل محلها سيادة عقلية الاتكالية واللامبالاة...؟!!

وبعد معرفة كل هذا بما يؤطره من أياد خفية، خارجية وداخلية، نضع أنفسنا جميعا، وجها لوجه، أمام السؤال الجوهري: ما الذي علينا فعله الآن ونعقد العزم عليه؟
إننا بالإجابة على هذه الأسئلة وترجمتها إلى واقع نبدأ السير نحو تحقيق أمة الشهادة على الناس وتحقيق الشاكلة الثقافية المؤطرة للأمة والقائمة على الفكرة الدينية ونحن على هدى من أمرنا.

لقد أريد لنا، ونحن في هذه المرحلة من الضعف والهوان، أن نعيش منشغلين بأنفسنا غير متطلعين إلى من هم أحسن منا حالاً، علماً ومعرفة، وسخرت لهذا عدة وسائل منها ما هو اقتصادي ومنا ما هو سياسي، بل ومنها ما هو اجتماعي يمرر عن طريق ما يسمى بالمساعدات الإنسانية. يضاف لذلك ما تحرص على فرضه علينا الفئة المثقفة بثقافة الآخر من خلال برامج تعليمية تربوية أو إذاعية تلفزية، أو ما ينشر عبر المجلات والصحف، وما يؤطر به الشباب في الأندية وبالمراسلات، وبغير ذلك وهو كثير.

**معول بناء أو معول هدم***
إن الثقافة وإن كانت نعمة من نعم العلم والمعرفة، فإنها إلى جانب ذلك أصبحت في جزء كبير منها معول هدم يسخر لإفساد البقية الباقية من خصوصياتنا الفكرية ومقوماتنا الذاتية. فالمتأمل في ما يعرض بالأكشاك، وعلى العديد من المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزية الغربية الموجهة للعالم العربي الإسلامي، يدرك أن الذي يجمعها جميعا ويوحد بينها هو الرغبة في الدوس على خصوصياتنا والانتقال بنا إلى مجتمع آخر بنمط عيش آخر.
والذي يجب علينا أن نرشح هذه المعروضات لاختيار ما يصلح لنا كأمة لها ثقافتها الفكرية والدينية وإلا فالعاقبة هي الذوبان في الآخر والتيه في أمور الدنيا والدين أيضا.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


 

 

د.عبد الرحمان الخالدي / الرباط

المصدر: http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=73994

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك