الحنيفية ديانة إبراهيم عليه السلام
الحنيفية ديانة إبراهيم عليه السلام
بحث وتحقيق
عبـد اللطيـف زكـي أبو هــاشم
مدير دائرة التوثيق والمخطوطات والمكتبات
في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية
مقــدمـة
في هذا البحث المتواضع أردت أن أدرس تطور كلمة حنيف من حيث معناها اللغوي والاصطلاحي الذي ظل يطق عليها عدة قرون وما زال، ثم تتبعت تطور الكلمة في المعاجم اللغوية قديمها وحديثها، ودونت في نهاية الفصل النتائج التي خلصت إليها، وهذا كله ورد في الفصل الأول.
أما في الفصل الثاني فقد درست كلمة (الحنيف) في القرآن حيث وردت في اثنتي عشرة آية، فقمت بدراسة تفاسير هذه الآيات من الأقدم فالأحدث، مبتدئاً بالطبري ومنتهياً بتفسير المنار، وبعد ذلك دونت عدة ملاحظات قد خلصت إليها من خلال الدراسة .
الفصل الثالث: وهو عن الحنيفية في الحديث الشريف حيث قمت بدراسة الأحاديث التي وردت فيها كلمة (حنيف) (وحنفاء)واطلعت على شروح تلك الأحاديث ودونت ملاحظاتي في نهاية الفصل.
الفصل الرابع: وهو عن الأحناف قبل الإسلام حيث قمت بتتبع سير الأحناف الذين كانوا قبل الإسلام كزيد بن عمرو بن نفيل وغيره.
الفصل الخامس: وهو عن العلاقة بين الحنيفية والإسلام حيث قمت ببحث العلاقة ومدى التطور الذي حدث بين الحنيفية والإسلام من خلال ما ورد من الآيات والأحاديث، ومدى التوافق والانسجام بين الحنيفية والإسلام.
و بعد أرجو أن أكون قد أعطيت هذا الموضوع حقه لأنه موضوع جدير بالبحث والدراسة.
الفصل الأول
تعريف الحنيفية: لغة، واصطلاحاً
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في العين: ( الحنف: ميل في صدر القدم ورجل أحنف، ورجل حنفاء ويقال: سميَّ الأحنف بن قيس به لحنف في رجله . وقالت حاضنة الأحنف: والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم كمثله . والسيوف الحنفية تنسب إليه لأنه أول من عملها، أي: أمر باتخاذها وهو في القياس سيف حنفي. وبنو حنيفة هم من ربيعة. ويقال تحنف فلان إلى الشيء تحنفاً إذا مال إليه حسب حنيف أي: حديث إسلامي لا قديم له.
وقال ابن حبْناء التميمي:
وماذا غير أنك ذو سبال تمسِّحُها وذو حَسَب حنيف
والحنيف في القول: (المسلم الذي يستقبل القبلة البيت الحرام على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً.والقول الآخر: الحنيف كل من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء منه[[1]] وعرفها أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في معجمه فقال: (حنف) الحاء والنون والفاء أصل مستقيم وهو الميل، يقال للذي يمشي على ظهور قدميه أحنف. وقال -وأراه الأصح- أن الحنف اعوجاج في الرجل إلى داخل. ورجل أحنف أي مائل الرجلين- وذلك يكون بأن تتدانى صدور قدميه وتتباعد عقباه.والحنيف المائل إلى الدين المستقيم }ولكن حنيفاً مسلماً{ والأصل هذا، ثم يتسع في تفسيره فيقال الحنيف الناسك، ويقال المختون، ويقال يتحنف أي تحرى أقوم الطرق[[2]] وقال بن سيده الحنف في القدمين: إقبال كل واحدة منهما على الأخرى بإبهامها، وكذلك في الحافر في اليد والرجل . وقيل: هو ميل كل واحدة من الإبهامين على صاحبتها حتى يرى شخص اصلها خارجاً. وقيل: هو انقلاب القدم حتى يصير بطنها ظهرها .وقيل :ميل في صدر القدم .وقد حنف حنفاً. ورجل أحنف, وبه سمي (الأحنف) لحنف كان في رجله. وحنف عن الشيء وتحنف، مال. والحنيف: المسلم الذي يستقبل قبلة البيت على ملة (إبراهيم) وقيل هو المخلص: وقيل هو من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء. وقول أبي ذؤيب:
أقامت به كمقام الحنيف شهري جمادى وشهري صفر.
إنما أراد أنها أقامت بهذا المتربع إقامة المتحنف على هيكله سروراً بعمله وتدينه لما يرجوه على ذلك من الثواب. وجمعه حنفاء وقد حنف وتحنف. والدين الحنيف: الإسلام . والحنيفية، ملة الإسلام . وفي الحديث: أحب الأديان إلى الله الحنيفية السَّمْحة . ويوصف به فيقال: ملة حنيفية .
وقال "ثعلب": الحنيفية الميل إلى الشيء - وليس هذا بشيء.
والحنيفية: ضرب من السيوف، منسوبة إلى أحنف لأنه أول من عملها، وهو من المعدول الذي على غير قياس. والحنفاء: فرس "حجر بن معاوية" وهو أيضاً فرس "حذيفة بن بدر[[3]] وقد عرفها الراغب الأصفهاني تعريفاً آخر حيث قال: (الحنف: هو ميل عن الضلال، إلى الإسلام، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال، والحنف هو المائل إلى ذلك قال عز وجل }قانتاً لله حنيفاً{ وقال: }حنيفاً مسلماً{ وجمعه: حنفاء، قال عز وجل: }واجتنبوا قول الزور حنفاء لله{، وتحنف فلان أي تحرى طريق الاستقامة، وسمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفاً تنبيهاً أنه على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والأحنف من في رجله ميل سمي بذلك التفاؤل وقيل بل استعير للميل المجرد[[4]] (وقد أورد علماء اللغة معنى كلمة حنيف، الحنيف: قال ابن قتيبة: المستقيم، وقيل للأعرج: حنيف نظراً له إلى السلامة. وقال مكي بن أبي طالب: هو الذي لا يرجع عن دينه، وقال أبو حيان في معنى حنفاء: على دين إبراهيم على نبينا وعليه السلام، ثم سمي به من يختتن ويحج البيت في الجاهلية ثم الإسلام. وأصل الحنف الميل[[5]] (وقال الجوهري في التاج (الحنف: الاعوجاج في الرجل وهو أن تقبل إحدى إبهامي رجليه على الأخرى والرجل أحنف، ومنه سمي الأحنف بن قيس، واسمه صخر.وقال ابن الأعرابي: هو الذي يمشي على ظهر قدمه من شقها الذي يلي خنصرها.يقال: ضربت فلاناً على رجله فحنفتها .والحنيف: المسلم، وقد سمي المستقيم بذلك كما سمي الغراب أعور. وتحنف الرجل، أي عَمِلَ عَمَلَ الحنيفية، ويقال اختتن، ويقال اعتزل الأصنام وتعبد. قال جران العود:
ولما رأين الصبح بادرن ضوءه |
|
رسم قطا البطحاء أوهن أقطف |
والحَنْفاء: اسم فرس حذيفة بن بدر الفزاري . والحنفاء: اسم ماء لبني معاوية ابن عامر بن ربيعة.حنيفة: حيّ من العرب، وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل[[6]] وقال الضغاني في تكملته وتذييله لكتاب الصحاح: (حنف: وحسب حنيف أي حديث إسلامي لا قديم له.
قال ابن حبناء:
وماذا غير أنك ذو سبال تمسحها وذو حسب حنيف
وقد سموا حنيفاً مصغراً، قال الضحاك والسدي في قوله تعالى: }حنفاء لله غير مشركين به{ قال: حجاجاً .وقال ابن الأعرابي: الحنفاء: شجرة. والحنفاء: الأمة المتلونة، تكسل مرة وتنشط أخرى.
ويقال: تحنف فلان إلى الشيء تحنفاً: إذا مال إليه . الحنيف القصير والحنيف: الحذاء
والحنفاء: القوس والموسى، والسلحفاة، والحرباء، والأطوم، وهي سمكة في البحر كالملكة.
وأما محمد بن الحنفية، فالحنفية أمه، وهي خولة بنت جعفر بن قيس، بن مسلمة، من بني حنيفة بن لجيم[[7]] (وقال مجدد مصطلحات الصحاح (الحنيف المسلم، وقد سمّي المستقيم بذلك، وتحنف الرجل أي عمل الحنيفية، ويقال اختتن ويقال اعتزل الأصنام وتعبد[[8]] (ولم يختلف الأزهري صاحب تهذيب اللغة في تعريف كلمة (حنيف) عمن سبقه، ولكن أورد تعريفاً آخر لا نجده في المعاجم التي استقرأناها وهي (من كان على دين إبراهيم فهو حنيف).قال:(وكان عبدة الأوثان في الجاهلية يقولون: نحن حنفاء على دين إبراهيم، فلما جاء الإسلام سموا المسلم حنيفاً[[9]] (ولنا مع العلامة ابن منظور وقفة في تعريفه لهذه الكلمة ولذلك المصطلح (حنيف) فقد عرفها هذا العلامة في معجمه الجامع (لسان العرب) فقال(الحنيف المائل من خير إلى شر أو من شر إلى خير قال ثعلب ومنه أخذ الحنف والله أعلم.
وحنف عن الشيء وتحنف: مال.والحنيف: المسلم الذي يتحنف عن الأديان أي يميل إلى الحق, وقيل هو الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة إبراهيم ,على نبينا وعليه الصلاة والسلام,وقيل :هو المخلص وقيل: هو من اسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء فهو حنيف. ومعنى الحنيفية في الإسلام الميل إليه و الإقامة على عقد. والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه. والحنيف في الجاهلية من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن من جاء الإسلام كان الحنيف المسلم، وقيل له حنيف لعدوله عن الشرك، قال وانشد أبو عبيد في باب نعوت الليالي في شدة الظلمة في الجزء الثاني: فما شِبْه كعب غير أعْتم فاجر أبى، مُذْ دجا الإسلام، لا يتحنَّف[[10]] (وقال صاحب معجم (مجمع البحرين) :(حنف (ولكن حنيفاً):
الحنيف :المسلم المائل إلى الدين المستقيم والجمع حنفاء.والحنيف: المسلم لأنه تحنف أي تحرى الدين المستقيم. والحنف محركه :الاستقامة ومنه قوله (دين محمد حنيف) أي مستقيم لا عوج فيه.
و(الحنيف)عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام، وأصل الحنف الميل. ومنه بعثت بالحنيفية السمحة السهلة) أي المستقيمة المائلة عن الباطل إلى الحق.ومثله (أحب دينكم إلى الله الحنيفية) أي الطريقة التي لا ضيق فيها وحنفاء: يعني مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، مسلمين مؤمنين بالرسل كلهم[[11]] (وقد عرف الحنيفية تعريفاً تفصيلياً الإمام الزبيدي في تاج العروس حيث قال: (الحنف (محركه الاستقامة) نقله ابن عرفه في تفسير قوله تعالى: }بل ملة إبراهيم حنيفاً{ قال: وإنما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة.قلت: (أي الزبيدي): والحنف الاعوجاج في الرجل أوان) وفي الصحاح والعباب وهو أن (يقبل إحدى إبهامي رجليه على الأخرى، وهو أن يمشي الرجل على ظهر قدميه[[12]] (ونلاحظ من خلال إيرادنا لعدة تعريفات لهذا المصطلح (حنيف) لغة واصطلاحاً، أن العلماء المتأخرين قد أخذوا عمن سبقهم وهذا شيء طبيعي لا خلاف عليه وهنا لنا وقفة مع المعاصرين في تعريفهم لهذا المصطلح.قرر مجمع اللغة العربية في القاهرة مصطلح (الحنيفية) حسب ما ورد في كتاب معجم ألفاظ القرآن الكريم ما يلي:( حنيفاً - حنفاء )حنف يحنف حنفاً: مال.والحنيف :(المخلص الذي اسلم لأمر الله فلم يلتو في شيء من دينه وجمعه حنفاء[[13]] (وعرفها الشيخ عبد الله البستاني في معجمه اللغوي ولم يخرج قيد أنملة عن تعريفات القدماء بل تعريفه هو اجترار لما قبله حيث أورد معنى حنيف فقال: (تحنف إلى الشيء مال إليه - وعمل عمل الحنيفية واختتن - واعتزل الأصنام – وتعبد[[14]] وعرفها صاحب معجم فاكهة البستان فقرر بأن (الحنيف هو المائل من خير إلى شر ومن شر إلى خير (وهذا مقتبس من لسان العرب) والذي يتحنف عن الأديان أن يميل إلى الحق والتخلص ومن أسلم لأمر الله ولم يلتو والمستقيم[[15]] ونفس التعريف أورده المعلم بطرس البستاني في محيطه[[16]] واجتره أيضاً صاحب معجم قطر المحيط[[17]] وصاحب معجم البستان[[18]] والمنجد أيضاً حيث أورد تعريف الحنيف بالمتمسك بالإسلام، كل من كان على دين إبراهيم الموحد في دينه جمع حنفاء[[19]] وقد نبه صاحب مقالة (حنيف) في دائرة المعارف الإسلامية فقال: أول ما ينبغي أن نعمله هو البحث عن عبارات قد ترد فيها الكلمة بمدلول مستقل عن الاستعمال القرآني ومما يستوجب الأسف أن معظم هذه العبارات تكتنفها الصعاب الشديدة إما للشك في صحتها وإما لأنها من التداخل والالتباس بحيث تتعرض لكثير من التأويلات. ومن ثم انتهى العلماء إلى نتائج جدّ مختلفة، ففلهوزن (wellhausen) مثلاً يخرج من هذه العبارات بأن (حنيف) كانت تدل في الأصل على الراهب المصراني ويفسر (ده غوي) (decoeje) الكلمة بـ(الكافر ويظن مرجليوت(D.S.margoliouth) أن حنيف في كل ما وردت فيه "المسلم[[20]] ويرى بعض المستشرقين أن اللفظة من أصل آرامي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون وكانت تطلق على القائلين بالتوحيد من العرب وخاصة على أولئك الذين ظهروا في اليمن ونادوا بالتوحيد وعبادة الرحمن . وهي ديانة ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير أن أصحابها لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين.
وقد ذهب البعض من المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني (Tahannauth) أو من أصل سوري قديم (حنف) (Hanef) ومعناها التحنث وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد، وقيل أنها من أصل عربي هو (تحنف) وهي من الكلمات التي لها معان دينية، ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة (حنفه) (Hanfa) على الصابئة، وقد وردت لفظة (حنف) في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى صبأ، أي مال وتأثر بشيء ما، ويشير هاملتون جب إلى أن كلمة حنيف هي كلمة معربة عن التعبير الآرامي (Hanfa) الذي هو مصطلح راج في بلاد الشام في الفترة ما قبل الإسلام والذي كان في الأصل يشير إلى الانحراف الوثني .(ويعلق قسطر (KISTER) في بحثه لمصطلح التحنث (AL Tahannuth) تحقيق حول معنى المصطلح فيقول: (إن شرح كلمة تحنث اختلف في الحديثين. ففي حديث ابن اسحق شرحت بتبرر (البر) ولكن في حديث البخاري (تعبد) وقد استبدلها ابن هشام بـ (تحنف) مثبتاً أن الحنيفية يقومون بأعمال الحنيف وفي أحاديث أخرى وردت (تنسك) بدلاً من تحنث وقد أوردها البلاذري بشأن الوحي عن عائشة. وشرح التحنث بالتعبد والتبرر وبذلك نرى أن البلاذري أشار بشرحه إلى الحديثين المختلفين.ويورد قسطر عن بعض الباحثين معنى المصطلح تحنث وهو يقابل تحنف فيقول: (وقد أورد معنى المصطلح (تحنث) بعض الباحثين (بالتحنث) لأن الحنيفية كانوا يتحنثون في الجاهلية واقر ج.هرتشفيلد الذي يفيد أن أصل الكلمة (تحنث) عبري وعارض الارتباط بين تحنف وتحنث، وأعتقد أن افتراض أخذ تحنث كتشكيل خاص يبدو غير ضروري[[21]] (وقد أكد شل هد (تكافؤ الضدين للجذر الأصلي (حنفي) وقارنها مع حنث وأشار أن من الممكن أن حنث وتحنث اشتقت من حنف وأن الحنث معنى الحلف كذباً، وتحنث تعني رفض الشرك[[22]] (وينقل قسطر عن واط في مقالته (حنيف) أن تحنث كلمة أصلها عبري وتعني عبادة)[[23]] (ويخلص الباحث نبيه أمين فارس إلى نتيجة مفادها: أن كلمة حنيف القرآنية، بكل ما تتضمنه من معنى، قد استعيرت بواسطة اللغة العربية مثل الإسلام من لغة النبط، حيث تعني في هذه اللغة الأخيرة أخذ اتباع فرقة من فرق ديانتهم السريانية العربية المتأثرة إلى حد ما بالهيلينية . وبالنظر لتحريم الخمر في القرآن وعند النبط يصعب علينا أن نعتقد ونجزم وجود علاقة أساسية بينهما. وزيادة على ما تقدم فإن بين ديانة الحرانيين التي هي مزيج من السريانية والهيلينية، وبين عبادة النبط كثيراً من اوجه الشبه . وليس من باب الصدف أن يدعي اراميو حران في الأدب الإسلامي نبطاً وكلدانيين غالباً . إن الشيء القليل المعروف من تقاليد هذه الأقوام يلائم الصورة العامة لحضارتهم كما يراها المرء منعكسة عن المصادر الأخرى . أما الأسطورة التي رواها نونوس عن الإله النبطي ليكرغوس والقصة التي ذكرها ثيودور بارقوني عن منشأ الحنفاء في أثينا، فقد صنعتا لتأييد مبدأ معين، ويبدو أثر هذه الهيلينية زيادة على ما تقدم، في أقدم المسكوكات النبطية تلك التي سكها الحارث الثالث 87-62 ق.م [[24]].
الخلاصة
نخلص مما سبق إلى عدة نتائج هي الآتية :
- إن معنى كلمة حنيف في المعاجم العربية جميعها قديمها وحديثها (لغة) أنه الاعوجاج، أو الميل إلى شيء معين، واصطلاحاً هي الميل عن عبادة الأوثان إلى دين إبراهيم
- تطور المصطلح بعد ذلك حتى أصبح يطلق على كل من اختتن وحج البيت، وامتنع عن أكل ذبائح المشركين كزيد بن عمرو كما سنذكر ذلك فيما بعد . فأصبح يقال على كل من دان بدين إبراهيم أنه حنفي أي مائل عن الشرك وعبادة الأصنام ثم أنه مائل عن اليهودية والنصرانية أيضاً.
- من خلال سرد عدة تعريفات نلاحظ أن الكلمة طرأ عليها تغيير بعض الشيء وتطورت بعض التطور حيث كانت في البداية تطلق على من مال وانحرف عن الصواب في نظر مشركي العرب وهو عبادة الأصنام وذبح الذبائح لها.
- أورد بعض علماء اللغة من خلال تعريفاتهم لكلمة (حنيف) بأنها تطلق على الدين المستقيم وهذا الدين بعينه هو دين الإسلام.
- نلاحظ أن المعاجم الحديثة في إيرادها وتعريفها لكلمة حنيف هي عالة على المعاجم القديمة ولم تأت بشيء جديد يذكر.
أوردنا هذه التعريفات لمصطلح (حنيف) حتى يتسنى لنا دراسة ونشأة وتطور هذا المصطلح لنستطيع أن نخلص إلى نتائج صحيحة مبنية على الاستقراء والمقارنة والربط والتحليل.
الفصل الثاني
(الحنيفية في القرآن)
وردت كلمة حنيف (ج.حنفاء) اثنتي عشرة مرة في القرآن الكريم ، ابتداء من السور المكية المتأخرة وهي في معظم الحالات سبع مرات: (135:2 ،3: 67 ، 4: 125 ، 6: 161 ، 16: 121،124) تقرن بملة إبراهيم وفي تسع مرات (129:2، 67:3، 95، 79:6، 161، 105:10، 120:16، 123، 22:31)، ويعارض الحنيف بالمشرك ويتكلم القرآن مرتين (79:6، 30:30). عن دين الحنيف كدين الإنسان في أول نشأته (دين الفطرة)، وقد أكد القرآن،(67:3) على وجوب التميز بين الحنيف وبين اليهودي أو المسيحى، ولم يرد فعل (اسلم) مرتبطاً بالحنيف غير مرتين (67:3، 125:4)، على أنهما سورتان مدنيتان، وأخيراً أشار القرآن الكريم مرة واحدة إلى دين الحنفاء(5:98) دين القيمة.[[25]]
ومن هذه الآيات ما هو مكي وما هو مدني، ومن تلك الآيات ما كان في السياق القرآني بصدر ذكر إبراهيم عليه السلام وملته، ودين الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، وما هنالك من ارتباط السمحة، وهذا ما سندرسه من خلال تفسير الآيات وشروح الأحاديث التي وردت في هذا المضمار الآيات التي وردت فيها كلمة حنيف:
1-}وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{ [البقرة:135].
2-}ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين{ [آل عمران:67].
3-}قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{ [آل عمران:95].
4-}ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً{ [النساء:125].
5-}إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين{ [الأنعام:79].
6-}قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{ [الأنعام:161].
7-}وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين{ [يونس:105].
8-}ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{ [النحل:123].
9-}فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل خلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون{ [الروم:30].
10-}حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق{ [الحج:31].
11-}وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة{ [البينة:4].
تفسير الآيات
الآية الأولى
}وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا{
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: "يعني تعالى ذكره بقوله كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا . وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، تعني بقولها تهتدوا أي تصيبوا طريق الحق كما حدثنا أبو كريب قال ثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمه جميعاً عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبيّ مولى زيد بن ثابت قال حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال (عبد الله بن صوريا الأعور) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد" وقال النصارى مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل: }وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{ احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها وعلمها محمداً نبيه صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي تجمعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به فإن دينه كان الحنيفية وندع سائر الملل التي نختلف فيها فينكرها بعضنا فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا على الاحتجاج عليه كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم[[26]]، "ويؤول الطبري }ملة إبراهيم حنيفاً{ فيقول: "والملة: الدين وأما الحنيف فإنه المستقيم من كل شيء وقد قيل أن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى إنما قيل له أحنف نظراً إلى السلامة كما قيل للمهلكة من البلاد المفازة بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة وكما قيل للَّدِيغ السليم تفاؤلاً بالسلامة من الهلاك وما أشبه ذلك فمعنى الكلام إذا قيل: يا محمد بل نتبع ملة إبراهيم مستقيماً فيكون الحنيف حينئذ ما لا عن إبراهيم وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك فقال بعضهم: الحنيف الحاج، وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الإسلام الحنيفية السمحة لأنه أول إمام لزم العباد -الذين كانوا في عصره والذين جاؤوا بعده إلى يوم القيامة- اتباعه في مناسك الحج والائتمام به فيه قال: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته فهو حنيف مسلم على دين إبراهيم[[27]] ، وفسر الإمام القرطبي هذه الآية قائلاً: "دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله ذلك عليهم فقال: }بل ملة{، أي قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة، وقيل: بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوباً وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة: بل (ملة) بالرفع والتقدير بل الهدى ملة، أو قلنا دين إبراهيم.وحنيفاً مائلاً عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم وهو في موضع نصب على الحال قال الزجاج أي بل نتبع ملة إبراهيم خطأ، وسمي إبراهيم حنيفاً لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام والحيف الميل[[28]]، وقال النسفي في هذه الآية: "تعرض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كل ملأ منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك" [[29]]، وللرازي نظرة أخرى في هذه الآية }.. ملة إبراهيم حنيفاً{. قال الرازي: "... وهذا التفسير منه لطيفة كأن الله سبحانه أعلم أن التقليد مسئول على الطباع لم يستخر منعه عن التقليد بالكلية ولم يستخر التعويل على التقليد بالكلية ولم يستخر التعويل على التقليد أيضاً بالكلية فلا جرم ذكر قوماً (جمع الحلف بالكلية على تزكيهم وهو إبراهيم ومن معه فقال: }قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه{ فكأنه تعالى قال: "إن كنت مقلداً أحداً في دينه فكن مقلداً إبراهيم حيث تبدأ من الأصنام وهذا عنيد عجيب فقد تبدأ من الأصنام وهذا غير عجيب فقد تبدأ من نفسه حين أسلمها إلى النيران ومن ماله حين بذله للضيفان وفي ولده حين بذله للقربان بل روي أنه سمع: سبوح قدوس، فاستطابه ولم يرَ شخصاً فاستعاذه فقال: "أما بغير أجر فلا" فنزل كل ما ملكه فظهر جبريل عليه السلام وقال: حقت لك، حيث سماك (خليل)، فخذ مالك فإن القائل كنت أنا بل انقطع إلى الله" [[30]].
الآية الثانية
}إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين{
قال الطبري: (وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه لما تبين له الحق وعرفه شهد شهادة الحق، وأظهر خلاف قومه أهل الباطل وأهل الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من قول الحق والثبات عليه مع خلاف جميع قومه لقوله وإنكارهم إياه عليه، وقال لهم: يا قوم إني بريء مما تشركون مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم، إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض الدائم الذي يبقى ولا يفنى ويحيي ويميت، لا إلى الذي يفني ولا يبقى ويزول ولا يدوم ولا يضر ولا ينفع ثم أخبرهم تعالى ذكره أن توجهه وجهه لعبادته وإخلاص العبادة له والاستقامة في ذلك لربه على ما يجب من التوحيد لا على الوجه الذي يوجه له وجهه من ليس بحنيف ولكن مشرك إذ كان توجيه الوجه على التحنيف غير نافع بل ضارة ومهلكة، وما أنا من المشركين، يقول ولست منكم أي لست ممن يدين دينكم ويتبع ملتكم أيها المشركون وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال ابن زيد في قول إبراهيم لإبراهيم تركت عبادة هذه فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، فقالوا: ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجهه فقال: لا حنيفاً مخلصاً لا أشركه كما تشركون[[31]] نلاحظ هنا بأن الطبري قد فسر معنى الحنيفية أفضل تفسير فلذلك فإنني سأعتمد علهي، وسأستأنس بأقوال المفسرين الآخر . وذلك لأن جميع من أتى بعده قد اعتمد عليه.
الآية الثالثة
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم يقول: مستقيماً، }ملة إبراهيم{ يقول: (دين إبراهيم)، حنيفاً، قول:(مستقيماً)، }وما كان من المشركين{ يقول: وما كان من المشركين بالله يعني إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام، واختلف القرَّاء في قراءة قوله }ديناً قِيَمَاً{ فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض البصريين }ديناً قِيَمَاً{ بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها، وقالوا القيم وبقوله دين القِيمة وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين }ديناً قيماً{ بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها وقالوا القيّم والقيّم بمعنى واحد وهما لغتان معناهما المستقيم والصواب من القول في ذلك عندي (الطبري) أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متفقتا المعنى فبأيهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيب، غير أن فتح القاف وتشديد الياء أعجب إليّ (الطبري) لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما ونصب قوله ديناً على المصدر من معنى قوله إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم وذلك أن المعنى هداني ربي إلى دين قويم فاهتديت له ديناً قيماً، فالدين منصوب من المحذوف هو اهتديت الذي ناب عنه قوله }إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم{. وقال بعض نحويي البصرة إنما نصب ذلك لأنه كما قال }هداني ربي إلى صراط مستقيم{ قد أخبر أنه عرف شيئاً فقال: }ديناً قيماً{ كأنه قال عرفت ديناً قيماً ملة إبراهيم[[32]].
الآية الرابعة
}وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين{
قال الطبري: }يعني أقم وجهك للدين أقم نفسك على دين الإسلام حنيفاً مستقيماً عليه غير معوج عنه إلى يهودية ولا نصرانية ولا عبادة وثن من المشركين، يقول ولا تكونن في عبادة ربه الآلهة والأنداد فتكون من الهالكين[[33]].
الآية الخامسة
}إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين{
قال الطبري: "وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء وأنهم منه براء شاكراً لأنعمه يقول: كان يخلص الشكر لله، فما أنعم عليه ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكاً من الآلهة والأنداد وغير ذلك كما يفعل مشركو قريش، والحنيف هو المطيع لله عز وجل[[34]].
الآية السادسة
}ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم أوحينا إليك يا محمد وقلنا لك اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة، حنيفاً يقول مسلماً على الدين الذي كان عليه إبراهيم بريئاً من الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك كما كان إبراهيم تبرأ منها[[35]].
الآية السابعة
}فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون{
يقول تعالى ذكره: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته وهي الدين حنيفاً يقول صنعة الله التي خلق الناس عليها، ونصبت فطرة على المصدر من معنى قوله فأقم وجهك للدين حنيفاً وذلك أن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة . ونحو الذي قلنا (الطبري) في ذلك قال أهل التأويل[[36]] ويقول تعالى ذكره إن إقامتك وجهك للدين حنيفاً غير مغير ولا مبدل هو الدين القيم يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة[[37]].
الآية الثامنة
}حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق{
يقول تعالى ذكره: اجتنبوا أيها الناس عبادة الأوثان والأصنام غير مشركين به من دونه فإنه من يشرك بالله شيئاً من دونه فمثله في بُعده عن الهدى وإصابة الحق وهلاكه وذهابه عن ربه مثل من خرَّ من السماء فتخطفه الطير فهلك أو هوت به الريح في مكان سحيق يعني بعيد من قولهم أبعده الله وأسحقه[[38]].
الآية التاسعة
}وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة{
يقول تعالى ذكره: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين يقول: دين له الطاعة لا يخلطوا طاعتهم ربهم بشرك فأشركت اليهود بربها بقولهم :(عزير بن الله) والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك وجحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: (حنفاء) قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قيل بشواهده المغنية عن إعادتها غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل من الأخبار في ذلك، حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني قال: ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله مخلصين له الدين حنفاء يقول حجاجاً مسلمين غير مشركين يقول ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويحجوا وذلك دين القيمة، حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، والحنيفية الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والمناسك، وقوله: }ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة{، يقول: ليقيموا الصلاة وليؤتوا الزكاة، وقوله ذلك دين القيمة يعنى بالقيمة المستقيمة العادلة وأضيف الدين إلى القيمة والدين هو القيم وهو من نعته لاختلاف لفظها وهى في قراءة عبد الله فيما أرى ( الطبرى ) فما ذكر لنا، وذلك الدين القيمة وأنت القيمة لأنها جعلت صفه للملة كأنه قيل وذلك القيمة (لملة القيمة دون اليهودية والنصرانية[[39]]، وهكذا نرى في تفسير الإمام الطبري لهذه الآيات أن الحنيفية هي ديانة إبراهيم التي هي التوحيد الخالص لله عز وجل من إخلاص في العبودية، وخلو من الشرك بشتى أنواعه إن كان من اليهودية أو النصرانية أو من عبادات العرب الوثنية.
نظرة على التفاسير الأخرى التي فسرت معنى الحنيفية
فسر الإمام الزمخشري الحنيف فقال: الحنيف المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه[[40]] وأورد في تفسيره للآية(123) من سورة النحل: }ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{، قال: "نفى الله الشرك عن إبراهيم تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم، أي قد أوحينا إليك أن اتبع ملته ووافق سيرته[[41]] وفسر قوله تعالى: }إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً{، قال: الأمة الذي يعلم الناس الخير والقانت القائم بما أمره الله[[42]]، وفسر الآية: }فأقم وجهك للدين حنيفاً{ قال الزمخشري: فقوم وجهك وعد له غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وكمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره وقوم له وجهه مقبلاً عليه، وحنيفاً حال من المأمور أو الدين، }فطرت الله{، أي الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله[[43]]، وفي تفسيره لسورة البينة أو القيمة كما يطلق عليها هو (وما أمروا) يعنى في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيف ولكنهم حرفوا وبدلوا وذلك دين القيمة أي الملة القيمة[[44]]، وقال الرازى في معنى حنفاء (متبعين دين إبراهيم عليه السلام) ولذلك قال ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين[[45]]، وفي تفسير النسفي قوله تعالى (حنفاء) مؤمنين بجميع الرسل مائلين عن الأديان الباطلة[[46]] وقد فسر النسفي قوله تعالى: }بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{ قال: (الحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق)، وهذا تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلاً منهم يدعى اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك[[47]]، وفسر القرطبي الآية المائة وخمس وثلاثين من سورة آل عمران: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا)، قال: دعت كل فرقة إلى ما هو عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال: }بل ملة{ أي قل يا محمد بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة وقيل: بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوباً، وقرأ الأعرج وابن أبي عمبلة: بل ملة بالرفع والتقدير بل الهدى ملة، وملتنا ملة إبراهيم، وحنيفاً مائلاً عن الأديان المكروهة إلى الحق، دين إبراهيم وهو في موضع نصب على الحال، والآية }ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً{، نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة وبين أنه كان على الحنيفية الإسلامية، ولم يكن مشركاً، والحنيف الذي يوحّد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة[[48]]، وبصدد الحديث عن القبلة قال مقاتل صاحب التفسير: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: (وددت أن ربي عز وجل صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، يعنى قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. قال جبريل عليه السلام: وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه بما سأل فأتاه بما سأل فصارت قبلة بيت المقدس منسوخة نسختها هذه الآيه: }قد نرى تقلب وجهك في السماء{[[49]]، ونعود إلى القرطبي وتفسيره لملة إبراهيم في الآية (95) من سورة آل عمران: }قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم{، أي قل يا محمد صدق الله أنه لم يكن ذلك في التوراة محرفاً فاتبع (ملة إبراهيم حنيفاً) أمر باتباع دينه[[50]]، وجاء في تفسير القرآن العظيم لابن كثير }وأن أقم وجهك للدين حنيفاً{، أي أخلص العبادة لله وحده حنيفاً أي منحرفاً عن الشرك ولهذا قال: }ولا تكونن من المشركين{[[51]]، وفسر ملة إبراهيم :(أي من ضيق وسعة عليكم كملة أبيكم إبراهيم)[[52]] وفسر معنى (حنفاء) في الآية (حنفاء لله غير مشركين به)، قال :"أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق"، ولهذا قال غير مشركين به، ثم ضرب مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال: }ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء{، أي سقط منها[[53]]، وفسر الحنفاء في سياقه لسورة البينة فقال: (حنفاء) أي متحنفين من الشرك إلى التوحيد[[54]].
وبعد أن أوردنا أقوال المفسرين منذ الطبري وحتى النسفي لابد لنا من الاطلاع على تفسير المحدثين لنرى مدى التوافق والاختلاف في تفسيرهم (للحنيفية) ولنرى مدى تطور المصطلح من حيث التفسير، كما رأيناه سابقاً من حيث اللغة.
جاء في تفسير (محمد فريد وجدي) بصدد تفسيره لكلمة (حنيف): " أن الحنيف الميل إلى الاستقامة، والحنيف المائل عن العقائد الزائفة وهكذا في إيراده لجميع الآيات التي وردت فيها كلمة (حنيف)[[55]].
وفي تفسير المنار مقولات جديرة بأن نلقي عليها الأضواء لأننا نلمس فيها شيئاً جديداً، كتب رشيد رضا في المنار تحت عنوان (الرد على دعاة اليهودية والنصرانية باتباع الملة الحنيفية وذلك في تفسيره للآية: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا) قال: (.. بين في الآيات السابقة حقيقة ملة إبراهيم في سياق دعوة العرب إلى الإسلام ثم أشرك معهم أهل الكتاب لأنهم أقرب إلى الإيمان بإبراهيم وأجدر بإجلاله واتباعه وانتقل الكلام بهذه المناسبة إلى بيان وحدة الدين الإلهي واتفاق النبيين في جوهره، وبيان جهل أهل الكتاب بهذه الوحدة وقصر نظرهم على ما يمتاز به كل دين من الفروع والجزيئات، أو التقاليد التي أضافوها على التوراة والإنجيل فبعد بها كل فريق من أهله يحتكر الإيمان لنفسه ويرمى الآخر بالكفر والإلحاد وان كان نبيهم واحداً وكتابهم واحداً وأن اليهود والنصارى يدعون إلى النصرانية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها وهذا الأسلوب معهود في اللغة ولو صدق واحد منهما لما كان إبراهيم مهتدياً لأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، كيف وهم متفقون على كونه إمام الهدى والمهتدين، لذلك قال تعالى ملقناً لنبيه البرهان الأقوى في محاجتهم: }قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين{، أي بل نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم الذي لا نزاع في هداه ولا في هديه، فهي الملة الحنيفية القائمة علي الجادة بلا انحراف ولا زيغ، العريقة في التوحيد والإخلاص بلا وثنية ولا شرك.
والحنيف في اللغة المائل، وإنما أطلق على إبراهيم لأن الناس في عصره كانوا علي طريقة واحدة وهي الكفر فخالفتهم كلهم وتنكب طريقهم، ولا يسمي المائل حنيفاً إلا إذا كان الميل عن الجادة المعبدة[[56]]).
ويعلق (رشيد رضا) علي ديانة العرب آنذاك قائلاً: "إن بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء وينسبون إلى إبراهيم و يزعمون انهم علي دينه، وكان الناس يسمونهم الحنفاء ايضاً، والسبب في التسمية والدعوى أن سلفهم كانوا علي ملة إبراهيم حقيقة ثم طرأت عليهم الوثنية فأخذتهم عن عقيدتهم وأنستهم أحكام ملتهم وأعمالها نسوا بعضها بالمرة وخرجوا ببعض آخر عن أصله ووصفه كالحج، ونفي الشك عن إبراهيم في آخر الآية احترس من وهم الواهمين، وتكذيب لدعوى المدعين، أقول لا بدع أن ينسي الأميون ما كانوا عليه فإن أهل الكتاب خرجوا بدينهم عن وضعه الأول فنسوا بعضاً وزادوا فيه ونقصوا منه، فاليهود أضافوا التلمود إلى ما عندهم من التوراة وسموا مجموع ذلك مع تفاسيره وآراء أحبارهم باليهودية وأما النصارى فقد ظهر دينهم بشكل لو رآه الحواريون الذين أخذوا الدين عن المسيح مباشرة لما عرفوا أي دين هو[[57]].
الخلاصة
وهكذا وبعد إيراد أقوال جل المفسرين نخلص إلى النتائج التالية:
أ- إن كلمة حنيف التي وردت في الآيات التي أسلفنا معناها اللغوي الصرف هو أنها تطلق على من برجله عرج أي انحراف وهذا المعني من حيث اللغة.
ب- من حيث المصطلح تطور المعني من الحنف (العرج،الاعوجاج) إلى تنكب الطريق الأخرى التي سار عليها إبراهيم عليه السلام، وهي طريق شائكة عكس ما كان قومه يتخذون من طرق يحسبونها صحيحة وهي في حقيقتها معوجة، فأصبحت الكلمة تطلق على كل ابتعد عن دين اليهود والنصارى وعن أوثان العرب وشركهم.
جـ- تطورت الكلمة من خلال الآيات القرآنية والقرآن هو المصدر الأول للغة العرب فأصبحت كلمة (حنيف وحنفاء) تطلق على من كفر بشرك اليهود في إشراكهم العزير مع الله وذلك أنهم جعلوا ابن الله، وغيروا وبدلوا في التوراة ، ومن ثم أيضاً شرك النصارى وذلك بقولهم (المسيح ابن الله) وقولهم بالتثليث.
د- تطورت كلمة(حنيف - وحنفاء) حتى صارت ملة - ونحلة وديناً قيماً وذلك بعد نزول القرآن الكريم، فقد وردت في اثني عشر موضعاً وتكررت عدة مرات وبشتى الأشكال مثل (حنيفاً مسلماً - ملة إبراهيم حنيفاً - قانتاً لله حنيفاً - مخلصين له الدين حنفاء).
فنلاحظ أن الكلمة اقترنت في القرآن بالملة والدين وبإبراهيم وبالإيمان وبنفي الشرك، وبالبراءة من اليهود والنصارى ومن مشركي قريش، وبالأيتام والاقتران بالإسلام، وبحسن الدين وبإسلام الوجه لله ، وبالإحسان، وهكذا، وقد اقترنت الكلمة بالعبودية لله والإخلاص له ، وبإقامة الصلاة وبإيتاء الزكاة وبالدين القويم.
وبعد هذه الخلاصة الموجزة ننتقل إلى الأحاديث النبوية التي وردت فيها كلمة (حنيف - وحنفاء - وحنيفية) لنرى ماذا يقرر الحديث النبوي بهذا الصدد، لأنه المصدر الثاني الذي نستقي منه بعد القرآن.
الفصل الثالث
(الحنيفية في الحديث الشريف)
جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل ما يلي: "حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا هشام بن قتادة عن مطرف بن عياض بن جمار أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: (إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يوم هذا كل مال نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض عجمهم وعربهم إلا بقايا أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي لك وأنزل عليك كتاباً لا يغسله ماء تقرؤه نائماً ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: يا رب إذ يتفوا رأسي فيدعوه خبره فقال: استخرجهم كما استخرجوك …)[[58]].
وحديث آخر يكمل لنا مفهوم الحنيفية في الحديث، جاء في المسند ما يلي: (حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا أبو المغيرة، ثنا معان ابن المغيرة، ثنا معان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء فحدث نفسه بأن يقم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصب ما حوله في البقل ويتخلى من الدنيا ثم قال: إني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فإن أذن لي فعلت وإلا لم افعل، فأتاه فقال: يا نبي الله مررت بغار فيه ما يقوتنى من الماء والبقل ويتخلى من الدنيا قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة)[[59]].
وروى الإمام البخاري حديثاً آخر في باب مناقب الأنصار وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل، قال البخاري: (حدثني محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى، حدثنا سالم أبي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمر بن فضيل بأسفل بلدح[[60]] قبل أن يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: (إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه)، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها في الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له.
وفي حديث آخر قال موسى حدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا تحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعليّ أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وإني أستطيعه فهل تدلني على غيره؟ قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد: وما الحنيف؟ قال :دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى فذكر مثله فقال : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله قال ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئاً أبداً، وإني أستطيع فهل تدلني على غيره، قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال وما الحنيف قال :دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم،عليه السلام، خرج فلما برز رفع يديه، فقال اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم، وقال الليث كتب إليّ هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قال : رأيت زيد بن عمرو بن فضيل قائماً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري وكان يحيى الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته، لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها".[[61]]
وروى البخاري حديثاً آخر في صحيحه في باب _الدين يسر) قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن على عن معن بن محمد الغفاري عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).[[62]]
وروى الإمام مسلم أيضاً في باب الجنة حيث ورد : (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم).[[63]]
وروى السيوطي رواية أخرى في الجامع الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة -مرتين أو ثلاثاً- وأن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة).[[64]]
وفي رواية أخرى: (ومن خالف سنتي فليس مني)[[65]]، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثني الله بالإسلام أن تقول : أسلمت نفسي لله ووجهت وجهي إليه وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم حرام، اخوان نصيران لا تقبل الله من مسلم أشرك بعدما أسلم عمل عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين وإني آخذ بحجزكم عن النار).
وقد وردت كلمة (حنيف) من خلال الأحاديث التي عثرت عليها في معجم (فنسك) حيث جاء فيه ما يلي:
-(ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً) البخاري - مناقب الأنصار(24) [[66]].
-(وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) مسلم (باب الجنة) 63، وفي مسند أحمد م4/ 162.
-(أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) وردت في صحيح البخاري باب الإيمان (29).
وفي جامع الترمذي، وفي المناقب 32/64 وفي المسند 1/226 .
(أحنف) (إني أحنف تصطك ركبتاي) مسند أحمد 4/290.[[67]]
وروى ابن سعد الحديث السابق عن ابن الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالحنيفية السمحة أو السهلة ومن خالف سنتي فليس مني)[[68]]، وجاء أيضاً في طبقات بن سعد (... أخبرنا عبد الله بن نمير الهمداني عن خالد بن سعد عن عامر عن جابر :قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني خاتم ألف نبي أو أكثر)[[69]].
وجاء أيضاً: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد المكي، اخبرنا مسلم بن خالد الذبحي قال: حدثني زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر وعن صفوان بن مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت على اثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل)[[70]].
وفي رواية أخرى .. (بعثت بالحنيفية السمحة)[[71]].
وروى أبو يعلى الموصلي في معجمه فقال: (وأما إبراهيم عليه السلام فوالله أشبه الناس بي خَلقاً وخلقاً)[[72]].
وأخرج أحمد عن أبي امامة[[73]]: (بعثت بالحنيفية السمحة)[[74]]، وأورد العجلوني معني الحديث بلفظ (بعثت بالحنيفية السمحة)[[75]]، وهذا اللفظ يؤيد رواية السيوطي.
وفي الجامع الصغير للسيوطي حديث رقم(315): (بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني)[[76]].
وفي الزيادة علي الجامع الصغير عن أنس عن سهل بن سعد:(بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني)[[77]].
وفي الجامع الكبير(بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني) عن جابر رضى الله عنه[[78]]. وفي رواية أخرى، قال النبي صلي الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة)[[79]].
وورد بلفظ آخر في حديث رقم (9975) في الجامع الكبير للسيوطي قال النبي صلي الله عليه وسلم: (بعثني الله بالإسلام أن تقول (أسلمت نفسي لله ووجهت وجهي إليه وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل المسلم علي المسلم حرام أخوان نصيران)[[80]]، وقد أوردناه في موضع سابق.
ملاحظة:
نلاحظ من خلال الروايات المختلفة التي وردت فيها كلمة(حنيف - وحنفاء) أنه وردت في أحاديث شتي ولكننا لا نستطيع أن نحصرها في أكثر من حديثين وإن اختلفت طرقهما، وكثرة طرق الحديث تعزز وتقوي هاتين الروايتين الواردتين بعدة طرق، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل علي قوة السند التي من الممكن أن تقترب من التواتر.
[1]- كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ج3/ص248.
[2]- معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، مج2/110-111.
[3]- المحكم والمحيط الأعظم في اللغة: تأليف علي بن إسماعيل بن سيده، ج3/ص290-291، تحقيق:عائشة عبد الرحمن، القاهرة: مطبعة البابي الحلبي.
[4]- كتاب المفردات في غريب القرآن: لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، ص133-134، بيروت: تحقيق وضبط محمد الكيلاني.
[5]- المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن الكريم: ابن عباس، ابن قتيبة، مكي بن أبي طالب، أبو حيان، إعداد وترتيب الشيخ عبد العزيز عز الدين، بيروت: دار العلم للملايين، 1986م.
[6]- معجم الصحاح للجوهري، ج4، ص1347.
[7]- التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف: الحسين بن محمد بن الحسن الصغاني، ج4/ص455-456.
[8]- الصحاح في اللغة والعلوم: تجديد صحاح العلامة الجوهري، إعداد وتصنيف: نديم مرعشلي، وأسامة مرعشلي، بيروت دار الحضارة.
[9]-
[10]- انظر لسان العربي لابن منظور، مج9/ص57-58، بتصرف وقارنه مع المعاجم التي سبقته.
[11]- مجمع البحرين، للعالم ا لمحدث الفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي المتوفي سنة 1085هـ، ج5/ص40-41، بيروت، دار مكتبة الهلال، 1985م.
[12]- تاج العروس وجواهر القاموس للعلامة الزبيدي، ج6/ص76، (دون مكان النشر،دون ناشر، وتاريخ نشر)، دون ذكر للطبعة وعلى الأغلب طبعة بولاق.
[13]- انظر معجم ألفاظ القرآن الكريم وكلماته، ج2/128، القاهرة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1959م.
[14]- البستان: ج1/ص599.
[15]- انظر فاكهة البستان، ص350.
[16]- انظر محيط المحيط، ج1/ص466، بطرس البستاني.
[17]- انظر أيضاً قطر المحيط، ص465، طبعة 1869م.
[18]- البستان: تأليف الشيخ عبد الله البستاني، ج1/599.
[19]- المنجد في اللغة والأعلام: لويس معلوف، ص153.
[20]- انظر دائرة المعارف الإسلامية، مج8/ص127.
[21]- I.B.D P:229
[22]- I.B.D P:229
[23]- I.B.D P:229
[24]- انظر تطور معنى كلمة حنيف القرآنية: نبيه أمين فارس، هارول و.جلدن مجلة الأبحاث، بيروت، 1960، ص36.
[25] - انظر مقالة نبيه أمين فارس (تطور كلمة حنيف القرآنية)، ص28.
[26] - جامع البيان: الطبري، 1/440.
[27] - تفسير الطبري، مج1/441.
[28] - انظر: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، مج2/95.
[29] - تفسير النسفي 1/77.
[30] - انظر تفسير الرازي، مج6/598-599، ط بولاق، القاهرة، المطبعة المصرية الأميرية، 1278هـ.
[31] - تفسير الطبري، مج5/165.
[32] - تفسير الطبري، مج5/ص82، طبعة بولاق.
[33] - الطبري: مج7/ص121-122.
[34] - المرجع السابق: ص128-129.
[35] - المرجع السابق: ص130.
[36]- الطبري: مج10/ص27
[37]- نفس المرجع السابق.
[38] - نفس المرجع السابق.
[39]- تفسير الطبري، مج12/ص170.
[40] - تفسير الكشاف للزمخشري: ج2/ص434.
[41] - تفسير الكشاف للزمخشري: ج2/ص434.
[42] - نفس المصدر: ج2/ص433.
[43] - نفس المصدر: ج3/ص222.
[44]- نفس المصدر: ج4/ص274.
[45] - مفاتح الغيب للرازي: مج5/ص589-599.
[46] - تفسير النسفي: مج4/ص371.
[47] - تفسير النسفي: مج4/ص77.
[48] - تفسير القرطبي: مج2/ص139-140.
[49] - كتاب تفسير الخمس مائة آية من القرآن الكريم عن مقاتل بن سليمان (ص37)، تحقيق: يشعياهو غولدفيلد، تل أبيب-جامعة باي إيلان، 1980.
[50] - القرطبي: نفس المصدر: مج2/ص95.
[51] - مختصر تفسير ابن كثير: مج2.
[52] - نفس المصدر السابق: مج2/ص557.
[53] - نفس المصدر السابق: مج2/ص542
[54] - نفس المصدر: مج3/ص98.
[55] - انظر المصحف المفسر، لمحمد فريد وجدي، أية (134) من سورة البقرة، وقارن تفسيره للآية (4) من سورة البينة)
[56] - تفسير المنار: رشيد رضا، ج1/ص480.
[57] - نفس المرجع السابق.
[58]- انظر مسند الإمام أحمد، ج4/ص162.
[59]- انظر مسند الإمام أحمد، ج5/ص166.
[60]- بلدح: هو مكان في طريق التنعيم بفتح الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة، وآخره مهملة ويقال هو واد. انظر: فتح الباري: ج7/ص143.
[61]- انظر صحيح البخاري: باب مناقب الأنصار-42، مج5/ص50-51، النسخة اليونسية، بيروت، دار الجيل، وانظر شرح الحديث في صحيح البخاري، ج7/ص142.
[62]- نفس المصدر السابق، ج1/ص16، وانظر شرح الحديث في صحيح البخاري بشرح الكرماني، ج1/ص160-161، كتاب الإيمان، وفي فتح الباري، ج1/ص92-93.
[63]- صحيح مسلم: باب الجنة-63، مج4/ص2174، طبعة دار الفكر:بيروت.
[64]- جامع الأحاديث، مج3/ص512.
[65]- نفس المصدر: مج3/ص508.
[66]- انظر صحيح البخاري في قصة زيد بن عمرو، ج5/ص50-51.
[67]- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: مج5/ص22-23، رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين، نشره:د.ا.ي فنسنك، طبعة إسطنبول، دار الدعوة، 1988.
[68]- انظر طبقات ابن سعد، 7/209.
[69]- نفس المصدر السابق/1/192.
[70]- نفس المصدر السابق، 1/192.
[71]- معجم شيوخ أبو يعلى الموصلي، ص165.
[72]- راجع الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي، ص167.
[73]- مسند أحمد/ مج5/ص166.
[74]- وردت نفس الرواية السابقة (… الحنيفية السمحة، والسمحاء)، في الكتب التالية: مسند أحمد5/66، طبقات ابن سعد1/128، كنز العمال حديث رقم 900، حديث للفتاوى2/221، الدر المنثور رقم 20395، تفسير القرطبي ج19/ص39، تفسير ابن كثير 1/312، 3/489،478، 1/559، تاريخ بغداد4/146، الحاوي 10/140، والفقيه والمتفقه 2/204، وكشف الخفاء ومزيل الالباس1/251-340، الدرر المنتثرة للسيوطي 61، تلبيس أبليس لابن الجوزي 289، والدرر المنتثرة للسيوطي 265، وتاريخ بغداد 7/206. أخذت هذه المراجع من موسوعة أطراف الحديث النبوي د. بسيوني زغلول.
[75]- انظر كشف الخفاء ومزيل الالباس للعجلوني 1/ص340.
[76]- الجامع الصغير للسيوطي: 1/486.
[77]- الفتح الكبير للنبهاني، ج2/ص7.
[78]- جامع الأحاديث: مج3/508.
[79]- نفس المصدر: مج3/ص513.
[80]- نفس المصدر: مج3/ص513.