ثقافة القبول بالآخر

ثقافة القبول بالآخر
صادق باخان

عادة ما تلجأ الانظمة الفاشية الى جعل الانسان حذاءً للدولة وتفرض الرقابة عليه خاصة اذا كان مثقفا مستنيرا ،وان اشد ما تخشاه هذه الانظمة المثقفين الذين يرفضون ان تدجنهم هراوة الرئيس او الزعيم او السلطان ولو اتيحت لها الفرصة لما ترددت في وضع شرطي فوق طاولة الكتاب والشعراء .
من الطبيعي ان لا تؤمن الانظمة الاستبدادية بالحوار وبثقافة القبول بالآخر فهي تتعامل بالهراوة حتى مع القمر ولذلك فهي حريصة على ان تستبدل الحوار مع الآخر بالحوار من فوهة المسدس وبالتالي تتحول الحياة تحت بيارق الانظمة الفاشية والوراثية الى جهنم.
فاذا كان الوضع كهذا في ظل الانظمة الجائرة فكيف ينبغي ان يصبح الحوار في الانظمة الديمقراطية او تلك الساعية الى الديمقراطية؟لنسأل اولا:الحوار مع من ، ولماذا ؟هل يجري الحوار بين فرد وآخر او مع حزب وآخر او مع كتلة سياسية مع اخرى؟ والحق ان جميع هذه الاطراف مشمولة في اجراء الحوارات للتوصل الى حلول واقعية لتسوية الخلافات القائمة بينها ،حوارات قائمة على القبول بالآخر من دون اللجوء الى لغة التخوين واقصاء الآخر.
فما هو المعنى المفهومي للحوار وما هي محدداته ومعوقاته؟ هل ثمة لون واحد للحوار مع تباين اطروحات الحوار من ديني وفلسفي وسياسي وثقافي؟ وهل تتوفر في الحوار الموضوعية ام انه لسبب او آخر محكوم بطابع الانحياز والذاتية؟ وفي الواقع يعد الحوار مرتكزا اساسيا للفكر النهضوي العقلاني ولكن الغريب اننا نلاحظ اطروحات بعض الكتاب العرب ما تزال تتناول مفاهيم النهضة الحداثية والتنوير والعقلانية والعلمانية عبر التصير في دائرة مفرغة يجوز لنا ان نستثني على سبيل المثال كلاً من محمود امين العالم وفتحي المسكيني وعبد الله العروي ومحمد الرميحي وفواز جرجس من دون ان ننكر جهود الاستاذين العراقيين علي الوردي وحسام الالوسي في تحديث الخطاب الفكري في سياق حوار متحضر يخلو من اللغو وسفساف الكلام.
فقد رات الدكتورة فظلة الجبوري انه لربما يجد بعض مفكرينا في جدل النقل والنص تفاعلاً بين الحضارت وتواصلاً بين الافكار وربما يجد البعض الاخر في جدل النقل والعقل انحرافا فكريا او قراءة مغلوطة او تكراراً فارغاً او استبداداً حتميا ولربما نرى في اطار منطق الحرية بنية متجددة للعقل العربي –الاسلامي ترتبط بماهية التركيبة السايكولوجية للأنا او للذات تحدد صورة الاحالة وصيرورة الجدة عبر النمط العقلاني الديالكتيكي الحواري المركب في مجانية معايير الصدام والصراع في تقويم القيم والمفاهيم والرؤى.
ومن دون الخوض في استطرادات فكرية متشعبة بشأن فن الحوار والقبول بالاخر اقول فلعل سقراط كان اول من وضع للانسان موعظة لمعرفة ماهيته بشعاره (اعرف نفسك)المنقوش فوق باب معبد دلفي وبرغم ذلك فاننا لا نعرف سقراط لانه لم يترك لنا سفرا او كتابا وانما كان يعتمد في نشر افكاره بحسب الخطاب الشفهي وانما نحن نعرفه من خلال محاورات افلاطون ،ويرى البعض ان افلاطون بمحاوراته اراد ان يعلم الناس فن الحوار، فان انت جردت الحياة من العلاقات الاجتماعية المهذبة فانها بالحتم والمطلق تتحول الى غابة للعفاريت ومصاصي الدماء يلتهمون المسالمين والوديعين المثقفين الذين تكسرت عظامهم تحت مطارق الظلم والاضطهاد والمنافي لانهم رفضوا ان يكونوا احذية للانظمة الفاشية.
وقفد يقول قائل :هذه مثالية مسرفة لان افلاطون والفارابي وتوماس مور وكارل ماركس وبقية الفلاسفة الحالمين فشلوا في اقامة مدينة فاضلة او مجتمع خال من الطبقات وبالتالي دخلت الحياة تحت جبروت البراغماتية في متاهة المصالح الانانية وبات الناس بالتالي يركضون وراء الثروة والوجاهة الاجتماعية المزورة مهما كانت الوسائل التي يلجأون اليها لتحقيق غاياتهم فتجد بالتالي امير مكيافيللي يتربع على عرشه وبيده الصولجان يطلق قهقهاته وهو يرى محترفي السياسة يتشابكون بالايدي والكراسي في بعض البرلمانات في العالم وقد نسوا فن الحوار، ولاضرب لكم مثلاً واحدا عن الحوار الموضوعي المهذب.
ففي فرنسا وقد وجدنا افضل ميدان للصراع الفكري هو ذلك القائم بين الوجودية والماركسية ومع ذلك فالصراع الذي احتدم في ستينيات القرن الماضي اسفر عن نوع من التقارب والتقدير المشترك لوجهات النظر المتبادلة ،ولعل من اوضح مظاهر هذا التقدير المتبادل جاء من تلك المناظرة التي دارت بين جان بول سارتر وجان ايبوليت وكانا يمثلان التيار الوجودي وبين روجيه غارودي (قبل تحولاته الدراماتيكية في كتابه منعطف الاشتراكية الكبير نشرت ترجمته دار الاداب تحت عنوان :لم يعد الصمت ممكناً) وبعض ممثلي الفكر الماركسي الفرنسي في السابع من كانون الاول عام 1961 التي دارت حول السؤال التالي: هل الديالكتيك قانون للتاريخ فحسب او هو ايضا قانون للطبيعة؟ وقد نشرت هذه المناظرة في كتاب صدر عام 1962 بعنوان الماركسية والوجودية: جدال حول الديالكتيك ،ولعل اجمل ما في هذا الكتاب الى جانب المستوى الرفيع للتفكير وطريقة معالجة الموضوعات تلك الروح الموضوعية التي تجلت ف المناقشة والتي جعلت كلاً من الطرفين مع تمسك كل طرف بموقفه الجوهري يقدر نواحي القوة والضعف في اراء الآخر بنزاهة تامة، ولم تتحول حواراتهم الى حلبة للملاكمة وانما جرت على وفق حوار متحضر ووفق ثقافة القبول بالآخر.
بات الناس عقب عام 2003 يقرأون مقالات ويسمعون احاديث يدعو اصحابها الى نشر فن الحوار وثقافة القبول بالآخر والتعايش السلمي والتسامح بعد سنوات الخوف والكراهية والعدوان والغاء الآخر وتهميشه والقاء الناس في المعتقلات لمجرد انهم عبروا عن ارائهم المخالفة لنهج السلطة في حين ان للفرد في الانظمة الديمقراطية حريته وكرامته شريطة ان لايسيء الى كرامات وحريات الاخرين والفرد في هذه الانظمة مكفولً بالقوانين وتحميه من بطش الآخرين فمن لا يحترم القانون ولا يحترم فن الحوار والقبول بالآخر يكون جزاؤه العقاب.
فمتى يا ترى يغادر الناس دائرة الكلام من فوهة المسدس ويتحرروا بالتالي من هذا الضعف البشري المتمثل بالكراهية والحسد والعدوان ؟ هل هذه مثالية مني فلتكن، وقد يظن البعض باني انتمي الى الطبقة الارستقراطية واسكن قصرا فخما لا والله لست كذلك وانما انا افتخر باني لا امتلك من المال سوى كتبي واحفادي.

المصدر: http://www.albawwaba.net/viewpoint/36652/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك