التربية الإسلامية المصطلح والمفهوم

التربية الإسلامية
المصطلح و المفهوم

د / صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المُعلمين في أبها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين ، وخالق الناس أجمعين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :
فتُعد التربية الإسلامية أحد فروع علم التربية الذي يُعنى بتربية وإعداد الإنسان في مختلف جوانب حياته من منظور الدين الإسلامي الحنيف . وعلى الرغم من شيوع مصطلح " التربية الإسلامية " في عصرنا الحاضر ؛ إلا أنه لم يكن مُستخدماً وشائعاً في كتابات سلفنا الصالح ، ولم يكن معروفاً في تُراثهم العلمي الكبير ؛ وإن كانت قد وردت الإشارة إليه عند بعض المهتمين بهذا المجال من الفقهاء والعُلماء و المفكرين . وفيما يلي محاولةٌ لتسليط الضوء على بعض المرادفات التي استُخدمت - قديماً - للدلالة على مصطلح " التربية الإسلامية " ، وبيانٌ لمعناه ، ومفهومه ، وتعريفه .
= مرادفات مصطلح التربية في تراثنا الإسلامي :
لم يرد مصطلح " التربية الإسلامية " بهذا اللفظ في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث رسول الله e ، ولكنه ورد بألفاظ أُخرى تدل في معناها على ذلك . كما أن هذا المصطلح لم يُستعمل في تراثنا الإسلامي لاسيما القديم منه ؛ وإنما أشار إليه بعض من كتب في المجال التربوي بألفاظٍ أو مصطلحاتٍ أخرى قد تؤدي المعنى المقصود ؛ أو تكون قريبةً منه . وقد أشار إلى ذلك ( محمد منير مرسي ، 1421هـ ، ص 48 ) بقوله :
" تعتبر كلمة التربية بمفهومها الاصطلاحي من الكلمات الحديثة التي ظهرت في السنوات الأخيرة مرتبطةً بحركة التجديد التربوي في البلاد العربية في الربع الثاني من القرن العشرين ؛ ولذلك لا نجد لها استخداماً في المصادر العربية القديمة ".
أما الألفاظ والمصطلحات التي كانت تُستخدم في كتابات السلف للدلالة على معنى التربية ؛ فمنها ما يلي :
1) مصطلح التنشئة : ويُقصد بها تربية ورعاية الإنسان منذ الصغر ؛ ولذلك يُقال : نشأ فلان وترعرع . قال الشاعر العربي :
وينشأُ ناشئ الفتيان فينا
على ما كانَ عَودهُ أبـوهُ
وممن استخدم هذا المصطلح العالِم عبد الرحمن بن خلدون (المتوفى سنة 808هـ) في مقدمته الشهيرة .
2) مصطلح الإصلاح : ويعني التغيير إلى الأفضل ، وهو ضد الإفساد ، ويُقصد به العناية بالشيء والقيام عليه وإصلاح اعوجاجه ؛ وقد ذكر ذلك (خالد حامد الحازمي ، 1420هـ ، ص 23 ) بقوله :
" والإصلاح يقتضي التعديل ، والتحسين ، ولكن لا يلزم أن يحصل منه النماء والزيادة ، فهو إذاً يؤدي جزءًا من مدلول التربية ".
3) مصطلح التأديب أو الأدب : ويُقصد به التحلي بالمحامد من الصفات والطباع والأخلاق ؛ والابتعاد عن القبائح ، ويتضمن التأديب معنى الإصلاح والنماء . وهو ما يُشير إليه ( علي إدريس ، 1405هـ ، ص 13 ) بقوله :
" عند قدماء العرب كانت كلمة ( تأديب ) هي المستعملة والمتداولة أكثر من كلمة تربية ، وكان المدلول الأول لكلمة ( أدب ) في تلك البيئة العربية يُطلق على الكرم والضيافة ، فكان يُقال :فلانٌ أَدَبَ القومَ إذا دعاهم إلى طعام…وهكذا كان مدلول كلمة ( تأديب ) منصرفاً بالدرجة الأولى إلى الجانب السلوكي من حيث علاقة الإنسان مع غيره ".
وهنا نلاحظ أن مصطلح الأدب أو التأديب وثيق الصلة بمصطلح التربية حيث يمكن أن تُشتق منه تسمية المعارف آداباً ؛ وتسمية التعليم تأديباً ، وتسميةُ المربي أو المعلم مؤدباً . وقد أشار إلى هذا المعنى ( أحمد شلبي ، 1978م ، ص 58 ) في معرض حديثه عن التعليم في القصور ؛ فأورد نقلاً عن ( رسالة المعلمين ) للجاحظ قوله :
"والمعلم هنا ( أي في القصور ) لا يُسمى معلم صبيان أو معلم كُتاب ، وإنما يُطلق عليه لفظ "مؤدِّب " وقد اشتق اسم المؤدب من الأدب ، والأدب إما خُلقٌ وإما رواية ، وقد أطلقوا كلمة مؤدب على معلمي أولاد الملوك إذ كانوا يتولون الناحيتين جميعًا ".
و مصطلح الأدب أو التأديب مصطلحٌ شائعٌ ورد في بعض أحاديث النبي e التي منها :
* ما روي عن جابر بن سمرة t أن رسول الله e قال :" لأن يؤدب الرجل ولده خيرٌ من أن يتصدق بصاع" ( الترمذي ، د.ت ، ج 4 ، رقم الحديث 1951 ، ص 337 ) .
* وما روي عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده أن رسول الله eقال : "ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدبٍ حسن" ( الترمذي ، د.ت ، ج 4 ، الحديث رقم 1952 ، ص 337 ) .
* وما روي عن أنس t أن رسول الله e قال : " أكرموا أولادكم ، وأحسنوا أدبهم" ( ابن ماجة ، د.ت ، ج 2، الحديث رقم 3671، ص 1211 ) .
وهنا نلاحظ من معاني هذه الأحاديث أن لفظ الأدب يدل على معنى كلمة تربية الأبناء وتنشئتهم على التحلي بمحاسن الأخلاق ، وجميل الطباع .
كما أن هذا المصطلح قد شاع استعماله عند كثيرٌ من العلماء والفقهاء والمفكرين المسلمين القدامى ومنهم : الماوردي ( المتوفى سنة 450هـ) في كتابه ( أدب الدنيا والدين ) ، و محمد بن سحنون التنوخي ( المتوفى سنة 256هـ) في رسالته (آداب المعلمين والمتعلمين ) ، والخطيب البغدادي ( المتوفى سنة 463هـ) في كتابه ( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ).
4) مصطلح التهذيب : ويُقصد به تهذيب النفس البشرية وتنقيتها ، وتسويتها بالتربية على فضائل الأعمال ومحاسن الأقوال . جاء عند ( الفيروزآبادي ، 1415هـ ، ص 132 ):
"رجُلٌ مُهَذَّبٌ : مُطَهَّرُ الأَخْلاقِ" .
كما جاء في ( المعجم الوجيز ، 1400هـ، ص 647 ) :" وهَذَّبَ الصَّبيَّ رَبَّاه تربيةً صالحةً خالصةً من الشوائب " . وقد استعمل هذا المصطلح ابن مسكويه ( المتوفى سنة 421هـ) في كتابه ( تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق )، كما استخدمه الجاحظ ( المتوفى سنة 255هـ) في رسالته ( تهذيب الأخلاق ).
5) مصطلح التطهير : ويُقصد به تنـزيه النفس عن الأدناس والدنايا ؛ وهي كل قولٍ أو فعلٍ قبيح . وحيث إن للتطهير معنيين أحدهما حسيٌ ماديٌ والأخر معنوي ؛ فإن المقصود به هنا المعنى المعنوي الذي يُقصد به تطهير سلوك الإنسان من كل فعلٍ أو قولٍ مشين .
6) مصطلح التزكية : ويأتي بمعنى التطهير ، ولعل المقصود بذلك تنمية وتطهير النفس البشرية بعامةٍ من كل ما لا يليق بها من الصفات السيئة ، والخصال القبيحة ، ظاهرةً كانت أو باطنة . قال تعالى : ]كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون[ ( سورة البقرة : الآية 151) . وقد جاء في تفسير ( عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، 1417هـ ، ص 57 ) أن المقصود بقوله تعالى : "ويُزكيكم" في هذه الآية : " أي يُطهر أخلاقكم ونفوسكم ، بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنـزيهها عن الأخلاق الرذيلة ".
وقال تعالى :] قد أفلح من زكَّاها [ ( سورة الشمس : الآية 9 ) . وقد جاء في بيان معنى هذه الآية عند ( ابن كثير ، 1414هـ ، ص 547 ) قوله : " وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ". ومعنى هذا أن تزكية النفس تعني تربيتها على الفضائل وتطهيرها من الرذائل .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مصطلح ( التزكية ) يُعد أكثر المصطلحات قرباً في معناه لمصطلح " التربية الإسلامية " لاسيما وأنه قد ورد في بعض آيات القرآن الكريم دالاً على معنى التربية ؛ ولكونه يدل على محاسبة النفس و العناية بها ، والعمل على الارتقاء بجميع جوانبها ( الروحية ، والجسمية ، والعقلية ) إلى أعلى المراتب وأرفع الدرجات . وهو ما يؤكده ( محمد الغزالي ، 1400هـ ، ص 1) بقوله :
"..والتزكية ، وهي أقرب الكلمات وأدلها على معنى التربية ؛ بل تكاد التزكية والتربية تترادفان في إصلاح النفس ، وتهذيب الطباع ، وشد الإنسان إلى أعلى كلما حاولت المُثبطات والهواجس أن تُسِفَّ به وتعوجّ ".
7) مصطلح التعليم : وهو مصطلح شائع ورد ذكره في بعض آيات القرآن الكريم مثل قوله تعالى : ]هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكيهم ويُعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين [ ( سورة الجمعة : الآية 2) .
كما ورد هذا المصطلح في بعض أحاديث الرسول e ، فقد روي عن عثمان بن عفان t أن رسول الله e قال : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ( البخاري ، 1407هـ ، ج 4 ، الحديث رقم 4739 ، ص 1919 ) .
وممن استخدم هذا المصطلح العالم برهان الدين الزرنوجي ( المتوفى سنة 620هـ تقريباً ) في كتابه القيّم ( تعليم المتعلم طريق التعلم ) ، والإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ( المتوفى سنة 150هـ ) في رسالته ( العلم والمتعلم ) . وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن مصطلح ( التعليم ) شائع وكثير الاستعمال في كتابات علماء السلف ؛ إلا أن استخدامه كان محصوراً - في الغالب - للدلالة على تنمية الجانب المعرفي المتمثل في طلب العلم .
8) مصطلح السياسة : و يُقصد بها القيادة ، وحُسن تدبير الأمور في مختلف شئون الحياة . وتأتي بمعنى القدرة على التعامل ، أو الترويض . وقد استخدم العالم ابن الجزار القيرواني ( المتوفى سنة 369هـ) مصطلح السياسة بمعنى التربية في كتابه ( سياسة الصبيان وتدبيرهم ) ، كما استخدمه الشيخ الرئيس ابن سينا ( المتوفى سنة 428هـ) في كتابه ( السياسة ) .
9) مصطلح النصح والإرشاد : ويعني بذل النصح للآخرين ودلالتهم على الخير وإرشادهم إليه ؛ وممن استخدم هذا المصطلح أبو الفرج بن الجوزي ( المتوفى سنة 597هـ) في رسالته ( لفتة الكبد إلى نصيحة الولد ) ، والإمام أبو حامد الغزالي ( المتوفى سنة 505هـ) في رسالته ( أيها الولد ) ، والحارث المحاسبي ( المتوفى سنة 243هـ) في رسالته ( رسالة المُسترشدين ) .
10) مصطلح الأخلاق : وهو مصطلح يُقصد به إصلاح الأخلاق وتقويم ما انحرف من السلوك . وعلى الرغم من أن هذا المصطلح يهتم في الواقع بجانبٍ من جوانب التربية ؛ إلا أنه قد يُستخدم للدلالة على التربية بعامةً . وممن استخدم هذا المصطلح أبو بكر الآجُري ( المتوفى سنة 360هـ) في كتابه ( أخلاق العلماء ) .
وهنا يجدر بنا أن نُشير إلى أن معظم الكتاباتٍ في التربية الإسلامية عند سلفنا كان مرتبطاً بمرحلة الطفولة عند الإنسان ، وهو ما يؤكده ( فتحي علي يونس وآخرون ، 1999م ، ص 42 ) بقولهم :
" إن لفظ التربية في الكتابات الإسلامية يرتبط أولاً بمرحلة الطفولة ، بينما لفظ التربية في الحقل التربوي يرتبط بجميع مراحل العمر التي يمر بها الإنسان ".
يضاف إلى ذلك ما يُلاحظ من اهتمام وعناية تلك الكتابات التُراثية - غالباً -بالجانب الأخلاقي عند الإنسان ، وهو ما يتضح في كثرة كتاباتهم عن الأدب والتأديب والأخلاق ونحو ذلك .
من ذلك كله يمكن القول : إن معنى كلمة التربية يدور ويتركز في العناية التامة ، والرعاية الكاملة لمختلف جوانب شخصية الإنسان في مختلف مراحل حياته ؛ وفي كل شأنٍ من شئونها . وهو ما يُشير إليه (خالد حامد الحازمي ،1420هـ ، ص 18) بقوله :
"من هذه التعريفات اللغوية يتضح أن التربية تدور حول الإصلاح ، والقيام بأمر المتربي ، وتعهده ، ورعايته بما يُنميه . وأن المفهوم التربوي مرتبط بجميع تلك المعاني ".
والخلاصة : أن المرادفات التي استخدمها السلف الصالح للدلالة على معنى التربية تدور حول تنمية ، وتنشئة ، ورعاية النفس البشرية وسياستها ، والعمل على إصلاحها ، وتهذيبها ، وتأديبها ، وتزكيتها ، والحرص على تعليمها ، ونصحها وإرشادها ؛حتى يتحقق التكيف المطلوب ، والتفاعل الإيجابي لجميع جوانبها المختلفة ؛ مع ما حولها ، ومن حولها من كائناتٍ ومكونات .
معنى التربية في اللغة والاصطلاح :
يعود أصل كلمة التربية في اللغة إلى الفعل ( رَبَـا ) أي زاد ونما ، وهو ما يدل عليه قوله تعالى :] وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج [ ( سورة الحج : الآية 5 ) .
كما أن كلمة تربية مصدر للفعل ( ربَّى ) أي نشَّأَ و نَمَّى ، وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى :] وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [ ( سورة الإسراء :الآية 24).
وفي قوله عز وجل :] ألم نُربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين[ ( سورة الشعراء : الآية 18 ) .
وهذا يعني أن كلمة التربية لا تخرج في معناها اللغوي عن دائرة النمو و الزيادة والتنشئة . وفي ذلك يقول الشاعر العربي القديم :
فمن يَكُ سائلاً عني فإني
بمكةَ منـزِلي وبها رَبيتُ
ولأن المعاجم اللغوية تُرجع الكلمة إلى حروفها الأصلية لإلقاء الضوء على مفهومها ؛ فإن كلمة " تربية " التي تتكون من خمسة حروف تعود في أصلها إلى حرفين أصليين هما الراء والباء ( رب ) ، ولهذين الحرفين عند اجتماعهما العديد من المعاني التي أشار إليها ( محمد خير عرقسوسي ، 1419هـ ، ص ص 18 - 19) بقوله :
" وهكذا نجد أن ( الراء و الباء ) يجتمعان على معنى السمو والإصلاح ، وتقوية الجوهر ، مع فروق طفيفة في تدرج هذا المعنى حيث يُستعمل للأمور المادية ( ربا يربو ) تعبيراً عن زيادةٍ ماديةٍ في جسم الأشياء ، بينما يُستعمل للإنسان والحيوان ( ربَّى يُربي ) مثل خَفَّي يُخفي ، بمعنى ترعرع في بيئة معينة ؛ ويستعمل للأمور المعنوية ( ربأ يربأ ) لتكريم النفس عن الدنايا ، ويُستعمل للرُقي بالجوهر : ربَّ يَرُبُ على وزن مدَّ يمُدُّ ، حتى نصل إلى ( الرَّب ) وهو خالق كل شيءٍ وراعيه ومصلحه ؛ فهو التربية الكاملة ".
وانطلاقاً من ذلك فقد كانت تعريفات سلفنا الصالح للتربية متقاربةً ومتشابهةً إلى حدٍ ما لأنها اعتمدت في ذلك على المعنى اللغوي للكلمة ؛ فقد عرَّفها ( ناصر الدين البيضاوي ، د . ت ، ص 3 ) بقوله :
" الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية .وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ".
و يُعرَّفها الشيخ الرئيس ابن سينا ؛ كما أورد ذلك ( مقداد يالجن ، 1406هـ ، ص 22 ) بقوله :
"التربية هي العادة ، وأعني بالعادة فعل الشيء الواحد مراراً كثيرةً ، وزماناً طويلاً في أوقاتٍ مُتقاربة " . كما أنه أورد تعريفاً آخر يرى فيه أن التربية " إبلاغ الذات إلى كمالها الذي خُلقت له " .
في حين يُعرِّفها ( الراغب الأصفهاني ، 1412هـ ، ص 336 ) بقوله:
" الرب في الأصل التربيَةُ ، وهو إنشاءُ الشيءِ حالاً فحالاً إلى حَدِّ التمام ، يُقالُ رَبَّهُ ، ورَبَّاهُ ، و رَبَّبَهُ . وقيل : ( لأنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ ). ..ولا يُقالُ الرَّبُّ مُطْلَقاً إلا لله تعالى .. وبالإضافة يُقالُ له ولغَيْـرِهِ ".
أما المعنى الاصطلاحي لكلمة التربية فعلى الرغم من كونه يعتمد كثيراً على المعنى اللغوي ؛ إلا أنه يختلف من عصرٍ إلى عصر ، ومن مكانٍ إلى آخر ، وما ذلك إلا لأن العملية التربوية كثيراً ما تتأثر بالعوامل والتغيرات الزمانية والمكانية والاجتماعية التي تؤثر بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة على شخصية الإنسان في مختلف جوانبها على اعتبار أن كل نشاط ، أو مجهود ، أو عمل يقوم به الإنسان يؤثر بطبيعة الحال في تكوينه ؛ أو طباعه ، أو تعامله ، أو تكيفه مع البيئة التي يعيش فيها ويتفاعل مع من فيها وما فيها ؛ إما سلباً أو إيجاباً .
لذلك كله فإن للتربية معاني اصطلاحية كثيرة ومتنوعة يُشير إليها ( عبد الرحمن بن حجر الغامدي ، 1418هـ ، ص 3 ) بقوله :
"يرى كثيرٌ من رجال التربية والتعليم أن مصطلح " التربية " لا يخضع لتعريفٍ محدد ، بسبب تعقد العملية التربوية من جانب ، وتأثرها بالعادات ، والتقاليد ، والقيم ، والأديان ، والأعراف ، والأهداف من جانبٍ آخر . بالإضافة إلى أنها عملية متطورة متغيرة بتغير الزمان والمكان ، ويمكن القول بأن التربية تدخل في عداد المسائل الحية لأنها تتسم بخاصية النمو".
وعلى الرغم من ذلك إلا أنه يمكن القول : إن المعنى الاصطلاحي للتربية - عموماً - لا يخرج عن كونها تنمية الجوانب المُختلفة لشخصية الإنسان ، عن طريق التعليم ، والتدريب ، والتثقيف ، والتهذيب ، والممارسة ؛ لغرض إعداد الإنسان الصالح لعمارة الأرض وتحقيق معنى الاستخلاف فيها .
مفهوم التربية الإسلامية وتعريفها :
لا شك في أن هناك فرقاً بين المفهوم والتعريف ؛ فالمفهوم كما جاء في ( المعجم الوجيز ، 1400هـ ، ص 483 ) : " مجموع الصفات والخصائص الموضحة لمعنى كلِّي " . أما التعريف فيُقصد به كما أشار إلى ذلك ( المعجم الوجيز ، 1400هـ ، ص 415 ) : " تحديد الشيء بذكر خواصه المُميزة " . ومعنى هذا أن المفهوم يكون شاملاً ، وواسعاً ، ومعتمداً على ما يتم استيعابه عن طريق العقل . أما التعريف فهو توصيفٌ لشيءٍ مُحدد ودقيق ومتفق عليه إلى حدٍ ما . وعلى الرغم من كثرة الكتابات حول مفهوم التربية وتعريفها عند المهتمين في الميدان التربوي ؛ إلا أن هناك تداخلاً فيما بين المصطلحين عند كثيرٍ من الكُتاب والباحثين ، فهناك من يتحدث عن المفهوم ثم لا يلبث أن ينتقل مباشرةً إلى التعريف في تداخل لا يمكن معه الفصل بينهما ، والعكس صحيح . وفيما يلي محاولةٌ لبيان وتوضيح المقصود من مصطلح مفهوم " التربية الإسلامية " كعمليةٍ شاملةٍ ونظامٍ متكاملٍ ، ثم تحديدٍ دقيقٍ لتعريفها كمصطلحٍ علميٍ مستقل .
أولاً / مفهوم التربية الإسلامية :
هناك اختلافٌ بين المهتمين بالقضايا التربوية حول مفهوم التربية حيث تتعدد الآراء ووجهات النظر في هذا الشأن ؛ نظراً لتعدد الأطراف المُشاركة في العملية التربوية ، واختلاف الزوايا التي يُنظر من خلالها لهذه العملية ؛ إضافةً إلى اختلاف الاتجاهات ، والآراء ، والثقافات ، والفلسفات ، واختلاف ظروف الزمان ، والمكان ، والجوانب التي يتم معالجتها ، ونحو ذلك من العوامل الأخرى .
ومع أن هذا الاختلاف في تحديد مفهوم التربية يُعد أمراً مقبولاً - نسبيًّا - عند أصحاب الفلسفات والنظريات والأفكار التربوية البشرية ؛ إلا أنه ينبغي ألاَّ يكون كذلك في ميدان التربية الإسلامية . وهو ما ألمح إليه ( مقداد يالجن ، 1406هـ ، ص 23) بقوله :
" إذا نظرنا إلى الدراسات التربوية المعاصرة وجدنا مفهوم التربية الإسلامية لم يكن موضع الاتفاق بين الدارسين بعد . ويمكن إجمال أغلب المفاهيم في النقاط التالية :
1) أنه منهج مقررات المواد الإسلامية في المدارس .
2) أنه تاريخ التعليم ، أو تاريخ المؤسسات التعليمية ، أو تاريخ أعلام الفكر التربوي والتعليمي في العالم الإسلامي .
3) أنه تعليم العلوم الإسلامية .
4)أنه نظام تربوي مستقل ؛ ومنبثق من التوجيهات والتعاليم الإسلامية الأصيلة ، ويختلف عن النظم التربوية الأخرى شرقيةً كانت أو غربية ".
ومن المؤكد أن معظم هذه المفاهيم قد حصرت " التربية الإسلامية " في نطاقٍ ضيقٍ لا يتفق مع ما ينبغي أن يكون عليه هذا المفهوم من شموليةٍ واتساع لكل ما يهم الإنسان في حياته وبعد مماته ؛ فهو مفهومٌ ينظر إلى الإنسان نظرةً شموليةً لكل جوانب شخصيته وأبعادها المختلفة . وهو مفهومٌ يُعنى بجميع مراحل النمو عند الإنسان ، وهو مفهومٌ يوازن بين مطالب الفرد وحاجات المجتمع ، ويهتم بجميع الأفراد والفئات ، ويوائم بين الماضي والحاضر . إضافةً إلى أنه يُشير إلى نظامٍ تربوي مُستقلٍ ومتكاملٍ ، يمتاز بأصوله الثابتة ، ومناهجه الأصيلة ، وأهدافه الواضحة ، وغاياته السامية ، ومؤسساته المختلفة ، وأساليبه المتنوعة...إلخ . التي تُميزه عن غيره ، وتوسع دائرته ليُصبح منهجاً كاملاً وشاملاً لجميع مجالات الحياة .
والخلاصة أن مفهوم التربية الإسلامية يتضح في كونها أحد فروع علم التربية الذي يتميز في مصادره الشرعية ( المتمثلة في القرآن الكريم ، والسُّنة النبوية المطهرة ، وتُراث السلف الصالح ) ؛ و غاياته ( الدينية الدنيوية ) ، ويقوم على نظامٍ تربوي مُستقل و مُتكامل ، ويعتمد اعتماداً كبيراً على فقه الواقع ، ولابد له من متخصصين يجمعون بين علوم الشريعة وعلوم التربية ؛ حتى تتم معالجة القضايا التربوية المختلفة من خلاله معالجةً إسلاميةً صحيحةً ومناسبةً لظروف الزمان والمكان .
ثانياً / تعريف التربية الإسلامية :
انطلاقاً من الاختلاف - الذي سبقت الإشارة إليه - بين المهتمين في المجال التربوي حول مفهوم التربية فإن هناك اختلافاً مشابهاً في تحديد تعريف " التربية الإسلامية " كمصطلحٍ علمي حيث إن معظم من كتب في هذا الميدان من سلفنا الصالح لم يحرصوا على إيراد تعريفٍ محددٍ لهذا المصطلح بقدر اهتمامهم وحرصهم على معالجة الموضوعات والقضايا التربوية المختلفة . ولذلك فإن تعريفات الباحثين المعاصرين الذين اهتموا بالكتابة والبحث في ميدان التربية الإسلامية جاءت مختلفةً رغم اتفاقهم في الإطار العام لها ؛ إلا أنهم لم يصلوا إلى صيغةٍ واحدةٍ يتفقون عليها جميعاً لتعريفٍ محددٍ وواضحٍ لهذا المصطلح ، ولعل ذلك راجعٌ إلى اختلاف مشاربهم ، وتباين تخصصاتهم ، وتعدد وجهات نظرهم التفصيلية . وهو ما يُمكن أن نلحظه في عرضنا التالي لبعض التعريفات التي اجتهد فيها أصحابها ، فقد عرَّفها ( مقداد يالجن ، 1409هـ ، ص 20 ) بأنها :
" إعداد المسلم إعداداً كاملاً من جميع النواحي في جميع مراحل نموه للحياة الدنيا والآخرة في ضؤ المبادئ والقيم وطرق التربية التي جاء بها الإسلام ".
وعرَّفها ( زغلول راغب النجار ، 1416هـ ، ص 85 ) بأنها :" النظام التربوي القائم على الإسلام بمعناه الشامل ".
أما ( عبد الرحمن النقيب ، 1417هـ ، ص 17 ) فيرى أن المقصود بالتربية الإسلامية : " ذلك النظام التربوي والتعليمي الذي يستهدف إيجاد إنسان القرآن والسُنة أخلاقاً وسلوكاً مهما كانت حرفته أو مهنته " .
في حين يرى ( عبد الرحمن النحلاوي ، 1403هـ ، ص 21 ) أن " التربية الإسلامية هي التنظيم النفسي والاجتماعي الذي يؤدي إلى اعتناق الإسلام وتطبيقه كُلياً في حياة الفرد والجماعة " .
وهنا يمكن القول بأن التعريفات السابقة تؤكد جميعاً على أن التربية الإسلامية نظامٌ تربويٌ شاملٌ يهتم بإعداد الإنسان الصالح إعداداً متكاملاً دينياً و دُنيوياً في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية الرئيسة .
*****

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك