جِرَاحٌ على طريق الدعوة

جِرَاحٌ
على طريق الدعوة
تأليف:
د. ياسر بُرهامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.. ثم أما بعد..
فاعلموا عباد الله أن رسول الله قد بُعث بين يدي الساعة.. بعث هو والساعة كهاتين, وإن كادت لتسبقه.. اعلموا أنه قد اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.. اعلموا أنه قد اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.. واعلموا أن رسول الله قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم), واعلموا أنه بين يدي الساعة من أنواع الفتن والملاحم والبلابل أنواعاً أخبر عنها النبي تظل تتكاثر وتزداد حتى تتصل بالفتن الكبرى التي فيها ما هو أعظم من كل ما سبق كما قال النبي عن فتنة الدجال: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال) يعني ليس هناك فتنة أكبر من الدجال.
وتلك الفتن إذا تكاثرت وامتلأت الأرض منها ظلماً وعدواناً وجوراً وطغياناً فإن الله سبحانه وتعالى يملأها بعد ذلك عدلاً وإحساناً كما بين في أحاديث المهدي فقال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من عترتي اسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً).
وبعد ذلك تكون فتن أشد؛ فإن ظهوره إنما يكون في أهل الإسلام وفي بلاد الإسلام، ثم بعد ذلك تقع الملاحم الكبرى مع النصارى من الروم في أرض الشام يقتلون فيها مقتلة عظيمة بعد غدرهم وإتيانهم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفاً.. أخبر أنهم يأتون في تسعمائة وستين ألف مقاتل يغزون بلاد الإسلام ويخرج إليهم جيش من المدينة يقتلهم الله بثلث هذا الجيش إذ يُقتل ثلثه شهداء، ويفر ثلثه لا يتوب الله عليهم، ويفتح الله على الثلث، ثم يفتحون بعد ذلك قسطنطينية ويظهر أيضاً أنهم يفتحون رومية وهي عاصمة بلاد النصارى في الكفر والتثليث -والعياذ بالله- فعندما يفتحون هذه البلاد فإن الله يبعث الدجال فتنة للعباد.. فإذا كثرت الفتن وجب على المؤمن أن ينتبه ويحذر، ووجب عليه أن يزداد بصيرة في الحق، وإرادة له، وثباتاً عليه، وصبراً ويقيناً بوعد الله سبحانه وتعالى, ويعلم أن وجوده وسط الفتن امتحان له ودلالة على قوة إيمانه إذا ثبت ليرتفع درجات عند الله, وليس ذلك بشرٍّ للمؤمنين، بل هو خير لهم كما قال: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور: من الآية11] مع ما كان لهم فيه من الألم الشديد لرسول الله ولزوجه الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات أم المؤمنين عائشة، ولأفاضل المؤمنين وفيهم أفضلهم أبو بكر الصديق.. كم كان الألم شديداً والفتنة عظيمة في أوساط المسلمين.. كانت فتنة أشد من فتنة الأعداء القادمين من خارج البلاد, وكذلك كانت فتنة هؤلاء المنافقين أشد على رسول الله وعلى أصحابه من الفتن الأخرى, وكان ذلك خيراً؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجد البشر -هذه النوعية العجيبة من المخلوقات التي يجتمع في قلوب أفرادها أنواع الإرادات والشهوات والرغبات من الخير والشر حتى في قلوب صفوة هؤلاء البشر- إنما أوجد الله هذا الجنس الإنساني من أجل هذه الصفوة, من أجل وجود هذه الأنواع من العبودية في مقاومة الشر, فالله كان قادراً ولم يزل قادراً على أن يخلق من يعبده لا يشرك به شيئاً طرفة عين، وعلى أن يخلق من يسبح بحمده، ويقدس له، ولا يسفك دماً، ولا يظلم أنملة، ولا يظلم ذرة كما خلق الملائكة لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وتلك عبودية.. ولكن هناك ما هو عند الله أفضل منها وأحب إليه سبحانه.. من أجل ذلك خلق الشر الذي يكرهه سبحانه وتعالى ونهى عنه وحرمه، ومع ذلك خلقه، وقدره بعلمه وحكمته، وما خرج عن قدرته ولا قضائه وقدره، بل كان ذلك منه سبحانه خلقاً وإيجاداً، وإن كان من أهل الشر فعلاً وتكسباً.. خلق الله الأشرار من الجنة ومن الناس, خلق شياطين الإنس والجن, خلقهم ليوجد في عباده المؤمنين من أنواع العبودية ما لا يوجد إلا بوجود أضدادها.
تعجب الملائكة من أن يخلق الله في الأرض من يسفك الدماء ويفسد فيها قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ذلك أنهم قاسوا على القاعدة الأصلية وهي أن الله خلق الخلق ليعبدوه، فهذا هو الأصل، وهذه هي الحكمة الشرعية من خلق الجن والإنس، بل من خلق سائر المخلوقات وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، خلق الله الكائنات كلها تسبح له كما قال سبحانه وتعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجمعة:1].
وقد أعلم الله سبحانه ملائكتَه أنه سيوجد في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء فتعجبوا من خلق الله هذا النوع أيضاً مع قدرته على خلق الملائكة –وقد خُلقوا- وعلى خلق أمثالهم.
قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة: من الآية30] يعلم سبحانه وتعالى وجود الأنبياء، ووجود الأولياء، ووجود المجاهدين، ووجود الصابرين.. يعلم أنه سيوجد من هذا النوع البشري خير الخليقة على الإطلاق إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ يجعلهم الله سبحانه وتعالى في مآلهم وحالهم الثاني خيراً من الملائكة يسلم عليهم الملائكة كما قال: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24] أي شرف أعظم من أن يستأذن ملك على المؤمن في قصره ويستفتح الأبواب ليدخل للسلام فيقول الخدام للمؤمن: "ملَك بالباب" يستأذن فيدخل فيسلم على المؤمن ويقول له: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ؟.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فبالصبر نالوا هذا الأجر العظيم, والملائكة ليس في مجتمعهم ولا في طائفتهم من يعصي الله طرفة عين، وليس في إراداتهم إرادة شر أو فساد، ولا تنازعهم أنفسهم إلى المعصية، ولا تميل إلى شهوة، ولا تخاف من فوات مأرب، بل هم مُسخرون لعبادة الله ليل نهار بقوة وقدرة جعلها الله لا تتجه إلا للخير، ولكنه سبحانه وتعالى يحب الصابرين ويحب المجاهدين ويحب من يبذل ويضحي في سبيله سبحانه، فكيف يوجد هذا إذا لم يوجد شر وفساد، وإذا لم يوجد صراع، وإذا لم توجد مقاومة، وإذا لم يوجد هذا النوع من الجهاد الذي افترضه الله بأنواعه المختلفة؟.
فرضه الله سبحانه وتعالى بالقلب واللسان والنفس والمال لأنواع المخالفات لشرعه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] فالله يحب الصبر والجهاد، ولذلك أوجد الشر والفساد.. يحب سبحانه وتعالى أن تنازع نفسَك إلى الله, وأن تخاصمها في الله.. هي تريدك إلى الشهوة وأنت تجرها بعيداً عن هذا الفساد, تريدك إلى الدعة والكسل وأنت تجرها إلى الطاعة، وإذا جررتها إلى الطاعة سارت معك بعد ذلك محبة للخير مريدة له تتلذذ به بعدما كانت تتألم منه.
تنازعك نفسك إلى موافقة أهل الأرض إذ أنك فقيرٌ فيما يبدو إليهم فقير إلى موافقتهم، وأنت تنازعها إلى مفارقتهم في الله تخالفهم لأجل طاعتك وتفارقهم وأنت مفتقر إلى موافقتهم لتقول يوم القيامة مع المؤمنين: "ربنا فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم", إذا جمع الله الناس وقال: "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد", فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس, ويتبع من كان يعبد القمر القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت, ويبقى اليهود والنصارى وهذه الأمة فيؤتى اليهود فيقال: "ماذا كنتم تعبدون؟" فيقولون: "كنا نعبد عزير ابن الله", فيقال: "كذبتم، ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً" فيقال: "ماذا تريدون؟" فيقولون: "عطشنا يا ربنا فاسقنا", فيقال: "ألا تردون؟" (أي ألا تذهبون إلى الشرب) فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون فيها, ويؤتى النصارى فيقال: "ماذا كنتم تعبدون؟" فيقولون: "كنا نعبد المسيح ابن الله", فيقال: "كذبتم ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً", فيقال: "ماذا تريدون؟"، فيقولون: "عطشنا يا ربنا فاسقنا", فيقال: "ألا تردون؟" فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون فيها, ثم تبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم ربهم في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول: "ماذا تنتظرون؟، لتتبع كل أمة ما كانت تعبد" فيقولون: "ربنا، فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم", فيقولون: "إننا ننتظر ربنا حتى يأتينا هذا مقامنا فإذا جاء ربنا عرفناه".. لهم رب يعبدونه ليس كما يعبد الناس الآلهة والطواغيت، هم فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم وأفقر ما كانوا إليهم، فكيف يوافقونهم الآن وقد استغنوا عنهم؟, كيف يوافقونهم وهم يحشرون إلى جهنم طائفة بعد طائفة؟, وعندما يقول لهم ربهم: "أنا ربكم"، فيقولون: "نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا", فيقول: "هل لكم بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟" فيكشف عن ساقه، فإذا كشف عن ساقه سجد لله من كان يسجد لله من تلقاء نفسه, ومن كان يسجد رياء وسمعة صار ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه.. تميز المنافقون عندئذ، وخدعوا إذ ظنوا أنهم على الإيمان ثم فصلوا عنهم, وتميز المجرمون أعداء الدين بعيداً عن المؤمنين, وصارت علامتهم واضحة جلية.
لذلك أوجد الله تعالى هذه الشرور وهذا الفساد في الأرض ليظهر من أهل الإيمان هذه الأنواع من العبودية المحبوبة له سبحانه وتعالى, أوجد الله المحن لتنازعك نفسك كي تترك المشكلة بأسرها وتنشغل بدنياك وترضى بها عما تعد للقاء الله سبحانه وتعالى، فأنت تنازعها وتخاصمها وتجرها إلى طريق الآخرة وتقول: "لا والله، لا أترك طريق الالتزام مهما رأيت من انصراف الناس عنه، ومهما رأيت من خسائر -فيما يبدو للناس- تحل بمن سار فيه", حتى لو رأيت نفسك وحدك فإنك لا ترتبط بشخص ولا مكان، وأي مكان أشرف من مكة المكرمة هذه أشرف بقاع الأرض وأحب بلاد الله إلى الله، ومع ذلك ما ارتبطت بها دعوة الإسلام عندما رفض أهلها الإسلام وأبوا أن يتابعوا الرسول، وقد خرج إلى قبائل العرب يقول: (من يحملني إلى قومه فأبلغ رسالة ربي؟) ، حتى منَّ الله عليه بالأنصار, وفتح الله قلوبهم للإيمان، وفتح المدينة المنورة بهذا الإيمان، وانتشر النور، ومنها خرج إلى أرجاء الأرض كلها حتى مكَّن الله لرسوله بمكة المكرمة، لكن حرَّم على المهاجرين أن يقيموا بمكة وأن يرجعوا إليها؛ لأن ثواب الهجرة أعظم من عبودية المسجد الحرام الذي الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، فسبحان الله.. ومع كون المسجد النبوي الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا أن الصحابة الذين فقهوا حقيقة هذا الدين، وما أُمروا به انطلقوا في المشارق والمغارب، ولم يؤثروا أن يسكنوا المدينة، وآثروا الجهاد، وعندما فتحت الأمصار آثروا تعليم الناس أمور دينهم، ومكثوا في البلاد يعلمون الناس ويفقهونهم، فعبد الله بن مسعود يعلم أهل الكوفة وأهل العراق، وكذلك أبو موسى ومعاذ وحذيفة ومعاوية في الشام، وآخرون كانوا بمصر، وفي المشارق والمغارب في الأرض ينشرون الدين ويعلمون الناس الخير، فما ارتبطوا بمكان مع فضله وشرفه، وما آثروا المكث بأرض تتضاعف فيها العبادة على أن يخرجوا إلى البلاد لينشروا دين الله سبحانه وتعالى؛ لأن دعوتهم ليست ترتبط بمكان معين.
بل وأعظم من ذلك فدعوة الإسلام لا ترتبط بشخص معين، وأي الناس أعظم من رسول الله؟ خير الخلق، وسيد ولد آدم، وخاتم النبيين، وإمام المرسلين، الشافع المشفَّع، خليل الرحمن، صاحب المقام المحمود.. لا أحد أرفع منزلة ولا أعظم درجة منه، ومع ذلك عتب الله على الصحابة أن ترتبط دعوتهم والتزامهم بشخصه حين أُشيع في غزوة أحد أن رسول الله قد مات، فترك بعض الصحابة القتال, وبعضهم كان أفقه وأعلم فقال: "قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله"، فمنهم من قاتل وفي ظنه أن رسول الله قد مات، ومع ذلك ظل يقاتل؛ لأنه يريد أن ينشر هذا الدين وأن ينصره، مع أن الموازين الأرضية تقضي بحصول الهزيمة، فقد فرَّ الرماة، وقُتل مَن قُتل، وأرجف المرجفون، ومع ذلك ثبتوا وقاتلوا، ومنهم من قُتل على ذلك وهو يشم رائحة الجنة: أنس بن النضر.. وجد سعد بن معاذ وقد جلس وترك القتال فقال: "واه يا سعد، إني والله لأجد ريح الجنة دون أحد".. يشم رائحتها فعلاً كرامة من الله، جعل الله سبحانه رائحة الجنة تصل إليه عبر هذه السموات السبع وعبر هذه المسافات الهائلة، فقال سعد: "فوالله يا رسول الله ما استطعت ما صنع", وجد فيه ما بين بضع وثمانين ضربة بسيف ورمية بسهم وطعنة برمح، وما عرفتْه أختُه إلا ببنانه.. لم يعرفوه من كثرة الجراح.. ظل يقاتل وقد جرح قبل الجراحة القاتلة بضعاً وثمانين جرحاً، ثم جاءته المتمة التي قضت عليه، وقضى بها نحبه وعهده الذي عاهد الله عليه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
كان منهم أنس بن النضر وجماعات من أصحاب رسول الله, وأنزل الله فيما حدث من ذلك: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
هكذا علمهم القرآن, علمهم ربهم سبحانه في كتابه ألا ترتبط دعوتهم حتى بشخص رسول الله إنما ترتبط بما جاء به: بدينه، بكتاب الله، وسنة النبي دعوة مرتبطة بحبل الله المتصل وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، هكذا اعتصموا بحبل الله الواصل بينهم وبين ربهم، لا يرتبطون بشخص يجعلون التزامهم بالدين بناءً عليه, علَّمهم سبحانه ماذا يصنعون بعد وفاته، وعقلها أبو بكر تمام العقل، فلما مات رسول الله بعد نزول هذه الآية بنحو ثمان سنين وجاء أبو بكر ورأى رسول الله وقد مات فقبَّل بين عينيه وهو أحب الناس إليه وكان أبو بكر أحب الناس إليه, وقال: "طبت يا رسول الله حياً وميتاً"، ثم خرج على الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت", ثم تلا قول الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144], فكانت التي أيقظت في الصحابة أنواع الهمم العالية والإرادات الجازمة والعلوم الكاشفة التي عرفوا بها طبيعة جهادهم وما يجب عليهم نحو مصابهم, فانطلق الناس يتلون هذه الآية فتحملوا هذه الصدمة الهائلة بفقدان رسول الله ورحيله عن الأرض إلى الرفيق الأعلى, وصاروا يدافعون عن الدين ويقاتلون المرتدين, وسبحان الله ما أسرع أن حدثت الردة وبالآلاف، ولم يبق يسجد لله في الأرض إلا في مسجد رسول الله وفي المسجد الحرام وفي حواثى في بني عبد قيس بالبحرين، ومع ذلك يقف أبو بكر الصديق تلك الوقفة الهائلة تلك الوقفة التي حفظ الله بها الدين من الانحراف والتي مَنَّ الله بها علينا حتى وصل الإسلام إلينا نقياً صافياً بلا تبديل ولا تحريف.
وارتد بعض الناس عن الدين كله، وارتد بعض الناس عن بعض أركانه كمن منع الزكاة، فقاتل أبو بكر الجميع وعزم على أن يقاتل من منع عقالاً كان يؤديه إلى رسول الله، وانشرح صدره للقتال، فعلم عمر والصحابة أنه الحق؛ لأن انشراح صدر أبي بكر نجم يُهتدى به فانشراح صدر المؤمن للشيء من الحق يجعله نوراً يهتدي به غيره.
وبالفعل قاتل هؤلاء الصحابة هؤلاء المرتدين وردُّوهم إلى الإسلام, وأشرقت الأرض بنور دين الله في جزيرة العرب كلها، وقتل الله مسيلمة الكذاب وطلحة، وانفضت الجموع من حول مدعيي النبوة، وهُدمت مرة ثانية في القلوب عبادة الأوثان، ورجع الناس إلى الإسلام, وأدَّى الناس الزكاة، واستقرت دعائم الملة, فانطلق الصحابة وقد عرفوا وجهتهم, قد عرفوا أنهم خُلقوا للجهاد كما كانوا يقولون في حفرهم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما لقينا أبداً
صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم ما بقينا أبداً.. يعلمون أنهم خُلقوا ليقاوموا الشر والفساد في الأرض, وليعلنوا كلمة الحق, وليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد كما قال ربعي بن عامر لرستم: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
فمهما ضاقت الأمور توشك أن تتسع, بل ضيقها علامة اتساعها, وطغيان أهل الفساد علامة قرب هلاكهم كما أخبر: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:127- 129].
وعسى من الله واجبة, وهي من أنبيائه خبر عنه سبحانه وتعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ؛ لأنهم أوذوا قَالُوا أُوذِينَا، نعم فإن إرادة الله في كسر الجبارين الطغاة, وفي جبر المنكسرين المستضعفين سنة ماضية نافذة في خلقه سبحانه وتعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:4- 6].
ما بلغ أحد من درجة الاستضعاف ما بلغه فرعون من بني اسرائيل فيما استضعفهم فيه، يقتل الأبناء.. يحصرهم ليس بعد وجودهم على وجه الأرض ولا وهم أطفال ولا وهم بالغون قد التزموا بدين الله، بل يحصرهم قبل ولادتهم.. أي استضعاف أشد من ذلك؟.. يحصر كل امرأة تحمل من بني إسرائيل ويضع لها قيداً ويعرف وقت ولادتها ويأتي الذباحون ليذبحوا ذكور بني إسرائيل، ثم لما كثر القتل فيهم حتى كادوا أن يفنوا جعلوا يقتلونهم عاماً ويتركونهم عاماً، ويولد موسى وقت الذبح والتقتيل.. فانظر إلى أي درجة من درجات الاستضعاف وصل حال بني إسرائيل, ولكن إرادة الله سابقة: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.
وقد كان الصحابة يعقلون هذه المعاني، ويحيون بها، وخاصة تلك التي كانت ببني إسرائيل زمان فرعون.
وقد كان عمر ولَّى عمار بن ياسر إمارة بالعراق، ثم بعد ذلك عزله فلما سُئل عن ذلك قال: "أردت أن يتحقق قول الله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وذلك أن عماراً كان يلقى من الأذى ما لم يلقه غيره واستضعف أشد الاستضعاف حتى اضطر أن ينطق بكلمة الكفر.. وأي أسباب أضعف من أسباب بني إسرائيل؟ بل ما كان عندهم أسباب يواجهون بها شر فرعون وقومه، ومع ذلك فإن إرادة الله هي النافذة، وحذر فرعون وهامان وجنودهما لم يغنِ عنهم شيئاً؛ فإن الله مقلب القلوب ومدبر الأمر, فانظر إلى قدرته سبحانه وحكمته أن يجعل فرعون هو الذي يربي موسى, وهو الذي يحفظه ويرعاه إلى أن ينفذ قضاء الله سبحانه وتعالى وأمره, واستوعب جيداً هذا الموقف من موسى في قوله: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا, وفي تأكيده أن الأرض لله, ليست لمن زعم أنه قاهر جبار, وأنه إن شاء فعل وفعل: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وتأمل فهمه الدقيق لأهمية التقوى, وأن العاقبة للتقوى, وأن العاقبة للمتقين, وأن كثرة الطغيان سبب لقرب الهلاك وقرب نزول البلاء الذي ما كانوا يحتسبونه، فأتاهم الله من حيث ما لم يكونوا يحتسبون وهم في أوج قوتهم وجبروت طغيانهم.
فتأمل هذا جيداً وقارن بينه وبين ما كان من موسى في شبابه وهو في أول دعوته وقد كانت له شيعة ووجد صراعاً غير متكافئ القوة وغير محسوب العاقبة بين رجل من شيعته ورجل من عدوه، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، وذلك لوجود حمية وعاطفة في نصرة المستضعف وكراهية التحمل لمثل هذا الاستضعاف وإرادة الانفجار، ولكن كان هذا في الحقيقة من عمل الشيطان.. تأمل هذا الموقف جيداً مع أن التهديد الأشد كان في المرحلة التي بعد ذلك كان التهديد: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ تهديد شديد مع أن موسى في شبابه كان له شيعة وأعوان، ومع ذلك لم يتحمل أن يرى من يصرع ويقتل ويضرب، واندفع فقتل ذلك الفرعوني، وكان ذلك منه خطيئة مع أنه لم يرد قتله، إنما قتله خطأً، إنما أراد أن يدفع عن ذلك الإسرائيلي الظلم ومع ذلك فعدَّها من عمل الشيطان، وعدَّها يوم القيامة خطيئته التي أصاب، يقول: "إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها"، مع أنها نفس كافر حقير لا وزن له عند الله، وقد قتله لنصرة مظلوم، وقد كان في الحقيقة مع كونه مظلوماً غوياً مبيناً.
وقال موسى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ رغم أن ظاهر الأمر أنه كان في نصرة الدين وعون المظلوم، ولكن ترتب على ذلك من أنواع المفاسد والفتن ما الله به عليم، وبالفعل فقد كان هذا الرجل يشاد كل يوم من لا يقدر عليه، ويضرب كل يوم، ويؤذى كل يوم، ويستغيث كل يوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم وجده موسى يصارع رجلاً آخر فسرعان ما أراد بفطرته المتحمسة لنصرة المظلوم وإباء ترك معاونة الضعيف، مع أنه في الحقيقة لا يقدر أن ينصره نصراً فليس هذا طريق النصر، إنما طريق النصر طريق آخر، طريق: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، طريق: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، طريق: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، طريق الدعاء: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
ويقول الله في بيان موقف موسى: فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص:18، 19].
عجيب شأن هذا الإسرائيلي هو الذي يفضح موسى، وهو الذي يعترف عليه ويجعل مع ذلك من نفسه بطلاً، كل يوم يخاصم ويلقى من الأذى ما يلقى ويعجز عن نصرة نفسه فيستغيث ويصرخ فيقول له موسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، ومع ذلك أراد أن ينصره، وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، فيفضحه الرجل وقد توهم أنه يريد قتله فيخبر أنه الذي قتل الرجل بالأمس، وقد كانوا يبحثون عن هذا القاتل، فكأن الفرعوني وجد غايته فتركهما وانصرف، وأخبر قومه بما سمع وما حدث فأتمروا على موسى فتوقفت الدعوة بناءً على ذلك عشر سنوات.
فسبحان الله، عندما خرج موسى خائفاً يترقب تعلَّم وتربَّى تربية جيدة بتربية الله له، فرفعه الله وأجازه إلى مرحلة جديدة ليرجع بعدها أقوى وأعلم وأفهم وأقرب إلى الله، فصار كليم الرحمن، وتغيرت كثير من صفاته إلى الأكمل والأفضل.
فلنتأمل هذه المواقف لنتعظ بها، وندرك ما يلزمنا في أيام الفتن والمحن حتى لا يغرنا غرور وحتى لا نجهل طريقنا وما يلزمنا لنصرة ديننا، والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد قضى الله تعالى بعدله وحكمته أن يجعل الفرج مع الكرب، والنصر مع الصبر، ويجعل مع العسر يسراً كما أخبر بذلك رسول الله، وأن الله يجعل في اليقين أرفع المراتب، والصبر معه وصول الإنسان للإمامة في الدين فقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
ومن أعظم اليقين أهمية في حياة المؤمن أن يوقن بظهور الإسلام، وعز هذا الدين، وأن الله يدخله كل مكان وصل إليه ضوء الشمس وبلغه الليل والنهار، كما قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر).
وقال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وصفاته سبحانه وتعالى لا يمكن أن تتغير أو تتبدل، فهو القوي العزيز، وهو الرحيم بعباده المؤمنين: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
بعزته أعز المؤمنين بأن وفقهم للقول الطيب، والعمل الصالح كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10].
أيقنوا أيها المؤمنين بهذه الوعود من الله سبحانه وتعالى بأن الباطل يزهق ويضمحل، وأن الحق يبقى ويزدهر ويعلو بإذن الله.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28].
سنة ماضية مهما كانت العقبات، ومهما كانت نوعية المواجهات، ومهما كان ضعف أهل الإيمان فيما يبدو للناس، ومهما كانت ذلتهم فيما يعده الناس، ومهما كانت قوة المتجبرين الطغاة، ومهما كان من ظلم وعدوان، فإن النتيجة الحقيقية لهذا الصراع محسومة مُسبّقاً في قدر الله, لا تبديل ولا تغيير في اللوح المحفوظ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:171- 182].
فهذا القرآن ذكر للعالمين، وسوف يعلمون، وقد علموا نبأه بعد حين، وسيعلمون النبأ العظيم بظهور الإسلام في كل مكان، سيعلمونه بعد حين كما كان من ذلك ما شاء الله أن يكون.
وقد علم المشركون ما أخبر به النبي من أنه سيهزم الجمع ويولون الدبر.
وهكذا تكون العزة، ويكون النصر باليقين بوعد الله، والصبر على طريق الحق، والثبات عليه دون ارتباط بشخص أو مكان أو عمل معين إلا طاعة الله التي لا ينفك عنها المؤمن في كل حال من الأحوال قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما يفعل أعدائي بي أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله".
ونسأل الله العافية، ولا نتمنى لقاء العدو، ونسأله سبحانه أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أعداء الدين.
وكتبه
ياسر برهامي

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك