فـَنّ الجدال والمناظرة.. ودلالته على أصالة الحوار في الحضارة الإسلامية

فـَنّ الجدال والمناظرة.. ودلالته على أصالة الحوار في الحضارة الإسلامية

 

من الفنون التي ازدهرت في حضارتنا (فن الجدال والمناظرة) ، سواء بين الأفراد المثقفين أو علماء العقيدة أو الشريعة ، وبين المسلمين وغير المسلمين .

ومن الطريف أن الجدال والمناظرة كانا يتحققان وفاقاً لشروط علمية ، وأنهما كانا يقعان في قصور الخلفاء والوزراء والمساجد ، وأنهما يحاطان بشروط موضوعية تقوم على الحقائق والمنطق ، وعدم الخوف ، بل كثيراً ما كان اليهود والنصارى البادئين بالنقد ، ومن ثم ينبري المسلمون للرّد عليهم ، كما فعل الوزير اليهودي الأندلسيّ ابن النغريلة ، وقيام ابن حزم الأندلسيّ بالردّ عليه .

وفي البداية نشير إلى أن معنى المجادلة (مقارعة الحجة بالحجة) قال تعالى : " وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" ([1]) ،  ونشير أيضاً إلى أننا نملك في تراثنا الثقافي الإسلامي رصيداً عظيماً من صور الحوار والمناظرة وشروطهما .

كما أننا نؤيّد ـ أيضاًَ ـ ما ذكره إمام الحرمين الجويني الذي يرى أنه : لا فرق بين المناظرة والجدال والمجادلة والجدل في عرف العلماء بالأصول والفروع ، وأن الفارق بين الجدال والمناظرة هو فرق من حيث اللغة فحسب .

ومن المعروف ـ كما يذكر الجويني ـ أن من الجدل ما يكون محموداً مرضياً ، ومنه ما يكون مذموماً محرماً ؛ والمذموم منه ما يكون لدفع الحق ، أو تحقيق العناد ، أو ليلبس الحق بالباطل أو لطلب الجاه ؛ أما الجدال المحمود فهو الذي يحق الحق ، ، ويكشف الباطل ، ويهدف إلى الرشد ، مع من يرجى رجوعه عن الباطل إلى الحق ، وفيه قال سبحانه :" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"([2])، وقوله تعالى :" قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ" ([3]) .

 

ويتتبع عبد الرحمن بن خلدون (ت 808 هـ) في مقدمته المشهورة ظهور المذاهب الفقهية وتطورها ، ودور الجدال العقلي في تكوينها فيقول : وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمام يجري على أصول صحيحة وطرائق  قويمة ؛ يحتج كل على مذهبه الذي قلده وتمسك به ، وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه .

أما الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) فقد ذكر في الجزء الأول من كتابه القيم :
(إحياء علوم الدين) الذي تكلم فيه عن العلم وآفات الجدال والمناظرة والضوابط المطلوبة في المناظرة والجدال ، وقد تتبع الغزالي ظهور الخلافات الفكرية في الأمة ، وربطه بظهور الفقه (وعلم الاجتهاد في فروع الشريعة) ، وعلم الكلام (علم فقه العقيدة) منذ عصر التابعين والسلف الصالح ؛ الذين اهتموا بعلوم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات ، مع اتساع الدولة الإسلامية ووراثتها للعالم القديم .

ويكشف أبو حامد الغزالي ما يدخل في المناظرات من تلبيسات إبليس وتمويه أجناده وأعوانه؛ فهو يفحص دعاوى الملبسين والمتوصلين بالجدال والمناظرة إلى التشكيك في الحقائق؛ ثم يضيف: إن التعاون على طلب الحق من الدين ، ولكنَّ له شروطاً وعلامات لا تتغير مع اختلاف الزمان ومستجداته .

 

ومن شروط الجدال التي ذكرها أبو حامد الغزالي ([4]) :

ـ أن يكون المناظر مجتهداً يقول برأيه ، ويجتهد في طلب الحق ، وأن يقبله بلا تعصب .

ـ ألا يناظر إلا في مسائل واقعة أو محتملة الوقوع غالباً .

ـ وأن تكون المناظرة ـ قَدْر الاستطاعة ـ في الخلوة ، وبعيدة عن المحافل ، وعن حضرة ولاة الأمر ؛ فإن الخلوة أجمع للفهم وأبعد عن الرياء .

ـ وأن يكون المناظر في طلب الحق كناشد ضالة ؛ لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه .

ـ وألا يمنع (أي المناظر)  محاوره من الانتقال من دليل إلى دليل ، ومن إشكال إلى إشكال ؛  بل يعطيه الحق الذي يعطيه لنفسه .

وهكذا تدلـّنا قواعد فنّ الجدال والمناظرة على أصالة الحوار في حضارتنا، بطريقة راقية تحترم العقل الإنسانية وتمكنه من تحقيق التعاون والتعارف بين الحضارات؛ بحيث نستطيع القول: إن الحوار باعتباره صورة راقية من سوائل التفاعل الحضاري ، ووسيلة سلمية تؤدي إلى هدف إنساني كريم هو الوصول إلى الحق ؛ يجد ـ في ظل شروط فن الجدال والمناظرة ـ المناخ الملائم لتحقيق غايته الكريمة ؛ لكنه إذا فقد هذه الشروط أصبح وسيلة لاستمرار الصراع وتكريسه بطرق أقل عنفاً .

وإذا ذهبنا ـ كما يقول الدكتور/ عبد الملك منصور إلى بيان موقف الحضارتين ـ الأوربية والإسلامية ـ من الحوار (أو الجدال والمناظرة) ؛ في ضوء عامل المرجعية أو القيم الحاكمة؛  فسوف نحد أن التوجه الصراعي ، وليس الحوار السلمي هو المسيطر على الفكر الغربي بما فيه الفكر الديني (صراع الآلهة) ، والفكر الفلسفي (مقولات نيتشة وهيجل) ، والفكر الاقتصادي (نظرية صراع الطبقات) ، و (نهاية التاريخ لصالح الرأسمالية) عند فوكوياما ، والفكر الحضاري الصدامي (مقولات برناردلويس وتلميذه هنتنجتون) ، والفكر السياسي (نظريات توازن القوة والواقعية الوضعية) ، والفكر البيولوجي (نظرية البقاء للأصلح) ، والفكر الاجتماعي (مقولات الداروينية وأوجست كونت الاجتماعية) ، والفكر النفسي (نظريات فرويد) إلى غير ذلك ([5])  .

ولعل النظرة العابرة في تاريخ الحضارة الغربية تفيدنا أن غلبة التوجه الصراعي على الفكر الغربي ليس أمراً نظرياً فحسب ، وإنما هو أمر يؤديده الواقع ، وسواء في التاريخ الداخلي للمجموعة (الأوربية ـ الأمريكية) : (تاريخ الحروب الدينية في الغرب ، والحروب الأهلية داخل دولها ، والحرب الباردة بين شقيها الرأسماليّ والماركسيّ و … إلخ) ، أو تاريخها الخارجيّ (توسعات الإمبراطوريتين الرومانية واليونانية ، وغزوات الإسكندر ،  والحروب الصليبية لثلاثة قرون ، والحربين العالميتين ، والحملات الاستعمارية و… إلخ) ([6])  . 

فإذا نظرنا إلى الحضارة الإسلامية في ضوء مرجعيتها الفكرية والقيمية ، وكذلك المواقف العملية عبر التاريخ ؛ فسوف نجد الحوار يمثل ركناً أساسياً وأصيلاً في الشريعة والحضارة الإسلامية ؛ إذ يوضح لنا القرآن الكريم ـ وهو أساس المرجعية الإسلامية ـ أن العلاقة الأساسية الأولى في هذا الوجود ، وهي علاقة الخالق بالمخلوقات ، قد بدأت وتأسست واستمرت على أساس الحوار وحده .

لقد أسس الله علاقته مع الإنسان والملائكة والجن على مبدأ الحوار ، كما تروي لنا آيات قرآنية كثيرة ـ مثلاً ـ " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا  لاَ  تَعْلَمُونَ" ([7]) ، و " إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" ([8]) ، والأصل في القول ـ وكذا في العرض ـ كما نعلم هو الحوار ([9]) .

والقرآن الكريم حافل بالآيات الكثيرة الدالة على الحوار مع المخالفين ، وتعد الآية القرآنية "قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ" ([10]) ، دستوراً للحوار الإسلامي ، كما أن الآية القرآنية
"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ" ([11])  تمثل دستوراً لحرية الاعتقاد الذي ينفي بطبيعته الإكراه ويدعو إلى الحوار والإقناع .

وقد بسطت أوراق كثيرة سابقة القول في مدى أصالة الحوار في الإسلام وحضارته ، كما قدمت مواقف وشرائح كثيرة تؤكد أصالة هذا الحوار ، وأنه الأصل الأصيل ، وأن اللجوء إلى (الصراع) إنما يكون عند الضرورة القصوى ؛ دفاعاً عن النفس ، أو دفعاً للظلم والقهر والتسلط.

 -----------------------------------------------

([1])  العنكبوت : 46.   

([2])  النمل : 125.   

([3])  البقرة : 111.   

([4])  الدكتوره / آمنة نصير : حوار الحضارات من أجل الإنسان تواصل لا صدام ، ص25 ، العدد (119) المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ، 1426هـ ـ 2005م .   

([5])  الدكتور/ عبد الملك منصور : دور المجموعة الحضارية الإسلامية في حوار الحضارات ، مؤسسة المنصور الثقافية للحوار بين الحضارات ، اليمن .

([6])  المرجع السابق .   

([7])  البقرة : 30.   

([8])  الأحزاب : 72.   

([9])  الدكتور/ عبد الملك منصور : المرجع السابق .   

([10])  آل عمران : 64.    

([11])  البقرة : 256.  

 

المصدر: http://www.el-wasat.com/portal/News-34444.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك