الدعوة تنتشر بالحكمة والقدوة والتوجيه الروحي

الدعوة تنتشر بالحكمة والقدوة والتوجيه الروحي

ليعلم الداعية (وكل مسلم يمكن أن يكون داعية بشروط معينة ، وفي مستوى معين) ؛ أن الدعوة الإسلامية نجحت عن طريق الدعوة الفردية أو الجماعية بالحكمة والقدوة ... أي بالداعية المخلص ، والتاجر الصادق الأمين ، وغيرهما ، وما كان دور الفتوحات الإسلامية إلاّ إزالة الحواجز وتأمين طرق البلاغ ، والحفاظ على كيان دولة الإسلام .

فلم يكن ـ أبداً انتشار الإسلام بالفتوحات الإسلامية !!

ومع تقديرنا العظيم لجهود سلفنا الصالح في العصرين : الراشدي (11ـ 41هـ) ، والأموي
(41 ـ 132هـ) في مجال الفتوحات  … إلا أننا نعلم علم اليقين أنهم ما قصدوا من وراء فتوحاتهم إدخال الناس في الإسلام مكرهين ، وما قصدوا أن تفرض هذه الفتوحات الإسلامية على الناس … 

ـ ولو كان الأمر كذلك لما بقى في الهند ـ حتى اليوم ـ (وقد حكمها المسلمون حكماً مطلقاً ثمانية قرون ـ تقريباً) أغلبية هندوكية  … بل إن الهند الآن كانت منذ شهور محكومة بحزب هندوسيّ متطرف !!

ـ وإنما كانت الفتوحات دفاعاً عن الإيمان نفسه … كانت طريقاً لمقاومة الصورة التقليدية الكاذبة المشوّهة التي يصرّ أعداء الدين والحق والخير والإيمان … أن يرسموها للإيمان .

إنهم ـ دائماً ـ يخشون أن يعرض الناس الحق والخير والإيمان على حقيقته ؛ لأن مجرد هذه المعرفة الصحيحة ، مع ما توحيه ـ بالضرورة ـ من المقارنة مع الباطل والإلحاد ـ فكراً وحياة وسلوكاً ـ ستنتهي بالنتيجة الحتمية لصالح الإيمان !!

ـ حقاً كان الأباطرة الهرقليون في الإمبراطورية الرومانية ودهاقنتهم ، وكان الأكاسرة في الإمبراطورية الرومانية الفارسية ، وسدنة النار أو الأوثان عندهم … كان هؤلاء وأولئك يحرصون الحرص كله على تنفير الرعية من الإسلام … وتصوير العرب الذين يحملون رايته على أنهم إرهابيون ووحوش ، دفعهم الجوع وجدْب الجزيرة العربية إلى الزحف على العالم !!

ـ وكانت الدول الإسلامية ـ في المدينة المنورة ـ تعيش في رعب دائم … ومن هنا كانت لا تفتأ ترسل السرايا والغزوات ، لتؤمن الحدود ولتفرض هيبتها ؛ لأنها كانت تعلم علم اليقين أن اليهود الذين يعيشون داخلها ، ومعهم جماعة المنافقين ، يعادونها ويتربصون بها الدوائر .

وينتظرون الهجوم الخارجي ليضعوا أيديهم في يده ، شأن كل الأقليات الخائنة للأوطان والقيم والمبادئ … حتى مهما كانت طبيعة المهاجمين ، فاليهود لا يأبهون بالمبدأ ولا تجمعهم بأيّ أحد جسور مشتركة ، وَهمّهم الانتصار العاجل ، حتى ولو وضعوا أيديهم في يد الوثنيين ضد أهل كتاب من أمثالهم !!

وعلى الحدود القريبة يقف أهل مكة وتوابعهم في الجزيرة يلاحقون مدينة الإسلام الناشئة ، ويدخلون معها المعارك ، بدءاً من بدر الكبرى ، وانتهاء بغزوة الخندق ، ثم صلح الحديبية !!

أما الحدود البعيدة فتقف الدولة الرومانية عليها تحرك توابعها من الغساسنة ، وتتربص بالدولة الإسلامية الناشئة ، التي أرسلت الرسل إلى الملوك تدعوهم إلى الدين الجديد ، وتقيم عليهم الحجة، وتحملهم المسؤولية الكاملة عن أنفسهم ومواطنهم …

ـ وتقف الإمبراطورية الفارسية ـ كذلك ـ على جانب من الحدود تحرّك توابعها المناذرة للتربص بالدولة الناشئة والكيد لها …

وهذه القوى أوجبت على الإسلام أن لا يغمض عينه عنها ، وفرضت عليه الاشتباك ، وهو في مهده في معارك معروف سلفاً أنها بين قوى غير متكافئة …

وهكذا دفع المسلمون ثمناً غالياً في (مؤتة) ، واستشهد ثلاثة من خيرة صحابة رسول الله
ـ عليه الصلاة والسلام ـ هم : (زيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وجعفر بن أبي طالب … فضلاً عن مئات غيرهم!!

فلم تكن الفتوحات ـ إذن ـ قراراً إسلامياً هجومياً ، وإنما كانت قراراً دفاعياً فرضته القوى الشريرة ، التي لا تؤمن أبداً بحق الآخرين في التعبير عن عقائدهم فكراً وسلوكاً …

ـ ولو كان العالم مفتوحاً للحوار العادل الصادق في مناخ حر سليم ، لما كانت هناك حروب غالباً ، بل إننا نجد الرسول r يقبل من أهل مكة شروط مجحفة ظالمة ؟ بحثاً عن السلام ؛ لأنه يرى أن السلام الصحيح الحقيقي المكافئ هو فرصة الإسلام دائماً للانتشار والازدهار .

وفعلاً كانت الفترة بين صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، وفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة من أزهر فترات الانتشار الإسلامي … ودخل الناس في دين الله أفواجاً .

ـ فالدعوة كانت هي البداية ، وكانت هي الطريق ، وكانت هي الهدف الثابت والأبقى ، ويجب أن تبقى كذلك في فقه الدعاة ، ولا سيما في العصر الحديث ، عصر الإعلام والفضاء وشبكة المعلومات الدولية ، وتقارب المسافات ، بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل على هذا النحو !!

 

لا يستطيع داعية أو غيره إنكار أننا في عصر العلوم والصراع الثقافي … وإنه لمن الغفلة والعجز تجاوز هذه الأرضية ، بل إن على الداعية الوقوف في دعوته فوق أرضيتها عاملاً على أن يكون لهذه العلوم والثقافة توجيه روحي ورسالة أخلاقية ؛ فالمسلم داعية للعلم والثقافة شريطة أن يكون لهما وظيفة روحية وأخلاقية .

*ولقد دعا العلامة (مالك بن نبي) إلى بناء ثقافي إسلامي للمسلم المعاصر يعتمد ابتداء على التوجيه الروحي والأخلاقي للثقافة ، بهدف تكوين صلات اجتماعية منسجمة… ذات نظرة أخلاقية إسلامية للحياة والكون .

ـ وهو يرى أن منظومة العالم الروحي التي تستطيع أن ترتقى بفعالية الفرد والمجتمع إلى مستوى العطاء النموذجي لابد أن ترتكز على عدة محاور أساسية هي :

1ـ محور (الإخلاص) الذي يتكفل بتجريد نية المسلم وقصده لله وحده .

2ـ محور (المراقبة) التي تفرض الاستشعار بحضور الله الدائم في حياتنا .

3 ـ محور (المحاسبة للنفس) دفعاً لها إلى تصويب الخطأ .

4ـ محور (التوبة) الذي يتكفل بفتح الطريق أمام الفرد للعودة إلى توازنه النفسيّ والاجتماعيّ.

5 ـ محور (التوكل) الذي يعني تفويض الأمر لله والثقة فيه وطلب العون منه .

6ـ محور (الارتقاء بالسلوك الإنساني) كهدف محوري لحركة البناء الحضاري
(عملياً وجمالياً) وطموحاً فردياً وانسجاماً اجتماعياً .

ـ وللأسف فإن كثيراً من العاملين للإسلام انحرف ميزان العدل عندهم ، فوقعوا تارة في إهدار الذات وإهانتها ، وتارة في تضخيمها والتقليل من شأن إخوانهم وأساتذتهم ، أو من شأن الآخرين الذين يخالفونهم في بعض الآراء ، وبعضهم حريص على تأجيج صراعات عنصرية مذهبية أو فكرية أو فقهية أو وطنية …

والمهم عنده تضخيم ذاته وتحقيق الاغترار بنفسه وبمن معه في فرقته أو جماعته !!

والمؤلم أن الاغترار بالنفس ، أو الدوران حول الذات لا يبدو في طلب الرياسة بالأساليب غير الكريمة وحسْب ، كلا، إنما قد يبدو في تنقص رجل معروف ، أو اعتناق رأي شاذ أو المكابرة في حوار ، أو ما شابه ذلك من مواقف لأناس يعملون في الميدان الديني أو الميدان المدني على السواء .

ـ وقد ورد أن هؤلاء أول من تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة : "تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ  يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" ([1]) .

إن هؤلاء المرضى بالشذوذ والحقد يكثرون من التلاوة وصور العبادة ، وينتهزون الفرص التي تتنفس فيها طباعهم فيضربون ضربتهم ، وقد كانوا كثيراً في جيش علي بن أبي طالب ؛ ولكنهم شغلوا علياً عن هدفه حتى انهزم ، وكانت صيحتهم لا حكم إلا لله ! وكان تعليق علي : 
(كلمة حق أريد بها باطل) !!

ـ إن المتدينين من هذا الصنف الغاش بلاء على الدين ، وعقبة أمام امتداده .

ـ وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق ، وقال : "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين" !

 إن إيمانهم لا يجاوز حناجرهم ، أي لا يعلق بخلقهم وعملهم شيء من لب الدين إنما هي صور عبادة ، وصوت قراءة ، إلى جانب فظاظة في الأخلاق ، وقساوة في الأفئدة وقباحة في الأعمال !!

وتلك كلها خلال تنافي الإيمان ، فالإيمان إنكار الذات ، وحب للغير ، وستر على المخطئ ، وسعي لإقالته من عثرته ، وسرور غامر بتوبته .

الإيمان توقير للكبار ورحمة بالصغار وتكريم للعلماء .

الإيمان سعادة بالرخاء يشيع بين الناس ، وألم للكوارث التي يقطب لها الجبين ، ولو كان هذا أو ذاك خبراً ينقل لا علاقة لشخصك به ([2]) .

وهذا الإيمان الودود هو ما يجب أن يعلمه الداعي المسلم للبشرية … حتى يكون على خطا رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ .

 

لقد آن فض الاشتباك بين من يصلحون العقيدة ، ومن يصلحون النفس والقلب ، ومن يصلحون العقل ، ومن يصلحون الظاهر أو الباطن ، فكل هذه الجوانب كلٌ لا يتجزأ ، وبعضها يرشح على بعضه ، سلباً وإيجاباً … وإذا ما أعدنا الأمور إلى ميزانها الصحيح (كتاب الله وسنة رسوله وسيرته العملية عليه الصلاة والسلام) فإننا سنجد كل هذه الجوانب حيّة فاعلة متكاملة لا يمكن أن تنفصل عن بعضها …

وعندما تكون هناك (روح) و (أخلاق) تسود كل المدارس العاملة للدعوة يسود الحب والوئام ـ والأخوة الإسلامية ـ الجميع ، ويتكاملون ولا يتصارعون … والداعية الحق من يقود الناس إلى هذا الطريق !!

 

الجدال … والمقارنات بين الإسلام والمسيحية في المرحلة المبكرة :

ـ منذ بداية ظهور الإسلام سنة 610م (13ق هـ) وهو يتعرض لحقد الحاقدين من أصحاب الوثنيات الوضعية والديانات الكتابية السابقة … وقد يكون هذا الأسلوب مقبولاً في حدود معنية ، فليس من السهل ترك الإنسان لدينه وعاداته

 

--------------------------------------------------------

([1])  القصص : 83.  

([2])  المرجع السابق : 177، 178.  

 

المصدر:  http://www.el-wasat.com/portal/News-55525425.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك