صور من تسامح الإسلام مع غير المسلمين

صور من تسامح الإسلام مع غير المسلمين

 

لا ريب أن نظرة الإسلام إلى خلق التسامح تشمل المسلمين وغير المسلمين باعتبار أن هذا الدين الإسلامي نظام إلهي للبشرية جمعاء يسعى إلى سعادتهم دوماً، ولذلك فإنه يدعو إلى التعارف والتعاون والتعايش بين الشعوب مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وتفرقوا إلى قبائل شتى لأنهم من أصل واحد وفي هذا إشارة واضحة إلى الجميع ألا يختلفوا ولا يتخاصموا ويذهبوا بدداً، ولأهمية هذا الموضوع نجد الخطاب القرآني من الحق تعالى يناديهم بلفظ الناس وليس المسلمين فقط كما يشير سيد قطب في الظلال 6/3348 "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" الحجرات 13. وكم نلحظ هنا من محاربة الإسلام لكل عصبية في كل صورها.. روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة عنه صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب.." وكذلك قوله عن العصبية فيما رواه مسلم عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" سعياً لإقامة المجتمع الإنساني العالمي الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومارسه في الواقع فامتن الله عليه بقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" الأنبياء 107. وهكذا فإن الإسلام بلغ قمة التسامح منذ نشر هذه القاعدة الأولى في نظرته للبشر مبيناً أن التعدد في المخلوقات والتنوع فيها سنة الله في الكون وأن طبيعة الحياة أساسها هذا التنوع والتعدد، وأن الإنسانية إنما خلقها الله وفق هذه السنة الكونية رغم الاختلاف في الدين وفي غيره من الطبائع والماهيات، وأن الحاجة الإنسانية تدفعهم إلى التعايش والتعارف والتفاهم في بناء المجتمع المدني المسالم البعيد عن الاحتراب والتقاتل وإلا فالحكم يختلف في شتى الديانات والمذاهب، وقد أشار إلى هذا العلامة الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين 165 وقال الدكتور منقذ محمود الصقار في كتابه "حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي": إن كل من تجاهل أو رفض هذه السنة فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.. قال المفسر ابن كثير في تفسيره 2/466 عند قوله تعالى: "ولايزالون مختلفين" هود 118 أي ولايزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم. إن ذلك كائن ولكنه يجب أن يستثمر لما فيه صالح الجميع في القواسم المشتركة، بينهم في الإنسانية وهنا تأتي القاعدة القرآنية الثانية كركيزة تطبيقية لمنهج المسلمين في تعاملهم مع غيرهم سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" الممتحنة 8. فأمر ببر المخالفين في الدين والقسط إليهم لأن الله مع المنصفين بمحبته الذين يبرون من برهم، ولا ريب أن البر أعلى أنواع المعاملة لذا أمر الله به في التعامل مع الوالدين وقد وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "البر حسن الخلق" كما روى مسلم في صحيحه رقم 2553 وقد بين القرافي عبر كتابه الفروق 3/21/22 ما يجوز المعاملة به مع غير المسلمين وما لا يجوز ثم عدد صوراً للبر بأهل الذمة مثل لين القول على سبيل اللطف والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال أذاهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً بهم لا خوفاً والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمور دينهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وكل أمر يحسن من الأعلى أن يفعله فإن ذلك من مكارم الأخلاق نفعل ذلك امتثالاً لأمر ربنا تعالى وأمر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول: وفي هذا ما يشعر بضمان حرية المعتقد لهم من جهة وكذلك التنويه للمسلمين أن مهمتهم تنحصر في الدعوة إلى الله وليس في أسلمة الناس، إذ أن هداية الجميع من المحال "فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ.." آل عمران 20 "إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" الغاشية 21/22 وهذا يدل بالطبع على تكريم الجنس البشري عامة "ولقد كرمنا بني آدم" الإسراء 70 ولننظر في بعض الأمثلة والصور لسماحة الإسلام مع الآخر في مختلف الجوانب فمع وضع الاعتبار للنفس من جماعة أهل الكتاب روى البخاري رقم 1313 أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعدين في القادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما: إنهما من أهل الأرض أي أهل الكتاب والذمة فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: أليست نفساً. ومن تكريم الإسلام للجنس البشري أن أعطاهم حرية الاختيار في المعتقد والدين "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" البقرة 256 فلم يكره أحد من السلف الصالح على الإسلام أحداً وإنما هي الدعوة والبلاغ وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لعجوز نصرانية: أسلمي فإن الله بعث محمداً بالحق فقالت: أنا عجوز كبيرة والموت أقرب إلى فقال: اللهم اشهد وتلا قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" كما في المحلي لابن حزم" 196 وقد نقل ابن قدامة في المغني 9/29 أن الذمي والمستأمن إذا أكرها على الإسلام لم يثبت لهما حكم الإسلام حتى يوجد ما يدل على إسلامهما طوعاً ويدل لذلك أنه لما أجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبدالرحمن البيساني مرتداً بل قال: رجل يكره على الإسلام لا يصح إسلامه شرعاً، فعلق الدكتور ترتون في كتابه أهل الذمة في الإسلام 214 أن هذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل، وإذا قرأنا أحداث السيرة النبوية وجدنا ما كفله المسلمون في عهودهم لأصحاب الديانات الأخرى من الأمم فقد نقل ابن سعد في الطبقات 266 أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب لأسقف بني الحارث ابن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته ولا كاهن عن كهانته، وكذلك تبدو هذه السماحة – كما هو معروف – في العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس كما نقلها الطبري 4/449 بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين.
والجدير بالذكر أن عمر رضي الله عنه خاف من انتقاض عهده من بعده فلم يصل في كنيسة القيامة حين أتاها وجلس في صحنها فلما حان وقت الصلاة قال للبطريرك: أريد الصلاة فقال له: صل موضعك فامتنع عمر وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً فلما قضى صلاته قال للبطريرك: لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي سنة وقالوا: هنا صلى عمر، وهكذا اجتهد كيلا يغلب المسلمون النصارى على الكنيسة.
وجاء في تاريخ ابن خلدون 2/266 أن عمر كتب ألا يجمع على الدرجة للصلاة – أي جمعة وجماعة ثم قال للبطريرك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب ووجد عليها دماً كثيراً فشرع في إزالته، ثم بنى المسجد الصغير بقرب الكنيسة ثم إن مثل هذا العهد كان قد أعطاه خالد بن الوليد رضي الله عنه حين فتح دمشق ومن سماحة الإسلام مع أهل الذمة أن تركوهم يتحاكمون إلى أهل دينهم في جميع شؤونهم، وقد ذكر الإمام العيني في عمدة القاري 16/161 نقلاً عن الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا فنحكم بينهم بكتاب الله، وإلى هذه المعاني يشهد المؤرخون الغربيون فيقول ول ديورانت في قصة الحضارة 12/131: لقد كان أهل الذمة المسيحيون واليهود، وكذلك الزرادشتيون والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام فقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين وقد أحسنت المستشرقة الألمانية زيفريد هونكه حين قالت في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب ص364: إن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون واليهود والزرادشتية الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم من ممارسة شعائر دينهم وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟ وهكذا فإن مواقف المسلمين الفياضة بالتسامح تتوالى وتشمل المختلفين معهم في معظم المسائل الحساسة وذلك تنفيذا لقوله تعالى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم" العنكبوت 46 وإن الدعوة لا تقتصر على أهل الكتاب بل يقاس عليها بل ورد النص بأن رسالة الدعوة للجميع قال تعالى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" الأعراف 158 فما أحوج العالم أن يعيش في رحاب السلام العالمي حيث يقرر الإسلام فيه حرية الاعتقاد وروح السماحة الإنسانية للإنسان بوصفه إنساناً فقط كما يقول الدكتور سعد المرصفي في كتابه "خصائص التصور الإسلامي للسلام العالمي" ص 152 ولعل إضاءة سريعة عن حسن العشرة والمعاملة مع المخالفين تتجلى في حسن الخلق معهم وصلتهم فعندما يأمر الإسلام بالحرص على صلة رحم الوالدين حتى لو لم يكونا مسلمين دليل – كما قال الخطابي ونقله ابن حجر في فتح الباري 5/234 أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل الرحم المسلمة ويستنبط منها وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلماً، وقد ذكر السرخسي في المبسوط عن محمد بن الحسن الشيباني أنه يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين لقوله تعالى "وصاحبهما في الدنيا معروفاً" لقمان 15. وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله ويدعهما يموتان جوعاً.
ومن هذه الصلة الهدية وقد ورد عن ابن زنجوية في كتاب "الأموال" 2/589 أن الرسول أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة وكتب إليه يستهديه، كما قبل الرسول الهدايا من المقوقس وملك إيلة أكيدر وكسرى كما في البخاري رقم 2617، وأهدى عمر إلى أخيه المشرك ثوباً كما في صحيح مسلم رقم 2086 وأجاز الإسلام نزول الضيف الكافر عند المسلمين كما في سنن ابن ماجة رقم 3677 وكان الرسول يتعهد جاره اليهودي بالطعام كما رواه البخاري في الأدب المطرد رقم 95 ولم يدع الرسول على المشركين المسالمين بل دعا لهم كما في صحيح مسلم، وإذا كان الفيلسوف الانجليزي جون لوك كتب رسالة في التسامح من فظاعة حروب النصاري فإن الإسلام بحر التسامح والتصافح.

 

د. خالد هنداوي

المصدر: http://www.al-sharq.com/articles/more.php?id=190353

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك