الأمة عبر التاريخ بين الحوار والعنف
الأمة عبر التاريخ بين الحوار والعنف
* أ.د محمد ارشيد العقيلي
الحلقة الثانية
تفسير ظاهرة العنف
ذهب المحللون مذاهب شتى في تفسير ظاهرة العنف والتطرف والارهاب والاغتيال السياسي, وخلصوا انه لا يجوز اختصار ذلك في مجموعة من اوراق الاتهام داخل ملفات التحقيق الجنائي ورد ذلك الى ان هناك فردا او مجموعة افراد ارادت ان ُتحكم السلاح في قضايا سياسية, غاضين الطرف عن الجذور الحقيقية لظاهرة العنف.
هناك قول مأثور لعلي بن ابي طالب: "الظلم من كوامن النفوس, القوة تبديه, والضعف يخفيه. تتجاذب الانسان نزعتان هما: نزعة الخير ونزعة الشر, والاصل ان نزعة الخير فيه تتغلب على نزعة الشر, فهو يولد على الفطرة, وتتداخل عوامل كثيرة وراثية وبيئية في تغليب هذه النزعة او تلك. ولان الانسان اجتماعي بطبعه فانه اقرب الى حل مشكلاته بالحوار لا بالعنف.
وكذلك فمن الطبيعي ان الصفاء والتحاب والود والحوار وتحصيل القناعات تمتد في تربة نقية صالحة, بينما جذور العنف تمتد في تربة اجتماعية قلقة ومجهدة ومن هذا المنطلق فان العنف السياسي ليس بعيدا عن تدهور مستوى المعيشة, وارتفاع اسعار السلع الاساسية باضطراد, او عجز قطاعات اجتماعية واسعة عن تلبية ابسط احتياجاتها, كما انه ليس بعيدا عن الخلل الشامل الذي يصيب سلم القيم الاجتماعية.
كما تمتد جذور العنف في مناخ سياسي وثقافي يعاني من (انيميا) حادة في الهوية الثقافية, مما يجعل البعض يلوذ (بالمطلق) ويكفر المجتمع, ويحمل السلاح لاصلاح الخلل.
كما لا يستبعد ان بعض مصادر النيران ترتبط بعجز صيغة الديمقراطية الناقصة التي تغلق نوافذ المشاركة السياسية او التعبير السلمي امام تيارات عديدة عن دفع مركب الحكم الى بر الاستقرار.
وبعض مظاهر العنف تعود الى دوران بعض الانظمة في فلك القوى الاستعمارية على حساب مصالح الامة, وهذا لا يعني الدفاع عن الاغتيال السياسي, انما يعني ان اقتلاع جذور العنف, واسكات مصادر النيران لا تأتي من خلال العنف والتطرف.
بمعنى ان الفقر في السياسات لا في الوسائل الامنية والقانونية, عمليات القمع السياسي الصارمة, ورد الفعل الصاخب ينتج في غالب الاحيان نتائج عكسية. فيتعمق العنف, وتتجذر المعارضة للحكم القائم وهذا يؤدي بدوره الى هز هيبة الدولة وخلخلة اركانها.
لا يمكن اقتلاع جذور العنف, او تطويق التطرف بالتوسع في استحداث قوانين الطوارئ مثلا, او التفنن في اصدار تشريعات جديدة لمكافحة الارهاب اشد صرامة, علما ان هذه القوانين يمكن ان تزيد العنف عنفا والتطرف تطرفا.
لو كان الجسد السياسي معافى, لما كانت هناك اهمية كبيرة لبعض حوادث العنف في اي بلد ما, ولبدت هذه الحوادث بثورا ودمامل خارجية سرعان ما يشفى منها جلد النظام.
كثير من عمليات القمع الصارمة لحركات العنف السياسي لم تسفر عن نتائج ايجابية بل كانت في غالب الاحيان تعميقا لعنف اشد, او تعميقا لمعارضة الحكم القائم وهناك امثلة عديدة على ذلك في التاريخ القديم والوسيط والحديث, فيصبح العنف اكثر تنظيما وادق تكتيكا.
ان الكاتب الفرنسي (كلود جوليان) رئيس تحرير مجلة (لوموند) الفرنسية, كتب في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين واصفا مشروع قانون الارهاب الذي كانت تعده الحكومة الفرنسية اليمينية وقتها بانه يهدد الديمقراطية الفرنسية, ويفرض ايديولوجية امنية عليها. يا ترى ما بال الدول التي لا تقترب من ديمقراطية فرنسا.
مواجهة الارهاب, والاغتيال السياسي, لا تحل بالقمع وقوانين الطوارئ ورد الفعل الغاضب, انما بدراسة متأنية فاحصة لاسباب ظاهرة العنف, والوقوف على اسبابها الحقيقية لازالتها من خلال الشورى والديمقراطية وفتح الحوار, خاصة اذا ثبت سلامة نوايا القائمين على العنف, ووجاهة الاسباب التي دفعتهم لذلك من خلال الحوار وتحصيل القناعات.
وخلاصة القول ان جذور العنف والتطرف والغلو قد ترد الى عوامل سياسية او ثقافية او اجتماعية او دينية او اقتصادية, الى بعضها او لها مجتمعة. ونظام الحكم النابه الواعي هو الذي يتمثل المثل القائل: (درهم وقاية خير من قنطار علاج) ويحتاط للامور قبل ان يعض على اصابع الندم بعد فوات الاوان.
ومثل الامة, اية امة, في تماسكها وقوة بنيانها, وما تحمل من مثل وقيم, مثل الجسد الواحد اذا اصيب بخلل تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى. والاصل في علاج هذا الجسد بالطب الوقائي قبل الطب العلاجي.
وكذلك الامم يفترض ألا تترك الخلل يصيب بناها الاجتماعية او الاقتصادية او الثقافية او السياسية حتى يستشرف الداء ويتعمق الجرح, فتستعصي على العلاج والدواء. الاصل اذا ان يسترف القائمون على شؤون اية أمة داءها وتشخيص مرضها, والوقاية منه قبل ان يستفحل, وقبل ان يؤول امرها الى التفكك والانحدار.
المصدر: http://www.alarabalyawm.net/pages.php?news_id=285226