قبل أن يخطف اليهودُ الشرق

قبل أن يخطف اليهودُ الشرق

د. محمد هشام راغب

 

 

احتشد آلاف من مسلمي البوسنة أمس للمشاركة في مراسم تشييع 94 من ضحايا التطهير العرقي الذي ارتكبته القوات الصربية في بلدة براتوناك قبل 15 عاما. وقد تم تحديد هوية جثث هؤلاء الضحايا من خلال تحليل الحمض النووي وتم إعادتهم إلى أسرهم التي قررت إقامة عملية دفن جماعية لهم.

ونقلت وكالة  أسوشيتد برس عن بعض الناجين قولهم في وصف  المذبحة إن القوات الصربية خيرت سكان البلدة بين إخلاء منازلهم والتوجه إلى الملعب الرئيسي أو مواجهة القتل، مشيرا إلى أن نحو عشرة آلاف مسلم استجابوا لهذا الطلب. وأضافت الوكالة أن القوات الصربية عزلت الذين قضت بإعدامهم وتركت الباقين يعودون لمنازلهم، موضحا أن عملية الإعدام تمت في مدرسة قريبة.
 
إن مأساة المسلمين في البوسنة والمذابح التي تعرضوا لها وراح ضحيتها عشرات الألوف منذ خمسة عشر عاما تكشف الظلم والخلل الذي أصاب النظام العالمي "الجديد" بعد استفراد الولايات المتحدة بالمسرح الدولي. قارن بين التغطية الإعلامية لتلك المذابح التي ارتكبت على امتداد سنوات وعلى مرأى ومسمع من العالم وبين التغطية و"التعاطف" الدولي لأحداث 11 سبتمبر. قارن بين الميوعة في محاكمة القتلة والمغتصبين وزبانية التعذيب في العراق وبين الصرامة والأحكام المغلظة التي تنزل على بعض الشباب المسلم عن جرائم كانوا "ينوون" القيام بها ولم تقع. ثم قارن بين الفزع الدولي ودموع التماسيح التي تسيل على مأساة دارفور مثلا وبين غض الطرف والتعتيم المتعمد عما يحدث لجارتها في الصومال بأيدي الجيش النظامي الأثيوبي وبدعم معلن من الولايات المتحدة.

إن الاستحواذ الأمريكي قد بدأ يضعف ، وعوراته الأخلاقية بدأت تتعرى وقبضته الحاكمة بدأت تتراخى وتترهل وتلوح في الأفق الآن قوى جديدة تبرز وتثبت أقدامها (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، ولكن الله ذو فضل على العالمين) فمن فضل الله أن يحدث هذا التدافع حماية لمصالح الناس وحتى تنقبض يد الظلم والفساد.

ينبغي علينا أن ننظر في هذه المتغيرات وأن نقرأ الحاضر قراءة جيدة لنستشرف المستقبل بوعي وبضيرة. علينا أن نتوجه لهذه القوى الجديدة البازغة ونقيم جسورا معها .

من هذه القوى الواضحة: الصين. هذا العملاق الاقتصادي الذي تدب قدماه الآن في أصقاع الأرض ، علينا أن نزيد من قنوات اتصالنا معه اقتصاديا وسياسيا. وعلينا أن ننشط في تقديم ديننا إلى شعبه بالرحمة والحكمة والموعظة الحسنة ، ولنا هناك أشقاء لنا ربما يصلون إلى المائة مليون ، أي أننا لن نبدأ من فراغ أو من الصفر. قرأت تقريرا لكاتبين بريطانيين كتباه منذ أكثر من مائة عام ، ونُشر التقرير في حينها في جريدة الهلال الإسلامية التي تصدر في ليفربول . وجاء في ذلك التقرير الذي أعده الأستاذان فيوسلوف ، وتيرسنت " .... إن الإسلام سائر بسرعة عظيمة في سبيل التقدم والنجاح في الصين ، وإن الصينيين يحبونه حبًّا كثيرًا ، ويميلون إلى أهله ميلاً كبيرًا ، وإن كثيرًا منهم يتسابق إلى التدين به . و منذ شرع الصينيون ينتحلون الدين الإسلامي بكثرة هائلة تزايدت عداوة الروسيين للإسلام في الشرق ، فإنه لا يروق في أعينهم أن يروا الصينيين يدخلون في دين الإسلام أفواجًا ؛ لأن انتشار الإسلام بهذه السرعة مما يضاد أغراضهم السياسية ، ولذلك لا يفترون عن إيجاد القلاقل في آسيا الوسطى ، وفي قلب الصين ، لكن انتشر الإسلام في مقاطعات تبلغ مساحتها سبعة آلاف ميل مربع تقريبًا . ودخول الإسلام في الصين كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه -  بزمن قصير ، فكان أول بزوغ شمسه فيها في عهد الخلفاء ، والتاريخ ينبئ بأنه كانت بين العرب والصينيين علاقات تجارية في عهد الخليفة الأول من الخلفاء الراشدين ، وأوضح أيضًا التاريخ الإسلامي أن أحد الصحابة رحل إلى الصين بتجارة طائلة مع جماعة من قومه ، وكانوا يحملون معهم سلعًا تجارية وكتاب نبيهم المقدس ، ونعني به القرآن ، وقد قام هو وجماعته بالدعوة إلى الإسلام ، فلم يلتفت إليه أحد ويترك دين الوثنية ، فذهب الصحابي وجماعته إلى مقاطعة "كانتون" واستعمروا فيها ، وأخيرًا أتيح له النجاح وأسلم على يديه الجم الغفير من أهالي هذه الجهة ، وابتنى فيها جامعًا .  وقد منحت المملكة الصينية امتيازات كثيرة للعرب ، واختلط الصينيون بهم وتشبهوا بآدابهم وأخلاقهم خصوصًا وأن مكارم الأخلاق وحسن المعاشرة والآداب التي اختص بها هؤلاء الغرباء جذبت إليهم قلوب الصينيين فدخلوا في دينهم وازدادت محبة أهل الصين للدين الإسلامي بثبات أهله على الاستقامة وحسن السلوك ، وبالتدريج أصبح الفريقان أصدقاء ، وتزوج كل فريق من الآخر وهو ما قوى الرابطة بينهم .   وبمرور الزمن أصبح العرب مساوين للصينيين من كل الوجوه ، وأصبح الصينيون مسلمين ، وعلى هذا فقد العرب شيئًا من عاداتهم الأصلية ، وفقد الصينيون دينهم القديم .  وتوجد أسباب أخرى انتشر بها الإسلام هذا الانتشار السريع، وهي أن الأغنياء من المسلمين يشترون أولاد الوثنيين وبناتهم ويربونهم بمعرفتهم ، وهم فوق ذلك يتصدقون على الفقير ويطعمونه ، ويكسون العريان ، ويساعدون المحتاج ، ويشفقون على المريض ، فبهذه الخطة التي اتبعها العرب جذبوا إليهم عقول الصينيين وقلوبهم ، ونما بذلك دين الإسلام بقوة في  الصين . ........  ومن أهم دواعي حب الصينيين للمسلمين أن هؤلاء المسلمين لم يخرجوا عن طاعة أولياء أمورهم ،وهم مطيعون للرؤساء ، لذلك تجد المسلمين دائمًا يطيعون أولياء أمورهم ، ويكرهون كل مشاغبة ؛ لأن قلب الحكومات لا يروق في أعينهم ، هذه هي أكبر الدواعي وأهمها التي جعلت الصينيين يميلون بكليتهم إلى المسلمين " اهـ.

هذا منذ أكثر من مائة عام وهو حق الآن أيضا ويمكن تطبيقه بالشرطين الذين تنبه لهما هذا الكاتبان – وهما من غير المسلمين - وهما:

  • أن تكون الدعوة عملية بمكارم الأخلاق وحسن العشرة والسخاء في المعاملة والآداب وشرح لأصول الدين ومنهجه الذي يوافق الفطرة الإنسانية..
  • أن تبتعد عن النزاعات السياسية .

من القوى الصاعدة كذلك: روسيا ، التي بدأت تفيق من صدمة انتقالها من النظام الشمولي الغاشم إلى نظام حر. روسيا تسعى الآن لاستعادة قوتها وتأثيرها ، ويمكننا أن نستفيد من هذه اللحظة التاريخية بتقوية الروابط معها في كل ما يحقق المصالح المشتركة. وتكون الدعوة الإسلامية أيضا بنفس الطريقة سالفة الذكر.

إن تنويع علاقاتنا الاقتصادية وروابطنا السياسية ضروري للتوافق مع التغيرات العالمية المتلاحقة. ثم يأتي الحرص على بناء الذات للحاق بركب الدول القوية أمر لا فرار منه. إن التباكي فقط على الظلم الواقع علينا لن يغير من الأمر شيئا. إننا نملك التجربة التاريخية والثروات الطبيعية الهائلة والعقول الواعدة ولا نُعذر أبدا في أن ننكب على يأسنا نردد حوله صباح مساء أن "ليس في الإمكان أحسن مما كان". وحتى إذا تأخرت الدول أو تقاعست ، فيمكننا أن نبدأ كأفراد أو هيئات تصب جهودها في هذا الاتجاه.

إن الروح الانهزامية اليائسة والبائسة قد قيدتنا عقودا طويلة وآن الأوان أن ننفضها ونتخلص منها. قال لى صديق يتعامل في تجارته مع اليابان والصين "علينا أن نسارع للشرق نتصل به ونرتبط معه لمصالحنا ومصالحه ، وأن نسابق بدعوتنا إليهم. إن اليهود قد اختطفوا أمريكا ، ولا ينبغي لنا أن ننتظر حتى يخطفوا الشرق أيضا".

د. محمد هشام راغب

h@el-wasat.com

 

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك