المسلمون .. قادة المستقبل الإنسانى

المسلمون .. قادة المستقبل الإنسانى

من بين هذا الكم الهائل من التصورات التى  توشك أن تفقد الإنسان المسلم ذاته وهويته فكرًا وسلوكًا، تبدو الأهمية- بل والضرورة الإسلامية والتاريخية- لبروز الحضارة الإسلامية.  ومعروف أننا أمة لنا خصائصنا المميزة، ولنا كياننا الحضارى، ولنا تاريخنا العريق الذى يحمل أروع صفحات المجد والعزة، وإن لنا من الأيادى على البشرية ما لا ينكره إلا جاحد، وما زالت المبادئ والأصول التى صنعت لنا هذا التاريخ موجودة بيننا، وقادرة بإذن الله على أن تضعنا فى المكان نفسه الذى كنا فيه؛ إذا غيرنا عقولنا ونفوسنا وقررنا الحفاظ على ديننا وحضارتنا.    إننا حين نقف فى عالم اليوم، متدثرين بكياننا الحضارى الإسلامى متفاعلين به فإننا سنحظى باحترام العالم نفسه... إنه عالم مفكر يحترم أصحاب الفكر الأصيل وليس المستورد الدخيل... إنه يحترم من يصارعونه، لا من يقلدونه تقليد القرود.  - إن الحضارة الإسلامية هى الدرع الواقى والحصن المنيع الذى يمنع عنا أخطار المجابهة الفكرية والتحدى الحضارى الذى يهدد كيان أمتنا وشخصيتها، ومن واجب كل فرد منا أن يتحسس مخاطر هذه الظاهرة، فيحمى نفسه وأسرته ومجتمعه من ذلك الخطر الذى تحرص الحضارة المعاصرة على ترسيخه فى أذهاننا، من خلال إضعافها للقيم الروحية والفكرية التى تقوم عليها ثقافتنا، مستخدمة فى ذلك جيشا لجيا من المستشرقين الذين يلبسون مسوح الرهبان والقديسين، فيطرقون الأقطار الإسلامية، ويحملون مشاعل المحبة والسلام والوئام (ظاهراً)، فى الوقت الذى ينخرون -كالسوس- فى عظام هذه الأمة؛ ليتساقط هيكلها العظمى بعد حين، وليكون عاجزا عن مقاومة غزوهم الفكرى المدمر (محمد فاروق النبهان: مبادئ الثقافة الإسلامية ص: 77، نشر دار البحوث العلمية بالكويت) ذلك الغزو الذى يسعى إلى الاستيلاء على عقولنا وقلوبنا ومسخ حضارتنا وتاريخنا... وتحولنا إلى أشباه مثقفين أو أرباع متحضرين، نلوك ثقافة تختلف فى روحها وبنائها الفكرى ومثلها وقيمها وأهدافها عن ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية.  إن مسئوليتنا تجاه هذه الحضارة الإسلامية (الربانية الإنسانية) التى هى حضارتنا -نحن المسلمين- توجب علينا أن نتعرف على خصائصها وقسماتها التى تتميز بها عن غيرها من الحضارات... كما توجب علينا أن نجاهد بكل الوسائل فى سبيل بعثها وتقديمها للإنسانية.  وإذا كانت هذه الحضارة توجب على المسلم أن يتعرف على ذاته المسلمة، ومسئوليته الإنسانية والكونية، وطبيعة الاستخلاف العمرانى الذى كلفه الله به وسيحاسبه عليه... فإننا -فى المقابل- مطالبون بأن نتعرف -أيضا- على تلك الخصائص التى جعلت منا ذات يوم خير أمة أخرجت للناس، وهى ما زالت مؤهلة تماما؛ لبعثنا من جديد (خير أمة) فى عصرٍ عجزت فيه كل الحضارات المعاصرة عن أن تكون إنسانية عادلة، أو أن تكون دينية دنيوية معا... أو أن تتسع فى تعاملٍ ودود لكل العقائد والمنظومات الحضارية.  من العجيب.. بل إنه من التوفيق الربانى.. 
ومن الفقه النورانى بالقرآن وبإشاراته الحضارية المعجزة ـ أن يستطيع مفكرون إسلاميون كثيرون فى قمتهم بديع الزمان سعيد النورسيّ، الذى عاش حياة بسيطة؛ شبه محاصر بعيداً عن الوسائل العلمية العصرية التى تمتلكها الهيئات العلمية، منذ أكثر من ستة عقود فى تركيا العلمنة والإلحاد بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924هـ.. من العجيب أن يصل هذا الرجل العظيم وأمثاله ـ إلى تشخيص موضوعى (للدَّاء) الذى يسيطر على الكوكب الأرضى، ويصف فى الوقت نفسه (الدواء) بطريقة علمية شمولية تنتظم ما هو مادى وما هو معنوى، وما هو جذر وسبب، وما هو ثمرة ونتيجة.  ويقدم ـ بالتالى ـ مقارنة رائعة بين أسس الحضارة (الأوروأمريكية) المادية التى تكاد تقضى بتركيزها (المادى) على مستقبلنا الإنسانى المشترك، بعد أن حفرت القبور فعلاً للإنسانية (حسب تعبير رجاء جارودى) وبين أسس الحضارة الإسلامية التى تملك العلاج الشامل (مادياً ومعنوياً) وتملك القدرة على الإقلاع الصحيح بمستقبلنا الإنسانى المشترك.. بما فيه من مسلمين وغير مسلمين.. وصولاً إلى عالم جديد يصبح فيه كوكب الأرض صالحاً للبقاء مادياً وأخلاقياً.  إن بديع الزمان النورسيّ يكتب للحضارات كلها (روشتة الدواء) والتى تتمثل فى ضرورة اعتماد الأسس التى تقوم عليها حضارة الإسلام الإنسانية الجامعة.. ذات الرؤية الشاملة … يقول النورسيّ: محذراً من الأسس المدنية (الأوروبية)، تدور عليها رحاها، فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز ومن هذا تنشأ الخيانة، وهدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية، ودستورها فى الحياة: الجدل والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة، ورابطتها الأساس بين الناس: العنصرية التى تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين، وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك، وخامستها: هى أن خدمتها الجذابة: وإشباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء دائماً: مسخ الإنسان، وتغيير سيرته، فتتغير الإنسانية بدورها وتصبح مسخاً معنويا.  
ـ أما (روشتة العلاج) عند النورسى فتتمثل فى الالتزام بأسس مدنية القرآن الكريم، على خمسة أسس إيجابية، فنقطة استنادها: الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائماً: العدالة والتوازن، ودستورها فى الحياة: التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور: الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات، وخدمتها للمجتمع: بالهدى بدل الأهواء والنوازع، وشأن الهدى: الارتقاء بالإنسان ورفاهيته، ورابطتها بين المجموعات البشرية: رابطة الدين والانتساب الوطنى وأخوة الإيمان، وشأن هذه الرابطة: أخوة خالصة، وبهذه المدنية الإسلامية يعم السلام الشامل، فى العالم المعاصر. الإسلام مبعث الرقى وحاميه هبط الوحى بالإسلام فكان منذ نزل من السماء إلى يوم القيامة - دينًا وحضارة وتحولاً تاريخيًا بكل معانى التحول الحضارى المادى والمعنوى والفكرى، إنه - بحق - كان منعطفًا جديدًا فى التاريخ الإنسانى. ويعدّ الحديث عن أثر الإسلام فى الرقى الإنسانى بعامة، والحضارة الأوروبية بخاصة - حديثًا ممتدًا لا يقف عند حدود التأثير الجزئى فى الفروع العلمية، مثل أثر المسلمين فى الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء أو الفلسفة أو فى علم مقارنة الأديان.. أو فى بقية العلوم الإنسانية، بل يمتد لكى يكون تأثيرًا أعمق وأبعد من ذلك بكثير!! لقد غير الإسلام مجرى المفاهيم المتصلة بالإنسان، وبالحرية، وبالحقوق، وبالواجبات، وبصلة الإنسان بالإنسان، وصلة الإنسان بالله.. وبصلة الفرد بالمجتمع، والذكر بالأنثى، وقام بتقدير قيمة المرأة وكشريك أساسيّ فى بناء الحياة الإنسانية، فضلاً عن تغيير النظرة إلى (العقل) و (الفكر) والحياة، والكون، ووظيفة الدين. وهذا تحول خطير فتح الأبواب على مصراعيها أمام العقل والعلم وفقه الكون والمستقبل. وقد كان الإنسان - فى التصورات الدينية المنحرفة - يعبد الكون ويخافه، ويهبط بمثله لدرجة عبادة الظواهر الطبيعية. وفى ظل هذه التصورات لم يكن ممكنًا تسخير الكون وجعله مادة للبحث العلمى الفيزيائى والجيولوجى والبيولوجي.. أى جعله قابلاً للتشريح ومذللاً مسخرًا للإنسان، وليس إلهًا أو معبودًا للإنسان، ولكن عقيدة التوحيد الإسلامية والتصور الإسلامى للكون أعادا للإنسان اعتباره، وجعلاه (فاعلاً) وسيدًا فى الكون وباحثًا فيه. وكانت النظرة الدينية والحضارية (للآخر) الذى لا ينتمى للدين أو الحضارة نفسها نظرة عنصرية أو عدوانية، أو على الأقل نظرة محدودة لا تشعر بالمسئولية - فى تشريعاتها الدولية والإنسانية - تجاه الآخرين.. فلما جاء الإسلام جعل الخطاب لكل الناس على السواء رحمة. مع الإقرار بأن قانون الاختلاف الدينى سُنة ضرورية لبقاء الكون.. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)، وهى نظرة جديدة على الإنسانية ونقلة هائلة فى التحضر الإنساني.                                        
 ومن الجدير بالذكر أن الإجماع العالمى الدينى كان منعقدًا قبل الإسلام على عدم تقدير الحق الإنسانى للمرأة، بل كان منعقدًا على (دونية المرأة) - أى أنها دون الرجل - بل كان الشك فى آدميتها قائمًا فى بعض الأحيان، فجاء الإسلام ينتشل المرأة من هذا الظلم العالمي، ويجعلها شقيقة للرجل، مخلوقة وإياه من نفس واحدة، بل جعلها صنواً له فى الحق الإنسانى والمساواة، وأمام الشريعة الإلهية. قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران:195). وقد انطلقت المرأة مع الرجل فى ظل الإسلام: فقيهة ومحدثة ومجاهدة ومربية، وعلى يد بعض النساء تعلم كثير من الرجال، وأخذوا منهن الإجازات العلمية  كما تروى كتب أعلام النساء. وفى تراثنا-ويجب أن يكون ذلك دائما- كانت المساجد مدارس وجامعات وعبادة في وقت واحد، والحركة العلمية كانت موضع تنافس بين الملوك والأمراء والحواضر الإسلامية، فقد ازدهرت حركة الاجتهاد فى علوم الدين والدنيا معًا، فبينما ظهرت خلال القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادي) المذاهب الفقهية، ظهرت كذلك مدارس كلامية فكرية، لغوية، كما ازدهرت علوم المعاش التطبيقية من كيمياء وفيزياء ورياضيات وطب وهندسة وصيدلة. ومعروف أن طبيب "صلاح الدين الأيوبي" هو الذى عالج خصمه (ريتشارد قلب الأسد) بالعقاقير، بعد أن كاد طبيبه يقضى عليه بدعوى أنه مسحور ويحتاج إلى وسائل عنيفة لعلاجه. لقد نقل العرب والمسلمون التراث الإنسانى اليونانى والرومانى والهندى إلى العالم، ولم يكن نقلهم مجرد ترجمة، بل كان إعادة صياغة، مع الشرح والتعليل، فضلاً عن الإضافة والنقد والتحليل. وبغير جهودهم ماكان من الممكن أن يتغير مسار التطور الحضارى الإنسانى إلى الواقع العلمى والحضارى الذى نعيش فيه فى القرن الخامس عشر الهجرى (21م). القادة الحضاريون.. لحضارتنا قديماً وحديثاً العلماء ورثة النبى عليه الصلاة والسلام والمبتعثون على هديه وهدى صحابته. والمسئولون عن الأمة، والداخلون فى أولى الأمر. ويؤكد ذلك أن التفسير الشائع فى حضارتنا لقولـه تعالى: {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ} (سورة النساء، آية: 59)، أن أولى الأمر هم "الرؤساء وأهل العلم" (انظر مادة "أمر" فى لسان العرب)، ومن هنا كان مشايخ الأزهر وأساتذة القرويين والزيتونة فى قرننا الأخير هم طلائع النهضة، وأبطال الاستقلال ودعاة الأصالة، والمحافظين على مصالح الناس.  وقد اشتبكوا مع الولاة الظلمة، ووقفوا مع العامة، وكانوا سبباً فى إقالة ولاة وفى تثبيت آخرين (انظر جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر، نماذج من هؤلاء العلماء المجاهدين فى العصر الحديث).  
وبينما ارتبطت الكنيسة فى التاريخ الأوربى بالعداء للشعب، والوقوف مع السلطة ومقاومة الفكر والحرية، والتقدم ؛ كان الأمر على العكس من ذلك فى حضارة الإسلام، فقد كان علماء الإسلام هم قادة الشعب، ورواد التحرر والنهضة الحقة... وكان طبيعياً ـ وحتمياً ـ أن يكون الأمر كذلك ؛ لأنهم جزء من الشعب لا يملكون سلطة كهنوتية، ولا يفضُلون الشعب إلا بعلمهم وجهادهم الأكبر والأصغر... بينما الشعب كله (رجال دين)، وبالتالى فالشعب مثلهم يتحمل ـ قدر طاقته ـ جزءاً من المسئولية، وله الصلاحيات الكاملة فى أن يحاسبهم، ويرفض عملهم وفتاواهم إن خانوا مبادئ الإسلام، وأصبحوا مجرد موظفين لدى السلطة، داخلية كانت السلطة أو خارجية.  وقد كان الشعب دائماً يشعر بمسئوليته عن الحضارة الإسلامية، وكان دائماً يملك القدرة على التفرقة بين (علماء الإسلام) و(علماء السلطان)، و(فقهاء الحق)، و(فقهاء المصلحة)... وكانت بغداد فى عصر عظمتها تخرج كلها لتستقبل العالم الزاهد المجاهد عبد الله بن المبارك بدرجة أكبر مما تستقبل به خليفتها حتى إن أم الخليفة عجبت للأمر وقالت: هذا هو الملك... إنه ملك لا تدفع إليه منفعة مالية ولا شرطة عسكرية!! > وقد قام المجتمع الإسلامى ـ فى إطار الشريعة ـ على دعامتين أساسيتين يمثلان قوام التطور والبقاء... وهما: العلم والعمل... ـ والربط بين العلم  والعمل هو الروح الحقيقية الفاعلة والمؤثرة.... ـ والعلم شمولى يضم ما ينفع الدنيا وما ينفع الآخرة... ولا شيء عند النظر الإسلامى الصحيح يسمى بعلوم الدين، أو علوم الدنيا؛ فكل علم نافع هو علم دين وعلم دنيا، وكل علم ضار هو علم غير إسلامى، ولن ينفع الدين، ولن ينفع الدنيا، بل إن (العلم الواحد)، قد يكون- وفق منهجية معينة- علماً إسلامياً، وبالتالى نافعاً للدين والدنيا، وقد ينقلب نفسه إلى علم غير إسلامى إذا خضع لمنهجية جدلية، أو جمد عند إطار معين، أو أخذ حجماً أكبر من حجمه فى إطار منظومة المعرفة الإسلامية، وإشعاعاتها المحددة فى الحياة.                                                                  وفى ضوء الوعى بقيمة العمل القائم على العلم؛ انطلق المسلمون يعمرون الكون، ويتفوقون فى الحرَف والصناعات، ويزرعون ويتاجرون ويشتغلون بكل العلوم النافعة، أو بتعبيرهم  الإسلامى.. "العمل الصالح" أى القائم على الصلاح والصلاحية، وبما أن العمل يستلزم لطبيعة أدائه معرفة الظروف والوسائل والإمكانات والغايات، ولا يستقيم له أن يكون صالحاً إذا كان ضرباً من الخبط فى الظلام أو الانسياح مع هوى أو وهم، أو عصبية؛ لأنه يستلزم ذلك فقد التزم المسلمون فى عملهم ـ فى حدود الممكن البشرى ـ بالمواصفات الإسلامية للعمل الصالح. وهذه واحدة من المعالم الرئيسية فى تفسير الإسلام للتاريخ، وفى المنظومة التى يقيم عليها بناءه للحضارة وضماناته لاستمرارها: إنها تتلخص فى أن يعمل الإنسان بوحى من العقل، وفى ضوء المعرفة، على تحسين المسير وتفادى السوء، والقيمة الحقيقية إنما هى للعمل الصادر عن فكر نير فى سبيل غاية شريفة... إنه الوحى والعقل، والصلاح والصلاحية، والعلم والعمل؛  فى نسيج واحد.... وإذا كان القرآن لم يأت بآية ذكر الله فيها (الذين آمنوا) إلا أضاف إليها (وعملوا الصالحات) فإن المسلمين قرنوا العلم بالعمل فى الناحية الروحية، وكذلك امتازوا بتطبيق النظريات الكونية على التجارب العملية، وكانت هذه الخصلة القويمة فيهم نفحة من نفحات دينهم فلم يمض عليهم ردح من الزمن حتى أصبحوا أئمة العلم والعمل فى الأرض، وقد شهد لهم كبار الأجانب بهذه المكانة. عن القيادة الحضارية ـ ولم يتخلف المجتمع الإسلامى ـ بعد أكثر من عشرة قرون من التفوق (كما قال ول ديورانت صاحب أكبر موسوعة معاصرة حول قصة الحضارة)ـ إلا حين انفصل العلم عن العمل، ومن ثم أهمل العلم... وأهمل العمل، أما خلال قرون ما قبل التبعية والوقوع تحت ضغط الغزو الفكرى ومشروعات الإبادة الحضارية، فقد كانت الروابط الإسلامية تحكم المجتمع الإسلامى (مع وجود الهنات البشرية) على مستوى المسجد، ومستوى الجيران، ومستوى الأرحام، ومستوى القربى، ومستوى العائلات والقبائل، ومستوى الأحياء فى المدن، ومستوى الشعور الإسلامى الذى ينتظم الأمة الإسلامية كلها... ونسيج هذه الروابط تجمعها شريعة حاكمة- سمحة مع كل البشر تقوم على العلم والعمل والوحى والعقل، والتعاون والتكامل، وليس التنافر والصراع. ويعزو (ديورانت، قصة الحضارة 116 / 13) سبب إسلام الشعوب المختلفة إلى تسامح المسلمين وتمسكهم العملى أمامهم بدينهم، فيقول: ولسياسة التسامح الدينى التى كان ينتهجها المسلمون الأوائل، اعتنق الإسلام معظم المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاًَ منهم، وكثير من اليهود فى آسيا، ومصر وشمال إفريقيا، فقد كان من مصلحتهم العادلة المتسامحة أن يكونوا على دين الطبقة الحاكمة، وكان فى وسع أسرى الحروب أن ينجوا من الرق إذا نطقوا بالشهادتين وحيث عجزت الهلينية (الوثنية اليونانية) عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام فى آسيا والعالم، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفى البلاد التى نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمى؛ فى هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية، وآمن السكان بالدين الجديد، وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله إخلاصاً واستمساكاً أنساهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامى على قلوب مئات الشعوب فى البلاد الممتدة من الصين، وأندونيسيا، والهند، إلى فارس، والشام، وجزيرة العرب، ومصر، وإلى مراكش، والأندلس، (ول ديورانت: قصة الحضارة 13: 133). ومع تقديرنا لما كتبه ديورانت، وما كتبه غيره من أمثاله كتوينبى (أرنولد توينبى ت1975م) و(غوستاف لوبون )فى كتابه (حضارة العرب)، و(آدم متز) فى تاريخه لحضارة العرب فى القرن الرابع الهجرى... فإن ما كتبه هؤلاء ـ ومن فى مستواهم ـ لا يرقى إلى ما كتبه سيرتوماس أرنولد فى كتابه الرائع (الدعوة إلى الإسلام)... ولعل محاولتى الدكتور حسين مؤنس فى كتابيه (عالم الإسلام) و(الإسلام الفاتح) هما- فى الجانب الإسلامى ـ المحاولتان القريبتان من المنهج الصحيح لتاريخ حضارتنا... وهما- ولا سيما ثانيتهما- تسيران على خطى أرنولد فى تاريخ الدعوة إلى الإسلام... وليس بالوسائل السلمية الكريمة وليس بالطرق الحربية أو الإكراه. 
 إنها رحلة طويلة.. رحلة تاريخنا الحضارى حتى اليوم، بعيداً عن المنطقة البشرية الشاذة التى أتاحت الفرصة لبعض المغرضين كى يظلموا هذا التاريخ..  حقاً إنها منطقة مظلمة... لكنها محددة، وثمة مساحات مظلمة تفوقها أضعافاً مضاعفة فى كل تواريخ البشرية...  لكنّ تفرد حضارتنا أنها ـ فى مساحتها الوضيئة الأخرى الأكبر والأشمل ـ لم يستطع أن يصل أى تاريخ إلى مستوى إنسانيتها ورحمتها وعدلها وتوازنها وشعورها بالمسئولية الحضارية تجاه البشرية.  ـ لقد كانت ومازالت وستبقى إلى ماشاء الله - حضارة الرحمة، والعدل، والعلم، والعقل، والعمل، والضمير، والقلب... ـ وبغير روح وعقل وعمل لن تقوم حضارة إسلامية. والتحدى الذى يواجهنا اليوم وفى المستقبل  هو أن نعمل كما يعملون فى اليابان، وأوربا، وأمريكا، وكوريا (نحو تسع ساعات فى اليوم)... ونمزج عملنا المادى بعناصر حضارتنا الإسلامية بمعادلاتها التوحيدية والروحية والأخلاقية المتفردة... وفى مشكاتها الربانية... {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} (النور: 35).  ولسوف يتعلم منا العالم المعاصر لنا كيف يعدّل مساره الحضارى، وكيف يجد نفسه المعذبة وإنسانيته التائهة بطائرة الإسلام الحضارية الصحيحة التى تعبر الفضاء نحو الأفق البعيد بجناحيها الضروريين.  
وهما: جناح الإسلام ومع الإسلام الروح والمعنى والحياة الإنسانية الربانية الخالدة..إلى ما بعد يوم القيامة والبعث والحساب.. وجناح العقل والمادة الممزوجين فى وعاء الإسلام. وبهما معاً تمضى الطائرة... وتعود الإنسانية لإنسانيتها وربها {إن إلى ربك الرجعى} (العلق: 8)، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَـانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاه الْجَزَاءَ الأوفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (النجم: 39-42). 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية .
   رئيس تحرير مجلة التبيان
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك