صور من التسامح والسلام في نظر الإسلام

صور من التسامح والسلام في نظر الإسلام

 

مرة بعد مرة كم نحن محتاجون أن نتذكر ونذكر بضرورة التحلي بخلق التسامح والمسالمة بين بعضنا البعض نحن المسلمين، وكذلك مع غير المسلمين ولا ريب أن الذكرى تنفع المؤمنين، فإسلامنا العظيم يهيب بنا دوما أن نتسامح ونتصافح ونتغافر لأن ذلك سبيل الصلاح والإصلاح ولأن النفوس والقلوب الكبيرة يجب أن تكون كذلك، إنها تدفع بالتي هي أحسن حتى يصير الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم تصديقا لتوجيه الله تعالى لنا جميعا ولأننا إذا قابلنا الإساءة بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة كما أفاد أهل الحكمة، وكما قال مصطفى الغلاييني:
سامح صديقك إن زلت به قدم
فليس يسلم إنسان من الزلل
ونتيجة هذه المسامحة والمغفرة ترد إلى صاحبها بمثلها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: من يغفر يغفر الله له ومن يعف يعف الله عنه إن الإنسان ضعيف، ولذا فإنه يصيب ويخطئ ولو أن كل واحد لم يعذر صاحبه لتمكن الحقد في النفوس، والمسلم لا يمكن أن تصل به الحالة إلى مثل هذه الدرجة، ولذلك نبهنا علي رضي الله عنه أن نعي هذا المعنى في الفقه الاجتماعي فقال: إذا أخطأ أخوك فلا تهجره فإن أخاك قد يصيب مرة وقد يخطئ أخرى وهذا هو حال المرء في الحياة، وأفادنا الإمام الشافعي أن عدم العفو عن الزلات يركب في النفس هم العداوة مع الآخرين، والخصومة ليست من أخلاق المؤمنين:
لما صفحت ولم أحقد على أحد
أرحت نفسي من هم العداوات
أليس قد نبهنا مولانا إلى ذلك (فاصفح الصفح الجميل)، "الحجر: 85".
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، "الأعراف: 199"، (والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، "آل عمران: 134"، وهكذا فقد أحسنوا لأنفسهم بالعفو، ومرتبة الإحسان من أرقى مراتب إياك نعبد وإياك نستعين، كما أشار ابن القيم في مدارج السالكين، كما أن الإسلام أرشدنا إذا عفونا ألا نعود فنمن على المعفو عنه ونذكره بهذا الفعل وقد أشار المعري إلى ذلك بقوله:
إذا عفوت عن الإنسان سيئه
فلا تروعه تأنيبا وتقريعا
لأنك عندما تعفو وتسامح إنما تستر الأخطاء والأعمال القبيحة فقط دون التعرض للشخص كما جاء في الأثر: إذا كرهت من أخيك شيئا فاكره عمله، فإذا تركه فهو أخوك، ثم إن بعض الناس ربما يعفو ثم يندم ويتمنى لو أنه عاقب صاحب الخطأ غير المتعمد وهنا يأتي جعفر الصادق ليعلمنا لان أندم على العفو خير من أندم على العقوبة، وهكذا لما كان التسامح زينة الفضائل وجدنا الحض والحث عليه دوما، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجه واللفظ له (رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى) وكما يجب أن يكون ذلك في المعاملات بين الناس فهو أولى أن يكون في الأحوال الشخصية بين الزوج وزوجته إذ تحصل الأخطاء وبعض المشكلات بينهما فينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البغضاء لأنها تنسف السعادة (لا يفرك مؤمن مؤمنة إذا كره منها خلقا رضي آخر) وعموما فإنه يجب علينا أن نتسامح ونتنازل عن بعض ما نستطيع من الحقوق لأننا في الحقيقة أسرة واحدة ولنكن مثل الشجرة لا تحجب ظلها حتى عن الحطاب الذي يريد تقطيعها.
أما إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر وهو التسامح والمسالمة مع غير المسلمين ما داموا غير محاربين لنا، فلا ريب أن هذا مما أصله الإسلام الذي يدعو إلى هذه المعاني التي سار عليها السلف الصالح عبر التاريخ وإننا لنرى أن من صفات عباد الرحمن أن يقولوا سلاما لكل الجاهلين لأن السلام رفق وهو الأليق بحال المؤمن مع غيره والسلام من أسماء الله تعالى والجنة دار السلام (لهم دار السلام عند ربهم)، "الأنعام: 127"، والتحية فيها السلام (تحيتهم يوم يلقونه سلام)، "الأحزاب: 44"، والملائكة تحي الأتقياء بالسلام (والذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم..)، "النحل: 32"، وهكذا فالسلام شعار المسلم الذي يتلو قول الحق تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، "البقرة: 208"، والله يطلب منا أن نجير المشرك إذا استغاث بنا (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه..)، "التوبة: 6"، ثم إننا يجب ألا ننسى أن الله انتدبنا أن ندعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ونجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، ومع أننا نرى الدول الكبرى العظمى تتقدم في ميدان العلوم والتكنولوجيا والمخترعات وتدعو إلى السلم باللسان ولكنها في الحقيقة تبتكر أعتى أنواع الأسلحة التقنية للحروب والطائرات من دون طيار والصواريخ والقنابل الفوسفورية وما إلى ذلك والشواهد على استخداماتها أكثر من أن تحصر وليس مثال غزة في فلسطين والعراق وأفغانستان الآن عنا ببعيد، وهنا لابد أن نعود لنؤكد أن الإسلام وحده الذي يدعو إلى السلام الحقيقي ويعتبر الحرب ظرفا طارئا واستثناء من القاعدة ودفاعا عن الأرض والعرض عند الضرورة:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ثم إن الحرب لو قامت فإن لها آدابها وأخلاقها في الشريعة الإسلامية وذلك بالا نعتدي إلا على من يعتدي علينا، وألا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولما رأى رسول الله امرأة مقتولة في إحدى الغزوات اعترض وغضب وقال: ما كانت هذه لتقاتل، ويوم الفتح أمر أحد الصحابة فقال له: الحق بخالد بن الوليد وقل له: لا تقتلن ذرية ولا طفلا صغيرا ولا امرأة، لا تغدروا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع وسار خلفاؤه من بعده كذلك فأمروا ألا تقطع شجرة ولا يقتل عسيف أو أجير.
كما أن المسلمين لم يستغلوا انتصارهم في أي معركة لإكراه الناس على الدخول في دين الإسلام، كما لم يستغلوا إذا وجدوا عند العدو منافع مادية لهم ألا يقبلوا منهم السلام إذا رغبوا في ذلك (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا)، "النساء: 94"، ورغب في الميل إلى السلم إن مال إليه العدو (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، "الأنفال: 61"، وأعطى قاعدته الذهبية في العلاقة السلمية أو الحربية مع غير المسلمين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون)، "الممتحنة: 8-9".
إن الإسلام بهذه المعاني السلمية والتسامح الذي أجراه مع المخالفين استطاع أن يكسب حتى من قاتلوا المسلمين كالأتراك السلاجقة في القرن الخامس والمغول والتتار في القرن السابع، حيث دخلوا في دين الله أفواجا، وان ننسى لا ننسى مثلا سماحة صلاح الدين الأيوبي في عفوه عن أسارى الصليبيين بعد معركة حطين وعفوه عن ريتشارد قلب الأسد وغيره اقتداء برسول الله الذي عفا عن كفار مكة، وقال اذهبوا فأنتم الطلقاء، معلما البشرية أن الإسلام غير الاستسلام كما يفهمه كثير من حكامنا اليوم للأسف وهكذا فالسلم لا يولد في المؤتمرات بل في القلوب والنيات وإلا فلابد أن نستعد للحرب دون تردد.

د. خالد هنداوي

المصدر: http://www.al-sharq.com/articles/more.php?id=189409

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك