فكر الأزمة / التطرف الفكري
حامد بخيت الشريف
نحاول هنا التعرف على المؤثرات الفكرية الباعثة على التطرف كونه أحد مظاهر أزمة ماثلة، وانطلاقاً من مبدأ أن الظاهرة ارتبطت بشكل كبير ببعض رجال الدين، مما أسقطها على المنهج ككل، لا سيما الإسلام. لذا فإننا سنحاول جهدنا أن نقرأها من وجهة نظر الدين الإسلامي، ولعلنا نبدأ بحثنا من حيث تحليل ظاهرة التطرف الفكري والتعرف على مسببات ظهورها.
> التطرف لغة :
التطرف لغةً مشتق من "الطَّرَف" أي "الناحية"، أو "منتهى كل شيء". وتطرّف "أتى الطرف"، و"جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط". وكلمة "التطرف" تستدعي إلى الخاطر كلمة "الغلوّ" التي تعني تجاوز الحد. وهو من "غلا" "زاد وارتفع وجاوز الحد". ويقال الغلو في الأمر والدين: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} النساء: 171.
التطرف في الاصطلاح:
و"التطرف" مصطلحاً؛ يضاد مصطلح "الوسطية" الذي هو من الوسط "الواقع بين طرفين"، وهو يحمل في طياته معنى "العدل". وفي القرآن الكريم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} آل عمران: 143. أي أمة عدل.
يمكن تحديد مفهوم التطرف الفكري من الناحية الاصطلاحية بأنه: "الغلو والتنطع في قضايا الشرع، والانحراف المتشدد في فهم قضايا الواقع والحياة"، فالميل نحو أي طرف سواء أكان غلواً أم تقصيراً، تشدداً أم انحلالاً؛ يعتبر أمراً مذموماً في العقل والشرع.
والذي دعاني في البداية إلى تحديد هذا المفهوم وضبط معناه، الاستعمال الشائع لهذا المصطلح الذي حمل معه الكثير من التجاوزات والمبالغات، فلم يسلم مصطلح "التطرف الفكري" من تطرف في فهمه واتهام الغير به، من غير مبرر علمي أو مسوّغ لغوي!
يشهد لهذه التجاوزات في الواقع ما وصف به الدين الإسلامي بأنه دين متطرف، ودعاته أصوليون متنطعون، والحقيقة الشرعية والعقلية تنفي هذا عن الإسلام، ولا يُحمل بعض التصرفات المتشددة وأعمال العنف عند بعض أبنائه على أنه جزء من أحكامه.
ولعل شيوع مصطلح التطرف الذي صار وصماً للدعوات الدينية وبالتالي يوصف اتباعها بالمتطرفين، قد جاء من خلال الترجمة للكلمة الإنجليزية (extremism)، مقترناً بمصطلح الأصولية التي تعني بالإنجليزية (fundamentalism ).
والأصولية في معجم "وبستر" مصطلح أطلق على حركة احتجاج مسيحية ظهرت في القرن العشرين، تؤكد على ضرورة التفسير الحرفي للكتاب المقدس كأساس للحياة الدينية الصحيحة، وهو يطلق أيضاً على أية حركة أو اتجاه يشدّد بثباتٍ على التمسك الحرفي بمجموعة قيم ومبادئ أساسية،
فالعودة إلى الأصول الإسلامية والتمسك بها لا تعني بتاتاً التطرف والانحراف أو التشدد والغلو في العمل للإسلام، بل على العكس تماماًً نجد أن التمسك الحقيقي بالدين والعودة إلى معينه الصافي (الكتاب والسنة) يقتضي من المسلم الرأفة والرحمة بالناس والتعايش مع المخالف والرفق بالمعاند ونبذ التشدد والغلو مع الآخر، والتأكيد على ضمان الأمن والاستقرار والسلام لعموم أفراد المجتمع مهما كانت ديانتهم.
> التطرف الفكري:
يشكّل التطرف الفكري أزمة حقيقية للفكر.. فضلاً عن أزماته الأخرى، إذا تجسد في أرض الواقع. ولكي نبحث عن مخرج لهذه الأزمة الفكرية يجب أن نحلل الأسباب ونتتبع الجذور التي أدت إلى هذا التطرف في المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص.
إن الممارسات الفكرية المنافية للموضوعية لا ينبغي أن يستهان بها، حتى لو كانت آثارها المبدئية ضعيفة، ولكنها قد تنمو مع مرور الزمن لتصبح أكثر بعداً عن الوسطية والموضوعية، معلنة نشأة التطرف بكل أطيافه الفكرية.
فالتعصب للأفراد أو المذاهب أو الجماعات يجعل الفرد لا يرى الحق إلا من خلالها، ويصادر بالتالي عقله ويفكر بمنطق غيره ويرفض كل رأي يخالف ما تعصب له من رأي أو طريقة، مما يزيد هوّة الافتراق في المجتمع، وربما يؤول الوضع إلى تنازع واقتتال بين أفراد المجتمع الواحد.
إن المبالغات التي أصبحت سمة للفكر المتطرف تجعله يبالغ في ذم من يخالفه إلى درجة الإسقاط والإقصاء، وفي المقابل المدح والثناء على من يوافقه لدرجة التقديس والتنزيه عن الأخطاء.
وهذا ما قد يؤدي في المستقبل إلى نشوء عقليات لا تنظر إلى الحقائق إلا من خلال النظر العاطفي المجرد.
إن رؤية نصف الحقيقة أشرّ من الجهل بها، لأنها توجد إنساناً يظن أنه يعرف كل شيء وهو لم يعرف إلا الجزء الذي يجعله مسماراً في آلة كبيرة دون أن يعرف شيئاً عن تلك الآلة.
وأهم ما يساعد على نشوء هذه العقليات ذات البُعد الواحد، سواء أكانوا من المتطرفين أم من غيرهم؛ فقر البيئة الطبيعية أو الثقافية، بمعنى ضعف الخلفية العلمية والمنطقية لتحليل المشكلات وعلاج الأزمات، فيكون تفكيره -المتطرف- لا يخرج عن ذلك الإطار الضيق الذي يشكل حصيلته المعرفية وخبراته الحياتية.
إن عقلية البعد الواحد يصعب عليها أن تحاور في هدوء، أو تسمع النقد المقابل دون تشنج؛ لأنها اعتادت أن تنظر إلى نفسها نظرة اعتدال وكمال واحتكار للحق والصواب، وكل من خالفها لن يعدو أن يكون ناقص فقه أو دين.
إن تبسيط الأمور العظيمة والمشكلات المزمنة دون العمق في النظر والتحليل المنطقي لها، سمّة لأهل التطرف والغلو، بالإضافة إلى الانغلاق التام نحو الاستفادة من الثقافات أو العلوم الأخرى المعنية بذلك.
إن هذه الممارسات الفكرية وإن ظلت في الخفاء أو لم تسهم في إثارة عنف أو تدمير في الواقع، لا ينبغي لنا تجاهلها أو غض الطرف عنها، والواجب على مؤسسات المجتمع المختلفة أن تعيد صياغة الذهن وتنمية الوعي بالتفكير الموضوعي، وتعميق الحوار وتعليم أدب الاختلاف والإسهام بإيجاد مناهج تعليمية تطور هذا النمط من التفكير والتعليم.
> الفكر الإسلامي والتطرف:
المتأمل في نصوص الشرع وأحكام التكليف تتبين له وسطية هذه الشريعة واعتدال أحكامها وجريان فروعها وأصولها على مقتضى مقاصد الشرع بإسعاد الإنسان ومجتمعه، وتحذيره من الغلو والتقصير، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} البقرة: 143.
ويقول النبي صلى الله عليه سلم: "إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسدّدوا وقاربوا"، وفي رواية أخرى: "واغدوا وروحوا وعليكم بشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا". كما حذر عليه الصلاة والسلام من خطر التنطع والغلو في قوله: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. ومع التحذير العظيم الذي بينته كثير من نصوص الشرع في شأن الغلو والتشدد والتنطع وذلك لكونها تؤدي إلى انحراف في الفكر وتجاوز في الحدّ حتى لو كان ذلك في أمور الطاعات والقيام بالعبادات فإنها تؤدي إلى الهلاك والخسار في الدنيا والآخرة، ولهذا كانت الوسطية ميزة وخصيصة لهذه الشريعة الإسلامية، فحاربت كل اتجاه أو فكر ينزع إلى الغلو أو التطرف فجاءت أحكامها ونصوصها لتوازن بين المادية والروحية، وبين أمور الدنيا والآخرة، وبين حقوق النفس وحقوق الخلق وحقوق الله عز وجل، حتى انفعالات النفس وعواطفها أمرنا بالاعتدال والتوسط في ممارستها كما في الحب والكره، والغضب والرضا، والإقدام والخوف، الشك واليقين... وغيرها.
كما لم يكتف الإسلام بالتحذير من الغلو والتنطع كجانب علاجي، بل أمر بالسماحة واليسر في الأمور كلها كجانب وقائي، يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185. وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة: 6. ويؤكد ([) هذا المنهج في قوله: "إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً"، ولهذا كان يوصف ([) بأنه: "ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن يأثم فكان ([) من أيسر الناس وألطفهم وأبعدهم عن الشدة والعنف". يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"، وإذا أوصى أصحابه بأمر لم يدع أن يذكرهم بالتيسير والتبشير كما فعل في وصيته لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمّا بعثهما إلى اليمن قال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا".
فالتطرف الفكري لا يمكن أن يكون خصيصة دينية أو سمتاً للمسلمين، بل هو انحراف عن الإسلام عانى منه الصحابة والتابعون عقوداً من الزمن، كما في شأن الخوارج بطوائفهم المختلفة وجنوحهم الفكري الذي لم يزل نتاجه الشاذ يتوالد عبر القرون، كأنموذج فظيع للتطرف الفكري، وإن زعموا أنهم مسلمون وإن قرأوا القرآن.
ونخلص من جملة ما ذهبنا إليه إلى أن للتطرف الفكري جملة ملامح يمكن إيجازها في ما يلي:
الخلل الكبير في فهم الدين خصوصاً عند تلقي الأحكام أو الاستدلال بالنصوص، إن هذا الخلل في منهج التلقي للأحكام أورث خللاً في الواقع التطبيقي لها، كما أصبح الواقع العملي الوارث لهذا الخلل مجالاً لفوضى الفكر وعنف التعايش والتخاطب بين هذه التيارات والمناهج.
الجهل وتحسين الظن بالعقل مع الغرور بالنفس، مما يؤدي إلى الجنوح وإحداث في الدين، يقول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ص: 26.
ويحدث الخلل في منهج التلقي عندما تقدم آراء البشر على نصوص الشرع، بتقديم تلك الآراء البشرية على المحكم من النصوص، وتجعل بعض فتاوى أنصاف العلماء حجة على قواعد الشرع وكلياته.
التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم.
ومن أهم ملامح الفكر المتطرف استخفافه بالتكفير والتبديع، واتهام جمهور الناس بالخروج عن الإسلام، أو عدم الدخول فيه أصلاً، كما هي دعوى بعضهم، وهذا يمثل قمة التطرف الذي يجعل صاحبه في واد، وسائر الأمة في واد آخر. مع أن النبي ([) قال: "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
المراجع :
> القرآن الكريم
> صحيح البخاري
> صحيح مسلم
> صحيح الجامع
> مسند الإمام أحمد
> الأصبهاني: مفردات غريب القرآن