عوامل مصداقية الخطاب الدعوي

عوامل مصداقية الخطاب الدعوي
د. حمزة بن فايع الفتحي

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله
محمد وعلى آله وصحبه والتابعين
أما بعد
فيعاني بعض الدعاة الإسلاميين من مشكلة تراجع الزخم الجماهيري تجاه خطابه الدعوي، حيث يلقي مئات المحاضرات والدروس، ولكن دون تأييد اجتماعي، أو قبول شعبي ...... فما السبب؟
السبب أكثر من أن يحصى في نقطة واحدة، بل هي أسباب مجتمعة ومتنوعة، ولكن ما أحب الإشارة إليه، هاهنا على وجه السرعة في هذه التعليقة الموجزة هو التنصيص على عوامل مصداقية الخطاب الدعوي، وهي المعالم التي إذا اختطها الداعية إلي الله، حقق شيئاً من أهدافه، وبلغ بعض أمانيه التأثيرية والتغييرية بإذن المولى الحكيم.
وهذه العوامل إذا وعاها الدعاة أصلحوا أنفسهم، وراجعوا خطابهم، وصححوا مسالكهم، وزحزح أتباعها مكامن الخلل والتقصير، فكأنها موجبة لزوال مسببات الضعف الدعوي.
فليست المسألة مجرد حشد للمعلومات، أو تنميق للعبارات، أو التعلق بألوان الفضائيات!! كلا بل هو شئ آخر من الاستعداد النفسي والروحي والعلمي والاجتماعي، نسوقه في العناصر التالية، نسأل الله عزوجل أن يبلغنا معاقد الصدق، ويمن علينا بمباهج الإخلاص، الذي يجعل القلب فارغاً من كل شئ إلا محبة الله، وابتغاء رضاه ونواله، إنه جواد كريم.
السبت 26 محرم 1432هـ
1 يناير 2011م

1) الألفاظ الخالصة:-

قال تعالى: " فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ " (سورة الزمر)
يجمع الدعاةُ العلم، ويُحرزون الكلمات، ليؤدونها أداء جميلاً آسراً، على الناس، ولكن يهمل بعضهم صبغ تلك الألفاظ بمصبغة الإخلاص لله تعالى .... والتجرد من الحظوظ النفسية والدنيوية، التي تعكر المسار، وتصرف الناس عن الهدف الدعوي
فيكثر الداعية الكلام، وتتقلب صوره على الفضائيات، ولكن دون جدوى!! يحس الناس منه قصد الشهرة، أو الفوقية، أو التعالي بالألفاظ، أو الحديث عن النفس كثيراً، أو محاباة السلاطين، فيشعرون بانعدام جذور الإخلاص لديه، وأن ألفاظه ألفاظ دنيوية، خرجت من نبع الشهرة وليست ألفاظاً آخروية، خرجب من نبع القرآن والحب لله تعالى.
عندها يحس المتلقي أن تلك الألفاظ، كالجلاميد الحادة، وليست كالأنداء اللطيفة، وأنها لا تغير من حياته شيئاً ولا تزيد إيمانه، ولا توقف تفكيره، بل يحرص على تجاوزها حينئذ، لأنه لا بركة في عمل بلا إخلاص!!.
ولا أثر لمحاضرة أو درس ما ابتغى صاحبها إلا تسويق نفسه، وليس تسويق الإسلام، وخدمة قضاياه الدعوية والفكرية!!
قال تعالى: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " وقال صلي الله عليه وسلم " من يسمع يسمع الله به، ومن يرائي رائي الله به ".

2) الجمل الشفيقة:-

قال تعالي: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ " (آل عمران:159)
ونعني بها الجمل التي توحي للناس بالرحمة والاهتمام وحسن الرعاية، وتتجاوز أساليب العنف والقسوة والصلف، التي قد يتورط فيها بعض الدعاة، بدعوى الغَيرة على الإسلام أو المنهج الصارم، أو التربية الجادة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك كله لانعدام الفقه، وجفاء الحكمة، وغياب الوعي!!!
إنَّ الجُمل الشفيقة لا تعني الإهمال، أو ترك الجد والحزم، بل إنها رسائل وقوالب حانية، مستوعبة لكل القضايا الجادة، والمناهج التربوية الرصينة، ولكنها تحسس المستمعين بمحبة الداعية، لهم واتصاله بهم، وإحساسه بقضاياهم، بل عيشها، وحملها بكل مصداقية واعتناء كما قال تعالى في وصف رسوله صلي الله عليه وسلم "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" (الكهف:6)
أي تكاد تقتل نفسك غما على عدم استجابتهم، واعراضهم عنك.
وكمال قال مؤمن آل فرعون " فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا " (غافر : 29) فأشرك نفسه معهم في البأس المحتوم على وجه الإشفاق والخوف عليهم...

3) المشاركة الميدانية:-

وهي شكل من أشكال التطبيق العملي لآلاف الكلمات، التي فاضت بها حنجرة الداعية، وكانت عبارة عن أوامر ومنهيات وتوجيهات وحوافز، يندب الداعية فيها إخوانه المسلمين إلي المسارعة تحقيقا لقوله تعالى: " فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (سورة البقرة: 148)...
ولكن من يؤكد للناس سبق الداعية إلى مثل ذلك، إذا لم توجد مشاركة ميدانية، وتطبيق عملي، يقدمه للناس، ليبرهن على حبه وحرصة ومصداقيته الفريدة ....
فحينما يحض الناس على النفقة، لابد أن يكون أو المنفقين، ويعرو عن البخل ويكفل الأيتام، ويعود مرضاهم، ويحل مشاكلهم، حسب استطاعته!!
لأن الانزواء في البيوت، ومعانقة المكتبات بديمومة راسخة، وعدم الظهور إلا أثناء الدروس، يجعل الناس يحسون بفجوة بينهم وبين الشيخ المربي، ويتساءلون لماذا لايحضر أفراحنا، أو يحل مشاكلنا، ولا يعزينا، ولا يخالط أحوالنا؟!!
ومثل هذه الأسئلة ستحفر في الذاكرة أشياء سلبية، والمستحسن تجاوزها بحسن المشاركة، والتطبيق العملي للسنة والأخلاق الحميدة، التي قد لا تكلف الداعية كثيراً، بل سيجل له مواقف جميلة في عيون محبيه ومتابعيه، انظر الى مشاركة رسول الله لأصحابه في حفر الخندق، وقتاله في المعارك، وجوده بماله ونفسه وملابسه في سبيل الله، كيف عائدتها على الناس؟!!
ووقوفه على مشاكل الناس، والصلح بينهم، وخروجه في قضاء حوائجهم وغيرها.

4) النفع الإجتماعي:-
وهو شئ من المشاركة الميدانية بل تفوقه أحياناً، عندما يضطلع الداعية بشئ من العمل الخيري والإغاثي والتعاوني للناس، فيعظم حبه عندهم، ويُظهر شكلاً من مصداقيته، وأنه يحمل همومهم، ويستشعر مشاكلهم، بل يسهر في حل بعضها، لاسيما الفقر، والظلم، والجهل، والتخلف، والنزاعات.

وهو بذلك يحقق فوائد مهمة للمصداقية:-
1) تصديق مقالاته، والبرهنة على محبة الناس وإرادة الخير لهم.
2) الانتقال من عالم القول إلى (عالم الفعل) والمخالطة، وكشف الفرق بين النوعين.
3) توسيع دائرة قبوله وشعبيته .
4) تعزيز تواضع الدعاة، وحسن أخلاقهم، وانهم ليسوا بمعزل عن مشكلات الناس وحوائجهم، كما (كان صلي الله عليه وسلم لا يكاد يرد سائلاً، وتأتيه الجارية من نساء المدينة، فتأخذه إلى حيث شاءت حتي يقضي حاجتها) كما ثبت في الصحيحين
وقيل البعثة سطرت فيه خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ألفاظاً من ضياء عندما قالت: "كلا والله، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتَحمِل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق" .
وهذه فضائل اجتماعية استحملها رسول الله ليصدق دعوتهَ، ويحدث التغيير المطلوب في حياة الناس، وهي مقدمه ضرورية للإصلاح والتغيير، نبهنا عليها في رسالة هامة : بعنوان (مقدمات التغيير النبوي) راجعها إن شئت.

5) الانشراح الصدري:-

قال تعالى: " فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ" (الأنعام:125) وهو حالة من السرور تعتري المتحدث، فينساب كلامه انسياباً، بلا تكلف ولا ضيق وتشدد، فيحس مستمعوه بسهولته، وتباعده عن التكلف، كأنما يغرف من ماء، فيقع منهم موقع الحب والقبول.
وانشراح صدره بوابة إلي قلوب الناس، حيث إنه علامة على التوفيق والمصداقية، التي يريدها كل الناس
قال تعالى في موضع الامتنان على رسوله صلي الله عليه وسلم: " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " (الشرح : 1) ولو لم يكن ثمة شرح صدر، لما انشرح للنصح والتذكير، ويلقى الناس كلامه بالقبول والخضوع!.
وهي أول دعوة سألها موسى كليم الله تعالى لما انطلق إلى فرعون الطاغية (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (طه :25-26)

إن شرح الصدر، نتيجه طبيعية للألفاظ المخلصة، التي خرجت من فؤاد متذلل منقطع لله تعالى ، وهو علامة حسن التدين، وديمومة والمراجعة والمحاسبة قال تعالى: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً " (الطلاق :4)
وحسن التدين دائر حول جوهر التقوى والمراقبة لله، التي تعلي جناب التوحيد والرغبة والرهبة لله الواحد الأحد تبارك وتعالى.
قال تعالى : " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " (فاطر: 28)
يتكلم الداعية الصدوق الساعات المتوالية فلا يضيق صدره، ولا تتعب نفسه، والمرائي لا يستطيع الكلام دقائق محدودة، بسبب التكدير الداخلي، والهوان السلوكي، والله المستعان.

6) التغطية الواسعة:-

قال تعالى(ما فرطنا في الكتاب من شئ) (النحل :38)
لا يكاد يمر ب بالداعية الحصيف، قضية اجتماعية تهم الناس، وهو قادر على الحديث فيها إلا ويتحدث فيها، وتشعشع نعماؤه على الناس، ويعلمهم ما ينفعهم بلا منةٍ ولا إجحاف.
فتجده ينوّع حديثه من قضايا عقدَية إلي آداب سلوكية، إلي مسائل أحكامية ثم يبحر في مواعظ قرآنية، ودروس نبوية، إلى أن ينتهي إلي أحاديث قصصية، وسير تاريخية، وتنيهات فكرية ....!! فهو منوَّع الطرح، واسع العقل، عميق الاطلاع، يفيد الناس في كل جهة، عن قدرة وتمكن، وليس تطاولاً أو إدعاً!!
وهذا نوع من جمهور الدعاة، قد يحسنون ذلك، أما سواهم من محدودي القدرات، فهؤلاء يبقون على تخصصاتهم المتقنة، كالوعظ أو السير، أو الإرشادات الاجتماعية وما شابه ذلك والله ولي التوفيق.
7) تطبيب الجروح:-

من القضايا الاجتماعية قضايا حساسة، تهم مصالح الناس، يتعامل معها الشيخ الداعية كالطبيب الذي يحاول علاجها بالتشخيص، ثم يصرف الدواء كالصيدلاني، فهو هنا (الداعية الطبيب) الذي يعالج بكل رحمة وإشفاق وحنّو..... نحو مشاكل الفقر والجهل، والمرض، والتربية، والإصلاح، والبطالة، والأسر والأحياء، التي يحس الناس بحاجتهم إلى المنقذ المرشد لحلها.
فيأتي أخونا الداعية اللبيب ليضع عليها بلاسم الشفاء، وأنداء الراحة، فيريل غما، ويفرج كرباً، ويدفع بلاءً وحسرة، ويوغل في الجوانب الإيمانية إلي تشرح الصدور، وتداوي الكروب، وتفتح نسمات الحياة، ومباهج النور لطالب العمل والجد والتغيير.
وهذا الأسلوب مما يعزز حب الناس للداعية، ويورثه المصداقية، وأنه لا يعيش خارج الحدود، أو يغرد نائياً عن السرب، بل هو في خضم المشكلة، يعيش آلامهم، ويتبرم لأحزانهم ومشكلاتهم.

8) الاستعفاف الدنيوي:-

قال تعالى: " وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)" (سورة طه).
فكلما تباعد الداعية عن مفاتن الدنيا صحت نفسه، وصدقت كلمته، واكتسب محبة الناس.

والدنيا المُستعف منها هنا ما يلي:-
1. الانفتاح الدنيوي الغالي، الذي يرُهق النفس، ويورثها الغرور والترفع.
2. أموال الشبهات، كبعض المسائل الربوية، والأموال المختلطة وما شابه ذلك.
3. دنيا المتنفذين الذي عرُفوا بجمع المال من غير وجه، وتشغيله في مغاضب الله تعالى..
أما أن يصبح الداعية تاجراً فلا حرج في ذلك، إذا أتى البيوت من أبوابها، وتوقى لدينه ودعوته، وكان (سمحاً إذا باع واشترى، وإذا اقتضى) كما في صحيح البخاري.
وقد اتجر أبو بكر وعثمان وطلحة والزبير وابن المبارك وأبو حنيفة وكانوا خير مثال للصدق والنزاهة رضي الله عنهم أجمعين.

9) النزاهة النفسية:-

قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ " (سورة الصف : 2-3)
والمعنى طهارة النفس من كل الشوائب والمخالفات التي يدرك الناس أنها مما يشير الداعية، أو ينسف دعوته، مما هو مخالفة شرعية صريحة، أو منافية للآداب العامة كقضايا الأخلاق والمروءة فإنهم وإن تغاضوا عن المروءة لا يتغاضون عن المحرم الصريح، أو المكروه البين !!
قال تعالى عن شعيب عليه السلام: " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ " (سورة هود: 88)
وطالب الإصلاح لا يمكن له مناقضه توجيهاته أو المجاسرة على المكروهات، أو الجهالة في الخلوات، وتمثيل التدين بلا حقيقة أو برهان، والله المستعان.
ومن النزاهة تجنب الشبهات ومما قد يساء الظن فيه نحو المعاملات المختلطة، أو الوسائل الملتمسة، وقد اشتهر قول عمر رضي الله عنه:
" من أورد نفسه موارد التهم فلا يلومن إلا نفسه "
وإن من النزاهة التورع حتى في المنطق، والملبس، والسلوك، والبدوّ وبالصورة الجمالية للداعية المسلم... والله الموفق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك