همســات دعويــة

همســات دعويــة

تأليف الشيخ

عبدالله بن خلف السبــت

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران:102].

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) [النساء:1].

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) [الأحزاب:70، 71].

أما بعد، فإن أحسن الكلام كلام الله سبحانه وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتهـا، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لله الحمد جل وعلا أن يسر لنا الأمور وشرح صدورنا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وإني إذ أقدم هذه المادة وهي عبارة عن دروس ألقيت على فترات متباعدة وأماكن شتى، يجمعها أنها جهد مقل حرص على أن يربط الناشئة بالدين الحق حتى يسير آخر هذه الأمة على درب أولها..

وقد اختارها شباب الدعوة في منطقة الفيحاء العامرة، جزاهم الله خيراً ونسخوها من الأشرطة ثم تم التآلف بينها، والفيحاء لها في القلب منزلة خاصة، لأنها – وخاصة مسجد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – شهد بداية الدعوة السلفية في آخر الستينات من القرن المنصرم، فمنها كانت البداية ولا تزال بحمد الله وفضله عامرة بالدعوة والجهد، ولا يزال مسجد الإمام أحمد بن حنبل منارة وملجأ خاصة بوجود الشيخ داود العسعوسي وفقه الله حيث حلق التحفيظ والدروس العلمية.

وهذه الدروس آثرت أن لا أجري عليها تعديلاً يُذكر حتى تبقى على سجيتها، فيقرأها المرء وكأنه يسمع الدرس طرياً.

وإني لا أستطيع تحديد أسماء الشباب الذين سعوا في هذا الأمر لكن جزاهم الله عني خير الجزاء، والله أسأل أن يرينا منهم أئمة يهدون للخير وبه يعملون.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،

كتبـه

أبومعاوية عبد الله السبت

   غرة شعبان 1425هـ



 

الهمسة الأولى

حيـاتك .. كلهـا لله

 

نحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا إلى التزام منهج أهل السنة والجماعة وهدانا إليه، فهذه يا إخواني نعمة عظيمة أن الإنسان يوفق لأن يكون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف الإنسان قدر هذه النعمة إلا إذا عرف مآل ومصير الذين لا يسيرون على درب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكم من الناس مجاهد لنفسه خاشع، يريد ما عند الله سبحانه وتعالى ولكنه يأتي يوم القيامة فيُطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وجريمته لا عن قلة صلاة ولا عن قلة عبادة، وإنما جريمته أنه ما سار على درب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رب أمتي أمتي) أو (قومي قومي) فيقال: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول سحقاً سحقاً) [صحيح ابن ماجة (3494)].

فلابد يا إخواني أن ينظر الإنسان منا نظرة تأمل، هل هو مِن مَن سيقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (سحقاً سحقاً)!! أم من الذين سيوفقون للشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم؟

إذاً أقول يا إخواني نعمة الهداية نعمة عظيمة تحتاج منا إلى شكر، وتحتاج منا إلى أن نحمد الله سبحانه وتعالى عليها.

أما موضوعنا فهو يتعلق بثلاث قضايا:

 

 

القضية الأولى: شموليـة الديـن:

هل إن حياتنا الأصل فيها أننا وجدنا لنأكل ونشرب ونتمتع ونفكر فيما نشتهي؟! أم أننا في أصل حياتنا وجدنا لنعبد الله سبحانه وتعالى؟! بمعنى هل الأصل فينا أن نكون ملتزمين بدين الله عز وجل عاملين بالإسلام؟ أم الأصل في الناس أنهم وجدوا ليعيشوا الحياة التي يشتهون، ثم بعد ذلك يعطوا ربهم بعض الوقت!!

هذه القضية يا إخواني هي مقلوبة في عصرنا هذا، عندنا في بيوتنا، عند آبائنا وأخواتنا وأمهاتنا، يظن الناس - وهم كثير - أن الدين إنما يُعطى بعض الوقت، ولذلك من صلى عندهم الصلوات الخمس وصام رمضان وفعل الواجبات الأساسيات، فإن هذا قد تجاوز القنطرة، وأما أفكاره وحياته وبيعه وشراؤه وسلوكه وعبادته الحقيقية فهذه عند الناس في وادٍ آخر.

فهل هذا يا إخواني الذي نشاهده في دنيانا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل وقَبِلْنا نحن مختارين راغبين أن نكون من أتباعه؟ الجواب: لا.

الدين يا إخواني معناه أن تكون حياتك كلها لله رب العالمين، من نوم ومأكل ومشرب ومعيشة وزواج فإنما هي لله رب العالمين، هذا المفهوم هو مفهوم الشمولية للإسلام، لابد يا إخواني أن نركزه عندنا في عقولنا وعقول الناس، وذلك أنك تجد أن الكثرة من الذين يصلّون في المسجد يرون بأن التدين وفعل النوافل ولبس الحجاب للنساء وإطلاق اللحية وترك الربا هذا للملتزمين فقط!! فكأنما المسلمين قُسِموا إلى: مسلم ملتزم، ومسلم غير ملتزم! ومتدين وغير متدين!! وهذا التقسيم - وإن كان وللأسف الشديد قد أقره بعض الوعاظ - لا شك أنه تقسيم باطل، فإن الإسلام يوجد فيه مسلم عاص ومسلم طائع، فلو قلنا للمرابي وللمرأة المتبرجة وللذي لا يصلي في المسجد: إنك مسلم عاص فاسق في لغة الشرع، يخاف ويقول: أنا فاسق! نقول: نعم من فعل المعصية فاسق بل إن أكل الربا من أشد الفسوق ومن أكبر الكبائر، أكبر من شرب الخمر، وأكبر من الزنا، لكن لمّا نأتي ونقول له: إنك غير ملتزم، فإننا حينئذٍ خففنا لفظ المعصية، فصار العبد لا يخاف.

إذاً يا إخواني لا يوجد في ملة الإسلام مسلم ملتزم ومسلم غير ملتزم، وإنما يوجد مسلم كامل الإسلام طائع لله عز وجل، ويوجد مسلم فاجر عاصٍ لله سبحانه وتعالى ناقص الإسلام والإيمان.

لما تأتي وتقول قال ابن مسعود عمن يتخلف عن صلاة الجماعة: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن.. ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) [رواه مسلم (654)]، فعندما تقول للناس هذا الكلام الذي قاله الصحابة رضوان الله عليهم، وتقول لهم قد هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرّق على الناس بيوتهم، كما في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها –يعني صلاة العشاء-) [رواه البخاري (618) ومسلم (651)] لا لأنهم لا يصلون أو لأنهم يرابون أو يشربون الخمر لا، ولكن لأنهم تركوا صلاة الجماعة في المسجد، الناس عند ذلك تخاف، ونشيع بينهم الألفاظ الشرعية لأنها تزجر عن المعاصي.

 

أقول إذاً يا إخواني هذا الدين الذي نريد أن نكون من أتباعه، ونريد بعد ذلك جنة الله سبحانه وتعالى لابد أن نأخذه بالكامل، بمعنى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) [الأنعام:162] هذا هو الدين، يكون كل ما في حياتنا إنما هو لله، ولذلك فنحن لسنا أحراراً في أن نتصرف في هذا الكون كيفما نشاء، ولا أن نبيع كيفما نشتهي، ولا أن نلبس كيفما نشتهي، ولا أن نأكل كيفما نشتهي، ولا أن ننام وقت ما نشتهي، فهناك أوقات معينه يجب أن نقوم فيها من النوم لنصلي، وأوقات معينه يجب ألا نأكل فيها، وقس على هذا ما شئت، فنحن عبيد لله سبحانه وتعالى، ومن مقتضى العبودية أننا نفعل ما يريد الله عز وجل، لابد أن ندخل في قلوبنا يا إخواني معنى العبودية لله عز وجل.

 

المرأة إذا علمت أنها ليست حرة أن تلبس ما تشتهي، والرجل إذا علم أنه ليس حراً أن يلبس ما يشتهي ؛ تغيرت الأحوال، لا أن نُفهِم الناس ولا أن نفهم نحن: أن افعل ما شئت وصلِّ لله خمساً تنجو، لا والله، الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون من بعدهم كانوا قوامين صوامين مبتعدين عن الحرام، وكانوا يخافون الله عز وجل ويخشون عذاب النار.

قال خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء - امرأة من الأنصار – بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسّل وكفّن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟! فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي) قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً) [رواه البخاري (1186)].

قال عطاء الأزرق: (قلت للحسن: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ كيف حالك؟ قال: بأشد حال، ما حال من أمسى وأصبح ينتظر الموت لا يدري ما يفعل الله به) [رواه البيهقي في الزهد الكبير (570)].

قيل للربيع بن خثيم: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: (أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا) [رواه البيهقي في الزهد الكبير (571)].

قال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين كيف أصبحت؟ قال: (أصبحت بطياً بطيناً متلوثاً في الخطايا، أتمنى على الله عز وجل الأماني) [رواه البيهقي في الزهد الكبير (573)].

عن جعفر بن سليمان قال: سمعت ابراهيم بن عيسى اليشكري إذا قيل له كيف أصبحت قال: (أصبحت في أجل منقوص، وعمل محفوظ، والموت في رقابنا، والقيامة من ورائنا، ولا ندري ما يفعل الله عز وجل بنا) [رواه البيهقي في الزهد الكبير (574)].

قال المزني: دخلت على الشافعي رحمة الله عليه وهو عليل فقلت: كيف أصبحت يا أبا عبد الله قال: (أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء فعالي ملاقياً، وعلى الله وارداً، وبكأس المنية شارباً، ولا والله ما أدري أروحي تطير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها) [رواه البيهقي في الزهد الكبير (575)].

إذاً يجب أن نعيد النظر في مفهومنا نحن للإسلام! وما هو مفهومنا للعبادة؟ وما هو مفهومنا للمنكرات الموجودة في مجتمعاتنا وفي بيوتنا؟ وعند ذلك تتغير عندنا الأحوال، وعند ذلك يصبح كل مسلم إذا أراد أن يكون مسلماً حقيقياً يكون لزاماً عليه أن يأخذ بالإسلام كله، وإلا يسمى (عاص) ويسمى (فاسق) ويسمى (مقصر) في جنب الله عز وجل، هذه القضية يا إخواني لا بد أن تكون واضحة عندنا، ما هو مفهومنا لعلاقتنا بربنا سبحانه وتعالى؟ إلى أي مدى نحن أحرار؟

إن الله سبحانه وتعالى مهيمن على الكون يتدخل في حياتنا، في كل علاقاتنا، حتى كيف نخرج من البيت، وكيف ندخل الحمام؟ وكيف نخرج؟ وكيف نبدأ الأكل؟ وكيف نقوم؟ كل هذا لسنا أحراراً فيه.

 

إذاً نحن مقيدون! لكن من الذي قيدنا؟ ليس بشر صعلوك، وإنما قيدنا رب السماوات والأرض، ثم ما هي الثمرة؟ أن من صبر على هذه الأمور وأطاع الله سبحانه وتعالى فإنه يعوضه الجنة، ومن عصاه كان عقابه النار، إذاً يا إخواني لمّا يترك الإنسان بعض لذّته وبعض ما يرى أنه يشتهيه ليفوز بعد ذلك، فيقال لهم (طبتم فأدخلوها خالدين) [الزمر:73] فإن (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) [آل عمران:185] كيف يزحزح عن النار؟! ما يزحزح إلا بعقيدة صحيحة وعمل صواب، إذاً لابد من أن نصحح مفهوم الإسلام في قلوبنا، وأن نصحح في عقولنا وعقول أبنائنا وأمهاتنا ما معنى التدين، فعند ذلك الناس تضع الأمور في مواضعها الشرعية.

إذا صح هذا المفهوم فلابد يا إخواني أن نعلم أننا لابد نأخذ هذا الدين بقوة، وأن ما يجري الآن في الدنيا إنما هو دفاع كل الناس عن دينهم، عباد البقر وعباد الحجر وعباد البشر، الكل يدافع عن دينه، ونحن عندنا دين نؤمن بالله حقيقةً فوجب الدفاع عنه، وأول عدو نجابهه هو الشيطان، وشياطين الإنس (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) [الأنعام:112].

 

القضية الثانية: تبليـغ هذا الديـن:

أن الله عز وجل قد شرفنا وجعلنا شهداء على الأمم، ومكن لنا ديننا وتكفل سبحانه وتعالى بأن يحفظ هذا الدين، وما تكفل للأمم السابقة بحفظ دينها، فإن اليهود قد عاثوا بدينهم فزوروه، والنصارى قد أفسدوا في دينهم فبدلوه، أما هذه الأمة فالله عز وجل قال لها: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9] فحفظ الله عز وجل الذكر الذي هو الكتاب والسنة وكذلك الفهم الصحيح للكتاب والسنة محفوظ، وإلا لو حُفظ الكتاب وحده لضاعت أمور، ولو حفظ الكتاب والسنة وما حفظ لنا فهم الصحابة رضوان الله عليهم لاختلطت عندنا الأمور أيضاً، ولكن كان من فضل الله عز وجل ومنِّه وتوفيقه أنه حفظ لنا الكتاب والسنة وفقه الصحابة رضوان الله عليهم، لأنه أمرنا بإتباع ذلك (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) [النساء:115].

ولنعلم أن الله عز وجل جعلنا في هذه الأرض حراساً لنبلغ هذا الدين الحق للأجيال القادمة، فجعل لنا منزلة الداعية من المسلمين تساوي منزلة النبي من بني إسرائيل، فان الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن بني إسرائيل بأنهم (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي) [رواه البخاري (3455) ومسلم (1842)] وفرقٌ بين النبي والرسول، فالأمم السابقة لم توفق إلى هذه المرتبة العظيمة، وهي مرتبة تبليغ الدين للناس وحمله وجعلهم شهداء على الناس، هذه الفضيلة أعطيتها هذه الأمة وقيدت بذلك التقيد أن تكون حياتها لله رب العالمين، فلذلك يا إخواني جعل الله عز وجل هذه الأمة شاهدة على الناس كما قال سبحانه وتعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيداً) [البقرة:142] ويوضح هذا المعنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في البخاري قال: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ نعم، أي ربِّ. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فنشهد أنه بلغ، وهو قوله جل ذكره (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، والوسط العدل) [رواه البخاري (3339)]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) [رواه البخاري (1367) ومسلم (949)] هذه الأمة إذاً لها منزلة، لأنها أخذت هذا الدين بقوة.

 

ولأجل هذه المنزلة والفضيلة يأتي باب التنافس، فنحن مأمورون أن نغير ما نحن فيه من واقع، وليس لأحد منا في هذا عذرٌ أبداً، فالذي لا يستطيع بلسانه ولا بيده عليه بقلبه، ولأن الله سبحانه وتعالى شرفنا بحمل هذا الدين وتبليغه للناس، وجعل هذه الأمة مدافعة عن دين الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى نكون مسلمين على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم نحتاج إلى شيئين:

الأول: نحتاج إلى الإخلاص، بأن يجعل الإنسان همه وهدفه في هذه الحياة هو ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، أن يكون مخلصاً بعمله، بصلاته، بصيامه، بدروسه، بجميع أحواله يريد ما عند الله عز وجل.

والثانية: في طريقة التدين، أن يكون عمله على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف:110] ولا يكون يا إخواني المسلم مسلماً حقيقياً إلا إذا كان على طريقة الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، لأن الله سبحانه وتعالى أخبر على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان أن هذه الأمة افترقت كما قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتي وسبعون فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعون فرقة، كلها في النار إلا واحدة، فلما سئل عنها صلى الله عليه وسلم قال: هم الجماعة) وفي رواية (ما أنا عليه وأصحابي) [أخرجه الإمام أحمد (3/120) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3241)]، إذاً لا يكون في الدنيا إسلام صحيح يوصل إلا إسلام الصحابة رضوان الله عليهم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) [البقرة:137] يعني إذا لم يؤمن الناس بمثل إيمان الصحابة لا يكونوا مهتدين، ومن لم يكن مهتدياً كان ضالاً.

 

القضية الثالثة: سهولـة ويسـر الديـن:

أن هذا الدين ليس فيه طلاسم، وليس بمعقد، وإنما هو واضح مثل الشمس، لو كان الحق يحتاج إلى كثرة شروح وإلى فلاسفة وإلى طلاسم وإلى وإلى.. لكان على الناس في فهمه مشقة، فكيف يحاسب الله عز وجل الناس على أنهم قد وقعوا في البدعة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله احتجر التوبة عن صاحب كل بدعة) [أخرجه الضياء المقدسي في المختارة وصححه (2005) والطبراني في الأوسط وصححه الألباني في الصحيحة (1620)]، أيحاسبهم والدين فيه طلاسم! - كما هو عند الصوفية والرافضة وغيرهم - لا يفهم إلا برموز، هذا تعقيد، وتكليف ما لا يطاق.

فالواجب علينا أن نعتقد أن هذا الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) [أخرجه ابن ماجه (44) وصححه الألباني في الصحيحة (688)]، لمّا يكون الشيء مثل الشمس ومثل الليل ومثل النهار، ما يختلف الناس فيه، فمن اختلف في أن الليل ليل والنهار نهار هذا إما أعمى وإما في هوى فهو هالك.

ولذلك يا إخواني كان الحق الذي جاء من عند الله عز وجل الذي هو منهج السلف رضوان الله عليهم الذي هو طريقة الصحابة كان مثل الشمس، فلا يأتي أحدهم ويقول: والله أنا ما أعرف أين الحق، المسلمين الآن كثير والدعوات كثيرة والمشايخ أكثر؟! نقول له: اعرف الحق تعرف أهله، كما قال علي رضي الله عنه للحارث: (يا حارث اعرف الحق تعرف أهله) لا تقول أن فلان من الناس طيب إذاً أنا أمشي معه، وإنما لننظر يا إخواني ونعلِّم الناس الأصول: أين الحق؟ أين الدين الصحيح؟ فالدين الصحيح الذي لا خلاف عليه هو دين الصحابة هذا متفق عليه، إذاً كل ما خالف دين الصحابة والتابعين وأئمة الهدى مردود وباطل وضلال.

فإذا عرفت الحق ؛ عند ذلك انظر إلى فلان من الناس هل هو يفعل مثل الصحابة أم لا؟ فإن كان يفعل مثل الصحابة فهو على هدى، وإن كان يفعل على غير طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الدين إذاً فهو على غير هدى وانتهى الأمر، لأن الإنسان أحياناً قد لا يستطيع أن يفهم النص لضعفٍ في إدراكه، فجعل الله عز وجل فعل الصحابة مجتمعين رضوان الله عليهم وفهمهم هو الحجة، يتلقاه جيل التابعين ومن بعدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) رواه مسلم وانظر الصحيحة (1957)، فصار حتى العامي الذي لا يستطيع أن يميز بين الأدلة يستطيع أن يعرف الحق من الباطل، بأن يقول: الحق هو الذي عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي انتهى الأمر.

إذاً يا إخواني ملخص الذي أريد أن أقوله أن هذا الدين الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به أمرنا أن نأخذه بقوة، وأن نُعليه بين الناس، وأن هذه الحياة التي يعيشها الناس الآن من أن يعطوا للدين بعض وقتهم، ويظنون في بقية الأوقات أنهم في معزلٍ عن ربهم يفعلون ما يشاءون، هذا والله هو الفساد بل أشد من الفساد الذي كان عند النصارى، فيجب أن نعلِّم الناس أن حياتنا كلها يجب أن تكون حياة دينية، ليس معنى هذا أن يكون ليلنا ونهارنا صلاة لا، ولكن يجب ألا نقول أو نفعل إلا ما يُرضي ربنا سبحانه وتعالى، وبذلك نكون ربانين أولياء لله عز وجل.

أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.

 

**  **  **  **

الهمسة الثانية

الهـم من أجل الديـن

 

في هذه الأسطر أحاول أن أبين بعض الأمور، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لحسن القول والعمل.

المسألة الأولى:

ماذا قدمـت لدين الله؟

بعد أن منَّ الله سبحانه وتعالى علينا بالهداية ووفقنا لمنهج السلف الصالح والسير على دربهم، أقول لينظر كل منا في نفسه: هل قدم لهذا الدين ما أمر الله سبحانه وتعالى به؟ أم أننا اكتفينا بأننا قد هُدينا!! ثم بعد ذلك شغلتنا هذه الحياة بأحوالها واضطراباتها؟ لابد يا إخواني أن يأتينا ما يسمى بـ (الهم من أجل الدين).

هذه العبادة العظيمة يا إخواني لابد أن تأتي للإنسان، تجد أن عندنا هَم من أجل المال، ومن أجل الولد، ومن أجل الدنيا، ومن أجل المرض، لكن لابد أن يأتينا هم من أجل الدين، فإذا جاء الهم من أجل الدين تحول الإنسان إلى عامل ؛ لأنه إذا مرض ابنك يولد عندك هم ؛ فتبحث عن الطبيب وتجتهد وتتألم، والآن الناس مرضى من ناحية الدين، وبالتالي نرى أثر عصيان الناس على نفوسنا، فالمعاصي المنتشرة والتبرج الذي نراه وما يشاهد في التلفزيون، وما نشاهده من تبلد الإحساس لدى الكثيرين حتى ممن يسمون بـ (الملتزمين)، هذا التبلد أوجد عندنا - ما أقول موت قلب عياذاً بالله - ولكن أوجد عندنا عدم الغيرة والحمية على هذا الدين، قد يكون لذلك أسباب: ككثرتها، والبيئة التي نعيش، ولكن أنا أقول كما أننا نحرص على الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ؛ فلنحرص على إتباع سنته في الهم من أجل الدين، لذلك نجد أن كثيراً جداً منا وهو يدعو في آخر الليل يدعو لنفسه، لكن الدعاء أن يصلح الله الناس! أن يصلح الله الحاكم! أن يصلح الله الوزير! أن يصلح الله المسئول! أن يصلح الله قائد الشرطة! أن يصلح الله الجار! أن يصلح الله المدرس! هذا عندنا قليل!! لأننا حتى في دعائنا وحركتنا ندور في إطارنا الشخصي الضعيف، في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتتبع الناس، ولذلك الآيات التي تحفظونها في كتاب الله عز وجل والتي يخفف الله فيها عن رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: (فلعلك باخع نفسك على آثرهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) [الكهف:6] وقوله: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [المائدة:118].

 

لابد أن يأتينا هذا الشعور يا إخواني، هذا مدخل إلى التفكير في إصلاح الناس، وإلا ما الفرق بين ما يسمى بالملتزم وبين غيره؟ ما الفرق بين المصلح وبين العادي؟ إن المصلح عنده هَمٌ عظيم يتعبه ويشقيه، من كثرة ما يشاهده من المعاصي، فلابد إذاً أن نبحث عن السبب الذي جعلنا نرى هذه المعاصي في مجتمعاتنا ولا نتألم، ما يأتينا أرق؟ ما يأتينا هم؟ ترانا ننزعج أحيانا على أمر بسيط يجري لنا في الدنيا فنترك الكلام ونترك الطعام ونذهب متألمين، على أمر دنيوي!! لكنه سيؤثر علينا، لأننا إذا رضينا - نسأل الله العافية - بالمعصية فقد يعمنا الله بعقاب من عنده، قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) [رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)]، فإذاً لابد أن نخاف على أنفسنا من الهلاك، فإذا جاءت طامة وأخذت العصاة ونحن فيهم نهلك، صحيح أننا نبعث على نياتنا ولكن نهلك في الدنيا.

إذاً لابد أن يأتينا الهم والأرق والتعب والسهر من أجل أن الناس قد هجروا دين الله، ولذلك تجد حتى اهتمامات الناس الآن العوام والمصلين لا يثورون إذا انتُهِكت محارم الله.

آتي لكم بمثال: المجلة التي سَخِرت من اسم الله عز وجل، ووزعت صورها في كل المساجد، لكن مَن مِن الناس حمل الهاتف على الأقل واتصل في المجلة مستنكراً، كَمْ من الناس ذهبوا وتعنوا إلى صاحب المجلة في بيته أو في مكتبه فنصحوه في الله وخوفوه، أنا أقول وُزِّعت الأوراق في المساجد وغالبنا قرأها وقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا من فعل الكفار) وقضي الأمر، وإذا رجعنا إلى البيت نسينا ما قرأناه.

نحن لا نرى الفوضوية والثورية، ولكن أيضاً من وسائل النصح: الهاتف، نتصل على رئيس التحرير، على صاحب المجلة، نخبره أن هذا يا أخ ما ينبغي.. اتق الله في نفسك.. خاف الله، فإذا وجد عشرين ثلاثين خمسين اتصال، وما تقول له: (مجهول) بل تقول: (أنا فلان بن فلان أكلمك، هذا ما يجوز)، فيعرف أن وراء القضية رجال، لكننا قد تعودنا على الإنكار الساكت، فهذا ناتج يا إخواني أن الهم من أجل الدين لا يزال عند الناس ضعيف، وهذا لعله كما قلت من كثرة فشو المنكرات، فلابد إذاً أن نجتهد على أن نحرك في ضمائرنا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن هذه ما تأتي إلا إذا جاءها ما يدفعها.

 

المسألة الثانية:

صـدق الرجـوع إلى الله

إن كثرة كلام الناس الآن في التباكي على الإسلام في كل مكان - صحيح نحن قد نجتهد في إلقاء اللوم على الآخرين - لكن لماذا لا نفكر في ما هي الأسباب التي جعلت الناس يقعون في هذه المصائب؟!

إن المعاصي لها دور كبير (وما أصابكم من مصيبة ذلك بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى:30]، يقول أحد السلف رحمه الله: (إني لأعرف أثر معصيتي بسوء خلق زوجتي ودابتي).

فهذه المصائب التي وقعت على المسلمين لابد علينا أن ننصحهم، وأن نأمرهم بالعودة إلى الله، ونقول لهم: يا قوم إنما وقع الذي فيكم فَمِن جراء ما كسبت أيديكم، يا جماعة ارجعوا إلى الله واتركوا الشرك واتركوا الزنا واتركوا المعاصي، أما التباكي فأنا أرى أنه من انقلاب المفاهيم وتغيرها، ولذلك لما وقعت الكارثة علينا هنا (الغزو الغاشم على الكويت)، قلنا للناس: يا جماعة توبوا إلى الله، بعض الناس سَخِر، بعد ذلك عرف الناس الدرب فلجئوا إلى المساجد ولهج الرجال والنساء والأطفال بالدعاء إلى الله عز وجل فلله الحمد والمنة، فكان من ذلك التثبيت الذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس، فالله سبحانه وتعالى نصرهم وأزال عنهم برجوعهم إليه، وما رأينا شعب وقعت عليه كارثة فلجأ إلى الله كما وقع على أهل هذه البلاد فنجاهم الله سبحانه.

بعض الناس قال مرة: ماذا نستطيع أن نفعل للبوسنة؟ قلت: تدعو، قال: وإيش ينفعهم الدعاء؟! قلت: هذا قول يجر للكفر، الدعاء يا إخواني له تأثير عظيم، لو قمت أنت في آخر الليل تدعو الله فقد تكون ذلك الأشعث الأغبر الذي لا يلقي له الناس بالاً كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) [رواه البخاري (2703) ومسلم (1675)] يستجيب الله دعواه.

فلابد إذاً من بيان من وقعت عليه البلايا والمحن والفتن أن يعلم أن الدرب الأول للنصر هو العودة إلى الله، وهذا هو التأييد الحقيقي والدعم الحقيقي، لكن للأسف الشديد كما قلنا الذي يشاهد ما يجري في صحفنا ومجلاتنا وخطبائنا كلهم إما يهاجم اليهود أو يهاجم النصارى، ونسوا أساس المشكلة وهي أن الذي وقع بكسب أيدينا (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) [الشورى:30] هذا نص (قل هو من عند أنفسكم) [آل عمران:165].

إن ما يجري في العالم الإسلامي من المعاصي والشرك والابتعاد عن الله عز وجل هو من أسباب الفتن، لكن لماذا نقول هذا الكلام؟ لأنه إذا كان لنا من تأثير على العالم الإسلامي فلِيوَجه إلى إصلاح عقائده، لأن المشرك إذا تساوى مع مشرك ضاعوا، فلِنوَجه ما عندنا من إعلام وغيره إلى إصلاح العقائد والسلوك، عند ذلك يأذن الله بنصره.

وأما كون أن الكفار يريدون القضاء علينا فهذا أمر بديهي، أما إذا رأيت الكفار في بلد ما لا يحاربون المسلمين ولا يخططون لإزالتهم فاعلم أن المسلمين قد تساووا مع الكفار ولم يبق لهم من الإسلام سوى الاسم.

فهنا قاعدة: إذا دخلتَ بلداً والكفار يحكمونها ورأيتَ أنهم لا يؤذون المسلمين ولا يفعلون في المسلمين شيء ؛ فاعلم أن المسلمين ميتين، لأنه (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [البقرة:120]. إذاً فلماذا يحاربوننا ويمكرون بنا ويجتهدون علينا؟ لأننا قد بدأنا الدرب الصحيح.

 

المسألة الثالثة:

السيـر على الدرب الصحيـح

أن هذه الأمة يا إخواني قد جعل الله سبحانه وتعالى الإمامة الحقيقية فيها لأهل اليقين (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [السجدة:245] هذا الدرب الصحيح للذي يريد أن يكون إماماً، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (بالصبر واليقين تنال إمامة الدين).

وهذه الآية عجيبة تحتاج إلى بسط، ولكن يكفينا أن نقول:

أولاً: ربنا قال: (وجعلنا منهم أئمة) إذاً الذي يجعل الأئمة ليس هو اجتهادك أنت وكثرة الخطب الرنانة، فكم من خطيب يُبكي الناس لكن ليس له تأثير، إذاً الذي يجعل الأئمة هو الله عز وجل، وهذا هو مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب الله عبداً دعا جبريل فقال: أني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: أني أبغضت فلاناً فأبغضه، قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض) [أخرجه البخاري (3209) ومسلم (2636)].

فالذين يكونون أئمة للمتقين هم الذين يسيرون بأمر الله عز وجل، الذين صبروا على ما جاءهم من الأذى لما عندهم من علم ويقين، ولأنهم يدعون بأمر الله سبحانه وتعالى لا بأهوائهم واجتهاداتهم فكانوا أئمة.

فلا إصلاح للناس إلا بالرجوع إلى أمر الله سبحانه، وإلا فليجلس العقلانيون والمفكرون حتى يبتكروا طرقاً لإصلاح المجتمع! وهل كان رب الناس سبحانه وتعالى لا يعرف أننا في هذا القرن سوف تأتينا مشكلات من نوع خاص!!

ثانياً: يقول الله عز وجل: (يهدون بأمرنا) وانتبهوا يا إخواني إلى قضية جداً مهمة، وهي أن أمراض المجتمعات الموجودة الآن والتي ستوجد بعد دهور كلها قد وضع لها علاج في الدين، لأن أصل الدين إصلاح واقع الناس، وتحويلهم من عصاة إلى مهتدين، فالذي يريد أن يُصلح لابد أن يسلك الدرب الصحيح (يهدون بأمرنا) (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) [هود:112] فلا تستقيم على هواك ومشتهاك (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) [يوسف:108] إذاً فالذي يريد أن يصلح المجتمعات لابد أن يكون فعله هذا متبع فيه أمر الله سبحانه وتعالى، السائر على كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

إذا فهمنا هذا ونظرنا إلى ما بدأنا به وهو أن يكون عندنا هَم، عند ذلك يتغير حال المسلمين، ويتغير حال الناس، ونتحول من أمة كما يقال (ترعى مع الهَمَلِ) إلى أشخاص عندهم هَم ورغبة أن يكونوا للمتقين أئمة، على بصيرة من دين الله عز وجل، وهذا لا يأتي إلا بتعب، كما يقوم الشاعر:

لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله             لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

ويقول أيضاً:

وإذا كانت النفوس كبـاراً                تعبـت في مرادها الأجسـاد

إذا جاءت المشقة لله تهون وتحلو، ونحن الآن في عالمنا كل الذي نحتاجه هو رجال، والناس عندها عقول وعندها طاقات وعندها إمكانيات ولكنها وللأسف الشديد صُرفت في غير بناء الأمة، بل لبناء الدنيا، والدنيا مهما طالت فالنهاية الموت، كما جاء في البخاري من حديث موسى عليه الصلاة والسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرسل الله ملك الموت إلى موسى عليه السلام فما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن) [أخرجه البخاري (139) ومسلم (3373)] مهما عُمِّرنا فإننا ميتون.

الطاقات والعقول والإمكانيات موجودة، حتى إن أبسط طالب علم عنده كتب في بيته أكثر مما عند الإمام أحمد، ولكن ينقصنا علو همة كما كان عند الأولين، ورغبة في أن نكون للمتقين أئمة، وهذا لا يأتي إلا بما يشغل الجسد ويشغل العقل ؛ ولكي يعرف الإنسان الدرب الذي يُعلي به كلمة الله سبحانه وتعالى.

وكان من عجائب تيسير الله سبحانه وتعالى وفضله أن الله قد تكفل لمن نوى سلوك هذا الدرب أن يُسهَّلَه له بقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين) [العنكبوت:69] فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا أئمة للمتقين، وأن يهدي بنا ويهدينا، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.

 

**  **  **  **



 

الهمسة الثالثة

كيف يربـي المسلم نفسـه

 

تعلمون يا إخواني أن غاية ما يقصده العبد المسلم في هذه الحياة الدنيا أن يؤمِّن لنفسه دخول الجنة، ويجب أن لا تغيب عن بالِنا هذه الغاية ولا لحظة، فإن إذا غابت أو ما وَضِحَت عندنا فقد نتعب بعد ذلك، فنحن نعبد الله سبحانه وتعالى رغباً ورهباً - لا كما تقول الصوفية: أننا نعبده لذاته لا خوفاً ولا طمعاً، هذا كذب - فعبادتنا لربنا عز وجل تدور بين الحب والرجاء والخوف، كما وصف الله خير عباده (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) [الأنبياء:90].

هذه القضية لابد يا إخواني أن تكون عندنا مسلَّمة، أننا عندنا غاية نريد أن نحققها في هذا العمر القصير وإن طال، هذه الغاية هي أن نؤمن كيف يَرضى عنا رب السماوات والأرض، فإذا رضي عنا ربنا تبارك وتعالى أدخلنا الجنة.

لا شك أنه مقرر عندنا بأننا مهما عَمِلنا ومهما اجتهدنا فإننا كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه: (لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) [متفق عليه]، نحن بشر وطبيعة البشر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن من طبيعتنا الخطأ، ومن طبيعتنا الذنب، إذاً كيف نصل بأنفسنا إلى الحق الذي يرضى عنه ربنا تبارك وتعالى؟!

 

جلسـة محاسبـة:

هذه القضية لابد أن نؤتيها اهتمام، فإن كثيراً من إخواننا في أثناء انشغاله في الدعوة والدروس.. ينسى أن يقف ويفكر: هل أنا أوصلت نفسي إلى مرتبة يرضى عنها ربي تبارك وتعالى؟!

لابد يا إخواني من جلسة تفكير وجلسة محاسبة مع النفس: هل أنا أسير في الطريق الصحيح أم أنا مقصر؟!

وعند ذلك لابد أن ننظر في تربيتنا لأنفسنا، فإن الأعمال كثيرة ولكن هناك أساس وهو أن يكون البنيان الذي تقيم عليه الأعمال سليماً، ونقصد بالبنيان هنا أن يكون القلب خالٍ من الشرك، وأن يكون العمل خالٍ من البدعة، هذه اللّبِنة الأولى التي يجب أن توضع في تربيتنا لأنفسنا، على أن تكون الأعمال تدور بين التوحيد والسُنّة، فإن الله لا يقبل من العمل إلا أصوبه وأخلصه.

فقضية العقيدة وقضية الإتباع هي الأساس الذي نبني عليه بنياننا، (فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز) [آل عمران:185] ولن يزحزح إلا الموحد فـ (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء:48]، (وإن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) [الزمر:65].

هذه اللبنة الأساس التي يجب أن نعلِّمها للناس، ونقصد بالناس كل من حولنا، فإننا وإن عافانا الله عز وجل بفضله ومنِّه وجعلنا من أتباع السلف الصالح، فحوْلُنا من العُمّال ومن الخدم ومن الموظفين ومن زملاء العمل الكثير لا يعرفون هذه الحقيقة، وإنما أحياناً يجتهدون في العمل والأساس فارغ، يجتهدون في الطاعة - بل أنا لاحظت هذا كثيراً من إخواننا - يركزون على الجانب العملي مع زملائهم في العمل ولا يبحثون معهم أصل البنيان الذي هو العقيدة والشرك والسُنّة، تجده يحرص على قضايا من العمل - وهذا جيد - ولكن علينا أن نحرص معهم على الأساس الذي يقومون عليه بنيانهم.

 

بنـاء النفـس:

فإذا وضعنا الأساس بقى علينا أن نبد بالتفكير: أي الأعمال أكثر أجراً وأقل جهداً؟ أعمال كثيرة الأجر قليلة الجهد نبني أنفسنا بها، لأننا في دنيانا هذه مثل التاجر الذي يريد الربح الكثير برأس مال قليل، لأن بنيان النفس أو الرقى بالنفس يحتاج إلى طريقين:

الطريق الأول: إشغال النفس بالطاعة والعبادة، من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأذكار وأوراد بعد الصلوات، وهذا كثيراً من إخواني ما ينشغلون عنه، ما إن يسلم الإمام حتى يقوموا، لابد من التسبيح والتهليل والتحميد دبر كل صلاة، هذا جانب من بِناء النفس، فيجب أن يكون لكل مسلم ورده من الأدعية ومن قراءة للقرآن ومن تهجد ومن وتر ومن طاعة، وهذا هو الزاد، وأما الانشغال الذي يحصل لكثير من إخواننا يسهر إلى الواحدة أو الثانية ليلاً ثم ينام ولا يقوم إلا للفجر، ولا يعرف صلاة الليل!!

وأنا سألت كثيراً ممن قابلت من الشباب فكان الجواب: أنهم ما يختمون القرآن إلا في رمضان، وأحياناً طول السنة مرة، ذلك لأننا ما جعلنا لأنفسنا ورد صفحة أو صفحتين أو ثلاث صفحات أو نصف صفحة، المهم لابد أن يكون لنا ورداً يومياً نقرأ القرآن، ولذلك كان من تعليقات الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة: أن من سعى إلى الإتيان إلى المسجد في أول الأذان فإنه يأمن في صلاته مشاغل الدنيا، لأنه يكون قد تهيأ لقراءة القرآن والأذكار، فصار آخر ما شغلته به نفسه هو القرآن والأذكار، وأما أن نجلس ننتظر الإقامة فندخل مسرعين! صار آخر ما شغلت به أنفسنا هو ما كنا فيه!

إذاً لابد أن يكون عندنا إبراز في الجانب التعبدي، كما يكون عندنا إبراز لجانب الهيئة والظاهر في إتباع سُنّة النبي صلوات الله وسلامه عليه، لأن المسلم متبع للنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، متبع للصحابة رضوان الله عليهم في كل شيء، فلتكن عندنا سمةً نربى أنفسنا بها.

ثم ثقوا يا إخواني أننا إذا أصبحنا ربانيين فبأقل جهد يغير الله القلوب، لسنا نحن الذين نُغيّر، وإنما نحن وسائل، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء، ولكن إذا وافق هذا المتكلم أنه ربانياً لأنه متصل بربه عز وجل فلا شك أنه سيكون لكلامه تأثير، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليه بجهد قليل رفعوا شأن الأمة.

ثم إن الداعية إن كان عنده عمل تعبدي فالمدعو سيقتدي به، لأنه في الغالب ينظر إلى أحوال الذين قبله، فإن جاء عن طريق طالب علم ؛ تراه يقرأ الكتب، وإن كان المدعو جاء عن طريق متكاسل في طلب العلم ؛ تراه مثله، هكذا هي طبيعة البشر.

لذلك أقول يا إخواني إن الجانب الأساسي في عملنا وجهدنا لإعلاء كلمة الله عز وجل ألا ننسَ أنفسنا وحظنا من العبادة، ولا ننشغل ليل نهار في الدوران وقد أنهكنا أنفسنا، لم نفعل معصية صحيح ولكن قد قَصّرنا في الطاعة.

نسأل أنفسنا هل ختمنا القرآن؟ كم مرة في الشهر؟ كم قرأنا من صحيح البخاري؟ كم قرأنا في صحيح مسلم؟ أنا أعرف كثير من الإخوة إلى الآن ما بدءوا يقرءون في البخاري وقد مضى عليهم في الدعوة سنين، سبحان الله!! كيف نتعرف على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟! لو قرأ رجل رياض الصالحين كل يوم حديث يأتي آخر السنة وقد ختمه، ولو قرأ في كل ليلة باب من البخاري لختمه آخر السنة.

هذا هو الجهد الأكبر الذي يجب أن نوليه العناية، وهي أن نعبد الله سبحانه وتعالى ممتثلين راجين خائفين، يوازيه جهد آخر لا يكلِّفُنا شيء بفضل الله عز وجل وهو:

 

الطريق الثاني: إبلاغ هذا الدين، لأنه لا يحتاج إلا إلى لسان وآذان، وعامة الناس بفضل الله عندهم ذلك، وقد يكون الرجل الصامت الذي ليس عنده علم ولكن عنده هدي من الله وعنده طاعة وعلى قلبه نور ؛ يكون له تأثير بالناس أكثر من كثير من طلاب العلم، لأن هذا قد أخلص لله سبحانه وتعالى الجهد والعمل ؛ فغيَّر الله سبحانه وتعالى بكلام بسيط أحوال الناس.

هذا الجانب الإصلاحي هو جانب تربوي أيضاً، لأننا لا يجوز أن ننظر للدعوة على أننا مهتدين وأننا ملتزمين وأن هؤلاء الناس عصاة، وأننا نحن نتفضل عليهم بدعوتهم للدين، هذا دمار، وإنما ننظر على أننا نتربى بالدعوة إلى الله عز وجل، نربي أنفسنا بحمد النعمة بأن لله عز وجل علينا جميل وفضل عظيم، وأن من سبقنا من إخواننا له علينا فضل.

فشكر هذه النعمة هو بأن نبذل وجهنا لله، ومن تربيتنا أن نوطن النفس على أننا وإن أوذينا في الله عز وجل نقبل، وأن نعلم أننا مسئولون عند الله سبحانه وتعالى عن الناس، فإذا لم نقم بواجب المسئولية لم نحقق النجاة لأنفسنا، فإنه ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

 

نظـرة أخرى للدعـوة:

إذا نظرنا إلى الدعوة إلى أننا نحن المحتاجين إلى هؤلاء الناس ؛ ندعوهم برغبة وشوق إلى أن الله يهديهم، لأنك لو تعلم أن فلان من الناس رضي عنك وأنه سيعطي أولادك بعد موتك ألف دينار، تحرص على إرضاءه حتى لو نهرك، تقول: لا من أجل أولادي أصبر، حتى ولو طردك تقول: لا لابد من الصبر، وتعطيك النفس من التبريرات ما تجعلك أحياناً تكون ذليلاً لمصلحة، بل حتى لو أن أحدنا له معاملة عند وزير ودخل عليه ورآه يتكلم ساعة وهو واقف ما يتذمر! يقول: أنا حاجتي عنده أصبر عليه.. لكن لو جئنا ننصح إنسان ونرشده إلى الدين وندعوه إلى الله عز وجل فوجدنا منه سلوكاً لا يرضينا، نقول: هذا متكبر لسنا بحاجة إليه وننصرف بسرعة، ونسينا أننا بحاجة إلى هذا، فإنه لو هداه الله عز وجل وصار من المصلين ومن الصائمين ومن المتقين ومن المعتمرين ومن المجاهدين لكان أجره كله إلينا.

إذاً كلما استطعنا أن نؤمِّن يا إخواني أعداداً من البشر كنا سبباً في هدايتهم ؛ فقد أمنَّا مستقبلنا في الجنة، هذه أنفع من أن نُذِل أنفسنا من أجل معاملة يوقعها فلان، ولكننا ألفنا العاجلة وغفل الناس عن الآجل، لذلك كان الإيمان بالغيب من أعظم الأمور، وعُدت الصدقة كبرهان على الإيمان لأنه ينفق دينار إلى غيب موعود به عند الله عز وجل، فلو لم يكن عنده إيمانٌ قوي ما أنفق.

إذاً يا إخواني طريقتنا لتربية أنفسنا - بعد وضع الأساس العقائدي - يدور أولاً بإصلاحها في العبادة، ووسطاً في طلب العلم الذي نقيم عليه العبادة، لأن من غير العلم ما نستطيع العبادة، والعلم بذاته قربة لله عز وجل، ولذلك رُوي في كتب أهل العلم أن الإمام مالك رحمه الله: كان مع طلاب له في المسجد فأذّن المؤذن فقام رجل ليصلي، فقال له: ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه، ولذلك قيل: (نافلة العلم أفضل من نافلة العبادة).

فإذا نظرنا للعلم على أنه قربة نتقرب به إلى الله عز وجل يتغير الحال، ولذلك قال عز وجل: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) [آل عمران:185] لماذا هذه المرتبة؟ لأن طالب العلم يعبد الله عز وجل، فلا ننظر للعلم في قراءتنا لأحاديث صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً على أننا نريد أن نتعلم كيف نصلي فقط، إنما عبادة وقربه نتقرب بها إلى الله عز وجل، نعلوا درجة، لأننا نزداد بصيرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا) [رواه البخاري (20)]، فربط التقوى بزيادة العلم بصفات الله عز وجل وأسماءه، ولذلك كان السلف رضوان الله عليهم يتقربون إلى الله بمعرفة أسمائه وصفاته، فهل نحن نظرنا للعلم من هذا المنظار؟ ونظرنا إلى أننا جلسنا نتدبر في الأسماء والصفات، ونتدبر في قضايا التوحيد على أننا نتقرب إلى الله؟! هل نظر أحدنا أنه إذا جلس بالليل وبدأ يقرأ في البخاري أو في مسلم أو يقرأ في كتب التفسير أنه يعبد الله عز وجل؟!

 

لاحظت أن كثير من الناس يظنون أن العلم يُطلب لمعرفة المسائل أو لمعرفة الأحكام فقط، وإلا فلماذا الملائكة تستغفر لطالب العلم ولما تحفهم الملائكة وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله فيمن عنده؟! حتى أن الإمام النووي رحمه الله وغيره عدوا حتى تعلم الطلاق وغيره من الأحكام يعتبر من الأذكار والقربات.

إذاً أقول إذا نظرنا لهذه الجوانب وفهمناها على ما فهمه الأولون وأهل العلم ؛ تسكن أنفسنا ويتغير حالنا، كل هذا يساعد في بناء النفس، أنت لا تصلي لأجل الناس ولا تدعو للناس ولا تتعلم من أجل الناس، إنما نفعل ذلك كله لنزكي أنفسنا ونرتفع درجة عند ربنا سبحانه وتعالى، وليقال: (طبتم فادخلوها خالدين) [الزمر:73] هذه النهاية التي نريد أن تقال لنا، ولا تطيب النفس إلا بالطاعة والدعوة والجهاد والعلم والصلاة والصيام.

فلذلك أرجع وأقول يا إخواني يجب أن ننظر في أحوال أنفسنا، ننظر في مسيرتنا، ننظر كيف نتعامل مع الآيات، كيف نتعامل مع الحديث، ما غايتنا بهذا، هل فقط غايتنا أن نحفظ ويقال حافظ!! أم غايتنا أننا نربي أنفسنا! وبالتالي ننظر هل حققنا مما تعلمنا شيء، ما الذي عملناه؟!

 

طريـق الجنـة:

إن الطريق إلى الجنة لابد أن يمر عبر تربية النفس، ولن يربي أحدٌ نفس أحدٍ أبداً، كل إنسان على نفسه بصيرة، وكل إنسان سيأخذ كتابه بنفسه، وكل نفس ستُسأل عن نفسها، وأننا مطالبون إن كنا نريد الجنة بصقل النفس، فإن الجنة لا تدخلها نفس خبيثة، لذلك أقول إن الأولين رضوان الله عليهم جمعوا بين الدعوة والعقيدة والسلوك، فما علمنا في الأولين إلا زهداً وعلماً وتضحيةً وجهاداً، من أين جئتهم فهم أئمة، فلذلك لابد من عودة للأخلاق.

كنت مرة قد اقترحت على بعض الناس أن يُدرس الأدب المفرد للبخاري، فتعجب بعضهم وقال: إيش فيه الأدب المفرد غير صلة الأرحام وبر الوالدين!! فقلت: وما الدين إلا هذا، وذكرت له ما رواه البخاري في الأدب: (عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: أنه أتاه رجل فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل وتقرب إليه ما استطعت، فذهبت فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة) [صححه الألباني باب بر الأم (4)] فقلت له ونحن ماذا نريد؟!!

فبعض الناس لما يأتي خطيب الجمعة ويتكلم عن بر الوالدين، يقول: هذا وين والدنيا وين؟ والله يا إخواني ما دمرنا إلا هذا، أصبح الآن الذي يتكلم في التربية والأخلاق نقول عنه: هذا ما يعيش وقته!! والصحابية تقول: (ما حفظت سورة (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة). [رواه مسلم (873) والصحابية هي أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها].

فيجب علينا إخواني ألا ننشغل عن الأصل وهو تربية أنفسنا، نقرأ الأدب المفرد للبخاري، نقرأ رياض الصالحين، نقرأ شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، نقرأ معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يدخل في قلبنا إيمان، ولذلك أنا أحضر الآن معظم المجالس فإذا تكلمنا في المذاهب والطرق انبسط الناس، وإذا كنا نريد أن نتكلم في قضايا كيف ننجو من النار، لا يعجبهم!! فيجب ألا نغلِّب شيء على شيء، فإن الكمال هو أن نأتي بجميع الأشياء من جميع جوانبها.

أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا مسلمين قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.

 

**  **  **  **



 

الهمسة الرابعة

نصائح وتوجيهـات للدعـاة

 

أحاول مستعينا بالله سبحانه وتعالى أن أبين بعض الأمور التي أرى أنه لابد من طرحها وإن كانت قد طرحت من قبل.

 

وأول هذه الأمور: تجديـد النيـة:

فإن الله سبحانه وتعالى قد ربط الأعمال بالنيات، وحتى تبقى عند العابد - سواء كان مصلياً أو صائماً أو متصدقاً أو قارئاً أو داعياً إلى الله - النفس التي تدفعه للعمل فلابد له من استحضار النية، وهذا الجانب نحن فيه مقصرون، ولذلك تجد أن الأعمال تنقلب عند كثير من المسلمين من عبادات إلى عادات، يمارسها الجسد من غير روح، وتعلمون حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) [متفق عليه]، ونحن بشر يعترينا العُجب والرياء ورغبة الظهور، تعترينا نوازع شتى، فلابد إذاً من تجديد النية بشكل مستمر.

والإنسان قد يبدأ بالعمل بنية صالحة خالصة سواء في المحاضرة أو الصلاة أو قراءة القرآن، وفي وسطها يدخلها الرياء ولا يدفعه فيهلك، فلابد إذاً من مراقبة وتجديد، والعملية كلها يا إخواني عملية شعور داخل القلب، ما يطّلع عليه أحد من البشر، لا يعرفه إلا الرب تبارك وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا الأمر مهم خاصة لمن يتصدى لنصح الناس، فقد يدخله العجب، وقد يدخله الانتقام أحياناً، والرغبة في التشهير بحجة حماية الدين، لأن بينه وبين فلان من الناس أمور، فيدخل الدين عارضاً، فيحسن الناس به الظن وأن شدته هذه من أجل الدين، ولكنها هوى في قلبه، وإلا ما الفرق بين من يقاتل فيدخل النار، ومن يقاتل فيدخل الجنة، بل قد يُقتل فيدخل النار، وآخر يعود غانماً سالماً فيدخل الجنة!! الفرق شيء قدح في القلب فقط.

النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يُقاتل شجاعة والرجل يقاتل حمية قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [رواه البخاري (133) ومسلم (1904)]، وأخبر عن أقوام في المدينة في البيوت وآخرون يجاهدون أن هؤلاء الذين في البيوت يشاركونهم الأجر، ما الذي جعلهم يشاركونهم في الأجر؟ النية الصادقة، ليس فيها تمثيل ولا خداع، كما قال صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه رضوان الله عليهم: (إن أقوام في المدينة خلفنا ما سلكنا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر) [رواه البخاري (2839)]، إذاً شاركوهم في رغبة داخل القلب صادقة، ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (من مات ولم يغزو، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق) [رواه مسلم (1910) وأبي داود (2502)]، مَن يعلم مَن حدث نفسه أو لم يحدثها؟ لا يعلم هذا إلا الله عز وجل، إذاً النية لها أعمال كثيرة جداً، وتدخلك نيتك مع قلة ذات اليد الجنة، وقد تدخلك النار.

 لذلك دائما أضرب للأخوة هذا المثل: لو قيل لنا أن لنا مقابلة مع الأمير في الغد، طوال الليل وهو يفكر ماذا سيقول؟ وماذا سيلبس؟ وماذا سيفعل؟ وكيف سيتصرف؟ وكلما قلَّت منزلة الشخص قلَّت المعاناة، فهل هذا الشعور عند المسلم حينما يَقدُم إلى المسجد؟! ولذلك قالوا لما جعل الله عز وجل بداية الصلاة التكبير معناه: بأنه قد استقر في قلب المصلي بأن الله أكبر من كل شيء، أكبر من الدنيا، ومن المال، ومن الولد، ومن كل شيء، وهذه أعمال قلبية لا يعلمها أحد، ما بين الرياء الذي يحبط العمل وبين الإخلاص إلا شيء في القلب لا يراه أحد.

 

داء الريـاء:

لكن لماذا نراعي هذا الجانب؟ لأن البعض نسأل الله السلامة يحفظ عشر أو عشرين من مسائل الخلاف وفي كل جلسة مع كل متحدث يطرحها ؛ ليوهم الجالسين أنه ما شاء الله من المطّلِعين!! أو ذاك الذي يحفظ عناوين الكتب وفهارسها ولا يدري ماذا فيها، ويظن بهذا أنه يطلب العلم، فإذا جلس قال: قرأت الكتاب الفلاني، وجاء الكتاب الفلاني، وصدر الكتاب الفلاني، وفلان حقق هذا.. فيظنه السامع أنه ابن خلدون زمانه، وإذا جلست معه فتراه ما يعرف من هذه الكتب إلا العناوين، هذا رياء ورغبة في الظهور تقتل صاحبها وتحبط عمله.

وفي الحديث المشهور: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار) [أخرجه مسلم (1905) وانظر اقتضاء العلم العمل (107)]، ما شاء الله أعمالهم ظاهرة جميلة: قارئ للقرآن، عالم يلقي محاضرات، مجاهد في سبيل الله، ولكن كل هؤلاء ظن الناس فيهم الخير، وأنهم يريدون إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، ولكنهم أرادوا عاجلاً من الحياة الدنيا فأعطوا، أرادوا الشهرة فأخذوها، هذا أراد أن يقال له عالم وقد قيل، وذاك أراد أن يقال له قارئ وقد قيل، وذاك أراد أن يقال له جواد كريم وقد قيل، أخذوه في الدنيا فما لهم في الآخرة من شيء، فلابد أن نعلم أن من أراد ما عند الله سبحانه وتعالى أعطاه الله الدنيا والآخرة.

 

الأمر الثاني: نشـر الديـن:

شاءت سُنّة الله سبحانه وإرادته أن ينتشر هذا الدين بواسطة البشر، وأن يكونوا أسباباً، وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، قادر على أن يكون الناس كلهم مؤمنين، ولكن حكمة الله جل وعلا ليتخذ من الناس شهداء، وليعلي درجات الناس، وليصير بعضنا على بعض فتنة، فشاءت سنة الله سبحانه وتعالى أن يكون نشر الدين عبر البشر، وهذا تشريف عظيم شرفت به هذه الأمة فقط، فقد كانت الأمم السابقة تسوسها الأنبياء، ولذلك كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمَرَ به: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108]، وكل متبع له صلوات الله وسلامه عليه لابد أن يسلك هذا الدرب، فإن لم يسلكه كان مقصراً في إتباعه صلوات الله وسلامه عليه.

وهذه الدعوة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي هي وسيلة إصلاح هذه الأمة، لابد أن يعتقد بأنها عبادة، لأن الذي بُعث به النبي صلوات الله وسلامه عليه هو إصلاح الإنسان (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [رواه البخاري في الأدب المفرد (273) وأحمد (381/2)]، وليجعل العبادة لله رب العالمين (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) [الجمعة:2] هذه مهمة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

بيـان الدين لكل ما نحتاجه:

فهل يُعقل أن إصلاح الفرد الذي هو إصلاح الأمة يترك هدراً وهملاً؟! ما يستقيم هذا في الدين، فإن من تمام الإصلاح أن يوضع للناس النظام الذي يصلحون به مجتمعهم، فمخطئ إذاً من يظن بأن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مفتوحة للناس أن يقرروا فيها ما يريدون، وأن يختاروا الوسائل والطرق والمناهج التي يسلكون لإقامة دولتهم المنشودة، لأنه لاشك أن إصلاح الدولة أولى من دخول الحمام!! فالله عز وجل عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم علّمَنا كيف ندخل بيت الخلاء، وعلمنا كيف نقلم أظافرنا، وعلمنا كيف يحلق الرجل شعره، وكيف يحف شاربه، ولا يعلمنا كيف نقيم دولة الإسلام؟!!

فلابد إذاً يا إخواني أن نعلم وأن يدخل في عقولنا أساس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا كل شيء، كيف ندعو؟ كيف تجتهد؟ كيف نحكم؟ كيف نقضي؟ كيف إذا ضُربت علينا الذلة؟ وكيف ترفع عنا؟ وكيف نجاهد؟ ومتى نجاهد؟ وشروط الجهاد؟ ومتى لا يجوز الجهاد؟ ومتى نصالح العدو؟ ومتى لا نصالح العدو؟ كيف وكيف.. إلخ كل ذلك في الكتاب المسطور، بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نظن بأن أمر الدعوة إلى الله عز وجل هذا من ابتكار المعاصرين، وقد وضعوا له قواعد وأصول، هذا خلل في التفكير، فإن الله سبحانه وتعالى رب السماوات والأرض بين لنا كل شيء (وما كان ربك نسيا) [مريم:64]، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه: (ما من شيء إلا وفيه علم منه، عَلِمَها من عَلِمَها وغابت عمّن غابت) ولذلك في الملمات والأمور الكبيرة يرجع إلى أهل العلم بالكتاب والسنة فإنهم قد حووا علم الكتاب والسنة، فهم أدرى من الناشئة بخبايا الكتاب والسنة.

علينا يا إخواني أن نعلم بأننا لسنا أحراراً، فقد قال الله تعالى: (فبهداهم اقتده) [الأنعام:60] عن الرسل السابقين، وقال: (فاستقم كما أمرت) [هود:112] وقال لنا جميعاً: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [السجدة:24].

 

ليس لنا أن نعيش ونقرر ما نريد، فنقرر نتعاون مع رافضي أو علماني، أو نفعل من أمور الصخب التي تُفعل هذه الأيام، بحجة مصلحة الدين!! الدين لسنا نحن المسؤولين عنه، نحن عبيد مُنفِّذون، نسير تحت تنفيذ أمر، لتحقيق رضا الله سبحانه وتعالى، نحن موجودون في هذه الأرض لنعبد الله وحده سبحانه وتعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك:2] لهذا وُجِدنا ؛ ليكون أحدنا أحسن الناس عملاً، فيرضى عنه الرب سبحانه وتعالى، فيدخل الجنة، وإن سخط الله عليك - أعاذنا الله من ذلك - خسر العبد.

إذاً نعلم بأننا في هذه الدعوة عندنا سلم نصعده وطريق نسلكه، ولذلك يا إخواني انظروا إلى كل الحركات التي قامت لم تستطع أن تحدد شكل الدولة التي تريد أن تقيمها، وهذا من العَجَب، كالذي نوى أن يتزوج ولكن ما يعرف يريد بكراً أو ثيباً، كيف يتزوج ما يدري وإنما كلما سهر في الليل تغنى في زوجة.

الحركات الإسلامية التي تتغنى ليل نهار في الدولة الإسلامية، لكن ما شكلها؟ هل هي ديمقراطية؟ هل هي اشتراكية؟ هل هي رأسمالية؟ هل فيها انتخابات؟ هل ما فيها انتخابات؟ ما وضعوا قانون إلى الآن!! ولذلك الأفغان حاربوا وانتهوا وما وضعوا لهم شكل الدولة التي يريدون، فاختلفوا بعد ما خرج الروس.

 

أما دعاة الكتاب والسنة فعندهم والحمد لله كل شيء واضح مثل الشمس، لذلك مثلاً نتعجب أحياناً من بهرج الجُمل، يقولون: اقتصاد إسلامي، وتأتي ترى في الاقتصاد الإسلامي فإذا به: البيوع بأحكامها والشركات بتأسيسها والمزارعة والمساقاة، فيظن المسكين أن الجماعات والحركات أتت بعلم جديد اسمه (اقتصاد إسلامي)، لكن الحقيقة لم يأتوا بجديد، فكل الذي يدندنون عليه مُدَوّن في كتب أهل العلم ببيان واضح جميل، ولذلك السلف ما احتاجوا إلى مُنظِّرين جُدد يقولون لهم كيف يُعيدون بناء أمتهم، ومن عجائب هذا الأمر أنك تجد اتفاق بين أقصى السند وأقصى أفريقيا في هذه القضايا، لأن مصدر التلقي عندهم واحد: الكتاب والسنة وطريقة السلف.

فإذاً يا إخواني لا نظن أن أمر الدعوة هذا أمر جديد، هذا يقرر مظاهرات، وهذا يقرر اغتيالات، وذاك يقرر الاعتصام، وهذا يقرر الانتحار، ورابع يقرر حملة فدائية، وآخر يقرر تكسير كل ممتلكات الكفار، وقس عليه من الفوضى، نحن لسنا أحراراً نقرر ما نشاء، وإنما الأمر له نظام وله علم وله بيان، ونحن أمة ذات تاريخ وذات فقه وذات علماء، ما هي أمة نابتة جديدة، فالمخرج من هذا أن يثق الشباب بمنهج السلف، وينظرون بأن السلف أعلم وأحكم، فإن عجزوا عن شيء سألوا أهل العلم.

 

الأمر الثالث: التسلح بالعلـم والصبـر:

أن هذا الدرب الذي هو الدعوة إلى الله عز وجل لا شك أنه درب النبي صلى الله عليه وسلم، ودرب أولي العزم من الرسل، فيحتاج أن يكون الإنسان متسلحاً بما كان عليه الأولون من الرسل ومن تبعهم، ولابد أن يتصف مع بقية الصفات بالعلم واليقين، كما قال سبحانه وتعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون) [السجدة:24]، بسبب الفوضى التي نشاهدها في عالمنا المعاصر، وأن هناك اندفاع ورغبة في الدين ولكنها كما قالوا: عاطفة، ويعبر عنها الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: (فإن لم تُحكم بالعلم أصبحت عاصفة) العاطفة هي اندفاع عند الشباب، وهذه القوة التي تشاهد والرغبة في التغيير لا يضبطها ويلجمهما إلا العلم، فإذا عدم العلم أصبحت عاصفة تدمر.

 

واعلم أنك أحد ثلاثة لن تتعداهم: إما جاهل فتقلد وتتبع من تثق في دينه من أهل العلم، وإما طالب علم عندك قدرة على التمييز فتميز بنفسك - وقد يقلد طالب العلم أحياناً -، وإما إمام مجتهد يجتهد بنفسه، وعلى كل إنسان أن يضع نفسه في المكان المخصص له فلا ينتقل من جاهل إلى أن يكون عالماً أو طالب علم يرجح بين الأقوال، فإذا رأى مسألة قال: والله لست مُلزماً بقول فلان من العلماء، وهو لا يعرف من العلم شيء! وهذه هي آفة عصرنا، فالشباب يُقبل على الفتوى وعلى رد كلام أهل العلم دون بصيرة، وهذا من تضييع الأمانة بأن يُسند الأمر إلى غير أهله، وعبر عنه أهل العلم بتولية الفتى الجاهل.

ثم إن من يريد أن يصلح الناس فلابد له من الصبر، والصبر أنواع أشده أن تصبر على الخصم، وترى أنك محق وهو مخطأ، لأنك إذا صبرت وأنت مخطأ وهو محق ما كان صبراً، وإنما الصبر أن تصبر عليه محتسباً أن يهديه الله عز وجل، ترجوا له الهداية، كما رُوي عن كثير مِن مَن سبقنا أنهم كانوا يقولون: (ما ناقشت أحداً أو ما جادلت أحداً إلا ورغبت أن يظهر الله الحق على لسانه) هذا النوع من الرغبة في هداية الناس خُلق كان عليه الأولون، وللأسف الشديد نشاهد كثير من الناس في هذا العصر قد ضيعوا هذا الخُلق، وإنما تراه يجتهد على أن يظهر صاحبه مخطأ، وكأنه ينبسط ويطرب ويفرح إذا رد هذا الحق، حتى يطبق عليه الأحكام الأخرى كأحكام الهجر والتشهير وما إلى ذلك، وهذا ليس بأدب الأولين ولا بأدب أهل العلم، وليس أيضاً بأدب من يريد الخير.

 

واعلم أن الجائع إذا قُدم له الطعام بإناء قذر لا يقبل، والشبعان إذا قُدم له الطعام بإناء جميل مزوَّق أكل منه ولو ذاق، فالذين ابتلوا بالشبهات وبالأهواء وبمخالفة السنة ما يمكن يقبلون، لأنهم يرون أنك لا تملك شيء من العلم - وقد يكون صحيح - ولكن لنتلطف في تقديمنا السنة للناس، والناس في هذا الباب كما هو مشاهد بين طرفين ووسط، بعضهم لا ينهى أهل البدع والأهواء وأهل المعاصي حتى كاد أن يكون منهم، والآخر شد حتى كاد أن يقطع حبله، وإنما نحن جعلنا الله سبحانه وتعالى أمة وسطاً في كل شيء، فمن وفق لهذا وصبر على ما يلقاه من الأذى، محتسباً بذلك ما عند الله سبحانه وتعالى، فله الثواب الجميل.

ولنعلم أن الناس محبون للخير، لذلك يجب علينا أن نتفاءل وأن نحسن الظن بهم، وأن نحرص كل الحرص على ألا نسيء الظن، وأن الخير ما ينتشر إلا بجهدٍ وسبب، فالله قادر على كل شيء، ولكن أراد أن تقوم الأمم بالأسباب، فإذا أردنا الخير في الناس فلنشمر ولنجتهد في الدعوة إلى الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما أن نجلس في بيوتنا أو في بعض حلق المسجد ثم نقول: هذا هالك وهذا فاسد وهذا وهذا!! ثم نخرج وكأننا ملكنا الدنيا وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر!! فلا حققنا به ديناً ولا أرحنا الناس، ولا أنفسنا من كسب الإثم.

أسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله. 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك