خواطر دعوية

خواطر دعوية

تأليف الشيخ

عبدالله بن خلف السبت

مقدمــة

     لله الحمد من قبل ومن بعد، والصلاة والسلام على النبي الأمين وصحابته الغر الميامين.. وبعد،

     فهذه يا محب الخير مجموعة خواطر دعوية تكمل مع أختها (همسات دعوية) والتي نشرت في الدورة السابقة، وهي أيضاً عبارة عن تفريغ لأشرطة ألقيت، قام شباب الفيحاء - بإشراف الشاب النابه بدر العنجري وفقه الله للخير – بنسخها والتأليف بينها.

     وكعادتي تركت المادة دون تعديل كبير، ومن يقرأ لابد له من الإعذار، فإن القول غير الكتابة، لكن القول أحياناً يكون له تأثير أكبر.

     والله جلت قدرته أسأل أن يجعل شباب هذه الدورة أتباعاً للسلف الصالح ناشرين لطريقتهم.

     وجزى الله خيراً من أقام هذه الدورة وسعى لإنجاحها.

     والله الموفق للخير.

    

عبد الله خلف السبت

أول شعبان 1426هـ

        

الخاطرة الأولى

مفهوم التديـن

     لابد أن يكون للإنسان مبدأ وعقيدة يشغل نفسه فيها ويدافع من أجلها حتى يلقى الله سبحانه وتعالى، وأنه لهذا خُلق الإنسان، فأنتم تعلمون بأن الإنسان بهذه الدنيا خلقه الله عز وجل لوظيفة كبرى وهي عمارة الأرض، عمارة الأرض هذه تكون بأمرين: الأول بالإيمان وعبادة الله سبحانه وتعالى ولهذه خلقنا، والثاني بعمارتها في شئون الحياة، والمسلمون مطالبون بالأمرين، بأن يصلحوا منهج الناس وحياة الناس، كما قال جل وعلا: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58]، لكن لا نفهم كما يفهم - للأسف الشديد - أعداد هائلة من الناس عندنا بأن الإنسان له خيارين، إما أن يكون عابداً لله عز وجل محروم من الحياة، أو يكون لاهياً متمتعاً في الحياة ولا يعبد الله عز وجل! هذا الفكر الفاسد دخل عند المسلمين من الكفار ومن اليهود ومن النصارى، لأن دينهم الذي حرفه المحرفون منهم لا يستطيع الإنسان أن يجمع فيه بين الأمرين، أما نحن فمن فضل الله عز وجل أن هدانا إلى الدين الحق، أنه لا يمكن أن تحيا الحياة السعيدة إلا إذا كان عند الإنسان دين، لذلك إخواني لابد أن تعرفوا ما هو مفهوم الحياة السعيدة.

إن الذي تصوره لنا وسائل الإعلام وجمهور ما نسمع حتى في كثير من البيوت أن الحياة السعيدة هي متاع الدنيا، هي المال والغنى والمنصب، هذا جزء من الحياة، لكن التجربة العملية أثبتت بأن هذه لا تعطي سعادة، لذلك انظروا إلى الأمم الكافرة في الدول الغربية عندهم من الغنى أكثر مما عندنا، وعندهم من متع الحياة الدنيا أكثر مما عندنا، وعندهم حتى من طبيعة البلاد من جو بارد وخضرة وأمطار أكثر مما عندنا، لكن كل هذه المقومات ما أعطتهم السعادة، لذلك نجد أن عندهم كثيراً من الناس ينتحرون، وهذا ما تسطره صحفهم وتسمعه الآذان أن عندهم أعداد كبيرة من الناس يذهبون إلى المستشفيات النفسية، يواجهون القلق والأرق والاضطراب في حياتهم اليومية، فلا يوجد أي نوع من العلاقة الإنسانية، لذلك تجد أنهم بعد أن أيقنوا أنه لا خير في أولادهم اتجه عامة الغربيين إلى تربية الكلاب والقطط، والصرف عليها أكثر مما يصرفون على أبناءهم، إن كل هذه المتع الدنيوية التي عندهم ما أعطتهم سعادة، ومَن سافر إلى بلدانهم يدرك هذه القضية بكل مداها، في بلاد المسلمين قد تكون بلدان فقيرة لكن نسبة الإستقرار النفسي أكثر ونسبة الأمن والاطمئنان أكثر، وهذا ليس من تحليلاتنا نحن إنما هو قول الله عز وجل: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه:124] الذي يعرض عن ذكر الله عز وجل وعن الدين ويتجه اتجاه آخر يعيش عيشة ضنك، حتى عندنا الآن تجد أن الذين لا يصلّون ولا يعرفون الدين عندهم أرق، ولذلك حتى هنا الآن لو ذهب أي إنسان إلى مستشفى الأمراض النفسية لن يجد فيه من المصلين إلا واحد من الألف، لن يجد فيه من رواد المساجد إلا نسبة نادرة لظروف عائلية، وكذلك نسبة الشذوذ في الأحداث، وكذلك نسبة السجون ونسب كل هذه الجرائم والاضطرابات، بل حتى الذين يتعاطون المهدئات والمنومات، نسبة الذين يرتادون المساجد قليلة جداً، لأن هذا مصداق قول الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:126].

لما ذكر الله عز وجل عن اليهود والنصارى والكفار وصفهم أنهم كالأنعام، ما هي وظيفتهم؟ قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد:12] فقط هذه وظيفتهم! هذه الصفة تشترك بها كل بهائم الأرض فليس عندهم شيء ما بعد الموت، ولا يريدون جنة ولا نار، إذاً هم والأنعام سواء، بل الله عز وجل قال: (بل هم أضلُّ سبيلاً) [الفرقان:44].

إذاً لابد بأن تدركوا بأن التديّن إنما هو لإستقرار الحياة بالدرجة الأولى، وأخطأ من ظن أن الإنسان إذا أصبح متديناً ملتزماً بدين الله عز وجل فإنه لا يستطيع أن يعيش حياته، هذه النظرة الموجودة الآن هي من آثار ما ورثه الناس من فكر اليهود النصارى.

هذه القضية مع أنها بسيطة لكنها عند كثير من الناس ضائعة، لو نظرنا في جانب العبادات نرى بأن ما فرض الله عز وجل أو ما حرم الله عز وجل علينا قليل وكله لصالحنا، وما أباحه الله عز وجل لنا كثير، نعم بعض الناس يقولون أنتم ما عندكم إلا حرام، حرام، حرام.. لكن إذا نظرتم إلى المحرمات في دين الله عز وجل تجدونها قليلة، كم صنف من الطعام حلال؟ ما لا نهاية، وكم صنف حرام؟ معدود، حرم الله من المشروبات الخمر، وحرم الله من المطعومات الميتة والخنزير وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلف من الطير، يعني لو تأتي تعدها تجدها ست أو سبع أصناف، لكن كم من أنواع الحلال من الأطعمة والأشربة على الأرض حلال؟ لا نهاية لها، وفي اللباس مثله، المحرم في اللباس قليل جداً، والمباح ما له نهاية، والمحرم في المعاملات بالبيع والشراء قليل، والحلال ما له نهاية، إذ لو جئنا إلى التمتع الفطري في الحياة لوجدنا أنه لا يوجد في الإسلام شيء يمنعه، فقول الناس: أنتم ما عندكم إلا حرام! لأن الشيطان يريد منهم أن يرتكبوا الفواحش، الشيطان يأمرهم بالفحشاء والمنكر، انشغلوا بالغناء وانشغلوا في الموسيقى وانشغلوا في التمثيل وانشغلوا في جزيئات من الحرام، وقالوا لماذا تحرمون هذا؟ كالذي ينسى كل أنواع الأشربة ويقول لماذا حرم الخمر؟!

فلابد إذاً أن ندرك بأن ما حرم الله عز وجل علينا قليل، وأن الإنسان السوي يستطيع أن يتمتع بحياته تمتعاً كاملاً من غير أن يعصي الله سبحانه وتعالى بشيء، هذه النظرة لابد أن تبقى في قلوبنا، حتى لا يأتينا وساوس من الشيطان سواءً شياطين الإنس أو شياطين الجن، فيقولون: (أنتم الآن في أول عهدكم أول شبابكم تدخلون في باب تضيقون على أنفسكم)، بل نقول: لا أنتم قد دخلتم من الباب الواسع، وكل ما حرم الله عز وجل نهايته بعد ذلك دمار، ولذلك كل من سلك ذلك الدرب سيندم أشد الندم، فالإنسان في أول أمره قد ينجرف إذ لم يوفق بطائفة تجره إلى الخير، فلذلك أنتم في نعمة وفضل من الله سبحانه وتعالى، أن ساق لكم قرناء خير، ونسأل الله أن تدخلوا في ضمن حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ومنهم: شاب نشأ في عبادة الله عز وجل) متفق عليه، فالذي ينشأ على الطاعة لا شك أنه يوفق إلى خير عظيم.

اعلموا أن التدين ليس حرمان من الحياة، بل إن التدين هو الحياة، وما يفعله البعض من منكرات إنما هو شذوذ، ولذلك لا يمارسونه أمام الناس، هل رأيتم رجل في وسط المجتمعات الإسلامية يشرب الخمر علناً؟ ما رأينا، أو يفعل الفاحشة علناً؟ ما رأينا، لماذا؟ لأنها لو كانت خيراً لفعلناها ولفعلها الناس ولكنهم يلجئون إلى السر، وهذا دليل على أن هذا أمر غير سوي، فإن (الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم.

هذه القضية الأولى المرتبطة بالعبادة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى من أجلها، لا تعني التقيد والانضواء، إنما تعني أننا قد أتيحت لنا فرصة عظيمة أن نمارس حياتنا وفق ما يريد الله سبحانه وتعالى.

الثانية أن تتحقق غاية الإنسان في حياته وهي الهداية والأمن، وهذه لا تتحقق إلا لأهل الدين، لذلك انظروا الآن كم تصرف الدول من المبالغ على ما يسمى بإيجاد المواطن الصالح، ماذا يريدون من المواطن الصالح؟ الذي لا يسرق ولا يضرب ولا يعتدي ولا يفعل الفواحش، ونحن نقول لا يمكن تحصلون على هذا المواطن الصالح إلا إذا جعلتموه مسلماً حقيقةً، وللأسف الشديد قد أدرك الكفار في بلاد الغرب هذه القضية فأصبحوا يأتون إلى الجمعيات الإسلامية ويطلبون منهم مرشدين إلى السجون، لأنهم وجدوا أن من أسلم من المسجونين لا يعود للجريمة، وأن من لم يسلم من المسجونين ما إن يخرج من السجن حتى يعود، ما الذي جعل الكفار يلجئون إلى هذا؟ لأنهم وجدوا ثمرة الإسلام على المسجونين، بل إن السجون التي دخلها الإسلام تمتاز بأدب وبنوع من حسن السلوك، كما يقول أهل السجون مقارنة بغيرها.

فما يعرف الآن من وسائل الإعلام من إنفاق الأموال الهائلة في الدول على إيجاد المواطن الصالح، فقد يكون هذا المواطن منافقاً فما يصلح، فقد يكون الرجل لا يسرق علناً لكن يسرق بالسر، ما عنده ضمير، ورجل ما يفعل الفاحشة علناً لكن يفعلها بالسر! فما تتوصل إليه وسائل الإعلام لا توجد الرجل الصالح، لأنها لا توجد الرجل المسلم.

لذلك نحن نقول لا يمكن أن يكون المواطن صالحاً حقيقة إلا إذا كان مسلماً حقيقة، فينبغي إذاً أن يعاد البحث في إيجاد الرجل المسلم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) [لأعراف:96]، فالإسلام يعطي البلاد أمن واستقرار إذا أصبح الناس فيهم دين، يصدهم عن الغش ويصدهم عن الخداع ويصدهم عن جميع أنواع المنكرات، فإذا أرادت الأمة أن تصلح نفسها وتبقى آمنة فعليها بالدين، لكن الإنسان في أول الدرب تتنازعه -كما يقال- عوامل شتى، وكل إنسان له طاقة وإمكانيات ذهنية وبدنية، يجب يا إخواني أن ننظر فيما نبذل هذه الطاقة، الإنسان في أي شيء يبذله يهدف إلى أمرين: الأول: يحقق نوع من الرغبة الشخصية داخل نفسه، والثاني: يحقق مجداً دنيوياً ومالاً، وأما المؤمن فمجده أخروي، وقد تتبعنا كثيراً من الأمور فما وجدنا لتحقيق المجدين الدنيوي والأخروي، إلا أن يكون الإنسان للمتقين إماماً، أن يكون الإنسان ولياً لله عز وجل، يحصل على استقرار في الدنيا، ويحصل على استقرار في الآخرة، وعلو في الأرض ورفعة ومكانة، لأن كثيراً من الناس يرغب في أن يكون وزيراً أو سكرتير لوزير أو نائب لأمير! فكيف لمن أتيحت له فرصة أن يكون ولياً لله!! أمرها عظيم، وزارة الدنيا تحتاج إلى تعب ومال وجهد ومشقة، أما وزارة الآخرة ولاية الله عز وجل تحتاج إلى أمر أكبر من هذا، لكن كلنا يستطيعه، فإن الله لا يكلف من الأعمال ما لا نطيق، فهل فكّر الواحد منكم أن يكون مثل الإمام أحمد بن حنبل، أو مثل ابن تيمية، أو مثل محمد بن عبدالوهاب، أو مثل المجاهدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، أو مثل الإمام الشافعي، أو غيره من الأئمة؟ والجواب ما الذي يمنع أن يكون أحدنا مثل هؤلاء؟ لا يوجد شيء يمنع، إلا علو همة ودنو همة، والعاقل من استطاع أن يوظّف طاقاته في شيء عظيم.

نحن الآن نذكر هارون الرشيد أحياناً، ونذكر خلفاء بني أميه وبني العباس أحياناً، لكن في كل لحظة يُذكر البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والشافعي وابن خزيمة وأئمة الدين، وإن هذا هو السؤدد كما يقال، أو هذه هي الرئاسة الدائمة، ملوك الدنيا ذهبوا، الأغنياء ماتوا، لا أحد يعرف عنهم شيء، لكن إلى الآن نحن نقول: قال الأحنف، قال عطاء، قال فلان من العلماء، أصبحوا أئمة للدنيا، وما عندهم من الإمكانيات من مال أو جاه شيء، لكنهم سهروا على طلب كتاب الله عز وجل حفظاً وقراءةً وفهماً، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الذي من أجله سهروا، وإلا عطاء بن أبي رباح الذي إذا ذُكر في الكتب تهتز له الدنيا، ما هو إلا مملوك عبد ليس بجميل الشكل، لكن إلى الآن في كل كتب العلم يقال: قال عطاء، أصبح قوله حجة، ما الذي جعله بهذه المرتبة، ما هو إلا حفظه لكتاب الله عز وجل وحفظه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بهما.

فلابد إذاً أن يكون عندكم شيء داخلي يجعل من شباب هذه الأمة علماء وأئمة للمتقين، وقد ينبغ الإنسان في علوم الدنيا ولا حرج، بل قد يخدم المسلمين، لأن للأسف الشديد عامة المسلمين في علوم الدنيا فيهم تخلف، لكن علينا أن نبذل السبب لأن نضع لنا طموح، الآن عامة الشباب طموحهم محدود، فالمفروض يا إخواني إيجاد طموح عظيم، طموح أكبر من واقعنا الذي نحن فيه، أن نفكر في أن نكون مثل محمد بن عبدالوهاب أو مثل الصنعاني أو مثل الشوكاني، بل هذا الشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين كلهم قريبي العهد، وما جاءهم هذا العلم هدية من السماء، وإنما كما قال الزمخشري:

أأبيتُ سهران الدجى وتبيته        نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي

فلا يتفق علو همة مع دنو همة، إذا أراد الإنسان أن يجعل من نفسه شيء، فليعلم أن الطريق إلى ولاية الله عز وجل ما جاء في البخاري في الحديث القدسي المشهور يقول الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمعه به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته) رواه البخاري، وهذا من عظائم فضل المؤمن عند الله عز وجل، ما هو بسهل أن الله عز وجل يقول (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن)، ولذلك الآن الذين يقتلون في المسلمين، ويؤذون المسلمين، ويكفرون المسلمين، ما عقلوا هذا الحديث، ما فهموا معناه، ويقول في هذا الحديث: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه) فكيف تصير ولياً؟، قال أبدأ بالفرائض، لأن بعض الناس قد تجده يتقن النوافل وهو في الفرائض كسلان! كأن يسهر الليل في طلب العلم ثم لا يصلي الفجر!! ومن الفرائض ينتقل إلى المستحبات وهي ما لها نهاية، لكن هذا كله يحتاج إلى صبر، وإلى جَلَد، خاصة وأن مغريات الحياة في دنيانا كثيرة، ولذلك الآن تجدون الحفاظ في البلدان الفقيرة والنوابغ في البلدان الفقيرة أكثر منا في البلدان الغنية، ما السبب؟ أن عندنا من وسائل الترف ووسائل الانشغال ما ليست عند أولئك الناس، فبالتالي فإن من ينبغ في بلداننا، فكأنه في الحقيقة ينبغ عن عشرة في باقي البلدان، لأن أولئك ليس عندهم وسائل تشغلهم، فاتجاه شبابنا إلى الدين وإلى حفظه وفهمه يعتبر هذا من أعجب العجائب في هذا العصر، لأن كل الوسائل متاحة وتُهجر من أجل تعلّم دين الله عز وجل! من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، من القيام بدعوة لله سبحانه وتعالى، لأنه لا يستوي من أتيحت له الفرصة ومن أتيحت له المغريات كلها ثم تركها ؛ يرجو ما عند الله سبحانه وتعالى.

إذاًَ أرجع وأقول أن التدين لا يعني الحرمان بل يعني إشباع الرغبات للإنسان كاملة، لكن وفق ما أراد الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل هو يعلم ما يصلحنا فأعطانا من التشريع، والأمم التي هجرت الدين هي التي تعيش في هذا الاضطراب وهذا الفساد الذي نشاهد، لذلك علينا أن نتمسك بالدين، ليس عن عاطفة، وليس عن صحبة، وإنما لابد أن نقتنع بأن هذا هو الذي يحقق لنا العزين في الدنيا وفي الآخرة.

ولابد أن نعلم بأن الدين يعني العلم فنتعلم، فيا أيها الشباب أنتم الآن ما عندكم مسئوليات، لا مسئولية بيت ولا مسئولية إنفاق أو تربية، هذا وقت الطلب، ثم أنتم في هذا الوقت عندكم خلو ذهن، بإمكانكم تحصيل ما لا يستطيع تحصيله الكبير، فلذلك يقول عمر رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسوّدوا) أي قبل أن تنشغلوا في المناصب والبيوت وفي تحمل المسئوليات، فهي في الحقيقة فرصة لا تعوض، وسيندم بعد ذلك من تركها، وحينئذ لا ينفع الندم.

 الخاطرة الثانية

اعرف الحق تعرف أهلـه

     إن مشكلة العصر التي يعاني منها الشباب في العالم الإسلامي الآن هي ما يمكن أن نطلق عليه باختلاط المفاهيم، ولذلك ما من بلد نذهب إليه إلا ويكثر السؤال فيه مع من نسير؟ كيف نفهم الدين؟ أين الحق؟ خاصة ونحن نعيش في عصر (شريط الكاسيت)، هذا الذي أصبحت فيه الأقوال تنتشر بسرعة فائقة، وأصبح لا يعرف فيه بين مجلس عام ومجلس خاص، وبين قول شيخ في مجلس يؤصل فيه أصلاً، وبين فتوى قالها لفئة قليلة من الناس في مسألة من المسائل، ووافق قلة علم في الأمة وقلة قراءة مع كثرة كتب، فلذلك وجب على أهل الحق أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم وعلى علمائهم بالذات أن يتصدوا في هذه المرحلة الحرجة لبيان أصول أهل السنة وتعرية أهل البدع، ورحم الله ابن القيم فقد ذكر فيما ذكره عن أهل الأهواء والبدع، بأن كشف عوارهم من الجهاد في سبيل الله.

فأقول نحن الآن ابتلينا باختلاط في المفاهيم وضياع وأصبح الكل يرفع شعار الكتاب والسنة وشعار السلفية، والكل أصبح ينادي بها والناس مساكين ما قرءوا الكتب الكبيرة لأهل العلم، وما تعرفوا على أقوال الرجال الذين ساروا على درب الصحابة رضوان الله عليهم، فالتبست عندهم الأمور، فما أصبحوا يميزون بين السلفي حقيقة وبين مدعي السلفية من ناحية، ولا بين المفكرين الذين طغت أسماءهم على الساحات الإسلامية وتحولوا من كتاب مفكرين إلى علماء مفتين! ولذلك أحاول في هذه السطور أن أضع بإيجاز بعض الضوابط والقواعد التي لابد منها ؛ حتى يعرف الإنسان الدرب الذي يسير.

أول قضية يا إخواني يجب أن نعتقد جازمين بأن الحق الذي جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه، والذي قاتل عليه الصحابة رضي الله عنهم ونشروه في الدنيا هو مثل الشمس واضح، (تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء) رواه ابن ماجه وصححه الألباني، بينة واضحة، (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [القمر:17] واضحة الرسالة، ولا يحتاج إلى كثرة فلسفة ولا عمق فلسفي، فإن الصحابة كان في غالبيتهم قوم من الأميين لا يقرءون ولا يكتبون، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنا أمة أمية) رواه أبو داود وصححه الألباني، ومع هذا كان الدين عندهم من الوضوح والبيان أن يأتي الرجل من أطراف خراسان، أو أطراف بلاد فارس، أو أطراف الروم ويدخل في الإسلام وبعد فترة فإذا عقيدته واضحة ومنهجه بيّن، لماذا؟ لأنه تلقى هذا الدين من الجيل المثالي الذي تلقاه من المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مثل الشمس.

إذاً يا إخواني يجب أن نعتقد أن الدين بنفسه واضح، وأن تمييز الحق من الباطل سهل وبيّن وميسور، ونقصد هنا بالدين بالدرجة الأولى قضايا العقائد، وإلا فقد تغيب بعض مسائل الفقه وبعض المسائل المتعلقة في المعاملات في الفقه على كثير من الناس، لكن معرفة الله عز وجل وأسماءه وصفاته، ومعرفة الجنة والنار، والخير والشر، فميسرة مبسطة، وهي التي عليها الهدى والضلال وعليها دخول الجنة أو النار بالدرجة الأولى.

إذاً هذا الدين بسيط وليس فيه فلسفة ولا تعقيد، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أخذوا الدين على بساطته الأولى، وما دخلوا في تفاصيل المعتزلة والأشاعرة وفلسفة اليونان، ما نشأت عندهم مشاكل لا في القضاء والقدر، ولا ناقشوا: أظالم ربنا أم عادل؟، ما دارت هذه عند الصحابة أبداً، ولما قال لهم ربهم جل جلاله (أدعوني أستجب لكم) [غافر:60] ما قالوا كيف ندعوك؟ مرة فوق ومرة أسفل وإذا نزل من العرش يخلوا منه أو ما يخلوا!! ما ناقش هذا الصحابة، سلّموا فطرهم بقول ربهم سبحانه وتعالى، آمنوا بما جاء من عند الله عز وجل على لسان رسوله صلوات الله وسلامه عليه من غير الدخول في تعقيدات الأسئلة، الآن تأتي تقول لأحدهم: هذا حرام، يقول لك: ما الحكمة في ذلك؟!

إخواني لنتأمل كتابات شيخ الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ونتأمل كتب المعاصرين، تجد المعاصرين إذا أراد أن يشرح لك توحيد الربوبية شرحه في مجلد، ولا تدري كيف دخل، ولا كيف خرج! وكذلك كثير من الشباب يقرءون كثير من الكتب ما يفهمون منها شيء، لكن تأتي إلى (كشف الشبهات) أو إلى (كتاب التوحيد) أو إلى (الأصول الثلاثة) فتجدها كلاماً يسيراً مبسطاً قوياً قائماً واضحاً، لأن كل كتاباته آية حديث، آية حديث، مباشرة، فأقام بها أمة. وأما الآن تسمع كثير من الخطباء ساعة فلا تدري ما هو الموضوع، كما قيل (ينسي آخره أوله)، انظروا حتى في الفقه، انظروا قوة العبارة عند الأولين، اقرءوا إن شئتم (شرح السنة) للإمام البَغوي رحمه الله، يأتي بالمسألة ثم ببقية أقوال الأئمة موجزة قوية، فتخرج بفقه ليس فيه فلسفة العلل.

إخواني لنقدم الدين للناس كما تلقاه الصحابة رضي الله عنهم وقدموه لمن دخل في الإسلام، ما معالم الوضوح التي فيه؟ إذا عجزت عن فهم مسألة فاسأل صاحبك هذا المتفلسف، هل هذه قالها أبو بكر أو عمر أو الصحابة أم لا؟ هذه هي العلامة، وكل أهل البدع حتى الذين يدعون السلفية يهربون من مسألة فقه الصحابة، وإلا كلٌ يدعي الكتاب والسنة، لكن الصحابة هل فعلوا هذا أو ما فعلوه؟

لو جئت الآن أذكر لكم قضية تغيير المنكر أو الخروج، سيأتي هذا ويأتيك بآيات وأدلة.. كلام طويل عريض، لكن قل له: هل الصحابة رضي الله عنهم قالوا بذلك أو لم يقولوا؟ هنا ينقطع وينتهي، لأنه لن يجد عن الصحابة له سند، لذلك ليس بعبث أن يربط النبي صلى الله عليه وسلم الهداية بـ (ما أنا عليه وأصحابي) رواه الترمذي وحسنه الألباني، هذا هو الميزان.

السؤال الثاني لماذا نركز نحن على هذا؟ لأن الذين يذادون عن حوضه صلوات الله وسلامه عليه يقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فصار معيارنا: هل هؤلاء القوم ساروا على ما سار عليه المصطفى وصحابته أم أنهم أحدثوا؟ فيقال (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) قال (فأقول سحقاً سحقاً) متفق عليه، يتبرأ النبي صلوات الله وسلامه عليه من أناس من أمته وهو يعرفهم لمواضع الوضوء فيهم، يعرف أنهم مسلمين ولكنهم انحرفوا.

إذا كان ديننا بهذا الوضوح وبهذا البيان وبهذه البساطة، فلماذا غاب ذلك عن الناس؟ غاب عنهم لسبب مهم وهو أن الناس قد علقوا دينهم في الرجال، فما صاروا ينظرون إلى المسائل بتجرّد، وإنما يقولون هذا الفلان من الناس، هذا الكاتب الفلاني، هذا الإمام الفلاني، هذا المجتهد الفلاني، فعلّقوا دينهم في الرجال، ما علّقوا الرجال في الدين، هذا أساس المشكلة، الآن الواحد منهم ما يقول لك أين الحق؟ إنما يقول: الحق مع فلان أم مع فلان؟! لا والله هذا السؤال خطأ، ليست القضية بفلان ولا فلان ولا علان من الناس، القضية أن نسأل أين الحق؟ والقاعدة المعروفة قول علي رضي الله عنه: (يا حارث اعرف الحق تعرف أهله).

إذاً الآن الذي يأتي ويقول: والله الجماعات كثرت والمناهج كثيرة والمشايخ كثيرين، ماذا أعمل؟ أذهب مع هذا أم مع هذا؟ نقول لا أولاً اعرف الدين، فقد يظهرون لك السلفية وهم ليسوا بسلفيين، وقد تنخدع ببهرج وزخرف من القول غروراً.

آتي لكم بمثال، جرى نقاش في مسألة الصلاة والقيام من أجل الشهداء، فقلنا هذه بدعة، قالوا لماذا؟ هذا أجر وقراءة ولعل الله ينفع بها!! قلنا كم أُسِر من المسلمين عند الروم في وقت الحروب؟ كثير، فهل سمعتم أن أحداً من المسلمين دعا إلى صلاةٍ سماها الصلاة من أجل الأسرى!! ما سمعنا، أما يحبون أسراهم؟ يحبونهم، أما يريدون لهم الخير؟ يريدون، قلت والله ركعتين في جوف الليل من رجل مغمور بالسر يدعو الله عز وجل أنفع من هذا.

إذاً إذا اختلطت علينا الأمور ننظر هل فعله الأولون مع دواعي قيامهم؟ ولذلك كما يروى في مناظرة الإمام أحمد عن خلق القرآن وغيره، كان الكلام هل هذا فهمه النبي ? أو لم يفهمه؟ فقط.

كيف نتعرف على الحق؟ بالعلم، والحق له علامات، وأهله لهم علامات، ترى كل هذه الجماعات والمذاهب لها مؤسسون، وأما المنهج الصواب فمؤسسه هم الأولون من الصحابة والتابعين، عند ذلك صار عندك الآن المعيار، مثل ساعة القبلة تضعها في أي جهة تتجه للقبلة، فأنت لما يكون عندك المعيار في أي زاوية توضع تتجه للأصل.

ديننا يقوم على الكتاب والسنة وفقه الصحابة، فإذا اختلفت مع الناس في الفهم فارجع إلى هذا، واحذر أن تبني بيتك على دين فاسد، ما هو الدين الفاسد هذا؟ أهل الأهواء، لأنهم عجزوا أن يهدموا الدين فدخلوا فيه ولَبَسوه، لذلك لابد من التحذير من كل ما هو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

كنت أقرأ لأحد الناس يقول: لا يغرنك كثرت المترددين على المساجد ولا عدد المسلمين في مكة، وإنما أنظر إلى كتب وأفكار أهل الإنحراف والإلحاد، هل هي منتشرة في البلاد أو غير منتشرة؟ فإن رأيتها منتشرة فاعلم أن فيهم ضعف. أنت الآن فتش في البلاد فإذا رأيت أهل التوحيد بارزين، وأهل البدع منخنسين فاعلم أن الناس في خير، وإذا جئت البلاد فوجدت الموحد مع المبتدع فاعلم أن الموحدين في نوم وخذلان، فهذه قاعدة يا إخواني: (لا تقوم بدعة إلا وتُميت سنة، ولا يرتفع صاحب بدعة إلا على حساب صاحب السنة)، فإذا رأيت المساجد قد تمكن منها أهل البدع فاعلم أن أهل الدين في ضعف، هذه سُنة لازمة، إذاً لابد أن نعرّف الانحراف كما قال حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: (كان الناس يسألون رسول الله ? عن الخير، وكنت أسال عن الشر ؛ مخافة أن يدركني) متفق عليه، لأنه لابد أن نؤمن بالله ونكفر بالطاغوت، إذاً السؤال الذي يسألونه الناس أين الحق؟ نقول الحق مع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان مستناً فليستن بمن قد ما، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) مشكاة المصابيح.

يقول أحدهم: العصر الآن تغيّر؟! نقول بأن العقائد لا تتغير بتغير الزمان، والأخبار لا تتغير بتغير الزمان، ولا تنسخ، ولا اجتهاد فيها ولا قياس، وصف الله عز وجل نفسه بأنه (استوى على عرشه) في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم  وفي العهد قبله عهد آدم، وسيبقى هذا الوصف لازمٌ إلى أن تقوم الساعة.

بعض الناس يقول: أنتم دائماً ترجعون الناس للسلف نحن الآن في عصر جديد؟! نقول صحيح نحن في عصر جديد نناقش البلاتين هل له زكاة، نناقش كيف نصلّي في الطائرة، شيء جديد نناقشه، لكن توجد ملائكة أو لا توجد!! قضية قديمة لا تتغير، ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، يضحك ربنا جل وعلا، كلها أخبار لا تتغير بتغير الأزمنة، إذاً نحن لمّا نقول: علينا بفقه السلف، نقصد بفهم السلف للنصوص هذه، لكن يأتي الآن أحدهم يناقش الصلاة في الطائرة، ما نقول له ابحث عن فتوى لأبي بكر الصديق في هذه! أو يأتيني آخر يريد أن يناقش البلاتين في الزكاة، ما نقول له ابحث فتوى لعمر بن الخطاب فيها! لأنها جديدة، أو جاء الحاكم وقال وضعنا غرامة على من يتجاوز إشارة المرور، هذه يجتهد فيها الفقهاء ويفتوا فيها، وللأسف المسائل الجديدة إلى الآن لم تعط حقها من العناية والبحث والاجتهاد، وتركوها وذهبوا يجتهدون في العقائد وفي الأسماء والصفات والشرك والتوحيد التي لا اجتهاد فيها.

إذاً لما نقول للناس ارجعوا إلى قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة، ما نقول لهم ارجعوا في المسائل الجديدة التي تحتاج اجتهاد، لأن البعض يلبس على الناس بهذا.

فلا بد يا إخواني من تأسيس الميزان، من تأسيس البنيان، ولذلك لماذا ما انتشرت البدع في الصحابة والتابعين الكبار؟ لأن عندهم قواعد يوزنون بها الأمور، فمن وضع الميزان يعرف الحق ويعرف الباطل، بهذا تستقيم لنا بعد ذلك الأمور، فإذا عرفنا هذا وبان، أصبح السؤال التقليدي: مع من أذهب؟ نقول له: اعرف الحق تعرف أهله.

ويجب علينا يا إخواني أن نخصص من أوقاتنا وقتاً أساسياً نتعرف على أصل ديننا، فلا تكفي هذه المحاضرات العامة، وأن نعطي فضلة الوقت لله عز وجل، قد أقام الله علينا الحجة، ووفر لنا الجو المناسب، وهيأ الأسباب، ورزقنا بطلبة العلم، فما عندنا عذر، نلقى الله ونحن ما نعرف الطريق، الآن الإنسان إذا أراد أن يترقى في وظيفته وقالوا له نرسلك إلى بلاد الخارج، تراه يترك زوجته وأولاده مقابل درجة، أما يستطيع أن يأخذ إجازة ليتفرغ لقراءة الأصول الثلاثة وغيرها على شيخ، يتعلم فيه أصل دينه!! حتى على الأقل لا يطرد من الحوض، شربة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم أما تسوى عندنا إجازة شهر نطلب العلم فيها!!

والأمر الأخير يا إخواني أننا يجب أن تكون عندنا غيرة على السّنة، فإذا جاءت الغيرة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وطريقتهم، دخل في قلبنا مقت وبُغض لأهل البدع والأهواء، فإذا دخل هذا في قلبنا تعصبنا للحق الذي وفقنا الله إياه وهدانا إليه، فعند ذلك نكون سبباً في إعلاء السنة، وأما إذا تساهلنا مع غيرنا وتلمسنا الأعذار ليل نهار فلا تظهر السنة.

نحن الآن يا إخواني في عصر قاموا فيه أهل البدع ليل نهار وما استحوا ينشرون بدعهم ويتكلمون فيها، ونحن نأتي نلتمس لهم الأعذار!! نحن ما نقول يُضربون، ولكن ليروا منا أننا نكره هذه الطريقة، ليروا مناشدة وإظهار للحق الذي نؤمن به، حتى يعز الله عز وجل سنته بسببنا، وهذه مفخرة للإنسان أن الله عز وجل يجعله سبباً في إحياء سُنة وإماتة بدعة، هذا هو الجهاد، فليجاهد أهل البدع ليس بالسيف والخروج عليهم، وإنما يجاهدون ببيان أخطائهم وتحذير الناس منها، ويجاهدون ببيان ما هم عليه من انحراف، وليكن ذلك باللطف واللين والقول الحسن، وهذا مطلب شرعي، لأن يا إخواني ليست قضيتنا فقط أن نقول لعَمرو من الناس أنك ضال، لا والله بل من أحب الأمور إلينا أن يهدي الله صاحب البدعة هذا، وقد يكون هو المسكين ما يدري رأى مشايخ ومشى على دربهم، فلعل بدعوتنا إياه ليناً وشدةً ورفقاً وقوةً، يهديه الله عز وجل للدرب.

يا إخواني لنظهر الحق الذي كان ظاهراً في عصر الأولين ونتمسك به، حتى يعرف الناس أن هذا هو الحق، وأما ذواتنا كأشخاص فقد نَقرُب من الحق أو نَبعُد بمقدار ما عندنا من جهد وعمل، فإذا فعلنا ذلك كنا إن شاء الله تعالى من الذين يحيون ما أمات الناس من سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فيكتب لنا أجر إحياء السنة، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً.

 الخاطرة الثالثة

الاعتدال في فهم الإسـلام

     تعلمون يا إخوة بأن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل رسوله ( كان الناس في زمانه وما قبله قد اتخذوا أنماطاً شتى في علاقتهم مع ربهم سبحانه وتعالى، فبعضهم غالى في العبادة، وفرض على نفسه أشياء، وعنده كتب من النصارى، وبعضهم حتى من العرب قد حرم على نفسه أشياء، وبعضهم تساهل في الأمر فأصبح ربه ومعبوده هو ما يصنعه بيده من حجارة ومن تمر، أصبح يحلل ويحرم كما يريد، فيقول هذا الشهر حرام الآن ثم يحله بعد ذلك إذا رأى فيه مصلحة، كأن يرابي كما يشتهي، هذا كان واقع الناس، فأرسل الرب تبارك وتعالى رسوله ( ليأخذ هؤلاء الناس المختلفون الذين اتخذوا طرقاً شتى يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، جاء ليأخذهم ويرشدهم إلى الطريق الصحيح الذي إذا سلكوه وصلوا إلى جنة الله سبحانه وتعالى، وإذا تنكّبوا عنه يميناً وشمالاً فإنهم لا يَصِلون، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد فترة من الزمن خلفَ خلفٌ من الناس ابتلوا بنفس ما ابتلي به الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، عادوا من جديد، واتبعوا سنن من كان قبلهم، وتفرقوا واختلفوا من جديد، وأصبحوا شيعاً وأحزاباً كما كانوا في جاهليتم.

فالآن الأمة التي تسمى بالأمة الإسلامية عندما ننظر إليها نجد أن بعضها قد اتبع اليهود والنصارى، وبعضها قد اتبع الملحدين في الأرض، وبعضها غالى في أمر دينه فتعصب على أشياء ليست من الدين في شيء، وتمسك بأشياء ظنها دين وحارب الناس من أجلها، وهي لا توصله إلى الله سبحانه وتعالى، هذا هو يا أخوة واقعنا الآن، لمّا ننظر فيه نجد هذا حال الناس حتى الدعاة إلى الله عز وجل جاءهم نصيبهم من هذا، فتجد أن كثيراً من الناس الآن ممن يتزيا بزي الدعاة، وممن يتكلم باسم الإسلام، وممن يحاضر باسم الإسلام، فإذا به يريد لهذه الأمة أن تكون والنصارى واليهود أمةً واحدة، وأنه لا فرق، وأن الدين يجمع، وأن كلنا نيتنا طيبة نعبد الله عز وجل، ولكن هؤلاء لهم دينهم ونحن لنا ديننا، ويستدلون طبعاً بنصوص، يستدلون بـ (لا إكراه في الدين) [البقرة:256] و(لكم دينكم ولي دين) [الكافرون:6] ويبقى اليهودي يهودي ولا ننكر عليه، والنصراني نصراني ولا ننكر عليه، ونسعى إلى توفيق الأديان!! لماذا هذا؟ قالوا ضد الإلحاد وضد الشيوعية، والساذج من الناس يصدق هذا الكلام، يقول صحيح النصارى أقرب لنا من الملحدين لأن الله عز وجل أجاز لنا أن نتزوج من نساءهم، إذاً نتعاون مع هؤلاء النصارى ونكون معهم، وقد غفل بأن الله عز وجل قد أباح لنا أشياء منهم ولكنه قد كفّرهم وسفه أحلامهم وبيّن أن هؤلاء على ضلال وأننا لا ينبغي أن نتبعهم، كان يخالفهم ( في كل أمر، النصارى كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنقى وأطهر وأحسن من نصارى هذه الأيام، فعلى الأقل نصارى الأولين كان عندهم غيرة على العرض، كان عندهم بعض الشيمة، وأما نصارى هذا الزمان فما فيهم شيء يذكر من الخير أبداً، حتى البهائم في أخلاقها الآن أحسن منهم، وكذلك اليهود في المسألة البسيطة التي هي من الأمور العادية حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم فيها، لماذا؟ ليربي هذه الأمة تربية صادقة صحيحة أنها لا تتبع أحداً مطلقاً، وإنما تسير على الطريقة التي رسمها لها ربها سبحانه وتعالى.

فإذاً المسلمون الآن وقعوا في ما وقع به العرب واليهود والنصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، تفرقوا واتبعوا الأهواء وابتدعوا رهبانيات، عندنا الآن من مبتدعي الرهبانية الكثير، أليس المتصوفة ممن ابتدعوا رهبانيات كابتداع النصارى، ابتدعوا عبادات وابتدعوا طرق وفعلوا أشياء كلها ما فرضها الله سبحانه وتعالى عليهم، وإنما قالوا: نحن ابتدعناها لتهذيب أنفسنا، كمقولة النصارى عندما ابتدعوا النصرانية.

فإذاً يا إخوة هذا هو واقعنا الذي نحن نعيشه الآن في شرقها وغربها في بلاد العرب وبلاد العجم، هذا الواقع السيئ أفرز نوعين من الناس عند المسلمين: نوع رأى أن الناس قد ابتعدت عن الدين وأنها تساهلت في كل شيء من أمر السنن وما أصبح للسنة سوق رائجة، فهؤلاء تمسكوا بكل شيء وغالوا فيه وجعلوا الأشياء الصغيرة من الكبائر، بل كفّروا عليها، ولذلك تجد هؤلاء الذين غالوا بهذا يتمسكون بأشياء هي من السنة لاشك في ذلك ولكن الغلو فيها ليس من السنة أيضاً، هؤلاء أرادوا أن يقاوموا هذا التيار الماجن المتساهل، فما قاوموه بالسنة الصحيحة، وإنما قاوموه بعكسه وهو الغلو، وهذا ما أمر الله سبحانه وتعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى قريش وإلى الكفار ووجد عندهم هذا الذي نجده الآن، ولكن أراد لنا أن نكون أمةً وسطاً، أراد لنا أن نلتزم ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به، فهؤلاء غالوا في أشياء وتمسكوا بأشياء ونسوا الأصل العظيم الذي من أجله أوجدنا الرب سبحانه وتعالى ومن أجله جاءت الرسل وهو إظهار الحق للناس، لذلك الله عز وجل حَكَمَ على الناس كلهم بأنهم على خسران، ولكن استثنى من هؤلاء طائفة ناجية وهي التي تتواصى كما قال جل وعلا في السورة العظيمة الشأن: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [وقد بسطنا القول في رسالة سميناها (التبصر في سورة العصر).] فالله عز وجل أخبر أن الناس في خسران وهذا واقعهم لأنهم ابتعدوا عن دين الله عز وجل، ولكن ما قال: قاوموا هذا الخسران وهذا الضلال بالغلو وبالتشدد فيه، وإنما قال إذا رأيتم الناس قد وقعوا في هذا الخسران وفي هذا الضلال فعليكم أنتم بالإيمان بالله عز وجل وعليكم أنتم بالعمل الصالح، ثم استثنى الله عز وجل وأخرج من عنده صفة عظيمة الشأن وهي الدعوة إليه سبحانه وتعالى فقال (وتواصوا بالحق) والتواصي بالحق هو الدعوة إلى دين الله عز وجل، لأن الإنسان لما يوصي بالحق وينادي به ويتواصى به ويفعله فإنما هو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما هو يأمر بالمعروف، وقال أيضاً (وتواصوا بالصبر) بمعنى أنهم لابد وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينشرون الدين الصحيح عند الغلاة وعند المتساهلين، لابد وأن يواجههم الناس، لأن الذي يأمر بالحق وينادي به يكون عدواً لهؤلاء الغلاة يظنونه من المتساهلين، ويكون عدواً لأولئك المتساهلين يظنونه جاء بدين جديد، فلذلك الله عز وجل أمر المتمسك بالحق أن يصبر.

فأولاً يجب أن نعرف ما هو الغلو هذا والتطرف الذي يحذر منه ويتكلم فيه الكثير، أقول الغلو معروف وهو الزيادة عن الشيء، والتطرف والتنطع هو الزيادة عن ما أمر الله سبحانه وتعالى به، هذا هو الأصل فيه والرسول صلى الله عليه وسلم  يقول: (إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك الذين قبلكم الغلو في الدين) رواه ابن ماجة وصححه الألباني، يعني الزيادة على ما فرض الله سبحانه وتعالى به، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) رواه مسلم، وهم المبالغون في أشياء ما فرضها الله عز وجل عليهم، يعني أرادوا أن يكونوا متدينين أكثر من الرسول صلى الله عليه وسلم! إذا كان بهذا المعنى فيكون ما نسمعه الآن من إذاعة وصحافة ومتحدثين عن الغلو ليس هذا الذي يُعرف في الإسلام، فالغلو الآن عندهم هو الإلتزام بالسنة والدعوة إلى تطبيقها، الغلو عندهم إطالة اللحى، الغلو عندهم تقصير الثياب، الغلو عندهم أن الإنسان إذا رأى رجل مخالف للسنة وقال له: يا أخي أنت مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، هذا عندهم تطرف، فهذه الكلمة قد فسرت بغير معناها، الآن لما تأتي لإنسان تنصحه في السنة يقول: يا أخي لا تتشددوا في الدين! كلمة نسمعها كل يوم، هذا الإنسان لما يقال له: لا تسبل إزارك، يقول لا تتشدد في الدين، هذه الكلمة ما جاءت منه وإنما من كثرة ما يسمعها من الوعاظ ومن الخطباء ومن المتكلمين ومن المفكرين الإسلاميين، رسخت في ذهنه بأن الدعوة إلى السنة وإلى تطبيقها وإلى العمل بها إنما هو من الغلو ومن التشدد ومن التنطع!! وهذا غير صحيح، التنطع والتشدد هو أن نأتي بسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم فنُلزم الناس عليها ونزيد عليها ونتشدد في تطبيقها، هذا هو الغلو، ولكن أن نأتي إلى رجل مقصّر مخالف للسنة فيُدعي إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أين الغلو في هذا؟! هذا هو الدين.

فالغلو إذاً يا إخوة هو ما زاد عن الحد، وهو ما ابتدعه الإنسان وما أوجده من غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم سواء تفريطاً أو تشدداً، وأما الدعوة إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها ونشرها بين الناس فهذا هو أصل الدين، ولكن لجهل الناس بحقيقة الدين أصبح كثيرٌ من الناس يظن ذلك من الغلو!! لماذا يقال هذا؟ لأن الدعوات المعاصرة يا إخوة ضلت طريقها، هم يردون الوصول إلى تطبيق الشريعة بالمجتمع وإلى أن الكل يسير في هذا الاتجاه، وظنوا بأن الدعوة إلى السنّة والتزامها وتطبيقها يؤدي إلى فرز الناس، وهذا هو الواقع، الدعوة إلى السنة وتطبيق السنة والتزام السنة والتدقيق في صغائر أمور العقائد يؤدي إلى إيجاد أمة ملتزمة وأمة مخالفة، وهذا الأمر هم لا يردونه، قالوا يؤخر قيام الدولة! لذلك تجد كثيراً من المفكرين يقول: يا أخي أنتم الآن مشغولين في قضايا ومسائل صغيرة والناس قد وصلوا إلى القمر، والناس قد فعلوا والناس قد فعلوا!! هذا الكلام أيضاً نسمعه كل يوم، والجواب ما علاقة هذا بهذا؟! ما علاقة أن ألتزم أنا السنة وأن أدعو إليها وأن أكون أيضاً مبرزاً في علوم الدنيا؟! صحيح بعض الذين يغالون حرموا كثير من أمور الدنيا، وهذا من الغلو في الدين، ولكن لا يعني هذا أن نهجر الدين، وإذا رأينا رجلاً ملتحياً ملتزم السنة قد وقع في الزنا مثلاً، فهل نقول للناس: أحلقوا لحاكم لأن هذا قد زنى، لا يستقيم هذا عند العقلاء من الناس، فيا إخوة كون مجموعة من الناس قد حرموا أشياء، لا يعني أننا نهجر الدين ونهجر سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن عشرة أو مائة من الناس قد حرموا دخول المدارس والتعليم مثلاً، الصحيح أن نقول هؤلاء أخطئوا في فهمهم ونحن مأمورون أن نأخذ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نصل بها إلى أقصى الدنيا، هذا هو المفروض، والمغالون أو الذين تطرفوا في فهم الدين هم لا شك يشكلون خطراً على الإسلام ؛ لأنهم ينفرون منه ويبعدون الناس من دين الله سبحانه وتعالى، والمتساهلون أشد خطراً منهم، لأنهم يميعون قضية الإسلام، يظن العاصي بعد ذلك أنه هو المستقيم، وهذا ينشأ لنا في المستقبل جيلاً لا يأمر معروفاً ولا ينكر منكراً، لماذا؟ لأنه قد استوت عنده الأشياء، يسمع رجلاً يشرك بالله ويحلف بغير الله فلا يحرك ساكناً، لأنه لا يعلم من أمور عقيدته ومن أمور دينه شيء، والأمر عنده مستوٍ.

إذاً يا إخوه لا هؤلاء أصابوا السنة ولا هؤلاء أصابوها، لا الذين غالوا هم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الذين تساهلوا أو فرّطوا هم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي على الهدى هم الوسط، وهذه هي سمة هذه الأمة أنها بين الغلو وبين التفريط وسط تسير، كما قال الرب سبحانه وتعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم (عليكم شهيداً) [البقرة:143] شهداء على الناس أي تقيموا الناس، ميزه عظيمة أن جعلها الله أمة وسطاً، يشهدون على الناس يقولون هذا غالٍ خرج عن الجادة، هذا متساهل خرج عن الجادة، هؤلاء هم أهل الطريق، جعلهم الله عز وجل حكم على الناس، لكن الناس ما تقدرها حق قدرها، لماذا؟ لأنهم لا يعرفون قيمة شهداء على الناس، مثل ما تأتي الآن إلى طفل من الشارع وتجعله يحكم على اثنين عقلاء من الناس ما يفهم شيء! هذا أنت جعلته في منزلة عظمى ولكنه جاهل، كبعض الناس الآن يتولى مناصب عظمى من مناصب الأمة ولكنه جاهل، أمة الإسلام الآن هذا واقعها، الله عز وجل جعلها في مرتبة عظمى وهي جهلت هذه المرتبة، الناس الآن قد اتبعوا اليهود والنصارى، فأين عقولهم؟!

يا إخوة الله عز وجل أعطانا هذه الميزة لنحكم على الغلاة بأنهم غلاة، ولذلك الأولين من عهد المسلمين كانوا يحكمون على أهل البدع، كان عندهم وضوح رؤيا، الأولين كانوا ينهون عن مجالستهم، كانوا يقيمون عليهم الحدود ويقاتلونهم، لماذا؟ لأنهم قد علموا أن الله قد جعلهم الأمة الوسط التي تشهد، كان الإمام أحمد بن حنبل يقول لا تجالسوا فلان ولا تحضروا مجلس فلان، وكان مالك رحمه الله ينهى عن مجالسة أحاديث القصاصين ودروسهم، هل كان هذا عبث؟ لا وإنما يؤدون الوظيفة التي أوجدهم الله سبحانه وتعالى من أجلها وهو أن يكونوا شهداء على الناس، أن يقولوا هذا مصيب وهذا مخطئ، لأنه إذا انعدم الشاهد وإذا انعدم الحكم ضاعت الأمور، وما جعل الله عز وجل الحُكم أمام واحد ولا اثنين كما هو عند بقية الطوائف لا، وإنما جعل لحكم الأمة كلها إذا التزمت طريق الله عز وجل، والذي يكون شهيداً علينا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو يقرر أن حكمنا هذا صواب أم خطأ، صفة ومكانة ومنزلة عظيمة، ولكنها جاءت إلى قوم ما قدروها حق قدرها.

يبقى السؤال: لماذا الناس انحرفوا عن الطريق الصحيح؟ والقرآن يقرؤونه ليل نهار، والقرآن يدلهم كما قال الله عز وجل: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [القمر:17] ويقول: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد:24] معناه أن أي واحد يتدبر القرآن عنده قليل فهم يستطيع أن يفهم معظم الأمور، فلماذا ضل الناس الطريق وما أخذوا بالسمة الأساسية وهي الإعتدال؟ الذي يلاحظ أن هناك واقعاً سيئاً عمل أعداء الإسلام جهدهم الطويل في إيجاده، فما استطاع الناس أن يتعاملوا مع هذا فغلوا في دينهم، وهذا ليس بعذر لهم، لأن الواقع المر لا يعالج بالعاطفة، وذلك لما تكون أنت قاضياً ما تحكم بعاطفتك، ما تحكم إلا بما يظهر عندك من أدلة تعقل، هكذا يجب أن تكون هذه الأمة، صحيح أن الواقع سيء، لكن هل ردة الفعل أن نأخذ نحن بعكسها وهو بالغلو؟! لا وإنما السبب الأكبر - في تصوري - هو الجهل بالدين الصحيح.

قد يقول قائل: كيف يجهلون الدين وهم محاضرين ومتكلمين وخطباء ويؤلفون كتب ومجلدات؟! أقول هذا من إحسان الظن بهم، لأننا لو قلنا يعلمون فينحرفون عن علم لكانت كبيرة، لكننا نحسن الظن ونقول أوقعهم في هذا جهلهم بالدين.

لو نرجع إلى الوراء قليلاً ماذا نقول في عقلية ابن سينا أو الرازي أو ابن الفارض أو ابن عربي؟ تقرأ كتبهم فإذا بهم عباقرة، ولكن الآن تأتي بعجوز من المعاصرين ما تفقه شيء وتعرض عليها ما قالوا تقول: لا يقول هذا إلا مجنون، يكون الرب والإنسان واحد!!! لا يستقيم، لأن الفهم في الدين هذا توفيق من الله عز وجل.

ولو أتينا إلى هؤلاء الذين وصلوا إلى القمر وصنعوا لنا كل ما نشاهد، تجد عقولهم أدنى من عقول البهائم في التعامل، اليابان وهي الآن في قمة التقدم تجد أحدهم بعدما ينتهي من عمله يذهب إلى بوذا فيعبده!! أين عقول هؤلاء الناس؟! كيف نتصور أن هذا العاقل العبقري الذي صنع كل هذه الدنيا، هو في المساء يذهب إلى حجارة فيركع لها ويسجد! هل هذا مجنون؟ لا والله عاقل ولكنه أخطأ الطريق.

لا نظن إخواني كوننا أقل من فلان علماً أن طريقه صواب لا، كما قال علي رضي الله عنه: (اعرف الحق تعرف أهله)، فالحق لا يقدّر بالناس وإنما الناس يقدّرون بالحق، فالجهل في الدين هو الذي أوقع الناس فيما هم فيه، تسمعه يحاضر عشر ساعات ويؤلف كتب ولكنه جاهل بأصل الدين، لماذا؟ لأن المشكلة أن الدين يقوم على التسليم لله عز وجل، ويقوم على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قد جعل الدين يقوم على ما يدخل في عقله هو!! لذلك إذا جاءت الآية تخالف عقله أوّلَها ولفّها يميناً أو شمالاً، لأنه قد جعل عقله الذي ظنه كبيراً حكماً على فهم النصوص.

المفتين الآن والمنظرين حتى الحكم بغير ما أنزل الله تجد من يأتي بأدلة أنه جائز! كيف نفسّر هذا؟ نقول هذا كله جهل بالدين، كما قلت إن أحسنا الظن، عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ يقول لك: لا الرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد هذا المعنى وإنما أخذها على قدر عقلها! يعني ضحك عليها!!

حتى نخرج يا إخوة من الجهل هذا، ليس لنا من طريق إلا أن نتعلم الأصل العظيم وهو أننا عِباد لله عز وجل، ومعنى عباد أننا لا يمكن أن نفهم هذا الدين أو أن نطبّق هذا الدين إلا كما طبّقه الأولون، هذا هو المخرج من هذا الضياع الذي نحن فيه، لو نبحث يميناً أو شمالاً ونجمع عباقرة الدنيا لن نخلص بشيء، وإنما سنخلص إذا سلّمنا الأمر لله، وأصبحنا كما قال الرازي: (أتمنى أن أموت على دين العجائز) لماذا؟ لأن دين العجائز أصله التسليم، فالأصل يا إخوة في هذا الدين هو التسليم، إذا سلمنا لله عز وجل وآمنا به سبحانه وتعالى وأطعناه في ديننا وما جاءنا من الله عز وجل وما جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم، عند ذلك ترتاح نفوسنا، ونسلك الطريق لا غلاةً ولا مفرطين، لأن هذا دين الله عز وجل ونحن عبادٌ له مهما نحسن في ظننا، ألا ترون لو أن رجلاً واصل صيام الليل مع النهار مجتهداً يريد الخير، لكنه آثم! لماذا؟ لأنه أساء الطريق، فالجهل في الدين جر الناس إلى تسهيل البدع، وأصبحت البدعة والسنة سواء عندهم، وأصبح كل ما قلت له: بدعة، قال: ما فيها شيء يا أخي نتألف قلوب الناس، والناس الآن ضلوا، تقول له: يا أخي لا تسمع الأناشيد، يقول: أحسن من الأغاني! تقول له: لماذا تعمل عيد ميلاد في بيتك؟ يقول: أمرنا أن نرضي العوام! أقول: ما أمرنا أن ننزل الدين ليساير الناس، وإنما أمرنا أن نرفع الناس كلهم ليسيروا في ركب الله عز وجل، هذه وظيفة الدين، وظيفة الدين أن يأتي للشتات من الناس فيجمعهم على طريق واحد، ولذلك قلنا مراراً، لا يمكن لهذه الأمة أن تجتمع وأن تسلك طريقاً واحداً إلا إذا سارت على نهج الله سبحانه وتعالى، لا تجمعها لا الطرق ولا المذاهب ولا العقائد ولا شيء، بل تسير على منهج النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل يقول: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران:31] هذا هو الطريق، ويقول: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً) [النساء:65].

لذلك أحد المفكرين الإسلاميين يقول: المصيبة أن كلنا ندخل للإسلام أو للقرآن ونريد فهمه، وفي أذهاننا معلومات ونريد أن نكيّف النصوص وفقها، والأولى أن نكيّف ما في أذهاننا لتوافق النصوص.

هذا هو الذي ضيع الناس الآن أن في أذهانهم أشياء ورثوها وفي عقولهم معلومات يريدون أن يجبروا الدين ليوافقها، والعكس هو الصحيح أننا نلقي ما في قلوبنا وما في عقولنا ونسير كما أراد الله سبحانه وتعالى.

إذاً يا إخوة مخرجنا لنفهم الإسلام ولتقام به دولة الإسلام هو العودة إلى ما كان عليه الأولون أحمد والشافعي ومن قبلهم ومن بعدهم من أئمة الهدى رحمهم الله، إذا سرنا على هذا النهج نصل، ولكن إن اتبعنا ابن سينا والرازي والغزالي أو ما شئت من الناس والمذاهب فلن نصل إلى شيء، بل سنبقى أمة ضائعة، حتى لو جاء من يحكم باسم الإسلام فلن يحكم باسم الإسلام الذي أراده الله عز وجل، لماذا؟ لأنه سيحكم بما عنده من مذاهب ومن طرق، وإنما الذي سيحكم بالإسلام الصحيح هو الذي يدعو إلى إسلام الصحابة والتابعين.

فإلى دعاة الحكم الذي يريدون للإسلام أن يحكم، نقول لهم إذا تريدون إسلام محمد بن عبدالله ( فتعلموه أولاً، وعلموه الناس، والتزموه، ثم بعد ذلك يُحكم به، وأما إذا كان نريد الحكم بالإسلام شعائره فقط، فهذه قد تحصل ليس ببعيد أن يأتي يوم تلغي هذه الدول قوانينها وأنظمتها من رأسمالية واشتراكية إلى الإسلام، ولكن ليس الإسلام الذي أراده الله عز وجل، وإنما الإسلام الذي يريدونه هم، لذلك نحن نقول لابد يا إخوة أن يظهر للناس ما هو الإسلام الذي نزل من عند الله عز وجل، وما هو الإسلام الضائع الضال المنتشر الآن في الغرب، لابد أن نعلّم الناس إسلام الأولين إسلام الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة الهدى رضي الله عنهم، فإذا استطعنا أن نفعل هذا نكون قد أظهرنا دين الله عز وجل، وهذا هو الذي ينبغي أن تقام الدنيا من أجله، وهذا الذي ينبغي لأهل التوحيد، لمن عقل التوحيد أن يظهره بين الناس، لأننا سنكون شهداء وسنسأل عند الله سبحانه وتعالى، فلنعد الجواب.

 الخاطرة الرابعة

من أين نبدأ الدعوة؟!

     أحاول في هذه السطور أن أبين أمراً مهماً أرى أنه من اللازم بيانه وتفصيله، وذلك حتى نلقى الله عز وجل على بصيرة من أمرنا، وحتى يوفقنا الله عز وجل فيستخدمنا سبحانه وتعالى عبيداً دعاةً لإعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله (.

هذه القضية هي كيف يُدعى إلى الإسلام؟ هل العمل الذي يدعى إليه فردي أم العمل هذا جماعي؟ هل نبدأ بسب القائمين على الدنيا؟ أم بسب الكفر والكفار؟ هل نبدأ بمظاهرات وصخب؟ أم نبدأ بقراءة القرآن وتدبره؟

كيف يؤتى بهذا الإسلام ليكون هو السائد في هذه الساحة؟ وهل الذين لا يرغبون أو ظاهرهم لا يريدون الإسلام هم حقيقة لا يدينون لله عز وجل أم أن الأمر فيه تلبيس مطروح في الساحة الإسلامية؟!

الآن شعارات كثيرة، شعارات لإعلاء الجهاد، شعارات لحرب الطواغيت، شعارات لإقامة ثورات وانقلابات، هذا مطروح في دين المسلمين اليوم! ويطرح مقابله أيضاً شعارات الهروب من الواقع، يقولون نحن لا شأن لنا نكتفي بصلاتنا وعبادتنا فقط! فأين الحق في هذا؟ هل الحق في هذه الرعونة وهذا الهيجان الشعبي العام المتمثل بالخطباء وسب ومنابر؟ أم الحق في ذلك الذي يصلي ويصوم ويزكي ولا يضره بعد ذلك صلحت الدنيا أم خربت، على قاعدة باطلة فهمها هو، في قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) [المائدة:105].

لا شك هذه القضايا تحتاج إلى تفصيل طويل ولقاءات متعددة يفصل فيها الأمر، ولكني أحاول أن أبسط الأمر ما استطعت وأقرّب وجهات النظر.

نحن نعلم بأن هذه الدعوة -كما قلت مراراً- أنها عبادة، مثلها مثل الصلاة والصيام والحج، لها حدود ولها ضوابط، ونحن نعلم بأن المجتمعات الإسلامية الآن قد ابتعدت عن دين الله عز وجل في أمور كثيرة، وأهمها أمور التسليم المطلق لله عز وجل، الناس الآن حتى الذين يصلّون ضَعُف عندهم التسليم المطلق لله الذي هو أهل العبودية، وعند العامة إذا جاءهم أمر من الله قالوا: لا نستطيع أن نفعل هذا، لا هذا صعب، هذا تشدد في الدين، وليس عندهم التسليم (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [الأحزاب:36] فهذه الآية عند عامة وكثير من المسلمين غير معمولٌ بها، وليس معنى هذا أنهم ردوها لا، وإنما ابتعدوا بواقعهم وابتعدوا بنفسياتهم عن فهم كتاب الله عز وجل وعن فهم دين الله سبحانه وتعالى، فلذلك تجد أن الناس يعبدون الله لا كما يريد الله، وإنما كما يريدون هُم، وهذا يشكّل قطاعاً كبيراً من الناس، فإذا انضم إليه قطاع المثقفين وقطاع القُرّاء، ومن عنده علم منهم تجده يقول: إن المذاهب الفقهية وإن الإسلام بحر يسع كل هذا، فمن هذا تَرى بعض المفكرين المشهورين يقول في كتاب له: إنا إذا أتينا للغرب نجد أن المرأة هناك لها قيمة، المرأة هناك تدير أعمالها بنفسها تعقد بنفسها.. إلى آخر كلامه عن حرية المرأة الموجودة في الغرب، فيقول: نحن إذا دعونا هناك فليس من الواجب أن نأتي برأي أحمد ومالك إذا كان عندنا رأي لأبي حنيفة أو غيره بما يوافق واقعهم!!

بمعنى أننا نرفع الإسلام الذي يوافق المجتمع العصري، فتوسعنا الآن في دائرة المجتمع الإسلامي حتى أصبحنا نبحث عن إسلام يوافق هذا المجتمع الغربي المنحرف، إذاً هذا هو واقع الناس وهذا ملخصه.

نحن عندنا أصل هو البذرة وهي الأسرة والفرد الواحد، فهذا الفرد يكون عبد لنفسه أم عبد لله؟ هذا هو الجوهر، ليس جوهر القضية الآن هل تقام الحدود أو لا تقام؟ هل تحكم امرأة أم يحكم رجل؟ ليس جوهر القضية الآن أن هناك وزراء يسرقون أو وزراء لا يسرقون؟ حرية الصحافة وما هي حرية الصحافة؟ هذه كلها توابع، إنما جوهر القضية الآن هل يُعبد الله عز وجل كما يريد الله أم كما يريد الفرد نفسه؟ إذاً البداية تبدأ في الفرد الواحد، هذا الواحد قد يكون غنياً، وزيراً، عادياً، صعلوكاً، وهذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مع قريش، ما سمعنا أنه وقف على المنبر وقال: أنتم لصوص، وأنتم تأكلون أموال الناس بالباطل، أنتم كذا! ما سمعنا هذا، وإنما بدأ بالآحاد من الناس، يأتي للشخص يعلمه كيف يعبد الله عز وجل، فإذا تعلم هذا الشخص علّم أسرته، فأصبح الأفراد أسر، وأصبحت الأسر أمة.

إذاً عندنا اتجاهين: اتجاه جربناه الآن من دنيا المسلمين، وهو ما يسمونه بـ (أسلمة الأمة) يعني تصبح الحكومات والقوانين والأنظمة والأشياء كلها مسلمة، ولكن كيف وضع الإسلام هذا؟ لا يدرون، ما هو معيار هذه الأسلمة وما حدها؟ لا يعرف!!

نحن نقول الصحيح أن نبدأ بالأسرة وبالشخص، يربى هذا الشخص على لا إله إلا الله، على ألا يعبد إلا الله، ويربي أهله وأسرته على ذلك، وهكذا تبدأ الدنيا، فإذا عرفوا العبودية التامة لله عز وجل وعرفوا أنه لا معبود إلا الله وحده سبحانه وتعالى ولا خالق ولا رازق إلا الله إلى غير ذلك من الأمور، فعند ذلك يكون هؤلاء الناس هم النواة الأولى التي تطبق دين الله عز وجل كالصحابة رضي الله عنهم، الصحابة كانوا لا شيء ثم تجمّعوا آحاداً من طبقات المجتمع، من كباره وصغاره، من عبيده وأحراره، فشكلوا الأمة، هذه الأمة تشكلت وكونت الجيش الذي فتح العالم ونشر الدين.

إذاً المرحلة الأولى تكون من أنفسنا، فلنتعلم الإسلام، وأن يدفع كلٌ منا نفسه وبمن حوله عن النار، هذا هو الهدف الأكبر، فنحن لماذا نسعى للدعوة إلى الله عز وجل؟ لماذا نسعى لأن تقام الحدود؟ لماذا نسعى لإقامة العدل؟ لماذا نسعى لأن يعبد الله عز وجل؟ لأجل قضية واحدة وهي أن ننجي أنفسنا من النار، وأن يكون ذلك سبباً لدخولنا الجنة.

لمّا يرسخ هذا في عقولنا وفي قلوبنا ما نهتم بما يقوله الناس، لأن البحث صار أنفسنا، وهل هذا يقربني إلى الله خطوة ويباعدني عن النار أو العكس؟

إذاً الأساس الأول الذي يجب أن نشتغل به هو هذه الأسرة، عند ذلك إذا وضح ذلك عندنا ننتقل إلى ما بعده، فالذين قالوا لا علاقة لنا بشيء فكرهم هذا فكر فاسد، لأن الإنسان مفتون ما لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن كيف تقوم الأمة؟ جرب المسلمون طريق أوصلهم إلى متاهات، قلدوا فيها الشيوعيين والباطنيين وأوجدوا خلايا لا يعرف أولها من آخرها، هذا الأسلوب جُرّب في بلاد المسلمين فدمرهم، لماذا؟ لأن هؤلاء انتقل الصراع عندهم من صراع إسلام إلى صراع كرسي، ولذلك ضيعوا قضيتنا، هل الشعوب شعوب مهيأة بأن تطبق على نفسها حكم الله عز وجل؟ أنا أقول أن الشعوب إلى الآن بحاجة إلى تربية، والدليل على ذلك أنهم بإمكانهم أن يتركوا الربا وما تركوه، وأكثر المرابين من المصلين وكثير من يفعلون الحرام من المصلين، إذاً الشعوب بحاجة إلى علم، وبحاجة إلى جهد، فتحويل الإسلام كله إلى إسلام صراع مع السلطات ضيع على المسلمين فترة التربية، فما أصبح المسلم يعتني ببيته ولا بجيرانه ولا بأهله ولا فيمن حوله، يربيهم على لا إله إلا الله، بل هو نفسه صار الآن لا يعرف الإسلام، بل إن من الدعاة الكبار لا يعرف ما هو الإسلام، تقرأ كتبه فتخرج بقناعة أن هذا الرجل لا يعرف شيء في الإسلام، وقد يكون هذا الكلام مستغرب لكن الإسلام أصله ما تم على السمع والطاعة، والاستسلام والخضوع والطاعة لله تعالى سواء وافق عقلنا أم خالف، مفكري هذا العصر منهم من يرون أن نرد أحاديث في البخاري ونرد أحاديث في مسلم لأنها ما وافقت ما نتصور!! فصار الإسلام الآن ليس الإنقياد المطلق لله وإنما هو ما وافق عقولنا وأهوائنا، ومثله كثير من المثقفين بل من المشايخ فكيف من العامة!

هذه التظاهرات العامة وهذه المداخيل الحلزونية المعقدة في التنظيمات ضيعت على المسلمين فرصة التربية، فما انشغلنا لا بتصحيح الإسلام مما شابه، ولا بالتربية عليه من إنشاء أجيال محبة للإسلام، كثيرٌ من الناس الآن من الصوفية وغيرهم، بل من دعاة الإسلام بل من المشايخ الكبار يحاربك ويعاديك من أجل رجل أو وليٍّ زعم، قد ضيعتها جماعات المسلمين بالانشغال في هذه الحلزونيات، ثم احسبوا كم قدمت الجماعات الإسلامية من التضحيات المادية والبشرية؟ مقابل لا شيء! لماذا؟ لأن أول أصول الدين هي النصيحة وليس الخديعة، حتى الوصول للحكم لا يكون إلا بالنصيحة لا بالخديعة.

إذاً الذي ضيع المسلمين أنهم تركوا الطريقة الأولى الصحيحة وهي بناء الأسرة، الأسر العابدة لله، ثم الحي العابد لله، ثم القرية العابدة، ثم المدينة، هذا ضُيّع أصله، فلابد من العودة له، الثاني أنهم شغلوا في تنظيمات حلزونية، ما يعرف أولها من آخرها وأكثرها باطنية، فهل نقول أن الفوضى تصلح؟ الجواب لا، نحن نقول أن أصل التنظيم والترتيب الشرعي موجود، المسلمون أول مَن عَرف دار الأرقم، وأول من عرف السرايا، وأول من عرف البحث وتنقيح النقل العلمي، وأول من عرف هذا التقنين هم أهل هذا الدين، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة إذا سافروا لابد أن يكون عليهم أمير، ونرى الآن في نظام المجاميع الأجنبية في السياحة عليهم أمير، ولكن يسمونه رئيس المجموعة، الكل يلزم أوامره وينفذها، ألزمتهم الضرورة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا كان هذا في السفر ففي العمران ومصالح الناس أولى)، الأمير يقرر متى يقف الركب ومتى يتحرك، إذاً التنظيم بهذا المعنى الشرعي موجود ومطلوب وننادي به وندعو إليه، وما من أمة على وجه الأرض إلا وتريد إنشاء عملٍ منظم، فالشركات لها نظام، والأندية لها نظام، نظام بيّن واضح.

إذاً لابد أن يكون البدء في ترتيب، الأسرة المسلمة، فالحي المسلم، فالقرية المسلمة، فالمدينة، هذا انتشار طبيعي، لكن على هذا لابد أن يكون للمسلمين نظام يجمعهم ما يكونون فوضى، لكن نظامهم لا يقوم على الخديعة ولا على كره أحد ولا على البغضاء لأحد، وإنما نظامهم هذا أن يجعلهم يجتمعون فيُنشون صناديق للزكاة يعينوا المحتاج، يسعى أدناهم لخدمه أعلامهم، هكذا تسير الأمور، وهذا الذي يجب أن يكون، فإذا تحقق الأول وهي الدعوة إلى الأسرة والأكبر منها وعاش المسلمون، ثم نظّم المسلمون أحوالهم ؛ أصبح بعد ذلك لهم وضوح رؤية، والآن الدنيا صارت تكتلات، النصارى الآن حتى في بلاد المسلمين عندهم اتحاد كنائس، عندهم اتحاد شركات، والباطنية كذلك، فلماذا يحرم ذلك على أهل الحق؟! وهذا ليس بسر بل يعلن حتى في الصحف، تنظيم دروس، تنظيم محاضرات، تنظيم لجان زكاة، تنظيم بناء مساجد، ليس في الأمر سر، وإنما الشيطان لبّس فجعل أهل الدين يخافون وأولئك يتربصون بهم، وكل هذا جاء من الشيطان، إذاً الفوضى لا تجيد عمل، وهذا جربه حتى أهل اللعب فوجدوه حقيقة، الدين أولى والدعوة أولى.

إذاً ملخص الأمر أن الذي يجب أن يُدعا إليه هو أن يكون هناك نظام ولا تكن فوضى، أن يكون هناك استفادة من الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل هذا، جعل يوم للنساء ويوم للرجال في تنظيم الدروس، نظم السرايا، ابن مسعود نظم دروس وحلق العلم هذا لا يختلف عليه أحد، إذاًً لو توسع هذا ونظمت أعمال وشركات ومصالح للمسلمين، لو توسع هذا وأجريت لهم مدارس خاصة تربي أولادهم على عقيدة التوحيد، ما الذي يمنع من هذا؟ وأما أن أكون أنا أفعل ما أشاء، وأدرس وقت ما أشتهي، وهذا يفعل كذا وهذا يفعل كذا، فسيبقى المسلمون يدورون في مكانهم لا ينتجون أمة ولا يتقدمون خطوة، كما هو الحاصل في دنيانا الآن، انقسمنا بين من حرّم كل شيء، وبين من دخل في دهاليز لا يعرف أولها من آخرها.

الإسلام دعوة مكشوفة ليس فيها سر، دعوة يدعى بها السلطان، ويدعى بها الظالم، ويدعى بها الحقير، ويدعى بها الغني، كل واحد يدعى بهذه الدعوة، إذا قَبِل الدعوة فلله الحمد والمنة وحده، وإذا لم يقبل فمعذرة إلى ربكم، هذا الذي علينا، فلابد أن تكون أمور الدعوة واضحة، وعند ذلك لا نخاف من عرّفها على الناس، لأن ليس بها سر، ليس بها خديعة، ليس بها نية فساد،  ليس بها نية انقلاب، ليس بها نية اغتيال لأحد، وإنما نقول للناس تعالوا قولوا لا إله إلا الله حقيقة، وطبقوا الإسلام في بيوتكم، فإذا وصل الأمر في الأمة أن كانت هي مسَلِّمة فستتغير الأحوال لا محالة.

إذاً ملخص البحث أنه لابد أن تأخذ بالأسباب، ومن أسباب القوة في هذا العصر أن ننظم أنفسنا وننظم جهودنا ونستفيد منها، ونحن إلى هذا ندعو، لكن على أن يكون هذا مثل الشمس من الوضوح والبيان، ونعود من جديد إلى الأسرة وإلى البيت.

الدعوة في البيت:

الأمة الآن تتقدم نحو الدين في جزء ولكنها في أجزاء أخرى وقضايا أخرى كثيرة تتخلف عن قضايا الدين، ذلك أن الدعوة إلى الله عز وجل الآن منتشرة في خارج البيوت، والعلم منتشر في المساجد مع الأخوة ومع الأصدقاء وفي الرحلات، ولكن البيوت مغزوة من غيرنا، فبيوت المسلمين حتى الدعاة منهم إلى الله عز وجل مغزوة إما من جيران سوء وإما من تلفزيون، وإما من صحف، وإما من خلطة أولادنا مع أولاد غيرنا وأولاد أقاربنا ممن ليسوا قد التزموا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله عز وجل إياه، وفضلنا على كثيرٍ من خلقه، لأنها نعمة عظيمة أن يوفق الإنسان لأن يكون مهتدياً على منهج السلف، لا يدرك الإنسان قيمتها إلا إذا عرف نتيجة من كان على غير هذا الطريق، الذي على غير هذا الطريق يصلي ويصوم ويجتهد ويقدم القربات إلى الله عز وجل، ولكنه المسكين ما يستفيد منها شيء ؛ لأنه قد خالف الدرب الذي يوصله إلى الجنة، فأهل هذا الطريق وأهل هذا المنهج وفقهم الله عز وجل لهذا منحة منه، لا ذكاءاً منهم، ولا أنهم من تربة غير تربة الناس، فهم مثل غيرهم، لكن أهل التوحيد مغزوون ومستهدفون خاصة وأهل الإسلام عامة.

أقول يا أخوة علينا أن ننظر في تقدم المسلمين الآن، نجد أن المسلمين من حيث العموم تأثيرهم يضعف في كثير من قضايا الحياة، لماذا؟ لأن الدعوة الآن ما هي مركزة في الأسر والبيوت، عدد كبير من الدعاة إلى الله عز وجل يهمل هذا الأمر فكيف من العامة! وأما الأولين في عهد الصحابة والتابعين كان في بيوتهم مصليات، لماذا؟ ليرتبط الإنسان بربه وبالطاعة، عائشة رضي الله عنها كما في حديث مسلم كانت تنظف وتطيب هذا المصلى الذي في بيتها، أم سلمة رضي الله عنها لما أرادت أن تتخذ مصلى جاءت بالنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي في هذا المكان، وغير ذلك كثير، فبيوت الأولين كان فيها زوايا للعبادة، أما الآن فكثير من النساء ومن الأطفال بل من الرجال من يصلي أمام التليفزيون! يصلي وصوت الراديو يعمل! يصلي وضجيج هذا يتكلم وهذا يتكلم! فكيف يحصل لهذا الخشوع في صلاته؟! كيف تحصل له الثمرة من صلاته؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الرجل ليس له منها إلا ما وعى، قد يتقنها على السنة ولكن لا يعيها قلبه.

إذاً يا إخوة علينا أن ننظر كيف نعيد الأمر فنرجع الوضع إلى أصله وهو أن نبدأ بالأهل، لأن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) [التحريم:6] (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء:214] والقاعدة المعروفة: الأقربون أولى بالمعروف، فإذا كان الإنسان عنده دينار يتصدق به على الغريب فعلى أهله له أجرين، فلا شك أن دعوة الأهل آجر من ذلك بكثير، فلا بد إذاًً أن نعيد الدعوة إلى البيت، وأن يكون في البيت علم، وحتى الذي ما عنده علم فالأشرطة والمسجلات كثيرة، يأخذ له شريط ويجمع عائلته الأم والزوجة والأولاد ويقول تعالوا اليوم نسمع لهذا الشيخ، هذا في المكان الذي خصص بمصلى البيت أو بالمكتبة مثلاً، يعوّدون على سماع العلم، نعوّد المرأة على أن تقضي وقتها تسمع القرآن وتسمع الأحاديث، فعند ذلك الأولاد ينشئون نشأة تختلف عن النشأة الموجودة الآن، رأيت كثير من أبناء إخواننا لما تأتي تسأله في أمور الدين وهو ابن ثلاثة عشر أو أربعة عشر تجده ما يفهم شيء، ولما تنظر إلى حال الوالد فإن الوالد من الدعاة، معلومات الولد عن الدين هي الذي تؤخذ من المدرسة، وكذلك بعض النساء تسأل أسئلة سخيفة وزوجها من إخواننا، معنى هذا أن زوج هذه المرأة ما يعلمها شيء من الدين! إذاً لابد أن نعطي أهلنا وقت، ما هو وقت للجلوس والضحك واللعب – وهذا مطلوب - وإنما وقت للتعليم وللتعلم، ولأن لا تكون بيوتنا كالمقابر خربة، وإنما يتلي فيها القرآن وتقرأ فيها الأحاديث ؛ فتنشأ في البيوت حلق تعليم رياض الصالحين، نعلمهم فقه السنة، تعلم المرأة أولادها أمور الدين، فإذا جاء الغزو في المدارس فإذا الأبناء عندهم مناعة، إذا جاء الغزو في التلفزيون فإن الجميع يعرفون الحلال من الحرام فيه، فعند ذلك تكون الأمة مطعمة ومحصنة ضد هذا الغزو الذي يأتي من كل مكان، والمعروف بأن الإنسان إما داعي وإما مدعو، إما مؤثر وإما متأثر، لا يوجد ثالث، لأن الآن لو أتينا لأحوال الناس تجد إما من العصاة الذين لا يعرفون شيئاً من الدين، وأما من أهل الدين والإستقامة، ينتظر الصلاة بعد الصلاة ويصوم ويفعل الطاعات، هذا المرابط إذا لم يتحرك يفتر بل يموت، كما قيل (حبس الجندي عن الغزو؛ قتلٌ له) فالمسلم كذلك إذا حبس نفسه – رجل كان أو امرأة - وما غزا في سبيل الله عز وجل، وما اجتهد لنشر الدين ؛ يموت ويتغلب عليه الشيطان، لأنه مغزو من شياطين الإنس والجن، فلا شك أن الجالس يُهزم، لكن الغازي يهرب منه الشيطان.

فنحن إذاً مطالبين يا إخوة أن نتحول من قوم قد رابطوا وفعلوا الخير لأنفسهم، إلى قوم يغزون معاقل الشيطان، عند ذلك تصير المرأة داعية والوالد داعياً والولد داعياً والأمة كلها داعية، فلما يأتيها غزو فكري أو تأثير أجنبي ما يجد لها مدخل، وهذا هو التوسع الحقيقي في الدعوة – كما بيناه -، وأما التوسع الذي يأتي من أعلى فتعرفون أنه توسع فاسد لا يخدم في شيء.

إذاً نحن أخذ الله عز وجل علينا العهد في أن نكون له عباداً، وأن هذه العبودية أكبر شيءٍ فيها أن ندعو إلى الله عز وجل، وأن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، فعلينا أن نبدأ في بيوتنا، الذي لا يعرف القراءة يسمع الشريط، والذي لا يفهم ما يقرأ يذهب إلى إخوانه يفهمونه، ثم يكون في كل بيت مكتبة صغيرة، والمكتبات ولله الحمد قد ملأت البيوت، ولكن لا يستفاد منها كما ينبغي، ما من بيت إلا وفيه كتب قد حتى الإمام أحمد بن حنبل ما حصل عليها، لكن الفائدة قليلة، لأنها لا تستعمل ولا تستغل، أما إذا علمت المرأة كيف تستخدمها وعلمت كيف تستعمل الشريط، وعلمت أنه إذا أتاها من يزورها من النساء أن تغير مجلس الغيبة والنميمة وأكل أعراض الناس إلى مجلس قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، فستكون عند ذلك الأمة أمة متعلمة، أمة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، الآن ما تستطيع يا أخي أن تعزل أهلك عن المجتمع، لو تزوجت بأتقى من على وجه الأرض لابد أن تلتقي مع العاصيات من النساء، هذا واقع نعيشه، لابد أن نسمع شيئاً مما يدور في هذه الدنيا، لكن يجب أن ندفعه بالعلم.

بعض الناس يقول: لو جلسنا في بيوتنا كيف ندعو في الخارج؟ وكيف نجتهد؟ نحن نقول: لابد من الموازنة، لأن الأصل يا إخوة والقصد من الدعوة هو تحصيل الأجر، فكل ما نفعل من أعمال هي إنما نرجو أن يتقبلها الله عز وجل فيدخلنا الجنة، هذا هو القصد عند المسلمين وعند الموحدين، إذا كان الله عز وجل الذي أمرنا بالدعوة إليه وأمرنا بعبادته وأمرنا بالقيام هو قال لابد أن تبدأ الدعوة بأهلك، وقال لنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها) متفق عليه، وأخبرنا سبحانه وتعالى بأننا مأمورون في وقاية أهلنا من النار، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً). لكن المحظور هو أن يجعل الإنسان الجلوس في البيت ذريعة إلى ألا يحضر مجالس العلم! ولا يحضر مجالس الطاعة! ولا يجتهد مع إخوانه! ولا يزور أحد ولا يتحرك! بحجة الإنشغال مع الأهل، هذا تفريط وذاك إفراط، والمسلم مأمور بالإعتدال، الوسط هو أن نعطي ما علينا من التزامات في مجتمعنا ودعوتنا، وأن نعطي ما لأهلنا علينا من حق، بهذا يستقيم لنا الطريق وتسلم لنا قضيتنا، التي هي أن نوجد المجتمع المسلم الذي تكون فيه كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فلا نترك الدعوة بالخارج والاجتهاد وطلب العلم والجلوس مع إخواننا، ولا أيضاً نترك أهلنا فلا يعلمون شيئاً من أمر الدين، لا هذا يستقيم ولا هذا يستقيم، وإنما الذي يستقيم هو هذه الوسطية التي أمرنا الله عز وجل بها.

يا إخوة الآن أبناء سبع وثمان وتسع وعشر سنوات بعد عقد من الزمن يصبح هذا الجيل جيلاً ربانياً، وهذا هو البنيان الصحيح، لذلك لعلكم تلاحظون بأن النصارى والباطنية الآن يحرصون على أخذ أطفال المسلمين في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وغيرها وإيجاد معاقل خاصة لهم، لماذا؟ لأنهم يرون هذا الطفل لو غرست فيه هذه المفاهيم فإنه يشب عليها وتنمو معه، فنحن أولى بهذا منهم، يجب أن يكون في أبناءنا حفظة للقرآن وحفظة للعلم، وأن يكون فيهم من يعرف أن يؤم الناس، وهكذا كان حال السلف رضوان الله عليهم، فهم سادوا الناس عن طريق البيت والمسجد والمجتمع كله دعوة إلى الله عز وجل، فهذه الناشئة من أبناءنا وأبناء إخواننا وأقربائنا إذا اجتهدنا عليهم تحصل ثمرة كبيرة وعظيمة، فما منا من أحد إلا وله على الأقل عشرة أطفال حوله يدورن بين ولد أخ وولد أخت وولد عم، فلو اشتغل كلٌ منا على تربية هؤلاء في بيوتهم وتعليمهم الدين وتعليمهم العقيدة الصحيحة، فعند ذلك نكون قد حصّنّاهم من أن يكونوا من هؤلاء أو هؤلاء، أما إذا وجدنا هذا الطفل قد وصل الثالثة عشر والرابعة عشر والخامسة عشر ودخلت فيه الأفكار الضالة، نأتي نتندم! أين أنت قبل أن يكون معهم؟ بعضنا يرتكب حماقة حيث ينزعج إذا رأى قريبه قد مشى مع أحد الدعاة فيأتي ويجتهد عليه الآن ليجره إليه، وهذا قريبه لا يصلي ولا يعرف شيء من الدين، وهو لاهٍ عنه إلا لما رآه في المسجد، إخواني ما هكذا تكون الدعوة إلى الله عز وجل، فكأنه ما انزعج لمّا كان لا يصلي! وما فكّر فيه قبل ذلك، إلا لما رآه دخل المسجد عن غير طريقه!! أين هو قبل ذلك؟!

فأقول يا إخوة نحن لابد أن نفكر فيمن حولنا، في أقاربنا ومن حولنا من هؤلاء الصغار، حتى بعد ذلك إذا كبر هؤلاء ووصلوا إلى سن الرشد فإذا بهم أبناء هذه الدعوة المباركة، إذا بهم قد حملوا التوحيد، إذا بهم قد عرفوا السنة من البدعة، فيكون قد شب ناشئة القوم على التوحيد، ما شب على بدعة ولا شب على جهل في الدين، ولا شب على ميوعة في أمور الدين.

قد ينزعج الأخ أو الخال أو العم إذا رأى ولده مع غريب، ولكن إذا رأى ولده مع أخيه أو مع ابن أخيه أو مع ابن عمه ما ينزعج، نحن نفرط في أعداد كبيرة من البشر هي سهلة الآن، ولكنها إذا كبرت وجاءتها هذه الأفكار المنتشرة الآن في دنيا المسلمين، فعند ذلك يصعب علينا، لأن القوس يكون قد انحنى، فقد تكسره إذا جئت لتُقوّمه، وهذا حصل يا أخوة -ولا نبالغ- أن بعض الناس قد تركوا الصلاة لأن أحد أقربائهم حاولوا أن يجرونهم إليهم وكانوا مع جماعة أخرى، فترك هؤلاء وهؤلاء! لماذا؟ لأننا أهملنا في الأول، لكن لو بدأنا قبل ذلك، قبل أن يستقيم العود هذا، وسقيناه بهذه الدعوة وبهذا التوحيد وعلمناه السنة والبدعة، فإنه سيقوم ويتربى عليها.

فلابد إذاً يا إخوة أن ينظر في هذا الأمر وأن نعيد دعوة البيوت، أن نأخذ أولادنا وأولاد أقربائنا إلى رحلات، ليضحِّ الرجل فيأخذ أخوه وأولاده معه إلى العمرة، يحتسبها عند الله، من أجل أن يربيهم على طاعة الله، يا إخوة الزمن يجري أكثر مما نتصور، كم من الأطفال كنت تراهم فإذا هم الآن في الجامعة، نحن كما قيل: نسقي البعيد ويظمأ من حولنا.

بعض الإخوة يقول: دعوة الأقارب تتعب، نقول صحيح ولكنها مضاعفة الأجر، والأجر على قدر المشقة، لكن لنختار الأسلوب ونختار الوسيلة المناسبة ونحتسب هذا عند الله عز وجل، فإن هذا فيه الخير الكثير، وهذا هو صلة الرحم، أفضل من أن نطعم هذا القريب وأن نسقيه، لأنه محتاج إلى التوحيد، محتاج إلى الدين، الذي به الحياة، قد لا يموت من الجوع إذا لم يأكل، لكنه لو لم يهجر البدعة يموت عليها.

يا إخوة تصوروا لو جاء أبناءنا وأبناء إخواننا وأقاربنا ومن حولنا يوم القيامة وهو يزحف يريد الشرب من حوض النبي ? فإذا به يصد عنه!! كم تتألم أنت إذا رأيت أبناء أخيك وأبناء قريبك يُصَدون عن الحوض، أمر عظيم، أنت قد تتألم لو أن ابن أخيك ما طعم يوم، فكيف إذا صُد عن حوض النبي ?!! إذا هوى من الصراط في جهنم –أعاذنا الله منها-!!

فلابد أن ننظر إلى من حولنا من أهلنا، ونسعى لأن ننقذهم فنكون سبباً في إدخالهم الجنة، فإن فعلنا هذا حققنا صلة الرحم كما يريدها الله عز وجل.

 الخاتمة

     هذه خاتمة لهذه لرسالة الصغيرة مع ختام الدورة على أمل أن يتجدد اللقاء مع هذه الغنيمة كل صيف.

     وإني لأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يجعل من الشباب من تقر به الأعين، وأذكرهم بالسعي لإمامة الدين، وأن يسألوا الله سبحانه ذلك، تحقيقاً لقوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [السجدة:24].

     فالعزة في الدارين إنما هي بإمامة الدين.

     وعلى الوالدين مهمة أخرى وهي أن يسهلوا لأبنائهم أمر طلب السيادة والعزة والرفعة فبها يسعد الكل، وما ذلك على الله بعزيز.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك