من الحوار المذهبي إلى الوحدة الوطنية

من الحوار المذهبي إلى الوحدة الوطنية

محمد محفوظ

في البدء من الضروري أن نتساءل: كيف يتعمق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع تتعدد فيه المذاهب والطوائف الإسلامية، وذلك لأنه في بعض الحقب التاريخية من تاريخنا العربي والإسلامي، ولعوامل سياسية - اجتماعية عديدة، تحول هذا التعدد المذهبي إلى حالة من الصراع المفتوح، التي استخدمت فيه جميع الأسلحة، بهدف قضاء كل طرف على الآخر.

ولا ريب أن التخلف كنمط عقلي وسلوكي، هو الذي يهيئ جميع الظروف، لاستتبات هذه الصراعات، وتجذير هذه التوترات في الساحة الاجتماعية. حيث إننا حينما نقرأ التجربة العربية والإسلامية من منظور سوسيولوجي، نكتشف أنه في زمن هيمنة التخلف وسيطرة عقلية الانحطاط، تسود وتبرز الصراعات المذهبية والطائفية، وتعود الانقسامات التاريخية إلى السطح. أما حينما يكون العرب والمسلمون في حالة اجتماعية وحضارية متقدمة، تتراجع الانقسامات التاريخية إلى الوراء، ولا يكون لها مفعول مباشر في الحدث الاجتماعي والسياسي.

وهذا يجعلنا نقرر حقيقة أساسية وهي: أن الأرضية الحقيقية للانقسامات المذهبية التاريخية ودورها التمزيقي في الوطن والأمة، ليست في وجود مدارس فقهية وفكرية متعددة في الفضاء المعرفي والاجتماعي الإسلامي، وإنما التخلف بآلياته ومنتوجاته الاجتماعية والفكرية، هو الذي يشكل الأرض الخصبة لنمو هذه الانقسامات، وتمزيق أواصر الوحدة الإسلامية والوطنية.

لهذا فإننا نرى أن وجود مدارس فقهية ومذهبية متعددة في التجربة العربية والإسلامية سلاح ذو حدين.. فحينما يكون وضعنا السياسي والاجتماعي، يقع تحت تأثير نمط التخلف والانحطاط، فإننا ننظر إلى هذا التعدد في الاجتهادات الفقهية والفكرية كأحد العوامل الأساسية لواقع التقسيم والتجزئة الذي يعيشه عالمنا العربي والإسلامي. وفي المقابل إذا كان وضعنا السياسي والاجتماعي سليما، فإننا ننظر إلى هذا التعدد باعتباره ثروة ودليل حيوية الحياة العربية والإسلامية، التي استطاعت أن تنتج مثل هذه الأفكار، وتنجب مثل هؤلاء العباقرة والعلماء الأفذاذ.

لهذا فإن مربط الفرس في هذه المسألة، هو في طبيعة العقل والفكر السائد في المجتمع، الذي يحدد الموقف من واقع التعدد المذهبي والفكري. وبهذا يمكننا القول ان وجود الإجتهادات التاريخية المختلفة في التجربة العربية والإسلامية، بإمكاننا أن نجعله وسيلة فعالة من وسائل التأصيل لواقع التعدد والاختلاف في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر.

كما بإمكاننا أن نجعله وسيلة تدميرية لكل القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الوطن والأمة الواحدة.

وعليه فإن مهمتنا اليوم، ليس الانحباس والتقوقع في تلك الانقسامات التاريخية وإنما مهمتنا الأساس تتجسد في بلورة الوعي الحضاري لدينا تجاه تلك الاجتهادات الفقهية والفكرية.. حتى لا تكون عاملا سيئا في واقعنا المعاصر.

فلا يمكننا أن نرجع عقارب الساعة إلى الوراء، ونصيغ أحداث التاريخ وفق ما نشتهي ونريد، وإنما الشيء الذي نقدر عليه، ويفيدنا في حاضرنا، هو النظر إلى التاريخ باجتهاداته المختلفة، ومدارسه المتعددة، وأحداثه المضطربة نظرة حضارية.

والنظرة الحضارية إلى الواقع التاريخي تعني:

أن واقع الناس هو وليد كسبهم ونشاطهم، ولا يمكننا نحن اليوم أن ننزوي عن حاضرنا أو نبتعد عن مسؤولياتنا الوطنية والحضارية. ونلجأ نفسيا وعمليا إلى أمجاد الماضي، ونعيش أحلامه وأحداثه، وإنما من الضروري التفكير الجدي من أجل أن نكون الامتداد الحضاري لذلك الكسب التاريخي.

فالوعي الحضاري هو الذي يوقف زحف العصبيات التاريخية، ويمنعها من التشكل والتجسيد الاجتماعي العصبوي المغلق.. وإنما يستفيد منها في إثراء مفهوم الوحدة الوطنية، القائمة على التنوع الطبيعي والتاريخي.

وإن النواة الأولى لتعميق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع إرثه التاريخي متعدد، هو تعميق الوحدة الشعورية لدى أبناء الوطن الواحد.. حيث ان وحدة الشعور هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية.. لهذا ينبغي الاهتمام الجاد بمسائل احترام شعور الآخرين، وعدم العمل على استفزازهم والاستهزاء بمشاعرهم. لأن هذا الاستفزاز والاستهزاء هو الذي يؤلب النفوس، ويعمق الأحقاد، ويبني حواجز سميكة تمنع التلاقي والتعايش المشترك.

لهذا فإن واجبنا جميعا، هو العمل على تعميق وحدة الشعور الوطني، بحيث لا تكون التنوعات المذهبية حائلا دون وحدة الشعور الوطني. فالوحدة الوطنية لا تتأتى عبر إلغاء الحقائق المذهبية والاجتماعية، وإنما عبر احترام تلك الحقائق، والعمل على تهيئة الظروف الموضوعية التي تؤهل تلك الحقائق إلى إبراز مضمونها الوحدوي والتعايشي.

من هنا فإننا جميعا بحاجة أن نتعامل مع مبادرة صاحب السمو الملكي ولي العهد حول حوار المذاهب الإسلامية، باعتبارها من المبادرات الحيوية التي تزيدنا قوة، وتمنع كل المحاولات الحاقدة التي تسعى إلى دق اسفين بين مكونات مجتمعنا وأمتنا. وفي هذا السياق من الأهمية بمكان التأكيد على العناصر التالية:

1- إن تمتين أواصر الوحدة الوطنية، بحاجة إلى الانفتاح والتواصل النوعي من مختلف المدارس والمذاهب الإسلامية المتوفرة في مجتمعنا، وذلك لإثراء واقعنا وتطوير وحدتنا وإنجاز فرادتنا في البناء والتطوير.

2- إن الحوار والتواصل بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية في الدائرة الوطنية، بحاجة إلى تشكيل مناهجنا التربوية والتعليمية على قاعدة هذه الضرورة والمنهجية. إذ اننا ندعو على المستوى المنهجي والتربوي الانفتاح على كل الاجتهادات والاستفادة من كل المنجزات المعرفية بصرف النظر عن منبتها المذهبي أو الفقهي. إننا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تسود فيه دراسات الفقه المقارن في معاهدنا ومؤسساتنا العلمية والتربوية.

3- إن الحوارات المذهبية لاتستهدف المماحكة الأيدلوجية والمذهبية والدخول في متاهات التاريخ ودهاليزه، وإنما من أجل توفير مناخ ملائم من التفاهم المتبادل وتوسيع المساحات المشتركة وتطوير أسباب الوئام والالتحام الوطني.

وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم التطرق والحديث في المسائل العلمية والفقهية والتاريخية محل الاختلاف والتباين. ولكن ما نريد قوله ان التطرق إلى هذه المسائل وغيرها، يتم على قاعدة الحوار العلمي - الموضوعي الذي يبتعد عن لغة السجال، ولا يتوخى إلا المزيد من المعرفة المتبادلة.

لذلك فإن العمل على تهيئة الأرضية النفسية والاجتماعية للقبول بالآخر المذهبي والفكري، هو الخطوة الأساسية التي توفر إمكانية فعلية لإدامة الحوار وبعده عن مواقع السجال التي توتر الأجواء ولا توصله إلى آفاق حقيقية ومفيدة.

وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، عدم الشفافية في الحوار. وإنما نحن ضد التكلف في التواصل الحواري، لأنه لايخلق الثقة المتبادلة، ولا يوصلنا إلى فهم مشترك.

إننا مع الصراحة والشفافية والحوار حول كل المسائل والقضايا بدون محذورات، إلا اننا في نفس الوقت نعتقد أن الوصول إلى هذا بحاجة إلى توفير مناخ نفسي - اجتماعي مؤاتي لذلك.

لأن هذا المناخ هو الذين يساعدنا على بلورة الشروط الثقافية والعملية لنجاح الحوار واستمراريته. هذا المناخ هو الذي ينزع من نفوسنا جميعا حالة التعصب الأعمى لذواتنا وآرائنا، ويجعلنا نبحث عن الأفضل والأحسن دائما.. إذ يقول تعالى (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا).. "الاسراء، الآية 53".

وبهذا المنظور يخرج الحوار من دائرة المذهبية الضيقة، ونجعله منفتحا على كل قضايا الإسلام وقضايا الأمة في اللحظة الراهنة.

وعليه فإننا نتطلع إلى وحدة وطنية قائمة على أسس العدالة والمساواة. بحيث تشترك جميع مكونات وتعبيرات المجتمع في بناء الوحدة.

والحوارات المذهبية والوطنية، تفتح الطريق لكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكي تشارك بمسؤولية في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية. فالحوارات بمختلف عناوينها ومستوياتها، هي من أجل إثراء مضمون الوحدة، وإخراج هذا المفهوم من الرؤية الشوفينية، التي لا ترى في الوحدة إلا التوحيد القسري للناس في قالب ورؤية واحدة.

إن هذه الرؤية الشوفينية، ومن منطلق التجارب السياسية والاجتماعية العديدة، لم تنتج إلا بالمزيد من التشـظي والتفتت والتجزئة.

فالوحدة لا تبنى عبر دحر الخصوصيات وخنق التنوعات، وإنما عبر خلق المناخ السياسي والقانوني لكل الخصوصيات والتنوعات المتوفرة في المجتمع، لكي تمارس دورها ووظيفتها في بناء وحدة الوطن وتعزيز لحمته الداخلية. فالعلاقة جد عميقة وصميمية بين مفهوم الوحدة وبين احترام الخصوصيات والتنوعات وتهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لمشاركتها في البناء والعمران.

وعليه فإن الوحدة بكل مستوياتهما، لا تبنى بثقافة الإقصاء والتهميش، كما أنها لا تتحقق بالتعصب الديني أو المذهبي أو القومي.. إن هذه العقلية وممارستها، تطرد من الواقع إمكانية الائتلاف والوحدة. وإذا أردنا الوحدة في مجتمعنا ووطنا، فعلينا نبذ ثقافة التهميش والتعصب، وبناء ثقافة الحوار والتسامح واحترام حقوق الإنسان. فهي طريقتنا لتوطيد العلاقة الحسنة والايجابية بين مكونات المجتمع والوطن، وهي سبيلنا لبناء واقع وحدوي على أسس حضارية وإنسانية دائمة.

المصدر: جريدة الرياض السعودية 18/11/2003

المصدر: http://www.alwihdah.com/fikr/fikr/2010-04-26-1052.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك