من أخلاق الداعية

من أخلاق الداعية

سلسلة نحو ترشيد الصحوة .
سلمان بن فهد العودة .

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الصحوة منا ، و نحن منها ، عزها عزنا ، و نصرها نصرنا ، و نحن أسعد الناس بها !
و ليس يجوز لقادر أن تكون مشاركته " الفرح " فحسب ، بل نريده " فرحاً " إيجابياً يتحول إلى كلمة بناءة ، أو نصيحة هادفة ، أو لفتة موفقة .
و ليس ترشيد الصحوة أمراً مما يطيقه الآحاد من الناس ، بل هو مسئولية الجميع .
فإلى المشاركة الإيجابية الجادة في هذه السلسلة المباركة قبل أن يفوت الركب ، و تطير الطيور بأرزاقها !

المؤلف
السعودية – القصيم – بريدة
ص ب 2782

1 _ بدون مقدمات :
كان من صحيح دعائه صلى الله عليه و سلم :
" اللهم اهدني لأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، و اصرف عني سيئها ، لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك و سعديك ، و الخير كله في يديك ، و الشر ليس إليك ، أنا بك و إليك ، تباركت و تعاليت "مسلم 1/535 .
***********
" اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق و الأعمال و الأهواء " . الترمذي 5 / 536 .
***********
" اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي " . أحمد 1/ 403 ، 6/ 68 ، 155 .
**********
" اللهم إني أعوذ بك من العجز و الكسل ، و الجبن و البخل ، و الهرم و القسوة ، و الغفلة و العيلة ، و الذلة و المسكنة ، و أعوذ بك من الفقر و الكفر ، و الفسق و الشقاق و النفاق ، و السمعة و الرياء ، و أعوذ بك من الصمم و البكم ، و الجنون و الجذام ، و البرص و سيئ الأسقام " . المستدرك 1/ 530 ، 531 .

2_ لأتمم مكارم الأخلاق :
تتبوأ الأخلاق في الإسلام موقعاً من أعظم المواقع ، حتى لقد صح عنه صلى الله عليه و سلم ، أنه قال : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " .
و في لفظ : " مكارم الأخلاق " .
فكأنه صلى الله عليه و سلم حصر المهمة التي بعث لها في هذا الأمر .. و لا غرابة !
* فإن نحن فهمنا " الأخلاق " على أنها تعامل العبد مع الله و مع الناس ، فالأمر واضح ، و هذا هو الدين كله ، كيف تتعامل مع الخالق ؟ كيف تعبده و توحده و تتجنب ما يسخطه ؟ و كيف تتعامل مع المخلوق ؟ و يدخل في ذلك الملائكة و الأنبياء و الصالحون و الأقربون ممن لهم حقوق الحب و الود ، كما يدخل فيه الصنف الآخر من الشياطين و الكفار و الفساق و المنافقين ممن يبغضهم الإنسان في ذات الله كالكفار ، أو يبغضهم من جانب واحد كالفساق الذين يكون فيهم أصل الإيمان بالله و رسله .
• أما إن فهمنا " الأخلاق " بمعنى أخص ، و أنها التعامل مع الناس فحسب ، فالحديث إذن محمول على بيان عظم فضل الأخلاق ، و علو مكانتها في الدين ، فهو كحديث : " الحج عرفة " ، و حديث : " الدين النصيحة " .
إذ ليس المقصود حصر الحج في عرفة ، و لا حصر الدين كله في النصيحة إنما المقصود أن الوقوف بعرفة أعظم أركان الحج ، و أن للنصيحة مرتبة عالية في الدين .
فلا إشكال في الحديث على المعنيين ، و كلاهما له دلالة قوية على عظم شأن الخلق في الإسلام .

3_ مسلم .. و داعية :
من هذا المنطلق وجب على المسلم التحلي و التجمل بالخلق الحسن ، سواء كان داعية أم غير داعية ، إذ الأخلاق من مقاصد البعثة المحمدية التي أكرم الله بها الإنسان في الأرض كلها ، و خص المؤمنين بخصيصة منها ليست لسواهم ، حيث هداهم بها إلى الصراط المستقيم ، و زكى نفوسهم ، و علَّمهم ما لم يكونوا يعلمون : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ، و يزكيهم ، و يعلمهم الكتاب و الحكمة ، و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " . ( سورة الجمعة / الآية 2 ) .
و التزكية المذكورة في الآية الكريمة تشمل تزكية النفس و تربيتها على معالي الأخلاق ، و تنقيتها من رديئها .. ففي الآية هذه كما في الحديث السابق تبدو الأخلاق مقصداً من مقاصد البعثة المحمدية ، بل من أبرز مقاصدها .
و إذا كان التحلي بالخلق الفاضل واجباً على آحاد المسلمين ... فما بالك بالداعية الذي يحمل راية الدعوة و شعارها .. و ينادي بها بين الناس ؟
إن الأنظار إليه أسرع ، و الخطأ منه أوقع ، و النقد عليه أشد ، و دعوته يجب أن تكون بحاله قبل مقاله .
و لذلك فتخلقه بالخلق الكريم أوجب و ألزم ، قياما بحق ما جعل الله على كاهله من الأعباء الجسام .. كما قال الشاعر :
شكرا لفضلك إذ حملت كاهلنا *** مما وثقت بنا ما كان من نوب !
و حماية للدعوة و أهلها من ألسنة المغرضين ، و أقلام الخصوم الشانئين ، و أوهام الغفل و المتعجلين !

4 _ و هذه منها :
لو أردت أن أتحدث عن الأخلاق كلها لطال المقام و لم أصنع شيئاً ، و بين يدي مجموعة كبيرة من المصنفات في الأخلاق ، منها : " أخلاق النبي " لأبي الشيخ الأصبهاني ، " مكارم الأخلاق " للطبراني ، و للخرائطي ، " الأخلاق و السير " لابن حزم ، " دستور الأخلاق في القرآن " لمحمد عبد الله دراز .. الخ .
و هذه الرسالة - أخي الكريم - ليست بحثاً في الأخلاق و فلسفتها ، و إنما هي عرض لمجموعة من الفضائل الخلقية التي شعرت بأهميتها العظمى للداعية مع كثرة النصوص فيها ، و إنما أتحدث فيها عن جوانب مهمة ، و أترك غيرها مما هو متوفر في المصادر العلمية لمن أراده .

أولاً : الصدق :

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين " ، ( سورة التوبة / الآية 119 ).
يفهم كثيرون الصدق على أنه صدق اللسان في الأقوال فحسب ، و الحقّ أن الصدق منهج عام ، و سمة من سمات شخصية المسلم في ظاهره و باطنه ، و قوله و فعله ، و من ذلك :
أ - الصدق في حمل الدين :
بأن يكون تدين المرء تديناً صحيحاً مبنيـَّـاً على الصدق مع الله عز و جل ، لا على النفاق و الكذب و المجاملة ، و لذلك يطلق الصدق في القرآن الكريم في مقابل النفاق : " ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، و يعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم " ( سورة الأحزاب / الآية 24 ) .
فلا بد من الإسلام الظاهر مع الإيمان الباطن ، لا بد من حسن الاعتقاد بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين .
فالهدي الظاهر لا بد أن يكون متوافقا مع الهدي الباطن .
• و هنا كمين من كمائن الشيطان يوحي للداعية بترك بعض الأعمال الصالحة الظاهرة بحجة أن باطنه ليس كذلك .. فلا تفعل لئلا ينخدع الناس بك !
و هذا خطأ كبير .
بل العمل الصالح الذي تزاوله بجوارحك هو من أسباب صلاح قلبك و صدقه ، ما دمت لم تعمله رياء و لا سمعة و لا على سبيل خداع المؤمنين .

ب _ الصدق في الأقوال :
و الصدق في القول تعبير عن شخصية واضحة ، و مروءة و شهامة و كرم ، و لا يلجأ للكذب إلا لئيم الطبع ، خبيث النفس ، ضعيف الشخصية ، و الفطرة السليمة تستعيب الكذب و تستقبحه ، و لذلك أجمعت الديانات السماوية على تحريمه و تجريمه .
فما بالك بالداعية .. أتراه يتصور صدور الكذب منه ؟!
أعتقد - إن شاء الله - أن : لا .
و لكن :
من الدعاة من يتوسع في " التورية " بأن يقول كلاما يفهمه الناس على خلاف ما يقصد ، و قد يكتشفون بعد أن الواقع على خلاف ما فهموم منه فيتهمونه بالكذب .. ثم إن التوسع في التورية قد يؤدي إلى التسامح في بعض " الكذيبات " بحجة أنها للمصلحة !! فالحذر الحذر !
• أيها الداعية : حين يلجؤك الموقف إلى الكذب فلا تقدم عليه ، و تذكر كلمة " أبي سفيان " أمام هرقل حين سأله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال :
" و الله لولا أن يؤثروا عني كذباً لكذبت " !
لقد تجنب هذا الرجل - و كان جاهليَّاً - أن يكذب خشية أن ينقلوها عنه ، أو يعيروه بها يوما من الدهر ، مع شدة حاجته إليها . و نحن نعلم أن أعراض الدعاة اليوم أصبحت هدفا لسهام كثيرة ، و لذا يتعين على الداعية أن يغلق الباب الذي تأتيه منه الريح ، ليريح و يستريح !

جـ _ الصدق في الأعمال :
و هو يعني أن تكون أعمال الإنسان خالصة لوجه الله تعالى من الرياء و السمعة ، " فمن كان يرجو لقاءَ ربّه فليعمل عملاً صالحاً ، و لا يشرك بعبادة ربه أحداً " ( سورة الكهف / الآية 110) ، و قال : " ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " ( سورة الملك / الآية 2 ) .
قال الفضيل بن عياض : أيكم أحسن عملا ، أي : أخلصه و أصوبه .
قيل : يا أبا علي ! ما أخلصه و أصوبه ؟
قال : إن العمل إذا كان خالصاً و لم يكن صواباً لم يقبل ، و إذا كان صواباً و لم يكن خالصاً لم يقبل ، لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً !
و من الصدق في الأعمال : الوضوح و تجنب الغموض و التلبيس .
روى أبو داود و النسائي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جاء بعبد الله بن سعد بن أبي السرح و قد أهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه ، حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : يا نبيّ الله ! بايع عبد الله .
فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه فنظر إليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يأبى أن يبايعه ، ثم بايعه بعد الثلاث ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أصحابه فقال : " أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟! " .
فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ، ألا أومأت إلينا بعينك ؟ قال عليه الصلاة و السلام : " إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين !! " .
إلى هذا الحد كان مدى " الصدق " في أعمال النبي صلى الله عليه و سلم ، لم يرض أن يقتل عدوه اللدود الذي كان أهدر دمه بطريقة غامضة عن طريق الإيماء بطرف العين !! و كان هذا دأبه و ديدنه طيلة حياته صلى الله عليه و سلم ، و لذلك لم يستطع المشركون في بداية الدعوة أن يتهموه بالكذب ، بل قالوا : شاعر .. ساحر .. مجنون .. و لم يصدقهم الناس ، و عندما فقدوا صوابهم و أعيتهم الحيل صرخوا : كذاب .. و لكن هيهات أن يصدقهم الناس !
و روى الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم ، المدينة انجفل الناس إليه ، و قيل : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ،قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجئت في الناس لأنظر إليه ، فلما استثبتُّ وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، و كان أول شيء تكلم به أن قال : " أيها الناس ! أفشوا السلام ، و أطعموا الطعام ، و صلوا و الناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " .
لقد سرى صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، من القلب إلى اللسان .. إلى الجوارح و تجلى على محيا وجهه الكريم .. فكل من نظر إلى طلعته و إشراقها و صفائها قرأ فيها الصدق و عرف أن وجهه ليس بوجه كذاب !
نحن نحتاج إلى نمط من الدعاة آثروا الصدق في أقوالهم و أفعالهم حتى أصبح الصدق سجية تجري في عروقهم ، و تطل من طلعات وجوههم ، فإذا رآهم الناس قالوا : هذه ليست بوجوه كذابين !
كما نحن بحاجة إلى دعاة يتجملون بالخلق الكريم ، و يتأبون على الإثارة الاستفزاز فيحتفظون بهدوئهم و اعتدال منطقهم في سائر الأحوال حتى إذا أبصر الناس منهم هذا هتفوا : هذه أخلاق أنبياء !
• إن صدقنا في حمل دعوتنا هو الذي يجعل الناس يتقبلون ديننا ، و ليس يليق بنا أن نكون كالممثل على المسرح ، يظهر للناس بهيئة خلاف حقيقته ، فمثل هذا سرعان ما ينكشف أمره ، و يعرض الناس عنه .
نقل عن بعض السلف أنه كان إذا وعظ أبكى الناس ، حتى تختلط الأصوات و يعلو النحيب ، و قد يتكلم في المجلس من هو أغزر منه علما ، و أجود منه عبارة ، فلا تتحرك القلوب و لا يبكي أحد !
فسأله ابنه يوما عن هذا ، فقال : يا بني لا تستوي النائحة الثكلى و النائحة المستأجرة !
إذن فالوسيلة الأولى لنجاح الداعية هي : صدقه في حمل دعوته ، و جديته في ذلك ، و أن يكون الصدق في الأقوال و الأعمال منهجه و شعاره . ليس المهم هو الكلمات المنمقة المعسولة - و إن كانت مطلوبة - ، إنما الأهم من ذلك الصدق ، و أن يكون منسجما مع نفسه ، و أن يكون حديثه عن معاناة ، و قديما قيل :
الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب ، و إذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان !!

ثانياً / الصبر :

الصبر قرين اليقين " و جعلنا منهم أمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون " ( سورة السجدة / الآية 24 ) .
و لذلك قال سفيان : بالصبر و اليقين تنال الإمامة في الدين .
و الذي لا يصبر فإنه من السهل أن ينخلع عن دينه لأي شيء يعترض طريقه ، و من السهل أن يتخلى عن منهجه و حكمته لأي استفزاز ، و لذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : " فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون " ( سورة الروم / الآية 60 ) .
و قال : " و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجراً جميلاً " ( سورة المزمل / الآية 10 ) .
كثيرا ما يقف الضالون في وجه الدعاة إلى الله عز و جل ، يقولون لهم : إن ما تدعون إليه ضرب من الخيال لا يمكن أن يتحقق في الواقع ، أنتم تدعون إلى أمور عفا عليها الزمن ، و نسيها الناس أو كادوا ، فينبغي أن ترضوا بما دون ذلك ، و أن تراجعوا آراءكم و اجتهاداتكم !!
و أمام ضغوط الواقع القائم ، و أمام العقبات الحقيقية و الوهمية في وجه تحقيق الإسلام ، و أمام طول الطريق .. قد يستجيب بعض الدعاة و يتأثر ، و يبدأ في إعادة النظر في فهمه للإسلام ، و فيما يقوله الخصوم !
و يا ليته إذ يفعل ذلك يفعله بروح الباحث المتجرد الشجاع المتطلع إلى الحق أين كان .. إذن لهان الخطب !
لكنه يفعله بروح " المنهزم " الذي يحس بأنه خرج من المعركة أسيرا أو كسيرا .. فهو يبحث في " عروض " القوم عن " حل " يجنبه المعركة مع الباطل .. مع الواقع المنحرف ..
• و هذا مثل :
الربا الذي انتشر ، و ضرب أطنابه ، و مد رواقه ، و قامت عليه اقتصاديات العالم كله - بما فيه العالم الإسلامي - و كاد أن يدخل جيب كل أحد حتى تحققت فيه نبوءة النبي صلى الله عليه و سلم ، حين قال : " يأتي على الناس زمان من لم يأكل الربا أصابه من غباره " .
و هذا الحديث و إن كان فيه ضعف ، إلا أنه يشهد لصحة معناه قوله صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخاري : " يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أكل ، أمن الحلال أم من الحرام " .
هذا الحرام المستقر في نفوس الكثيرين و جيوبهم و مؤسساتهم و أموالهم ، بدلاً من أن يسعى الداعية لنهي الناس عنه ، و البحث عن البدائل الشرعية الصحيحة لتنمية أموال الناس و استثمارها ، و لإقامة بناء الاقتصاد الإسلامي السليم .. يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفّوه ليعيد النظر في صور من صور الربا الصريح ..
و أن لها مخرجا فقهيا و لو ضعيفاً أو شاذاً ! و هكذا يصبح " واقع الناس " في فترة من الزمان محدودة مرجعا لتعديل بعض الأحكام الشرعية المستقرة عبر القرون !
إنه فقدان الصبر في نفوس بعض الدعاة ، و مع فقدانه فقدان الأمل !

أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل !

و يا ليت الداعية ينصت لذلك الناصح الذي قال للخليل :
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
أنت لست مطالباً بتحقيق نصر واقع للإسلام ، فهذا أمره إلى الله متى شاء أن يحدث حدث ، لكنك مطالب ببذل جهدك في هذا السبيل فحسب ! و الرسل و الأنبياء كانوا يخاطبون بذلك : " إن عليك إلا البلاغ " ( سورة الشورى / الآية 48 ) .
و كانوا يقولون : " و ما علينا إلا البلاغ المبين " ( سورة يس / الآية 17 ) .
و قد يأتي أحدهم إلى بعض الدعاة و يقول له : أنت تعمل أعمالا جبارة ، و تواصل كلال الليل بكلال النهار ، لكن النتيجة في النهاية قليلة ، فالناس ينفضون من حولك ، و أنت ترى وسائل الهدم و التخريب قد استحوذت على الكثير منهم .. و أصبحت تفسد في ساعة ما يبنيه الداعية في سنة ! و :

متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه و غيرك يهدم ؟؟

و هذا المنطق قد يؤثر على كثير ممن لم يعتادوا على عقبات الطريق .
و هنا يأتي دور " الصبر " الصبر الجميل .
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ، و هو متوسد بردة في ظل الكعبة ، و قد لقينا من المشركين شدة ، فقلت : يا رسول الله ‍ ألا تدعو لنا ؟ ألا تستنصر لنا ؟
فقعد صلى الله عليه و سلم ، و هو محمرٌّ وجهه ، و قال : " لقد كان من قبلكم يمشط بمشاط من حديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، و يوضع الميشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ، و الذئب على غنمه .. و لكنكم تستعجلون ‍‍! " .
فالعجلة في قطف ثمار الدعوة و نتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية .
قد يكون الداعية في موقع من المواقع ( بلد ، مدرسة ، مؤسسة ، .. ) يجاهد في رد المنكرات و نشر الدعوة ، و يحدث على يديه خير كثير ، لكنه لا يحس به لأنه يجيء بصورة تدريجية .. كما لا يحس الأب بنمو طفله الذي يراه صباح مساء ! لأنه يكبر شيئا فشيئا !
و كم من داعية تخلى عن موقع من المواقع ظانا أنه ليس له أثر ، فلما تخلى بان فقده و ظهرت مكانته ، فكان كما قيل :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ***و في الليلة الظلماء يفتقد البدر

و كان كالكسعي ، الذي يصنع السهام و يرمي بها في الليل ، و يظن أنها لم تصب ما أراد .. فكسر القوس ، فلما أصبح رأى أنها قد أصابت فندم على كسرها .. و صار يضرب به المثل في الندم ، حتى قال الفرزدق حين طلق زوجته :
ندمت ندامة الكسعي لما *** غدت مني مطلقة نوار ‍!
فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج و الثمرات ، بل يسعى و يعتمد على الله تعالى ، و يدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها من الناحية التاريخية ، و من الناحية الواقعية ، أن أي جهد صحيح يبذل في الأمة يكون له ثمرة ، إذ لم يقع في هذه الأمة أن أحدا دعا فلم يستجب له ، أو نصح فلم ينتصح بأمره و نهيه أحد ، أو عالما جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد ، إلا أن يؤتى من قبل نفسه ، بل كل داع يجد من يستجيب له ، إذ لم تصل الأمور إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم ، من الشح المطاع و الهوى المتبع ، و الدنيا المؤثرة ، و إعجاب كل ذي رأي برأيه ، لم يحدث هذا على مستوى الأمة كلها قط ، قد يقع في فرد أو أفراد أو جهة ، لكن الأمة فيها خير كثير ، و لا يزال عند الناس استجابة و قبول للدعوة ، و إصغاء لصوت الناصح ، إذا تكلم بعلم و حكمة .
بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا و أوروبا و غيرها أن من يحملون لواء الدعوة إلى الله يجدون من يستجيب لهم من الكفار ، و في مراكز كثيرة كانوا يذكرون لنا إحصائيات الذين يسلمون أسبوعيا فكانت بالعشرات من الرجال و النساء .
و هذه الحقيقة التاريخية الواقعية ، التي تثبت أن كل جهد له ثمرة هي أيضا حقيقة شرعية :
" فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه ، و إنا له كاتبون " ( سورة الأنبياء / الآية 94 ) .
و قال : " ليجزي الله الصادقين بصدقهم " ( سورة الأحزاب / الآية 24 ) .
" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء " .
" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة .. " .
فكل عمل له جزاء ، و كل داع له أتباع .
ثالثاً / التواضع :

و هو معرفة المرء قدر نفسه ، و تجنب الكبر الذي هو بطر الحقّ و غمط الناس . كما قال صلى الله عليه و سلم ، فيما رواه مسلم و غيره .
و التواضع في الأصل إنما هو للكبير الذي يخشى عليه أن يكبر في عين نفسه ، فيقال له :
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء و هو رفيع
أما الإنسان العادي فلا يقال له : تواضع ، و إنما يقال له : اعرف قدر نفسك ، و لا تضعها في غير موضعها !
روى الخطابي في العزلة أن الإمام الفذ عبد الله بن المبارك ، قدم خراسان فقصد رجلا مشهورا بالزهد و الورع ، فلما دخل عليه لم يلتفت الرجل إليه و لم يأبه به ، فخرج من عنده عبد الله بن المبارك ، فقال له بعض من عنده : أتدري من هذا ؟ قال : لا . قال : هذا أمير المؤمنين في الحديث .. هذا .. هذا .. هذا .. عبد الله بن المبارك فبهت الرجل و خرج إلى عبد الله بن المبارك مسرعا يعتذر إليه و يتنصل مما حدث و قال : يا أبا عبد الرحمن اعذرني و عظني !
قال ابن المبارك : نعم .. إذا خرجت من منزلك فلا يقع بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك !
و ذلك أنه رآه معجباً بنفسه ، ثم سأل عنه ابن المبارك فإذا هو حائك !!
لقد لمح الإمام المربي أن في هذا المتزهد نوعا من الكبرياء و الغطرسة و الاستعلاء على الناس .. و هو داء يسرع إلى المتزهدين أحيانا .. فزوده بهذه النصيحة التي تلائم حاله .
و كم نجد من بعض الصالحين ، و ربما الدعاة أحيانا ، بل و من صغار الطلبة من يسيئون الأدب مع شيوخهم و علمائهم و أساتذتهم . و إنه لأمر يحز في النفس و يؤلمها !
لا حرج أن تختلف مع عالم أو داعية في رأي أو اجتهاد متى كنت أهلاً لذلك .. لكن الحرج كل الحرج أن يتحول هذا الاختلاف إلى معول هدم لمكانة هذا العالم ، و الحط من قدره ، و الازراء عليه ، و سوء الأدب معه .
و إن جاز أن يقع هذا من الدهماء من العامة ، أو من أهل البدعة و الضلالة فإنه لا يجوز بحال أن يقع من أهل السنة و من طلاب علم الشريعة :
قد رشحوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
إن علماء أهل السنة و الجماعة خاصة مطالبون بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الاحتساب على علية القوم ..
و إذا خذلهم أقرب الناس إليهم فلا ينتظر منهم ذلك ، فواحدهم كفارس شجاع ما خلفه إلا نساء !
و لو أن قومي أنطقتني رماحهم *** نطقت و لكن الرماح أجرت
و لو أن أهل السنة حموا أعراض علمائهم ، و عرفوا لهم قدرهم ، و التفوا حولهم لأمكن لهم أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على الوجه الصحيح ، لكن لما خذل العالم من وراءه لم يستطع أن يقول شيئاً .
و كم هو مؤسف أن بعض أهل البدع على النقيض من ذلك ، بل تصل الحال بهم إلى أن يمنحوا شيوخهم و ملاليهم و سادتهم نوعا من القداسة ، و يسيرون خلفهم بشكل مرفوض .. هو في الحقيقة نوع من العبودية و ذوبان التابع في المتبوع .
و هذا ديدن الفرق الباطنية عبر العصور حيث تربى أفرادها على منح قدر من " العصمة " لزعمائها و أئمتها .
و حتى المعتزلة الذين يتعاطون بضاعة " العقل " ، و لا يكاد يوجد عندهم للعواطف مكان .. يقول أحد شعرائهم في شيخهم واصل بن عطاء :
له خلف بحر الصين في كل بلدة *** إلى سوسة الأقصى و خلف البرابر
رجال دعاة لا يفل عزيمهم *** تهكم جبار .. و لا كيد ماكر
إذا قال مروا في الشتاء تسارعوا *** و إن جاء حر لم يخف شهر ناجر
هم أهل دين الله في كل بلدة *** و أرباب فتياها و علم التشاجر
و أهل السنة أولى بأن يقدروا و يوقروا علماءهم و لا خير في أمة لا يوقر صغيرها كبيرها ، و لا يرحم كبيرها صغيرها .

*** و من التواضع ، بل من معرفة قدر النفس ألا ينظر الشاب المبتدئ إلى نفسه على أنه ند لهذا العالم أو ذاك ، و يقول : هم رجال .. و نحن رجال !!
و الحال أن الرجولة تختلف .. فإن صفة الرجولة في القرآن الكريم سيقت مساق المدح في مواضع عدة :
" فيه رجال يحبون أن يتطهروا " ( سورة التوبة / الآية 108 ) .
" في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال ، رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار " ( سورة النور / الآيتان 36-37 ) .
و قد يعبر بالرجولة عن الفحولة و الذكورية فحسب ، في مواضع أخرى :
" و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجـــــال من الجن " ( سورة الجن / الآية 6 ) .
فالرجال ليسوا سواء ، و أين الثرى من الثريا ؟!
و لربما رأيت طويلب علم لا يحفظ من القرآن إلا اليسير ، و لا يكاد يحفظ حديثاً من البخاري أو مسلم بحروفه ، فضلا عن سنده و معناه .. و مع هذا قد يقف أمام جهابذة العلماء و كأنه أبو حنيفة أو الشافعي ! و هجيراه أن يقول : أرى ، و أنا ، و قلت ، و عندي !
يقولون هذا عندنا غير جائز *** و من أنتم حتى يكون لكم عند ؟!

*** و من التواضع أن يتواضع المرء مع أقرانه ، و كثيراً ما تثور بين الأقران و الأنداد روح المنافسة و التحاسد ، و ربما استعلى الإنسان على قرينه ، و ربما فرح بالنيل منه ، و الحط من قدره و شأنه ، و عيبه بما ليس فيه ، أو تضخيم ما فيه ، و قد يظهر ذلك بمظهر النصيحة و التقويم و إبداء الملاحظات ، و لو سمى الأمور بأسمائها الحقيقية لقال : الغيرة .
و العجب أن يغار الداعية من اجتماع ألف أو ألفين في مجلس علم أو دعوة لكنه لا ينفعل لو سمع أن حفلا غنائياً أو مباراة رياضية حضرها عشرون أو ثلاثون ألفاً ، و هذا و الله من البؤس ، حتى لو كنت لا ترضى من أخيك بعض الأمر ، يكفيك أنه يدعو إلى الله ، و يعلم الناس الدين ، و هو على الجادة إجمالا :
و من ذا الذي ترضى سجاياه كلها ؟ *** كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
و قد يكون الحق معه في بعض ما انتقدته عليه .

*** و من التواضع : التواضع مع من هو دونك ، فإذا وجدت أحداً أصغر منك سناً ، أو أقل منك قدراً فلا تحقره ، فقد يكون أسلم منك قلباً ، أو أقل منك ذنباً ، أو أعظم منك إلى الله قرباً .
حتى لو رأيت إنساناً فاسقاً و أنت يظهر عليك الصلاح فلا تستكبر عليه ، و احمد الله على أن نجاك مما ابتلاه به ، و تذكر أنه ربما يكون في عملك الصالح رياء أو عجب يحبطه ، و قد يكون عند هذا المذنب من الندم و الانكسار و الخوف من خطيئته ما يكون سبباً في غفران ذنبه .
عن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حدث : " أن رجلاً قال : و الله لا يغفر الله لفلان ، و أن الله تعالى قال / من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان ؟ فإني غفرت لفلان و أحبطت عملك " .
فلا تستكبر على أحد ، و حتى حين ترى الفاسق لا تستعل عليه ، أو تعامله بأسلوب المتسلط المتكبر .
و لو شعر الناصح الداعية أنه قد يكون لهذا الفاسق طاعات ليست عنده ، و أن عنده هو عيوباً قد لا تكون عند صاحبه لعامله برفق ، و تلطف معه في الدعوة بما يرجى أن يكون سبباً في القبول و الذكرى .

*** و من التواضع ألا يعظم في عينك عملك ، إن عملت خيرا ، أو تقربت إلى الله تعالى بطاعة ، فإن العمل قد لا يقبل ، و " إنما يتقبل الله من المتقين " ( سورة المائدة / الآية 27 ) ، و لهذا قال بعض السلف : لو أعلم أن الله قبل مني تسبيحة لتمنيت أن أموت الآن !
و من ذلك التواضع عندما تسمع نصيحة ، فإن الشيطان يدعوك إلى ردها ، و سوء الظن بالناصح ، لأن معنى النصيحة أن أخاك يقول لك : إن فيك من العيوب كيت و كيت :
و كم مرة أتبعتكم بنصيحتي *** و قد يستفيد البغضة المتنصح !
أما من عصمه الله تعالى فإنه إذا وجد من ينصحه و يدله على عيوبه قهر نفسه ، و قبل منه ، و دعا له و شكره .
و لهذا قال صلى الله عليه و سلم ، في تعريف الكبر : " الكبر بطر الحق و غمط الناس " .
يعني رد الحق ، و بخس الناس أشياءهم .
فالمستكبر صاحب نفسية متعاظمة لا يكاد يمدح أحداً أو يذكره بخير ، و إن احتاج إلى ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه .
أما إن سمع من يذكره ببعض عيوبه فهيهات هيهات أن ينصاع أو يلين ، و ما ذاك إلا لمركب النقص في نفسه ، و لهذا كان من كمال الإنسان أن يقبل النقد و الملاحظة بدون حساسية أو انزعاج أو شعور بالخجل و الضعف ، و ها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الراية ، و يرفع الشعار :
*** رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا ***

(5) سبق تخريجه .
رابعاً / العدل

و العدل لفظ عام يعني التوسط الذي هو سمة المسلمين ، و سمة أهل السنة و الجماعة في الأمور كلها دون استثناء ، و هو إعطاء كل ذي حق حقه ، و مجالات العدل و صوره كثيرة جدا ليس من الميسور حصرها ، لكن هذه بعض النماذج المهمة منها :
أ – العدل مع العدو و الصديق :
فالكثير من الناس إذا ذكر له صديقه أثنى عليه و لو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء ، و إذا ذكر له خصمه ذمّه و لو كان يعلم أنه خلاف ما يقول .
فهل يستطيع الداعية أن يذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليه ممن يكون مثله في المنهج و الطريقة ؟! أو يكون شريكا له في عمل ما ؟!
و هل يستطيع أن يثني بصدق على إنسان يختلف معه في بعض الأمور ؟
إن كان يستطيع ذلك فقد حقق العدل في هذا الجانب ، و لكن أكثر الناس يجورون على خصومهم فيذمونهم بما ليس فيهم ، و يجورون أيضا على أصدقائهم فيمدحونهم بما ليس فيهم .. و هذا و إن كان مظهره مظهر المحبة و الثناء إلا أن حقيقته الجور و الذم ، فمن أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمّك ، لأن الناس يتطلبون هذه الخصلة فيك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها ، و الله تعالى قد أمرنا بالعدل حتى مع الأعداء فقال : " و لا يجرِمنَّكم شنآنُ قومٍ على ألاّ تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى " [ المائدة : 8 ] .
و من المحزن أننا و إن سلّمنا بذلك نظرياً ، إلا أننا من الناحية العملية سرعان ما ننسى هذا الدرس ، فحين نقف على ما نعده نحن خطأ من فلان نسقطه من الحساب ، و لا نعبأ به ، و لا نلتفت إليه ، و كثيرا ما تنسينا محاسن الشخص الكثيرة عيوبه القليلة ، أو تنسينا عيوبه الكثيرة محاسنه القليلة .
لا بل الأمر أدهى و أمر !
و لعل الحقيقة أنه كثيرا ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة .. و ننسى القاعدة الشرعية " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث !! " .

ب- العدل في تقويم الكتب :
فحينما تقوم كتاباً فليس من العدل أن تقول إنه يحوي أحاديث موضوعة أو ضعيفة – مثلاً – أو آراء شاذة ، فتذكر هذا الجانب المظلم ، و تنسى جانباً آخر موجوداً في الكتاب ، و هو أنه يحوي توجيهات مفيدة ، أو أبحاثا علمية .
إن ذكرك لنصف الحقيقة و إهمال النصف الآخر منها ليس من الأمانة .
و الكثير من الناس بمجرد أن يرى خطأً في كتاب ما يحذَره و يحذّر منه ، لأنه ساق حديثاً ضعيفاً ، أو أخطأ في مسألة ، و لو عاملنا كتب أهل العلم بهذا المقياس ما بقي لنا كتاب .
صحيح البخاري – و هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى – هل حاز على الكمال المطلق ؟ كلاّ ، فقد بيض لبعض المواضع ، لم يضع تحت بعض الأبواب أحاديث ، فيه أحاديث معلقة غير موصولة ، و في بعض روايات الصحيح اختلاف .
و لا يخلو كتاب بعد كتاب الله من النقص و الخطأ ، فلا ينبغي أن نذكر عيوب كتاب و مثالبه ، إلا و نذكر إلى جانبها محاسنه ما كانت له محاسن .

ج- العدل في الحكم على الدعوات و الحركات :
منذ سقوط الخلافة الإسلامية قامت في العالم الإسلامي دعوات و حركات كثيرة تهدف إلى استئناف الحياة الإسلامية و الحكم الإسلامي ، أو إلى استمرار الدعوة بين غير المسلمين ، أو إلى إحياء السنة ، أو ما شابه ذلك من الأهداف النبيلة .
و هذه الدعوات تختلف في منهاجها و أسسها و أهدافها ، و تختلف في قربها أو بعدها عن منهج الكتاب و السنة .
و قد تحدث كثيرون عن هذه الدعوات و درسوها من جوانب مختلفة ، و الأمر الذي تكاد أن تفقده في كثير من هذه الدراسات هو " العدل " ، فكثير من الكتاب ما بين منتم لهذه الدعوة ، معجب بمناهجها و طرائقها فهو يكيل لها المدح كيلا ، و يدعي وصلاً بليلى ! و آخر متحامل عليها لا يرى فيها إلا كل نقيصة ، و بين هذا و ذاك تضيع الحقيقة .
و الله تعالى يحب العدل ، و يكره الجور ، و من قصّر في جانب فلا يلزم أن يكون مقصراً في كل جانب ، و لا يسوغ أن تنسيك سيئاتهم الكثيرة حسناتهم القليلة .
أحياناً تسمع البعض يتحدث عن فئة من الدعاة إلى الله فيحولهم إلى مجموعة من الشياطين حتى يفسّر نطقهم بالشهادتين تفسيراً يصرفه عن معناه المباشر الظاهر ، و يؤول تصرفاتهم تأويلاً قد يصدق في بعضها و لا يصدقها في كثير منها ، و التعميم في هذا الموضع خطأ ، بل يجب لمن تصدى للحديث عن الدعوات و مناهجها التفصيل و الدقة و ضبط العبارة و ذكر الجوانب المشرقة إلى جوار الجوانب المعتمة .
و أئمة أهل السنة و الجماعة كانوا يذكرون أهل البدعة فيذمونهم و يحذرون منهم ، لكنهم يذكرون مع ذلك مقاماتهم في الرد على من هو أشد منهم بدعة ، أو في دعوة بعض الكفار إلى الدخول في الإسلام ، بحيث يتحولون من كفار إلى مسلمين مبتدعين ، و هذا خير من بقائهم على الكفر الصحيح بلا ريب ، أو في ردّ بعض هجمات الأعداء العسكرية ، أو في أعمال خيرية قاموا بها .
فمن العدل ألا نتجاهل بدعتهم بحجة أنهم أحسنوا في أمور ، كما لا نتجاهل حسناتهم بحجة أنهم أصحاب بدعة ، بل نجمع بين الأمرين .

د – العدل في النظر إلى الجهود و الأعمال الدعوية :
هناك جهود في ميدان الدعوة إلى الله تعالى لا ترتبط بفئة معينة ، فهي عمل جهادي أو دعوي تضافرت عليه همم المؤمنين ، أو طوائف منهم ، و هي جهد بشري يخطئ و يصيب ، و ليس له من العصمة نصيب ، و لذلك فإن من المصلحة الظاهرة أن " تقوّم " هذه الأعمال تقويماً صحيحاً معتدلاً ، يحقق الانتفاع بالإيجابيات و توسيعها و تعميقها ، و تلافي السلبيات و الخلاص منها ، لئلا تتكرر الأخطاء نفسها و يعود المسلمون من حيث بدؤوا .
و لكن هذه المصلحة الظاهرة قد تضيع بين طرفين :
طرف يرى هذا العمل كاملا لا عيب فيه ، فيرمي بسهام الاتهام و الشك كل من يوجه نقداً أو ملاحظة .
و طرف لا يبصر إلا العيوب ، حتى لا يكاد يرى في هذا العمل شيئاً يمكن الانتفاع به !
• خذ مثلاً : الجهاد الأفغاني .. جهاد ما يزيد على عشر سنوات من العرق و الدمع و التضحية و السهر و العناء !
قد تجد من يصوره على أنه خال من الأخطاء ، بريء من العيوب ، حتى كأنه جهاد الصحابة رضوان الله عليهم ، و لا يقبل فيه النقد و التوجيه و الملاحظة .
و في المقابل قد تجد من يتحدث عن المجاهدين فيصمهم بالجهل و البدعة دون تروٍ أو تفصيل ، و يتعلل بأن منهم من يعلق التمائم ! ، أو بأن عندهم بدعاً في بعض المساجد ، بل تجاوز الأمر أن صرّح أحدهم قائلاً :
هؤلاء مشركون يحاربون ملحدين !!
و قرأت بخط أحدهم تعليقاً طائشاً عن إحدى الجماعات السلفية هناك ، بأنّ من لم يكفرهم فهو كافر !!
فإذا كان هذا حكمه على فئة سلفية .. فما بالك بغيرها ؟! و الله المستعان .
أين ميزان القسطاس الذي وضعه الله لهذه الأمة ؟
و هل هذا هو الاتباع الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، الذي كان يعرف للناس أقدارهم ، و لا يبخسهم أشياءهم ، و كان يثني على الإنسان بما فيه من خلال الخير ، إذا كان ثم مصلحة – و لو لم يسلم من الأخطاء !
أليس قد أثنى – صلى الله عليه و سلم – على النجاشي ، و وصفه بأنه " ملك لا يظلم عنده أحد " مع أنه حينها كان كافراً لم يسلم بعد ؟!
إن هناك فئة من الدعاة قد تنظر بعين واحدة ، إما بعين الرضا فتنسى العيوب و الأخطاء التي تعرف لتعالج و تقوم ،و إما بعين السخط التي لا ترى إلا المساوئ :
و عين الرضا عن كلّ عيب كليلة *** و لكن عين السخط تبدي المساويا

إذا كان المحبّ قليل حظٍّ *** فما حسناته إلا عيوبا !

و يجب أن يتطلع الدعاة إلى الأحكام العادلة التي تمسك الميزان من وسطه و تنظر نظرة معتدلة متوازنة تحرص ألا تتأثر بالعواطف سلباً أو إيجاباً :
" و لا يَجرمنك شنآن قـــــوم على ألاّ تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى " [ المائدة : 8 ] .

هـ – العدل في التعامل مع النصوص الشرعية :
وهذه النصوص المحكمة كلها " دين " يجب قبوله و طاعته و الإيمان به ، و ليس شيء منها " مهجوراً " ما دام محكماً غير منسوخ .
و من العدل أن تتوازن في النظر إلى هذه النصوص ، فلا تأخذ منها نوعا و تهمل نوعا آخر،خاصة النصوص الواردة في موضوع واحد ، أو في موضوعين متقابلين .
• هناك من يأخذ نصوص الوعيد كحديث " لا يدخل الجنة قاطع " ، أو " لا يدخل الجنة قتات " ، أو " كفـر بالمرء تبرؤ من نسب و إن دق " أو .. أو .. و يبنى على ذلك تكفير الخلق بهذه الأعمال و نحوها اعتماداً على ظواهر هذه النصوص و ينسى أو يتناسى النصوص الأخرى الواردة في الوعد و الرجاء ، كحديث عتبان " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " . أو " من شهد أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا عبد الله و رسوله ، و أن عيسى عبد الله و رسوله ، و كلمته ألقاها إلى مريم و روح مريم ، و أن الجنة حق ، و أن النار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " .
• و في الطرف الآخر هناك من يعكس المسألة فيأخذ نصوص الرجاء وحدها ، و يؤمن الناس من مكر الله و يغفل نصوص الوعيد .
" و خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى و يقولون سيغفر لنا و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه "[ الأعراف : 169 ] .
و العدل أن نأخذ بهذا و ذاك ، و نضع هذه في كفة ، و تلك في أخرى حتى يعتدل الميزان و يستقيم .
و من العدل بين النصوص الشرعية العدل بين الكليات و الجزئيات ، فالدين كله لله ، و ليس فيه شيء يجوز أن يهون من شأنه ، أو أن يتجاهل أو يهمل ، و لهذا قال صلى الله عليه و سلم ، لما أجاب جبريل عـن الإيمان و الإسلام و الإحسان : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " .
و لذا لو أنكر الإنسان أمرا معلوما من الدين بالضرورة متواترا قطعي الثبوت لكان بذلك كافرا و لو كان هذا الأمر الذي أنكره سنة أو فرض كفاية كركعتي الفجر و الآذان و نحوهما .
فليس في الدين "قشور" أو "توافه" كما يحلو لبعض المتعجلين و الهاجمين على القول بدون ثبت و لا روية أن يعبروا .
إنما هناك أولويات كالبداءة بأمور العقيدة ، و تقديم الكليات على الجزئيات ، فأنت حين ترى على إنسان مجموعة أخطاء فمن الحكمة أن تبدأ بالخطأ الأكبر قبل الأصغر ، فليس من الحكمة أن تلومه على بعض الأذكار المسنونة و هو يخل بواجبات الصلاة أو أركانها ، و ليس يسوغ أن تبدأ معه رحلة النصيحة بنهيه عن التدخين و هو يقع في الشرك .
و التدرج في الدعوة ثابت في وصية النبي صلى الله عليه و سلم ، لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقال : " إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .. الحديث " .
فتقديم الأهم فالمهم شريعة نبوية ، كانت جزءاً من منهجه صلى الله عليه و سلم في الدعوة العملية ، و هي جزء من وصيته لصحابته المبلغين عنه .
و بعض الدعاة المخلصين قد تتحول عنايتهم و ينصب اهتمامهم على مجموعة مسائل جزئية ، هي مهمة دون شك لكن ثمت ما هو أهم منها ، و ليست مهمة الناصح أن يصرف اهتمام الدعاة عنها بالكلية ، أو يزهدهم فيها ، كلا .
بل مهمته أن يعمل على وضعها في مكانها الطبيعي الذي يليق بها ، و وضع المسائل الأخرى التي تكبرها في مكانها الطبيعي أيضاً .
كنت يوماً أشرح للطلاب في دروس " بلوغ المرام " حديث أبي سعيد رضي الله عنه : " إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه ، فإن رأى فيهما أذى فليمسحه و ليصل فيهما " .
فرأيتها فرصة مناسبة لشرح المنهج المرضي في مثل هذا الحديث .
فأولاً : ذكرت السنن الواردة عن الرسول صلى الله عليه و سلم في مسألة الصلاة في النعلين ، و هي إجمالاً خمس :
الأولى : أنه صلى الله عليه و سلم كان يتعمد أحياناً خلع نعليه في الصلاة كما في حديث عبد الله بن السائب : " رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يصلي يوم الفتح و وضع نعليه عن يساره " .
الثانية : صلاته صلى الله عليه و سلم ، في النعلين كما في حديث أبي سعيد ، و مثله ما رواه أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه : أكان النبي صلى الله عليه و سلم يصــــلي في نعليه ؟ قال : نعم .
الثالثة : أنه كان يصلي حافياً و منتعلاً كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني : تارةً هكذا و تارةً هكذا .
الرابعة : الأمر بوضع النعلين بين رجليه ، و لا يضعهما عن يمينه و لا عن يساره إلا أن لا يكون عن يساره أحد ، كما جاء في حديث أبي هريرة و غيره .
الخامسة : الأمر بالصلاة فيهما كما في حديث شداد بن أوس : " خالفوا اليهود ، فإنهم لا يصلون في نعالهم و لا في خفافهم " .
ثم ثنيت بذكر آراء الفقهاء في المسألة و هي ثلاثة :
1_ رأي يقول بالكراهة ، نقل ذلك عن ابن عمر و أبي موسى الأشعري .
2_ و آخر يقول بالاستحباب و هو مذهب الأكثرين كعمر و عثمان و علي و أنس و ابن مسعود و عطاء و مجاهد و طاوس و شريح .. الخ .
3_ و ثالث يقول بالجواز إذا لم يكن فيها نجاسة ، كما رجحه ابن الخطابي و ابن دقيق العيد و ابن بطال و النووي و غيرهم ، أي : ليست الصلاة في النعل بمستحبة عندهم ، و زعم ابن دقيق العيد أن ملابسة النعل للأرض التي تكثر فيها النجاسات يقصر به عن أن يكون زينة يستحب أخذها للصلاة .
ثم ثلثت بالترجيح لما يقتضيه الدليل الصحيح الصريح ، و هو استحباب الصلاة في النعل ، على أن يراعى في ذلك أمور :
أ‌- أن ينظر فيها و يطمئن إلى سلامتها من الأذى أو القذركما أمر به صلى الله عليه و سلم ، في حديث أبي سعيد .
ب- ألا يترتب على ذلك تشويش أو تشويه ، فإن رفع الأصوات في المساجد و الجدل العريض ، و الهجر في المقال و امتلاء الصدور بالكراهية و البغضاء و التدابر ، بل و ترك الصلاة مع الجماعة إمعانا في التعبير عن الغضب .. كل ذلك قد يفعله بعض الناس ممن كان يحتاج إلى تأليف قلوبهم . و في بعض المجتمعات يفرح أعداء الدعوة و أعداء المنهج الصحيح بمثل هذه الأعمال ، و يستغلون جهل الناس بالسنة ليلصقوا بالدعاة التهم الباطلة ، و ينفروا الناس منهم .
ج_ ضرورة ترتيب الأولويات ، فنحن نريد تصحيح عقائد الناس ، و تحذيرهم من ألوان الشرك الظاهر و الخفي ، و نريد حمل الناس على فعل الفرائض و الواجبات ، و الامتناع عن المحرمات ، كما نريد حثهم على الالتزام بالسنن و المستحبات ، و ترغيبهم في تجنب المكروهات .
و ليس يصح في النظر السليم أن أصرّ على تعليم الناس سنة من السنن مهما كلف ذلك من جهد ، لتكون النتيجة أن يرفضوا هذه السنة بجهلهم ، ثم يرفضوا من دعاهم إليها فلا يقبلوا منه صرفاً و لا عدلاً .
و سلّم الأولويات الشرعية يبدأ بتعليم أصول العقيدة ، ثم فعل الفرائض و ترك المحرمات ، ثم آداء السنن و ترك المكروهات ، و هي كالضروريات ، ثم الحاجيات ثم التحسينيات .
• و باختصار : نحن بحاجة إلى " درء التعارض " بين العناية بالكل ، و العناية بالجزء ، و إزالة الفكرة الكاذبة التي توحي بأن الاهتمام بالكليات يلزم منه إهمال الجزئيات ، أو العكس ، و أن نجمع اهتمام الدعاة على نسق واحد ، يعطي كل ذي حق حقه .
و ليس عيباً أن يدرس الداعية أو يدرّس هذه السنن التي ينكرها الناس كتقصير الثياب إلى وسط الساق ، أو جلسة الاستراحة في الصلاة ، أو تحريك الأصبع في التشهد ، بل هي مسائل ورد فيها نصوص شرعية ينبغي للمتخصص أن يكوّن منها رأياً و اجتهاداً ، شريطة ألا تلهيه عن غيرها ، كما يدرّب الشباب على تطبيقها في خاصة أنفسهم و فيمن يقبل منهم و يأخذ عنهم ، و في الأزمنة المناسبة ، و في الأمكنة المناسبة ، و يتركوها – احتساباً لوجه الله – حين يرون المصلحة الشرعية في تركها ، و ليس خوفاً من ألسنة الناس أو أقوالهم على أشخاصنا :
فإن أبي و والده و عرضي *** لعرض محمد منك وقاء
و ليس من العدل أن نكتب في موضوع جزئي ما يزيد على أربعة عشر بحثاً .. في حين نترك الوقائع و النوازل الكبيرة في الأمة يسير الناس فيها على غير هدى ، و يتخبطون بآرائهم الشخصية ، أو باجتهادات ناقصة لم تتوافر فيها لآلات الاجتهاد الصحيح .
و هناك من يقع في الخطأ المقابل،فيشتغل ببعض الكليات و يقلل من شأن الجزئيات .
يقول أحدهم : أنا سلفي ، و عندما أنظر إلى شخصية "عمر" أنظر فيها إلى عمر الذي نشر العدل بين الناس ، عمر الذي كان يقول : لو عثرت بغلة في العراق لشعرت أن الله سائلني عنها ، لمَ لمْ تسوِّ لها الطريق يا عمر ؟
و لست أنظر إلى شخصية عمر الذي يقصّر ثوبه و يطيل لحيته !! كما ينظر إليه بعض " الصبية " !! .
يا سبحان الله !
و لماذا نشطر شخصية " عمر" فنجعل منها " عُمَرين " ، عمر العادل المجاهد المتحمل لمسئولية البغلة بالعراق ، و عمــر الملتزم بالسنة في هيئته و ثوبه و عمله ؟
حاشا عمر رضي الله عنه ، فإنه ما كان يؤمن بهذه " الثنائية " و هذا الانشطار و إليك الدليل :
• لما جاء عقبة بن عامر رضي الله عنه يبشره بفتح الشام ، و قد ركب إليه أسبوعا من الجمعة إلى الجمعة حتى وصل المدينة ، و أخبره بالفتح ، فكبر لذلك و سر المسلمون من هذا النصر المؤزر .
ثم نظر عمر إلى خفي عقبة ، فقال له : منذ متى لبستهما ؟ قال : منذ أسبوع و أنا أمسح عليهما ! فقال له عمر : أصبت السنة .
و الأثر صحيح كما يقول ابن تيمية و غيره .
فلم يكن اشتغال عمر رضي الله عنه بمسألة الفتوح و إخضاع العالم لحكم الإسلام مانعا له عن بحث مسألة فرعية جزئية – في نظر البعض – و بيان السنة فيها حسب رأيه و اجتهاده .
• و حين كان أمير المؤمنين في فراش الموت كان همّ الخلافة من بعده مما يقلق باله ، و بال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و مسألة الخلافة مصلحة عامة جوهرية خطيرة ، لكنها – على أهميتها – لم تشغل عمر عن المباحثة و المفاهمة في بعض الجزئيات ، فكان مما فعل - و هو طعين – أنه دخل عليه غلام من الأنصار ، فأثنى عليه خيرا فلما خرج رأى عمر في ثوبه طولاً ، فقال : ردوا علي الغلام !! فردوه فقال له : يا ابن أخي ! ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك و أتقى لربك ! .
و بعد لحظات التفت إلى من حوله من الصحابة فقال لهم : ما تقولون في مسألة إرث الجد مع الإخوة ؟ فتحدثوا ، فقال عمر : " إني كنت رأيت في الجد رأياً فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه ! فقال عثمان رضي الله عنه : إن نتبع رأيك فإنه رَشَد ، و إن نتبع رأي الشيخ قبلك فلنعم ذو الرأي كان !!
هذا عمر رضي الله عنه !
تنسجم عنده الكليات و الجزئيات في مزيج عذب ، لا يطغى فيه لون على لون ، و لا طعم على طعم ، و في بناء متكامل لا يغني فيه شيء عن شيء .

و – العدل في النظرة الشمولية للإسلام :
فالدين جاء ليحكم شئون الحياة كلها ، على مستوى الفرد و الجماعة ، و في الجوانب الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و العلمية و سواها ، و قد عاب الله تعالى على بني إسرائيل و وبخهم بقوله :
" فنسوا حظا مما ذكروا به ، فأغرينا بينهـــم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة " [ المائدة : 14 ] .
فالتحزب على جزء من الدين ، و نسيان الأجزاء الأخرى هو من ميراث الأمم الهالكة ، و من أعظم أسباب الفرقة و الخلاف بين الدعاة . فتجد طائفة من المسلمين تهتم بالإسلام التعبدي ، فتعنى بقيام الليل ، و كثرة الذكر ، و قد تضيف إلى ذلك بعض الترتيبات التي لا أصل لها في الشرع و ربما تسرب إليها شيء من التصوف العجمي الانعزالي حتى لقد حدثني أحدهم بلهجة المسرور أن أحد الجواسيس الغربيين جلس معهم طويلاً ثم كتب عنهم أن هؤلاء لا ضير منهم ، فهم يتحدثون فيما تحت الأرض و فيما فوق السماء !!
تبارك الله !
في القبر و الموت و العذاب و النعيم ، و في الله و الملائكة و الآخرة !
أما ما فوق الأرض فلا شأن لهم به !
و تجد طائفة أخرى تهتم بالإسلام السياسي ، فجهادهم هو في ميدان تكوين الأحزاب السياسية ، و حشد الأنصار ، و الفوز بالانتخابات ، و الدخول في المجالس و البرلمانات .. و تربية الشباب على الجهاد السياسي .
و تجد فئة ثالثة عنيت بالإسلام العلمي ، فهي تتعلم السنة و الحديث ، و تشتغل ببيان صحيحها من سقيمها ، و تحذر الناس من رواية الأحاديث الضعيفة و الموضوعة ، و قد يصحب ذلك شيء من الجفاء أو ضعف التعبد أو الغفلة عن واقع الأمة و ما يدبر لها .
و قبل أن يسبق إلى ذهن أحد معنى يكرهه أبادر و أقول :
أولاً : الإسلام يشمل الجوانب الثلاثة كلها ، و غيرها ، فهو دين جاء ليربط العبد بربه تعبدا و رجاء و خوفا ، و من ثم جاءت الشعائر التعبدية ، و هو دين جاء ليحكم حياة الناس و يدير شئونهم ، فليس كهنوتا و لا رهبانية ، و لا عزلة عن واقع الحياة ، و السياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام ، فالجهاد في هذا الميدان بكل وسيلة مباحة مؤدية للغرض المقصود يجب أن يكون جزءا من هم الداعية .
و هو دين جاء ليضبط التعبد ، و يضبط الحركة في واقع الحياة ، بضابط الكتاب و السنة فلا يكون هناك مجال للعواطف المجردة ، و لا للأمزجة الشخصية ، فلا بد من العلم بالكتاب و السنة حتى نصحح عباداتنا و أعمالنا .
إذن : كل هذه المجالات مما جاء الدين بالدعوة إليه ، و الحث عليه .
ثانياً : قد يعجز فرد أو أفراد أن يحيطوا بهذه الأمور كلها في دعوتهم إلى الله، فالطاقة محدودة إذا صرفت لشيء فربما بخست شيئاً أخر ، أو أضرّت به ، فضلاً عن أن ما رُكّب عليه الناس من الطبائع و النظرات و نوعية الاهتمامات قد يجعل الإنسان بطبعه أميل إلى أحد هذه الأمور . فمثلاً قد يكون في الإنسان زهد و نسك و خير كثير ، لكنه لم يرزق آلة العلم الشرعي ، فليس من أهله .
و هنا نقول : قد علم كل أناس مشربهم ، و كل ميسر لما خلق ، و قد كان من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ، الفارس المقاتل الشجاع كخالد بن الوليد ، إلى جوار العالم المتهجد الفقيه كابن عباس و ابن مسعود ، إلى جوار المتعبد المتزهد الذي يصيح بالناس قولا و فعلا : لا تركنوا إلى الدنيا ، كأبي ذر رضي الله عنه .
و من مجموع هذه الشخصيات و غيرها يتكون البناء الإسلامي المتكامل .
و قد يوجد فيه من يكونون مجمعا للفضائل – و هو قليل – و على نطاق الصحابة رضي الله عنهم تجد أمثال أبي بكر و عمر و عثمان و علي و غيرهم و هم من الصحابة أكثر منهم فيمن جاء بعدهم .
ثالثاً : يجب أن يكمل بعضنا بعضاً ، و ألا يكون تنوع الاهتمامات مدعاة للتطاحن و التناقض و التنابز و اتهام كل طرف للآخر .
فهذا يتهم ذاك بالجهل ، و ذاك يتهم هذا بالإغراق في بحث الجزئيات و الغفلة عن واقع الحال ، و الثالث يتهم الآخرين بالجفاء و الجفاف ، و الركون إلى الدنيا و هكذا .. كلا ..
بل يقول كل مؤمن لأخيه ، إنه قام بما قصر فيه هو من فروض الكفايات و سد عنه ثغرة ما كان يستطيع سدها ، و يدعو له بظهر الغيب ، و يحمي ظهره من طعن الطاعنين .
فلا " نتحزّب " على جزء من الدين ، و نحارب من يتهم بجزء آخر ، بل إن قصرنا في أمر شكرنا من يقوم به عنا ، و شتان بين الأمرين .
رابعاً : و يجب ألا يشغلنا ما نذرنا أنفسنا له – من علم أو تعبد أو جهاد سياسي أو غير ذلك – عن الجوانب الأخرى أن نأخذ منها بنصيب ، فليس يسوغ للداعية – أيَّا كان – أن يجهل ما يكون تعلمه فرض عين على كل مسلم ، كمعرفة العقيدة الصحيحة ، و معرفة أحكام الوضوء و الصلاة و الصيام و نحوها ، و معرفة ما يحتاجه في حياته العملية كآداب المعاشرة للمتزوج ، و أحكام الزكاة و التجارة أرباب الأموال ، و الأحكام المتعلقة بالعمل أو المهنة كالطب أو الهندسة أو غيرها .
و هذا هو العاصم - بإذن الله – عن أن يكون اهتمامنا بشيء ذريعة إلى الغلو فيه و ترك ما عداه .
فإن العناية بالعبادة إذا لم يصحبها علم شرعي صحيح ، مبني على الدليل من الكتاب و السنة قد تؤدي إلى التردي في مهاوي التصوف .
و العناية بالدعوة إذا لم تبن على فهم صحيح ، و مدارسة للنصوص ، و تحصيل علمي قد تؤول إلى جمع الناس على بدعة أو حشدهم على غير شيء . و هكذا .

ز_ العدل مع الواقــــــــع :
فالبعض من الدعاة يعيش في هذا العصر ، و كأنه في القرن الخامس الهجري ! لا يعرف عصره ، و لا يدري ما يقع حوله ، و يفاجأ بالأحداث . كما يفاجأ بها رجل الشارع !
صعد خطيب من الخطباء في إحدى القرى و في يده كتاب يقرأ منه ، فكان مما قال في آخر خطبته أن دعا لأمير المؤمنين السلطان العثماني فلان ، أن يخلد الله ملكه ، و يؤبد سلطانه !!
و لم يدر أن جسد هذا الخليفة أصبح طعاما للديدان في قبره ، و أن ملكه أصبح نهبا للشرق و الغرب !
و هذه الصورة " الصارخة " من " الغيبوبة " قد لا تتكرر كثرا ، لكن ثمت صور ألطف منها تتكرر بصفة دائمة .
أحد الشباب سألني قائلا : حزب البعث ، ما هو حزب البعث ؟ ما هي عقائدهم الأخرى غير مسألة الكفر بالبعث ؟!
ظن أخي أن سبب تسميته بحزب البعث ، لأنه يكفر بالبعث ، كما سمي القدرية لأنهم ينكرون القدر !!
إن المسلم قيم على عصره ، و شاهد عليه ، فهو يعيش هموم المجتمع ، و يدرك تيارات الفكر و اتجاهات السياسة ، و يحرص على إيجاد الحلول الصحيحة للوقائع الجديدة ، و على مقاومة الانحرافات بعد معرفتها و إدراك جذورها ، و لن يستطيع نقض مناهج الفكـر الغربي من لا يعي جذورها و ظروفها و منطلقاتها .
و ليس من الضروري أن يصبح كل داعية كذلك ، لكن لا بد أن يَنْفُرَ من المؤمنين طائفة ليقوموا بهذه الفريضة ، و على المستوى العام لا بدّ أن يكون للداعية نافذة على الواقع يدرك من خلالها أهم الأحداث المحيطة به ، و يستطيع أن يكون مرشداً للناس إلى السلوك الصحيح حيالها .
و في مقابل أولئك المنعزلين عن الواقع يوجد من يحوّل هذا النزول للواقع إلى نوع من الانهزامية ، و البحث عن المسوغات و المبررات ليقول إن ما عليه للناس موافق للإسلام ، أو يحاول التخلي عن بعض الأمور الشرعية مجاملة للواقع ، أو خضوعا لضغطه النفسي .
و العدل هو التعرف على الواقع و محاكمته إلى دين الإسلام ، و تصحيح انحرافاته بحسب الإمكان .

ح _ العدل في التعامل مع الخلاف :
الخلاف من طبيعة البشر " و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك " [ هود : 118 – 119 ] .
و لا شك أنه يختلف و يتفاوت باختلاف النيات و المقاصد ، و اختلاف العقول و المدارك ، و اختلاف العلوم ، و التعامل مع الخلاف يتطلب موقفاً شرعيَّاً . بعض الدعاة يدعو إلى وحدة الصف و جمع الكلمة و نسيان الخلاف دون تحديد ضابط دقيق لمن يمكن الوحدة معه ، و من تجب مفاصلته لبدعته و ضلاله و انحرافه .
و في الطرف الآخر هناك من يبالغ في الشروط ، حتى ليريد من الناس أن يوافقوه في كل شيء ، حتى في اجتهاداته الشخصية الفردية ، و آرائه الخاصة ، فإذا خالفه أحد في بعض ذلك أعرض عنه ، و اتخذ منه موقف المناوئ ، و أصبح لا يأبه به و لا يقيم له وزناً !
و العدل يقتضي تقبل الخلاف فيما يسوغ الخلاف فيه كالوسائل الدعوية ، و الفرعيات ، و الأحكام التي اختلف فيها السابقون .. و نحو ذلك مما بني على اجتهاد شرعي في فهم النصوص ، لا على مجرد الميل و التشهي .. فمثل هذا يحتمل ، و يكون الأمر فيه واسعاً .
أما التسامح مع أهل البدع الاعتقادية الغليظة ، و الانحرافات الجوهرية بحجة توحيد الصف فمسلك تلفيقي لا يمتّ إلى العقل و لا إلى الشرع بصلة .
و أما مطالبة الناس بالاتفاق على كل شيء ، و ألا يختلفوا في شيء البتة فضرب من المحال و الخيال ، لا يتصوّر إلا في عقول السذّج .

خامساً / العاطفة الحية

نحن بحاجة إلى داعية يملك قلبا يحترق على واقع الإسلام و المسلمين و على أوضاع الأمة في مشارق الأرض و مغاربها ، يعطف على إخوانه و يحقق قوله سبحانه " أشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم " [ الفتح :29] و لا يكون شأنه شأن الخوارج في الدهر الأول الذين يقتلون أهل الإيمان و يدعون أهل الأوثان .
إن المؤمن ينبغي أن يكون شديداً على الكفار رحيماً بالمؤمنين و يحقق في نفسه قوله صلى الله عليه و سلم ، " مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى " .
و قوله " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " .
فنحن بحاجة إلى من يحس بآلام إخوانه المسلمين ، فإذا سمع بمصيبة حلت بإخوانه تألم لها و لو كان لديهم بعض التقصير و الابتداع .
كان الشيخ محمد رشيد رضا يتألم لواقع المسلمين و تظهر أحزانه على قسمات وجهه حيت تحل بأحد المسلمين مصيبة أو قارعة ، و يفرح إذا كان الأمر على العكس من ذلك حتى إن والدته عرفت عنه هذا الخلق فإذا رأته حزيناً كاسفاً سألته مالك يا ولدي : أمات اليوم مسلم بالصين ؟ فهي قد أدركت أن أحزان ابنها و أفراحه مربوطة بأحوال المسلمين يفرح لفرحهم و يحزن لحزنهم و هذا هو الولاء الحقيقي للمسلمين .
• و من هذه العاطفة أن يملك الإنسان قلبا يتأثر لأخطاء المسلمين و انحرافهم عن الدين ، فيحزن لانتشار الفسق و المعاصي بينهم حزنا لا يدفعه لاعتزالهم إنما يدفعه لأن يشعر أن كالطبيب معهم يحاول إنقاذهم فإن لم يدرك ذلك كله فليقلل من هذا الانحراف بقدر ما يستطيع .
و ينبغي أن تدعوه هذه العاطفة للغيرة على نفسه و زوجه و ولده فيأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يمنعهم من ارتكاب ما يسخط الله عز و جل .
كثيرون هم الدعاة الذين يتحدثون عن الإسلام لكن الذي يملك عاطفة حقيقة حية قلة من هؤلاء ، و إذا تحركت العاطفة في قلب الداعية أثمرت دعوة و نصيحة و مشاركة لآلام المسلمين في كل مكان . أما حين يفقد الإنسان هذه العاطفة فيُصبح يعيش لنفسه و ولده و زوجه ، يعيش ليستمتع و يتلذذ بما حوله و ينسى هموم المسلمين فإنه حينئذ يكون قد تخلى عن حقيقة الولاء للمؤمنين ، و إن دندن في أحاديث حول الدعوة و الدعاة ، و مصائب المسلمين ، و .. و .. إلا أنه يكون كالنائحة المستأجرة .
و ما أكثر الذين تعودوا على كلام يرددونه في المناسبات .. و حفظوا عبارات يسمعونها و يتلونها دون أن تنطلق من حماس و غيرة على الدين و أهله ..
فآهٍ لهذه الأمة .. ما أحوجها إلى قلوب تحترق !

سادساً / الطموح
و يعني هذا الخلق أن لا يعيش الإنسان لنفسه و دنياه إنما يعيش لأمته كما كان صلى الله عليه و سلم ، إذ تقول عنه عائشة لما سألها عنه عبد الله بن شقيق رضي الله عنه هل كان النبي صلى الله عليه و سلم ، يصلي و هو قاعد ؟ قالت : " نعم بعدما حطمه الناس " . فقد كان صلى الله عليه و سلم ، يتصدى للناس يستقبلهم و يودعهم ، يأمرهم و ينهاهم يختلط بهم و يتحمل أخطاءهم لذلك حطمه الناس و أثروا في بدنه صلى الله عليه و سلم ، حتى أصبح يصلي جالساً و أسرع إليه الشيب بأبي هو و أمي صلى الله عليه و سلم .
• و الدين مراتب فالإسلام ثم الإيمان و الإحسان يقابل هذه القسمة قسمة ثلاثية أيضاً و هي الواردة في سورة فاطر " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير " [ فاطر :32] .
و يناظر هذه القسمة قسمة ثلاثية أيضا ذكرها النبي صلى الله عليه و سلم ، في حديث الفرقة الناجية حيث ذكر الإسلام أولاً و هو الضمانة الوحيدة في الدخول إلى الجنة فلا يدخل الجنة إلا مسلم و داخل في هذه الدائرة الكبرى و هي دائرة الإسلام دائرة أضيق و هي دائرة الفرقة الناجية و تشمل من التزموا بالسلوك المستقيم و العقيدة الصحيحة و لم يقوموا بما وراء ذلك . و هناك دائرة أضيق من هذه الدائرة و هي أفضل و أشرف و أعظم و هي دائرة الطائفة المنصورة الذين يذُبُّون عن الدين و ينافحون عنه و يتحملون الأذى و اللأواء في سبيله فينصرهم الله جل و علا .
فينبغي أن يكون المسلم طموحاً و يسعى للارتقاء في هذه الدرجات و أن ينظر في الدين إلى من هو فوقه و في الدنيا إلى من هو دونه . فحاول أن تتشبه بالفضلاء و المصلحين و المجددين حتى يتحقق لك بعض الخير في هذه الدنيا كن صاحب نفس طموحه لا ترضى بالوقوف عند حد معلوم ، و لا تشبع من خير قط حتى يكون منتهاك الجنة .

و ختامـــاً
ينبغي للداعية أن يكون قدوة لغيره بأن يتجنب المكروهات و فضول المباحات و ما لا يحتاج إليه ، و يترفع عن الدنيا و التنافس فيها حتى يكسب ثقة الناس ، و الأمر كما قال الشافعي :
و من يذق الدنيا فإني طعمتها *** و سيق غلينا عذبها و عذابها
فما هي إلا ضيعة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** و إن تجتذبها نازعتك كلابها
فمن المهم للداعية أن يجعل الدنيا تحت قدميه يستخدمها و لا يخدمها حتى يعلم الناس أنه ليس صاحب دنيا و لا طالب مكانة .
و من مجالات القدوة أن تجنب الداعية التناقض بين القول و العمل كما قال نبي الله شعيب " و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استعطت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب " [ هود : 88] .
و لذلك كان علماء السوء يدعون الناس إلى الإسلام بأقوالهم و يحذرون منه بأعمالهم ، فاحرص أخي الداعية أن تكون قدوة في قولك و عملك .
• و ها هنا أمر ينبغي التنبه له و هو أن الكثير من الناس يظن أن الداعية لا يأمر إلا بالمعروف الذي يفعله و لا ينهى إلا عن المنكر الذي يجتنبه و هذا غلط بل الصحيح الذي تدل عليه نصوص الكتاب و السنة أن الإنسان يجب عليه أن يأمر بالمعروف و لو كان مقصراً فيه و أن ينهى عن المنكر و لو كان واقعاً فيه حتى قال بعض حذاق أهل العلم حق على من يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً .
فالوقوع في المنكر لا يبرر لي الوقوع في خطأ آخر و هو أن لا أنهى عن المنكر ، و الشرط الوحيد أن يكون أمري بالمعروف و نهيي عن المنكر بصدق و ليس على سبيل الخداع و النفاق و التضليل و أن أظهر للناس أني داعية ، و أنا لست كذلك . فلو كان الوالد مثلا مبتلى بشرب الدخان و رأى ولده يدخن فهل يسكت عنه بحجة أنه واقع في المنكر ؟
كلا . بل عليه أن ينهاه و يقول : إني سلكت هذا الطريق و يصعب علي الإقلاع و أنت ما زلت في البداية و هكذا سائر المعاصي .
و قل مثل ذلك في مسئول يرى من تحته يقع في معصية هو واقع فيها .
و لو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
و تقتضي القدوة ألا يقابل الداعية السيئة بالسيئة بل يعفو و يصفح و يقابل الإساءة بالإحسان كما كان صلى الله عليه و سلم ، يعفو عمن ظلمه ، و يعطي من حرمه ، و يصل من قطعه ، و هذه أخلاق الأنبياء .
جعلنا الله و إياكم هداة مهتدين ، غير ضالين و لا مضلين ، و عاملنا بفضله و رحمته ، فهو أهل التقوى و أهل المغفرة .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك .
سلمان بن فهد العودة

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك