النورسي رجل الحوار والإقناع أو فصل المقال فيما بين الحوار والحجاج والإختلاف من اتصال

النورسي رجل الحوار والإقناع أو فصل المقال فيما بين الحوار والحجاج والإختلاف من اتصال

النورسي رجل الحوار والإقناع

أو فصل المقال، فيما بين الحوار والحجاج والاختلاف من اتصال

أ. د. أبو بكر العزاوي.

أستاذ التعليم العالي، جامعة القاضي عياض.

 

يهدف هذا البحث إلى إبراز أهمية الحوار والإقناع وصلتهما بالاختلاف والوحدة والاتفاق من خلال رسائل النور. وسيحاول أن يجيب عن الأسئلة التالية: ما هو الحوار؟ ما دوره وأهميته؟ وما علاقته بالحجاج والإقناع والاختلاف؟ كيف نتعامل مع الاختلاف بكل أنواعه وأنماطه؟ وكيف نواجه المشاكل والأزمات الداخلية والخارجية؟ هل نواجهها بالإقناع والتواصل والتحاور، أم نواجهها بالتقاطع والتنابذ؟ هل كان النورسي رجل حوار وإقناع؟ ما هو موقفه من الخلاف والاختلاف؟ وما هو تصوره لعلاقتنا بالغرب أو بغير المسلمين؟ ماهي المبادئ التي يقوم عليها موقفه؟ وما سند ذلك من القراَن الكريم والحديث النبوي؟ هذه الأسئلة – وهي غيض من فيض- هي ما سيحاول هذا البحث أن يجيب عنها أو عن بعضها ولو بشكل جزئي.

 

الحوار فعالية خطابية، وهو الأصل في الكلام، ويرى المنطقي السويسري الشهير جان يليز غريز أن كل خطاب هو حوار، سواء أكان هذا الحوار مباشر أم غير مباشر، صريحا أم مضمرا. وهو يرى أن الجملة الشارحة لأي قول: " ق" ليست هي: (أقول: "ق") ولكن هي: (أقول لك: "ق").(1) ولأهمية الحوار وفوائده الكبرى في تحقيق التواصل والتفاعل وحل المشاكل وتدبير الاختلاف، فقد وجدنا الباحثين يهتمون به في كل المجالات الفكرية والعلمية والثقافية.

 

لقد أصبح الحوار ضرورة ماسة يقتضيها التعدد اللغوي والتنوع الثقافي واختلاف المصالح الاقتصادية والسياسية، وأضحى اللجوء إليه أساسيا لحل المشاكل والأزمات الدولية العديدة وإدارة الصراعات الحضارية القائمة وتدبير الاختلافات الداخلية والخارجية. ومن هنا هذه العبارات العديدة التي أصبح استعمالها رائجا في عصرنا هذا من قبيل: حوار الحضارات، حوار الشمال والجنوب، الحوار الإسلامي المسيحي، الحوار العربي الأوربي، الحوار الاجتماعي، المفاوضات وغيرها. فحيث يكون الاختلاف والصراع والصدام والنـزاع، ينبغي أن يكون الحوار والنقاش والتفاوض والإقناع.

 

والإنسان كائن حواري يحيا بالحوار وداخل الحوار، والدليل على أهمية الحوار أن القراَن كله ذو طبيعة حوارية، والحوار كان هو الأسلوب الذي اتبعه الأنبياء في الدعوة والتبليغ والتعليم والإرشاد.(2) لقد عني القراَن الكريم عناية كبيرة بالحوار لأنه الأسلوب الأفضل للإقناع. وهناك نماذج عديدة من الحوار نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر: حوار الله عز وجل مع الملائكة، حواره عز وجل مع إبراهيم الخليل، وحوار نوح عليه السلام مع قومه، حوار إبراهيم الخليل مع النمرود، قصة صاحب الجنتين، قصة المجادلة... والسنة النبوية والسيرة العطرة زاخرتان بالنماذج الحوارية الرائعة التي حاور فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وحاجهم.

 

ترى هل كان النورسي رجل حوار وإقناع؟ نعم إنه كان كذلك. إنه كان يدعو إلى الحوار والتواصل والحجاج والإقناع، وكان في الوقت نفسه يحاور ويحاجج، يقنع ويقتنع، يتفاعل ويتواصل، ويتحاور مع الذات ومع الغير، مع الطلاب والعلماء، مع المسلمين وغير المسلمين، مع الحكام والمحكومين.

 

إذا كان النورسي رجلا قرآنيا وكان منهجه بالتالي هو منهج القران، وإذا كان القران الكريم قد عني عناية فائقة بالحوار، فكيف لا يكون النورسي رجل حوار، وكيف لا تكون رسائل النور حوارية في منهجها وأسلوبها وهي تفسير قيم للقران الكريم. إن المرجعية القرآنية والحديثية، كما أشرنا إلى ذلك في بحث سابق،(3( حاضرة في رسائل النور حضورا قويا وبارزا، نكاد نلمسها في كل قول وفي كل شرح أو تفسير.

 

إن الذي يدرس رسائل النور بعمق وتمعن يتوصل إلى النتائج التالية:

 

1- رسائل النور ذات بنية حوارية واضحة، إنها بعبارة أخرى، مجموعة من الحوارات المباشرة وغير المباشرة، الحوارات الصريحة أو المضمرة، الحوارات المنجزة الفعلية أو المفترضة المتخيلة.

 

2- لحوار في رسائل النور له أشكال عديدة وأنماط متنوعة، فقد جاء تارة على شكل مناجاة أو مونولوغ )حوار مع النفس)، وجاء تارة أخرى على شكل مكاتيب ومراسلات مع الطلاب) الملاحق). وقد جاء أيضا على شكل مناظرة أو مناقشة أو نقد أو جوابا عن أسئلة.

 

3-  اشتملت رسائل النور على معجم حواري غني. فنحن نجد فيها مصطلحات كثيرة من قبيل: الحوار، المحاورة، النقاش، الجدال، المناقشة، المناظرة، المذاكرة، الإقناع، الاقتناع، المناجاة، التشاور، الرسائل، المكاتيب، الأسئلة والأجوبة، الخطاب، إلى غير ذلك.

 

4- المؤشرات الحوارية التي تدل دلالة أكيدة على أن رسائل النور هي مجموعة من الحوارات كثيرة ومتنوعة:

 

هناك مجموعة من العبارات أو على الأصح مجموعة من العناوين الفرعية الداخلية التي ترد في بداية بعض الفقرات أو المباحث من قبيل: حوار في رؤيا، حوار مع الشخصية المعنوية لأوربا، حوار مع المؤمنات أخوات الآخرة، حوار مع النفس، حوار مع فريق من الشباب، محاورة مع نفسي، محاورة مع وزير العدل والحكام الذين لهم علاقة برسائل النور، خطاب إلى أوربا، خطاب إلى الذين يغالون في العنصرية... العبارات الإشارية الإحالية، أي الضمائر وظروف الزمان والمكان، وأيضا لفظة القول بمشتقاتها، وألفاظ أخرى من قبيل: اعلموا، تعلمون، وتعابير مثل: إخوتي الأعزاء، أخي العزيز المحترم، أيها الإنسان ويا نفسي...

 

ويمكن أن نورد نماذج من هذه الحوارات التي تزخر بها رسائل النور، ونبدأ بهذا النموذج الذي يخاطب فيه الشخصية المعنوية لأوربا، وبالضبط أوربا الثانية، غير النافعة للبشرية. يقول النورسي: " يا أوربا الثانية، اعلمي جيدا أنك قد أخذت بيمينك الفلسفة المضلة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرة السفيهة، ثم تدعين أن سعادة الإنسان بهما. ألا شلت يداك، وبئست الهدية هديتك، ولتكن وبالا عليك، وستكون. أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود، ترى هل يمكن أن يسعد إنسان بمجرد تملكه ثروة طائلة، وترفله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله وفي قلبه بمصائب هائلة؟ وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟ فأي سعادة يمكنك أن تضمني لمثل هذا المسكين الشقي؟ وهل يمكن أن يطلق لمن روحه وقلبه يعذبان في جهنم، وجسمه فقط في جنة كاذبة زائلة، أنه سعيد؟ (4)

 

و هو يحاور أوربا الثانية ليدفعها إلى مراجعة نفسها وللقيام بنقد ذاتي تكون الغاية منه العمل على إسعاد الإنسان روحا وجسما. وهناك أيضا الحوار الذي أجراه مع بطريرك الروم "آشنو كراس" سنة 1953 في الاحتفال الذي أقيم باستانبول بمناسبة مرور خمسمائة عام على فتحها. وقد التقى النورسي، في هذا الاحتفال، ببطريرك الروم، فجرى بينهما الحوار التالي:(5(

 

سعيد النورسي: يمكن أن تكونوا من أهل النجاة يوم القيامة إذا آمنتم بالدين النصراني الحق بشرط الاعتراف بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالاعتراف بالقران الكريم كتابا من عند الله.

 

البطريرك: إنني أعترف بذلك.

 

سعيد النورسي: حسنا، فهل تعلنون ذلك أمام الرؤساء الروحانيين الآخرين؟

 

البطريرك: أجل إنني أقول ذلك ولكنهم لا يقبلون.

 

ليس بإمكان النورسي وهو الذي آمن بأهمية الحوار واتخذه أسلوبا في الحياة للتواصل مع الغير وحل المشاكل وتدبير الاختلاف إلا أن يحاور ويحاور باستمرار، ولقد حاور كل الفئات والطوائف البشرية، وحاور أصحاب الديانات التوحيدية المختلفة. وهو هنا يحاور -من خلال بطريرك الروم- أصحاب النصرانية الحقيقية مركزا على عناصر الوحدة والاتفاق، وكأني بالنورسي يطبق قوله تعالى في سورة آل عمران: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"(6)، وقوله عز وجل في سورة العنكبوت: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"(7). وتشتمل رسائل النور، إلى جانب هذه الحوارات التي أجراها النورسي مع الآخر، الذي نختلف معه فكريا أو عقديا أو ثقافيا، على نمط آخر من الحوار، إنه الحوار البيداغوجي التعليمي، ونقصد به الحوارات التي كان يجريها باستمرار مع طلبته والتي تضمنها المجلد السابع من رسائل النور: "الملاحق في فقه دعوة النور."

 

هذه الملاحق عبارة عن مجموعة مكاتيب جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه الأوائل، وطابعها العام توجيهي إرشادي يبين أهمية رسائل النور ومنهجها في الدعوة إلى الله في هذا العصر، تكتنفها مكاتيب ودية يبين فيها الطلاب مدى استفاضتهم الروحية من رسائل النور واستفادتهم العقلية منها وكيف أنها حولت مجرى حياتهم وفتحت أمامهم آفاقا معرفية واسعة.(8(

 

ثم إنه كان يأخذ بمنطق الأولويات وبمبدأ السياق، فحاور أوربا النافعة وحاور النصرانية الحقة وحاور المدنيين من غير المسلمين مستندا إلى الدليل العقلي والنقلي، ومستندا إلى الحجاج وقوة الإقناع.

 

ثم إننا وجدنا النورسي يضع لنا قواعد الحوار والمناقشة وضوابطهما بعد أن أثير نقاش وجدال حول صحة أحد الأحاديث يقول: " إن الشرط الأول في مناقشة هذه المسائل وأمثالها هو: أن تكون المذاكرة في جو من الإنصاف وأن تجري بنية الوصول إلى الحق... وبصورة لا تتسم بالعناد... وبين من هم أهل للمناقشة... دون أن تكون وسيلة لسوء الفهم وسوء التلقي. فضمن هذه الشروط قد تكون مناقشة هذه المسألة وما شابهها جائزة. أما الدليل على أن المناقشة هي في سبيل الوصول إلى الحق فهو: أن لا يحمل المناقش شيئا في قلبه... ولا يتألم ولا ينفعل إذا ما ظهر الحق على لسان الطرف المخالف له، بل عليه الرضى والاطمئنان، إذ قد تعلم ما كان يجهله، فلو ظهر الحق على لسانه لما ازداد علما وربما أصابه الغرور. ثانيا إن كان موضوع المناقشة حديثا شريفا فينبغي معرفة مراتب الحديث... والإحاطة بدرجات الوحي الضمني وأقسام الكلام النبوي ولا يجوز لأحد مناقشة مشكلات الحديث بين العوام من الناس... ولا الدفاع عن رأيه إظهارا للتفوق على الآخرين ولا البحث عن أدلة ترجح رأيه وتنمي غروره على الحق والإنصاف".(9(

 

ومعلوم أن الحوار له قواعد وضوابط لغوية وتأدبية وأخلاقية. وهناك نظريات ونماذج حوارية عديدة طرحت في هذا المجال(10)، نذكر منها نظرية التعاون الحواري (la coopération conversationnelle ) لبول غرايس (P. Grice) ومفادها أن الحوار لا يتم بين شخصين إلا إذا تعاونا على إنجازه، وقد ركزت بالخصوص على القواعد اللغوية التي تتعلق بكم الخبر وكيفه وجهته ومناسبته، وهناك أيضا نظريات كل من روبين لايكوف (R. Lakoff) وليتش (Leech) وبراون ولفنسن التي أبرزت لنا كثيرا من القواعد التأدبية الأخلاقية، ثم إن التراث العربي الإسلامي زاخر بالمباحث والمصنفات التي تعالج ضوابط الحوار وآدابه.

 

وقد اقترح النورسي في النص السابق مجموعة من القواعد الحوارية نذكر بعضها -بعد إعادة صياغتها- على سبيل التمثيل:

 

أ – قاعدة الشمولية، ونجدها في قوله (ينبغي معرفة مراتب الحديث... والإحاطة بدرجات الوحي الضمني وأقسام الكلام النبوي(.

 

ب- قاعدة التأدب: فالمناقشة ينبغي أن لا تتسم بالعناد، وأن تجري في جو من الإنصاف.

 

ج- قاعدة الورود أو المناسبة: أن تكون المذاكرة في المسائل المتخصصة بين من هم أهل للمناقشة، أي أن نأخذ بعين الاعتبار مسألة السياق والمقام، فلكل مقام مقال كما يقال.

 

د- القاعدة المتعلقة بالهدف والغاية من الحوار، فالمناقشة ينبغي أن تجري بنية الوصول إلى الحق، وأن يكون هناك تعاون حواري فعلي من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود والغاية المرجوة.

 

وقد فصل النورسي القول بخصوص القاعدة الثالثة فقال: "ولكن لما كانت المسألة قد طرحت، وأصبحت مدار نقاش، فستؤدي تأثيرها السيء في أفهام العوام الذين يعجزون عن استيعاب أمثال هذه الأحاديث المتشابهة، إذ لو أنكرها أحدهم فقد فتح لنفسه بابا للهلاك والخسران، حيث يسوقه هذا الإنكار إلى إنكار أحاديث صحيحة ثابتة، ولو قبل بما يفيد ظاهر الحديث من معنى، وتحدث به ونشره بين الناس، فسيكون سببا لفتح باب اعتراضات أهل الضلالة على الحديث الشريف، وإطلاق ألسنتهم بالسوء عليه، وقولهم: إنه خرافة".(11(

 

والحديث الشريف الذي أثار الإشكال هو الذي يذكر فيه أن سيدنا موسى عليه السلام لطم عين سيدنا عزرائيل عليه السلام، فهل ننكر الحديث أم نأخذ بظاهر المعنى أم نؤول، أي نبحث عن معنى ضمني سياقي، وهذه المسألة تندرج هي الأخرى ضمن قواعد الحوار والنقاش العلمي.

 

ولهذا يقول النورسي: "لا ينبغي فتح باب المناقشة في الأمور الفرعية الجزئية التي تسبب الخلاف".(12(

 

لقد قلنا آنفا إن الأصل في الكلام الحوار، ونقول الآن إن الأصل في الحوار الاختلاف فلولا الاختلاف ما كان الحوار ولولا الحوار ما كان الكلام. ومعنى هذا أن ثمة علاقة وثيقة بين الحوار والاختلاف، ونحن نلجأ إلى الحوار والإقناع لرفع الخلاف وتدبير الاختلاف وتحقيق الاتفاق.

 

الاختلاف ظاهرة طبيعية وسنة كونية، والناس مختلفون في كل شيء لاختلاف مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد وردت كلمة الاختلاف في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة وبصيغ لغوية متعددة، وقد ألف العلماء الأقدمون والمحدثون مصنفات عديدة في موضوع الاختلاف، وبينوا فيها أنماطا عديدة منه. فهناك من تحدث عن الاختلاف المشروع والاختلاف الممنوع، وهناك من قسم أنواع الاختلاف إلى ثلاثة: اختلاف تضاد واختلاف تنوع واختلاف أفهام. وما يعنينا هنا بالخصوص هو العلاقة القائمة بين الحوار والاختلاف والإقناع والاتفاق والسعي إلى الوصول إلى الحقيقة.(13(

 

لقد أشار النورسي إلى أنواع عديدة من الاختلاف: أوربا النافعة وأوربا الفاسدة، النصرانية الحقيقية والنصرانية الزائفة، المدنية والهمجية، المسلمون والأجانب، المذاهب المختلفة، الخلاف والاختلاف، الاختلاف والاتفاق، الاختلاف الإيجابي والاختلاف السلبي، الخلاف الداخلي والاختلاف الخارجي، الضروريات والفرعيات... الخ، فتعامل مع كل نمط تعاملا خاصا، فأيد الاختلاف الإيجابي وحارب الاختلاف السلبي وبين أهمية الوحدة والاتحاد والاتفاق، ودعا إلى تدبير الاختلاف بالحوار والحجاج والإقناع وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمدنيين من غير المسلمين.

 

ولنأخذ هذا النص الجميل الذي يذكر فيه بعض فوائد الاختلاف، ويبين فيه الفرق بين الاختلاف الإيجابي والاختلاف السلبي انطلاقا من الحديث النبوي المعروف: " اختلاف أمتي رحمة" فيقول: " الاختلاف يقتضي التفرق والتحزب والاعتداد بالرأي. ولكن داء التفرق والاختلاف هذا فيه وجه من الرحمة لضعفاء الناس من العوام، إذ ينقذهم من تسلط الخواص والظلمة الذين إذا حصل بينهم اتفاق في قرية أو قصبة اضطهدوا هؤلاء الضعفاء ولكن إذا كانت ثمة تفرقة بينهم فسيجد المظلوم ملجأ في جهة، فينقذ نفسه. ثم إن الحقيقة تتظاهر جلية من تصادم الأفكار ومناقشة الآراء وتخالف العقول. الجواب: نقول إجابة عن السؤال الأول: إن الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الإيجابي البناء المثبت ومعناه: أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطعن في وجهة نظرهم وإبطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والإصلاح ما استطاع إليه سبيلا. أما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الآخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود أصلا في نظر الحديث، حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل إيجابي بناء. وجوابا عن السؤال الثاني نقول: إن كان التفرق والتحزب لأجل الحق وباسمه، فلربما يكون ملاذ أهل الحق، ولكن الذي نشاهده من التفرق إنما هو لأغراض شخصية ولهوى النفس الأمارة بالسوء، فهو ملجأ ذوي النيات السيئة بل متكأ الظلمة ومرتكزهم".(14(

 

فالنورسي يرفض الاختلاف السلبي الهدام الذي لا فائدة منه ولا يساعد على الوصول إلى الحقيقة، والاختلاف يصبح هنا خلافا، فكل خلاف اختلاف وليس كل اختلاف خلافا لأن الخلاف أقرب ما يكون إلى الصراع والنـزاع. يقول النورسي: "يا عاشق الحقيقة إن كنت تتحرى الحقائق بمطالعة وجداني أنا، فطهر قلبك، تلك اللطيفة الربانية، من الصدأ، أي الرغبة في المعارضة والخلاف... والتزام طرف المخالف والمعارض".(15(

 

أما الاختلاف الإيجابي الذي يساعدنا على الوصول إلى الحق وإدراك الحقيقة فهو مطلوب، لأن الحقيقة إنما تظهر لنا جلية واضحة عند مناقشة الآراء ودراسة المواقف وتصادم الأفكار وتخالف العقول. والمناقشة والمذاكرة وتصادم الآراء والأفكار حوار، والحوار لا يكون إلا عند حصول الاختلاف. وبعبارة أخرى فإن الاختلاف يستدعي الحوار والحوار يقتضي الكلام. ومن جهة أخرى فإن النورسي يأخذ بمبدأ النسبية: الفهم البشري نسبي والإدراك جزئي، والعجز عن الإدراك إدراك، والحقيقة متعددة الجوانب والمظاهر والسمات، فلا بد من الحوار والمناظرة والنقاش والحجاج والإقناع حتى تتجلى لنا جوانب عديدة ومتكاملة من جوانب الحقيقة، وخاصة إذا كانت الغاية واحدة بين المتناظرين وكان الهدف المنشود مشتركا وهو الوصول إلى الحق. وهذا ما عبر عنه النورسي بقوله: " إن تصادم الآراء ومناقشة الأفكار لأجل الحق وفي سبيل الوصول إلى الحقيقة إنما يكون عند اختلاف الوسائل مع الاتفاق في الأسس والغايات فهذا النوع من الاختلاف يستطيع أن يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة وإظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح، ولكن إذا كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لأجل أغراض شخصية والتسلط والاستعلاء وإشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الأفكار بل تتولد شرارة الفتن. فلا نجد بين أمثال هؤلاء اتفاقا في المقصد والغاية، بل ليس على الكرة الأرضية نقطة تلاق لأفكارهم، ذلك لأنه ليس لأجل الحق."(16(

 

يبين النورسي في هذا النص العلاقة القائمة بين الحوار والاختلاف، سواء أكان هذا الاختلاف فكريا أم عقديا أم سياسيا، لكن بشرط أن تكون الغاية هي الوصول إلى الحق، فهنا الاختلاف يقتضي الحوار والنقاش.

 

وهو يدعو المسلمين إلى عدم التركيز على الخلاف والاختلاف، لأن هذا لا يكون إلا في المسائل الفرعية الاجتهادية، أما المسائل الضرورية فهي ثابتة محددة. يقول: "إن أركان الدين وأحكامه الضرورية، نابعة من القران الكريم والسنة النبوية المفسرة له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدين، أما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه، فالبون إذن شاسع بين أهمية الأحكام الضرورية والمسائل الخلافية، فلو شبهنا المسائل الاجتهادية بالذهب لكانت الأحكام الضرورية وأركان الإيمان أعمدة من الألماس. ترى هل يجوز أن تكون تسعون عمودا من الألماس تابعة لعشرة منها من الذهب؟ وهل يجوز أن يوجه الاهتمام إلى التي من الذهب أكثر من تلك التي من الألماس؟"(17(

 

لقد بين النورسي الفرق بين الاختلاف الإيجابي والاختلاف السلبي، وبين أيضا أن الاختلاف الإيجابي يقتضي الحوار والنقاش لأنه يعين على بلوغ الحقيقة. وأشار إلى أن الاختلاف في الأمور الدينية والفقهية إنما هو في الأمور الفرعية التي تقبل الاجتهاد، ونسبتها لا تتجاوز 10% أما الأمور الضرورية، وهي كثيرة، فهي موضع اتفاق. ولنأخذ هذا النص البليغ الذي يقارن فيه بين الاتفاق والاختلاف، يقول: "إن كان الاتفاق في الحق اختلافا في الأحق، يكون الحق أحيانا أحق من الأحق، والحسن أحسن من الأحسن. ويحق لكل امرئ أن يقول في مذهبه: (هو حق، هو حسن)، ولكن لا يحق له القول: (هو الحق، هو الحسن)"(18). ففي هذا النص كلام عجيب ومنطق أعجب، فيه دعوة إلى الاتفاق واجتناب الاختلاف لتحقيق الوحدة والانسجام بلغة علمية حجاجية استدلالية، وكأني بالنورسي هنا يستلهم القاعدة الأصولية المعروفة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"

 

فالنورسي يبين لنا أن الحق مع الاتفاق أفضل من الأحق مع الاختلاف، وطبعا، فالحق هنا مقدم على الأحق، والحق أحق بأن يختار ويتبع، ولولا مسألة الاتفاق والاختلاف لكان الأحق مقدما على الحق.

 

فلو تعاملنا مع الحق والأحق مجردين لكان الأحق أحق من الحق، ولكن لما كانا غير مجردين، فكان الحق متفقا عليه وكان الأحق فيه اختلاف، أصبح الحق أحق من الأحق. فهناك مراتب ثلاث نوردها كالآتي:

 

الحق: أي الحق بما هو حق، أو الحق المجرد.

 

الأحق من الحق: وهو كذلك بموجب معايير موضوعية. ولكنه أصبح دون الحق منـزلة لأن الاختلاف حاصل بشأنه والحق متفق عليه.

 

الأحق من الأحق: وقد يكون كذلك بموجب الموضوعية، أو أن الحق المتفق عليه أصبح -كما قال النورسي- أحق من الأحق.

 

إن النورسي يأخذ هنا بمبادئ الواقعية والانسجام والورود والملائمة والسياق.

 

إن الاتفاق والاتحاد هو ما ينبغي العمل على تحقيقه والتمسك به أما التفرق والنـزاع والخلافات الداخلية بين المسلمين فينبغي تركها ونبذها، وخاصة في الظروف العصيبة: "إن أشد القبائل تأخرا يدركون معنى الخطر الداهم عليهم، فتراهم ينبذون الخلافات الداخلية وينسون العداوات الجانبية عند إغارة العدو الخارجي عليهم. وإذا تقدر تلك القبائل المتأخرة مصلحتهم الاجتماعية حق قدرها، فما للذين يتولون خدمة الإسلام ويدعون إليه لا ينسون عداوتهم الحزبية الطفيفة فيمهدون بها سبل إغارة الأعداء الذين لا يحصرهم العد عليهم؟ فلقد تراصف الأعداء حولهم وأطبقوا عليهم من كل مكان".(19(

 

والنورسي لا يدعو إلى الحوار والتواصل مع المسلمين فقط، بل إنه يدعو إلى التواصل والتحاور مع المسلمين وغير المسلمين، وإلى اللجوء إلى أسلوب الإقناع والحجاج والاستدلال فيقول: "وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث (الجهل والحاجة والنفاق) ليس إلا، وبالنسبة إليهم فسبيلنا الإقناع، لأننا نعتقدهم مدنيين، وأننا مكلفونه بأن نظهر الإسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب لأننا نظن فيهم الإنصاف".(20) ويقول في نص آخر: " إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع وليس بالإكراه، وبإظهار الإسلام محبوبا وساميا لديهم وذلك بالامتثال الجميل لأوامر وإظهار الأخلاق الفاضلة. أما الإكراه والعداء، فهما تجاه وحشية الهمجيين."(21(

 

فالنورسي يدعو إلى اعتماد قوة المنطق لا منطق القوة لأن الإسلام دين الحوار والحجاج والإقناع، لا دين الإكراه والعداء وهو ما نجده في قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"(22)، و"لا" الوارد هنا هي "لا" النافية وليست الناهية كما ذهب إلى ذلك علماء كثيرون منهم سعيد رمضان البوطي وجودت سعيد وغيرهما.

 

وإذا كان النورسي يدعو إلى استعمال أسلوب الإقناع والحجاج مع المدنيين من غير المسلمين، فإنه يدعو ضمنا إلى الحوار والتفاعل والتواصل معهم ضمن الشروط الحوارية والتخاطبية المطلوبة، وهذا بحكم العلاقة القائمة بين الحوار والحجاج، فالأصل في الحجاج إنجاح الحوار وتدبير الاختلاف ورفع الخلاف وتحقيق الاتفاق. فلولا الاختلاف ما كان الحوار، ولولا الحوار ما كان الإقناع والحجاج، ولولا الحجاج ما كان الخطاب والكلام. ولا شيء أفضل من التواصل والحوار والحجاج والإقناع والاقتناع لفض الخلاف ونبذ الاختلاف.(23(

 

ومعلوم أن الحجاج نسبي والإقناع جزئي، والمطلوب منا أن نحاور ونحاجج ونبرهن ونقنع باستمرار، فإن اقتنع الغير فذاك، وإن لم يقتنع فلنحاول مرة تلو أخرى. يقول النورسي: "إن وظيفتنا العمل والإيمان والقراَن بإخلاص، أما إحراز التوفيق وحمل الناس على القبول ودفع المعارضين، فهو مما يتولاه الله سبحانه، نحن لا نتدخل في ما هو موكول إلى الله، حتى إذا غلبنا فلا يؤثر هذا في قوانا المعنوية وخدماتنا".(24) والسؤال المطروح هو كالتالي: ما هو دور الإقناع والحجاج؟ وما علاقته باللغة والكلام؟ ولم يتشبت به النورسي ويدعو إليه؟

 

الجواب هو أننا نتكلم عادة بقصد التأثير في الغير، وأن الكلام له سلطة لا ينكرها أحد، ولقد قال جورج تشامبان: "ما أقوى النفوذ الذي تحدثه الكلمات في مواضعها الصحيحة". إن الكلام هو الوسيلة الأخص بالكائن البشري، وهو أبرز مقوم يميزه عن الكائنات الأخرى، وهو سلاح من أقوى الأسلحة، ووظيفته الأساسية هي الحجاج والإقناع، وهو المجال الذي يتحقق فيه أقل قدر ممكن من العنف، ويتحقق فيه، في الوقت نفسه، أكبر قدر ممكن من النفوذ والغلبة والتأثير، ويكون فيه هامش كبير للمرونة واليسر والتسامح، ومن هنا فإن الذي ينتصر عليك بقوة المنطق وسلطة الكلام وأدوات الحجاج والإقناع، يكون قد انتصر عليك انتصارا حقيقيا. (25) وينبغي أن نفهم دعوة النورسي إلى اعتماد أسلوب الإقناع والحجاج في هذا الإطار. ولنتأمل هذا النص الذي يميز فيه بين الجهاد الداخلي الذي ينبغي أن يقوم على تحقيق الرقي المادي ومحاربة الجهل والتخلف والنـزاع والفرقة، والجهاد الخارجي المتمثل في الإقناع وقوة المنطق. يقول: " نحن سنجاهد بسلاح العلم والتقنية الجهل والفقر والخلاف الذي هو ألد أعداء كلمة الله. أما الجهاد الخارجي فنحيله إلى السيوف الألماسية للبراهين القاطعة للشريعة الغراء، لأن الغلبة على المدنيين إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه كما هو شأن الجهلاء الذين لا يفقهون شيئا، نحن فدائيو المحبة لا مكان بيننا للخصومة"(26). ولكن السؤال المطروح هو: لماذا ربط النورسي الإقناع بالمدنية؟ الجواب هو أن الإنسان مدني بالطبع كما قال ابن خلدون، وهو ما أكده النورسي بقوله: " من كانت همته نفسه، فليس من الإنسان لأنه مدني بالطبع، فهو مضطر لأن يراعي أبناء جنسه، فإن حياته الشخصية يمكن أن تستمر بحياته الاجتماعية"(27). وإذا كان قد ربط الإقناع بالمدنية، فقد ربطه أيضا بالإنسان لأن المدنيين ينبغي إقناعهم، والإنسان مدني، إذن الإنسان ينبغي إقناعه. ثم إنه يربط الإقناع بأخص خصائص الإنسان وهو الكلام، فلولا الحوار والخطاب ما كان الإقناع والاقتناع والحجاج.

 

ولهذا فإن النورسي يرى أن التواصل والتعامل مع الغرب شيء مطلوب، لكن بشرط عدم الانبهار وبشرط اتخاذ الحيطة والحذر وعدم تقليده وتبني القيم الفاسدة التي لديه، وبشرط الحفاظ على الهوية والأصالة. وهذا سيمكننا طبعا من:

 

الاستفادة من علومه ومنجزاته العلمية والحضارية والتكنولوجية.

 

نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله.

 

ونشر الإسلام إنما يكون بالحوار والتواصل والإقناع، لا بالعنف والإكراه، لأن الإسلام سلام ولأن الإنسان مدني فطرة، والمدنيون ينبغي التحاور معهم وإقناعهم بالدليل والمحاكمة العقلية.

 

وينبهنا النورسي إلى أن الحوار والتواصل مع الغرب لا يعني:

 

أ – الانسلاخ من الدين وإهماله، لأن علاقتنا مع الدين غير علاقتهم به، يقول: "ألا فليعلم المهملون غير المكترثين أنهم لا يحببون أنفسهم بالانسلاخ من الدين لأي أجنبي كان، وإنما يظهرون أنهم على غير هدى ليس إلا. (28)

 

بل الأكثر من هذا هو أن " التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يغري العدو فيكم، ويشجعه عليكم، ولا يوقفه عند حده. (29)

 

ب- لا يعني أيضا تقليد الأجانب واتباعهم والتأثر بهم في كل شيء، لأنهم: "كما سلبوا أموالنا وأوطاننا بثمن بخس(...) فقد سلبوا منا قسما من أخلاقنا الرفيعة وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا وجعلوا تلك الخصال الحميدة محورا لرقيهم وتقدمهم، ودفعوا إلينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة أخلاقهم" (30). إن التخلف العلمي والضعف المادي والتأخر التكنولوجي والهوان المعنوي والتهميش الحضاري جعلنا ننظر إلى الغرب نظرة مغلوطة ونسلك في تعاملنا معه سلوكا يكرس تخلفنا، وجعلنا نسقط في الاندهاش والانبهار والتقليد والاتباع.

 

و بالإضافة إلى ذلك، فإننا نجد النورسي يضع ضوابط للحوار والتفاعل مع الغرب نوردها كالآتي:

 

1- ينبغي أن يكون التواصل مع الأجانب بغاية إعلاء كلمة الله، وكل مؤمن هو مكلف بالقيام بهذا الواجب.

 

2- ينبغي أن يكون الحوار والتواصل قائما على الندية والتكافؤ العلمي والرقي المادي الحضاري حتى يكون الحوار حقيقيا ومنتجا.

 

3- أن يتحقق الإسلام فينا قولا وعملا، فنرفع الأوهام، ونصحح الصورة ونظهر للغرب حقيقة الإسلام وفضائله، أي أن نظهره بمظهر الجمال والحسن المحبوب.

 

4- الإقناع بالدليل والمحاكمة العقلية.

 

5- الاعتماد على الكتب المقدسة الصحيحة، يقول النورسي بهذا الصدد: "إن الذي يسوق جمهور الناس إلى الاتباع وامتثال الأوامر هو ما يتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس إلى الانقياد أكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة".(31)

 

والنورسي لا يدعو إلى الحوار والتواصل مع الغرب والأجانب فقط، بل إنه يدعو إلى الاتفاق والتعاون مع المتدينين منهم ضد العدو المشترك الذي يسعى إلى هدم الأديان وتخريب القيم والأخلاق ونشر الظلم والعدوان، وهو ما يتجلى لنا من قوله التالي: " إن أهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والنقاشات دفعا لعدوهم المشترك المعتدي" (32). ونستشف هذا الموقف أيضا من حوار النورسي مع بطريرك الروم " اشنو كراس" الذي أوردناه آنفا.

 

نخلص مما سبق إلى ما يلي:

 

- إن إعلاء كلمة الله لن تكون بغير الرقي المادي " إذ الأجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلاح العلوم والصنائع" (33)، وهذا لن يتحقق إلا بواسطة التواصل والحوار والتفاعل مع الغرب للاستفادة من معارفه ومنجزاته في مجال العلم والتقنية.

 

- إن الغلبة على المدنيين أو الجهاد الخارجي لن يكون إلا بالإقناع، وسبيله الحوار، وأداته اللغة.

 

- إن إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام الذي هو دين تسامح وسلام لن يكون إلا بتحقق الإسلام وتجليه في أقوالنا وأفعالنا.

 

- إن عالمنا هذا متعدد الثقافات، وكثير من المجتمعات نجد فيها أنماطا من التعدديات: تعددية عرقية، تعددية دينية، تعددية فكرية، تعددية لغوية... إلى غير ذلك، وحيث يكون التعدد الثقافي والتنوع الحضاري والاختلاف الفكري تكون الحاجة ماسة إلى الحوار والتواصل والإقناع. وبتعدد الثقافات واللغات والمجتمعات تتعدد أوجه الفاعلية وتتعدد قنوات التأثير.

 

- إن النورسي يدعو إلى الحوار المضبوط والتسامح المشروع والتعاون المقبول. فالتسامح في غير سياق الحرب محبوب، والتواصل من موقع الندية والتكافؤ مطلوب، إنه رجل الحوار والإقناع والحجاج.

 

الهـوامش

 

1- انظر أعمال جان بليز غريز بخصوص الحوار والحجاج.

 

2- انظر الحوار الذي أجري مع كاتب البحث وهو بعنوان: " الحوار والحجاج وقبول الاختلاف أساس التربية على حقوق الإنسان"، مجلة عالم التربية، العدد: 15، 2004

 

3- أبو بكر العزاوي: "المنظومة الأخلاقية عند النورسي" أعمال المؤتمر العالمي السادس، استانبول.

 

4- النورسي: المكتوبات.

 

5- إحسان قاسم الصالحي: بديع الزمان النورسي: نظرة عامة عن حياته وآثاره، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999.

 

6- سورة آل عمران، الآية: 63.

 

7- سورة العنكبوت، الآية: 46.

 

8- من المقدمة التي وضعها إحسان قاسم الصالحي لكتاب "الملاحق" لسعيد النورسي، دار سوزلر، استانبول.

 

9- سعيد النورسي: المكتوبات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، ص: 452.

 

10- انظر الحوار الذي أجري مع صاحب البحث، المشار إليه آنفا وانظر كذلك كتاب اللسان والميزان" للدكتور طه عبد الرحمن، وخاصة الفصل الذي يحمل عنوان: " التواصل الإنساني والتعامل الأخلاقي.

 

11- النورسي: المكتوبات، ص: 452.

 

12- النورسي: الملاحق، ص: 296.

 

13- انظر الحوار المشار إليه آنفا.

 

14- النورسي: المكتوبات، ص: 346-347.

 

15- النورسي: صيقل الإسلام، ص: 135.

 

16- النورسي: المكتوبات، ص: 348.

 

17- النورسي: صيقل الإسلام، ص: 347.

 

18- النورسي: المكتوبات، (نوى الحقائق)، ص: 609.

 

19- النورسي: المكتوبات، ص: 349.

 

 

 

20- النورسي: صيقل الإسلام، ص: 530.

 

21- النورسي: الخطبة الشامية، ترجمة إحسان قاسم، الأحمدية للنشر، البيضاء، ص: 90.

 

22- سورة البقرة، الآية: 255.

 

23- انظر الحوار المشار إليه سابقا.

 

24- النورسي: الملاحق، ص: 345.

 

25- الحوار، مصدر سابق.

 

26- النورسي: الخطبة الشامية، ص: 79.

 

27- النورسي: نفس المصدر، ص:57.

 

28- النورسي: صيقل الإسلام، ص: 530.

 

29- النورسي: المثنوي، ص: 204.

 

30- النورسي: الخطبة الشامية، ص: 56.

 

31- النورسي: صيقل الإسلام، ص: 347.

 

32- النورسي: الملاحق، ص: 299.

 

33- النورسي: الخطبة الشامية: ص: 79.

 

المصادر:

 

- القرآن الكريم.

 

- إحسان قاسم الصالحي: بديع الزمان النورسي: نظرة عامة عن حياته وآثاره، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 1999.

 

- طه عبد الرحمان: اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، البيضاء.

 

- العزاوي أبو بكر: " المنظومة الأخلاقية عند النورسي"، أعمال المؤتمر العالمي السادس 2002، استانبول.

 

- العزاوي أبو بكر: " الحوار والحجاج وقبول الاختلاف أساس التربية على حقوق الإنسان "، مجلة عالم التربية، العدد: 15، البيضاء، 2004.

 

- العزاوي أبو بكر: "سلطة الكلام وقوة الكلمات"، مجلة المناهل، العدد: 62-63، وزارة الثقافة، الرباط.

 

- العزاوي أبو بكر: "البنية الحجاجية للخطاب القرآني: سورة الأعلى نموذجا"، مجلة المشكاة، العدد: 19، وجدة.

 

- النورسي سعيد: المكتوبات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر، استانبول.

 

- النورسي سعيد: صيقل الإسلام، ترجمة إحسان قاسم، دار سوزلر، استانبول.

 

- النورسي سعيد: المثنوي، ترجمة إحسان قاسم، دار سوزلر، استانبول.

 

- النورسي سعيد: الملاحق، ترجمة إحسان قاسم، دار سوزلر، استانبول.

 

- النورسي سعيد: سيرة ذاتية، ترجمة إحسان قاسم، دار سوزلر، استانبول.

 

- النورسي سعيد: الخطبة الشامية، ترجمة إحسان قاسم، الاحمدية للنشر، الدار البيضاء، 2001

المصدر: http://www.nuronline.com/makalat.php?artid=262

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك