آفاق الحوار بين السجال البليد والصراع المرير

آفاق الحوار بين السجال البليد والصراع المرير

بقلم : مروة كريدية

لقد حدثت فجوة بين رسالة عيسى المسيح التي نادى بها، ومفهومها لدى الإنسان العربي، بسبب غربته. وما أعني بغربته هو تبني الغرب للمسيحية. هذا التبني شكل لدى الإنسان العربي ردّة فعل عنيفة ضدّ المسيحية أنستْه أن عيسى المسيح هو ابن تراثنا، ابن شرقنا، رسالته رسالتنا “ مظهر الملوحي
 
 شهدت علاقة الانسان العربي بالاخر مراحل عدّة اتسمت بالتوترات حينًا وبالتحاور حينًا آخر، وفي زمن سيطرةِ المادة وتسلط العنف واستحكام الجهل الروحي، أمست الصراعات بكل أشكالها ومستوياتها ووجوهها هي السمة العلائقية الأبرز التي تتحكم بالأحداث الاجتماعية و المتغيرات السياسية.
 
لقد أراد البعض جعل “صراع الحضارات ” عنوانًا لعصرنا بهدف تكريس العنف وإضفاء المشروعية المصلحية عليه، ف”أسلموا” الارهاب ثم أدانوه، وأدلجوا الصراعات ثم ادانوا العقائد، والبسوا النزاع أثوابًا دينية شتى، ثم نادوا علينا بضرورة “الحوار” منطلقين من العقلية “الدوغمائية” نفسها التي أدانوها سابقًا، وعقدوا لأجل ذلك المؤتمرات الفارهة بميزانيات ضخمة، وخرجوا بتوصيات “كبيرة” خالية من الرشاقة، لم يجدوا لها حتى الآن مصرفًا.
وبلمحة تاريخية سريعة حول نظرة المسلمين الى لاهوت الآخرين، نجد انها مرّت بتطورات عدة، بدأت مع  انتشار الاسلام بمرحلته الأولى حيث سيطرت النزعة الانتصارية التغيرية، وهي حقبة تاريخية عنيفة، أحدثت هزّة في جغرافيَّة الحضارات؛ لتعود الأمورالى الاستقرار في مرحلةٍ تالية وتكتسب شيئًا من التوازن حيث   نجد المسلمين فيها شغوفين بالتعرف على الآخر، بل مضوا الى الاستفادة من خبراته كلها بما فيها السياسية، وازدهرت حركة التواصل الاجتماعي والثقافي، وانتشر التسامح.
ومع الحروب “الصليبية” اختلَّت العلاقة مجددًا، لتليها مرحلة من الركود الفكري واللامبالاة خلال الحقبة العثمانية ؛ ثم شهدت مرحلة القرن التاسع عشر تَفَجُرًّا عنيفًا بمواجهة ما سمي ب”المستعمر الغازي ” الذي كان يكتسي هوية مسيحية غربية، فيما بقيت المسيحية الشرقية العربية متفرجة؛ لنصل الى القرن العشرين، حيث بلغ العنف مداه ووصل التباعد بين اتباع “الأديان” الى حدّه الأقصى، بل وأخذ منحى دراماتيكيا أصبح  كلّ “مسيحيٍّ” فيه بنظر المسلمين  “غربيّ”،  وهو تحريف وتزييف خطير، وكأن المسيح خرج علينا من” البيت الأبيض” في واشنطن، او بَشّر برسالته  من قصر “الإليزيه”…!!
 
آفاق الحوار، الى اين؟
اولا: على صعيد العلاقات الخارجية:
ان “أسلمة” الارهاب و”شيطنة” الاسلام  و أدلجته وربطه ب”دوغما معينة “  ليس إلا  تفسيرًا سطحيًّا لأمور أكثر تعقيدًا وأكبر، ولا يمكن ان نحمّل بحال من الاحوال اناس هذا العصر تبعات كلّ العصور الفائتة التي ورثوها عن اجدادهم دون اختيار منهم او ذنب، سوى انهم وجودوا أنفسهم أبناء حضارة معينة؛ فالتاريخ ليس من صنع إله طرف يواجه طرفًا آخرًا، ولا يوجد”محور خير للصالحين الاخيار” او “محور شر للشياطين الأشرار” والأرض ليست حكرًا لأحد…. وينبغي ان يكون نبذ العنف و السلام  والمساواة في الحقوق هو المحور الاساس في العلاقات الدولية كي يتحقق الحوار بمعناه المتكامل.
 
ثانيًا:على الصعيد الداخلي:
 ان صورة علاقة الاديان داخل الشعب الواحد في الدول العربية لا تبشر بالخير أبدًا، وسبب ذلك يعود إلى ان الأنظمة تختزل كافة انواع المشاركة ب “الحزب الحاكم ” او “العشيرة المسيطرة ” او “ابناء الاسر المالكة “…فكيف لنا ان نتوقع من الأنظمة تلك، ان تعترف ب”الأقليات” وتشركها في القرارات والخيارات، وهي لا تشرك “الاكثرية ” التي تشاطرها نفس  الدين والمذهب والعرق؛ فالعقلية السلطوية المتفردة  في الامساك بجميع الامور، هي إحدى أهم معوقات الحوار الحقيقي، واحد أهم معوّقات تطورالانسان، لانها تكرس العنف وتشرعه وتستخدمه.
وما المؤتمرات التي يسعى لها “الزعماء العرب” ويعقدونها هنا وهناك رافعين فيها شعارات “الحوار”، إلا “بروباغندا” يائسة لاخراج بعض الانظمة من صورة قوقعتها الفكرية،  وهي محاولات لا ننكرها وبالامكان توظيفها بأبعاد مختلفة غير انها ستبقى بليدة وغير مجدية، ما لم تتفعّل بنية النظام السياسي الداخلي بما يتلائم مع الحكم التعددي، ويعد ذلك من سابع المستحيلات في ظل الانظمة العربية الحالية القائمة.
 
ثالثُا: على الصعيد الفردي:
إننا اليوم نواجه تحدّيا فعليًّا وخطرًا حقيقيًا يطال كينونتنا الإنسانية كأفراد، فالعنف والتهافت على المادة والسلطة  يدمر فينا الانسان، والحوار الحقيقي لا يمكن ان يؤتي أكله مالم يعود الانسان الى جوهره الوجودي وحقيقته الروحية، ويُعْمِل في العقلِ قلبه.
ويشكل الوجدان مدخلا جيدا لكافة أشكال الحوار حيث يرتقي الابداع الفردي الانساني ليحاكي كل شيئ في الوجود، مستخدمًا لأجل ذلك كل الفنون والشعر والأدب والرسم والنحت… متناغما عبر الروح والقلب منطلقًا نحن الوجود.
 
أخيرا،،
يحضرني نموذج حواري حيّ في تاريخ الحضارة الانسانية عمومًا والتاريخ الاسلامي خصوصًا، جدير بنا أن نقف عنده طويلا، ونعيد قراءة طروحاته “الانسانية الوجودية ” مجددا، إنه الطرح “الأكبري” لكبير المتحاورين محيي الدين ابن عربي الاندلسي، وهو طرح “تجاوزي” ينتقل بالفرد من سفسطائية المبنى الى اعماق الكينونية الانسانية، ويرتقي بالكائن من ضيق شريعته الى الحقائق الوجودية، انه طرح يتجاوز حتى حوار الافراد العاقلة الى ما بعد الكائنات  الحية، حتى يصل في حواره الى المكون نفسه، وهو القائل في أبياته المشهورة:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن دينه إلى ديني داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائِفٍ
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
 
هوامش:
[1] في تقديم اكتاب “قراءة شرقية لإنجيل لوقا ” ، الصادر 1997

 

 

 

 
كاتبة لبنانية

المصدر: http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/1198282/%d8%a2%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%ac%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%84%d9%8a%d8%af-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك