مواقـف التابعيـن وأتباعهـم من الدعوة إلى الله تعالى

مواقـف التابعيـن وأتباعهـم
فـي الدعـوة إلـى اللَّه تعالـى

تأليف الفقير إلى اللَّه
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

ههه
المقدمـة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((مواقف التابعين وأتباعهم في الدعوة إلى اللَّه تعالى)) بينت فيها نماذج من المواقف المشرفة في الدعوة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.
واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس 25/2/1425هـ

المبحث الأول: مواقف التابعين
توطئة:
التابعون هم من القرون المفضلة بنص النبي ×، فعن عبد اللَّه بن مسعود  عن النبي × أنه قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته))( ).
وللتابعين مواقف حكيمة يستفيد منها الدعاة إلى اللَّه تعالى، وسأذكر – بعون اللَّه تعالى – نماذج منها على سبيل المثال في المطالب الآتية:
المطلب الأول: موقف سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الثاني: مواقف الحسن بن يسار البصري ‘.
المطلب الثالث: مواقف عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الرابع: مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت ‘.
المطلب الأول: من مواقف سعيد بن المسيب ‘
لسعيد بن المسيب( ) مواقف حكيمة، تدل على علمه وحكمته ورغبته فيما عند اللَّه تعالى( ).
ومن هذه المواقف الحكيمة التي صدع فيها بالحق في دعوته إلى اللَّه، ولم تأخذه في اللَّه لومة لائم ما فعله مع الحجاج بن يوسف الثقفي( ) عندما أساء صلاته.
1 – صلَّى الحجاج مرة بجنب سعيد بن المسيب – قبل أن يلي شيئاً من أمور المسلمين – فجعل يرفع قبل الإمام، ويقع قبله في السجود، فلما سلم أخذ سعيد بطرف ردائه، وبقي يقول الذّكر بعد الصلاة، والحجاج ما زال ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه يؤنبه ويؤدبه بالكلام، فلم يقل له الحجاج شيئاً حتى صار نائباً على الحجاز، وعندما أتى المدينة نائباً عليها، فلما دخل المسجد قصد مجلس سعيد بن المسيب حتى جلس بين يديه، فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم. قال: فجزاك اللَّه من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام ومضى( ).
2 – قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك؟ قال: واللَّه ما أدري، إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصلى صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفًّا من حصى فحصبته بها. قال الحجاج: فما زلت أحسن الصلاة( ).
وهذا من أعظم المواقف الحكيمة لسعيد بن المسيب ‘، فإن الحكمة وضع كل شيء في موضعه، وقد تنفع الشدة والقوة إذا كانت الحكمة تقتضي ذلك، فسعيد رأى أن من الحكمة استخدام هذا الأسلوب مع الحجاج؛ ليحسن صلاته، فنفع اللَّه بذلك الحجاج كما ذكر هو عن نفسه، وأنه ما زال يحسن الصلاة بعد ذلك، فرحم اللَّه سعيد بن المسيب، وجزاه خير الجزاء.

المطلب الثاني: من مواقف الحسن البصري ‘
للحسن البصري( ) ‘ مواقف حكيمة في دعوته إلى اللَّه  ومنها على سبيل المثال ما يلي:
1– موقفه مع الحجاج بن يوسف الثقفي:
من حكمة الحسن أنه لا يرى الخروج على الأئمة العُصاة من المسلمين، فقد جاء جماعة من المسلمين إلى الحسن البصري، يستفتونه في الخروج على الحجاج، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام،... وفعل ما فعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تك عقوبة من اللَّه فما أنتم برادي عقوبة اللَّه بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم اللَّه وهو خير الحاكمين. وخرجوا من عند الحسن ولم يوافقوه، فخرجوا على الحجاج فقتلوا جميعاً( )؛ ولهذا كان الحسن: يقول لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فواللَّه ما جاءوا بيوم خير قط( ).
ومع ذلك كله فقد أراد الحجاج أن يقتل الحسن البصري مراراً، ولكن اللَّه عصمه منه.
بعث الحجاج إلى الحسن مرة – وقد همّ به – فجاء الحسن إليه، فلما قام بين يديه قال: يا حجاج، كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه، وخرج الحسن( ).
وهذا من حكمة الحسن في دعوته إلى اللَّه، فإن الخروج على الأئمة المسلمين – ولو كانوا فسّاقاً – يسبب شراً كبيراً، وفتنة عظيمة، وإزهاقاً للأرواح، وفساداً كبيراً، فسدَّ الحسن الباب أمام هذه المفاسد.
2– موقف الحسن من عمر بن هبيرة:
عندما ولي عمر بن هبيرة( ) العراق أرسل إلى الحسن فقدم إليه، فقال له: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك( ) ينفذ كتباً أعرف أن في إنفاذها الهلكة، واستفتاه: ماذا يصنع أمام هذه الكتب؟ فقال الحسن: يا عمر بن هبيرة، يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة اللَّه – تعالى – فظ غليظ، لا يعصي اللَّه ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق اللَّه يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من اللَّه ، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر اللَّه إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا واللَّه على الدنيا وهي مقبلة أشدّ إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاماً خوفكه اللَّه – تعالى – فقال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ ( ) يا عمر بن هبيرة إن تك مع اللَّه في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي اللَّه وكلك اللَّه إليه، فبكى عمر بن هبيرة وقام بعبرته( ).
وهذا يدل على حكمة الحسن ‘ وما له في النفوس من مكانة وتقدير، فقد جهر بالحق في هذا الموقف ولم تأخذه في اللَّه لومة لائم.
وهكذا ينبغي للدعاة إلى اللَّه – تعالى – ولكن لابد من الحكمة، وبالتي هي أحسن، فإن ذلك أدعى لقبول الدعوة، واللَّه المستعان.
3– موقفه مع القراء:
خرج الحسن من عند ابن هبيرة يوماً فإذا هو بالقراء على الباب( ) فقال: ما يجلسكم هاهنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما واللَّه ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرَّق اللَّه بين أرواحكم وأجسادكم، قد فرطحتم( ) نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم( ) اللَّه، واللَّه لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم، أبعد اللَّه من أبعد( ).
وهذا الموقف حكيم عظيم؛ لأن الداعية إلى اللَّه ينبغي أن يستغني عن الناس وعن أموالهم وصدقاتهم، وخاصة الأكابر والسلاطين، فلا يقف على أبوابهم ولا يسألهم، حتى يكون لدعوته ولعلمه الأثر في نفوسهم وفي نفوس غيرهم، ولهذا وجَّه الحسن القراء لذلك؛ لأن من استغنى باللَّه افتقر الناس إليه( ).
المطلب الثالث: من مواقف عمر بن عبد العزيز ‘:
يرى كثير من العلماء أن عمر بن عبد العزيز( ) من المجددين على رأس المائة الأولى، لقوله ×: ((إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدّد لها دينها))( ).
على هذا كان ‘ أول المجددين( )، وله ‘ مواقف كثيرة حكيمة في دعوته إلى اللَّه، منها ما يلي:
( أ ) من مواقفه الحكيمة قبل الخلافة:
له ‘ مواقف كثيرة قبل الخلافة مع الخلفاء منها:
1 – أقبل سليمان بن عبد الملك( ) إلى جيشه ومعه عمر بن عبد العزيز، وفي ذلك المعسكر: الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا؟ فقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عن ذلك كله، فلما اقتربا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبةً، فقال له سليمان: ما هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال عمر: كأنه يقول: من أين جاءت وأين يُذهَبُ بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال: عمر: أعجب ممن عرف اللَّه فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها( ).
وهذه كلمات حكيمة في الدعوة إلى اللَّه موجهة إلى خليفة المسلمين، استغل عمر توجيهها إليه في الفرصة المناسبة، ملتزماً طريق الحكمة في ذلك كله.
2 – وحجّ سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فأصابهم برق ورعد، حتى كادت أن تنخلع قلوبهم، فنظر سليمان إلى عمر وهو يضحك، فقال سليمان: يا أبا حفص، هل رأيت مثل هذه الليلة قط أو سمعت بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة اللَّه، فكيف لو سمعت صوت عذاب اللَّه؟ فقال: هذه المائة ألف درهم، فتصدق بها. فقال: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لهم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم( ).
اللَّه أكبر! ما أحكم هذا الموقف وأعظمه! فقد استطاع عمر بن عبد العزيز بعون اللَّه – تعالى – ثم بحكمته أن يؤثر على سليمان حتى جلس ورد المظالم.
3 – ومن أعظم مواقف الحكمة مع سليمان بن عبد الملك أن سليمان قال له: يا أبا حفص، إنا قد ولينا ما ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به، فكان من ذلك أن عمر أمر بعزل عمال الحجاج، وأقيمت الصلاة في أوقاتها بعدما كانت أُميتت عن وقتها، مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقد قيل: إن سليمان حج فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصي عددهم إلا اللَّه؟ قال: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غداً خصماؤك، فبكى سليمان بكاءً شديداً( ).
فرحم اللَّه عمر، فقد كان حكيماً في مواعظه وترقيقه للقلوب، وربطها بخالقها، وتخويفها من عقابه، وترغيبها في ثوابه، ويستخدم في ذلك الوقت المناسب، في الحال المناسب.
وله ‘ مواقف كثيرة مع الخلفاء، ولولا الإطالة لذكرتها( ).
(ب) مواقفه بعد أن ولي الخلافة:
بعد أن مات معاوية بن أبي سفيان  سنة ستين للَّهجرة النبوية، بدأ الظلم، واتسع الخرق والخلاف بين العلماء والخلفاء، فصار بعض الناس في وادٍ، وبعض حكامهم في وادٍ آخر، ثم ازدادت الأحوال سوءاً بتسلم بعض الولاة الظلمة الحكم أمثال الحجاج، وصاروا يجمعون الأموال وينفقونها في غير حلها بلا حساب ولا نظام، وقد كان الشاعر يدخل على الخليفة أو الوالي فيمدحه، فيكيل له بلا حساب، وقد كان سليمان بن عبد الملك أمثل الخلفاء( ).
وعندما تسلم عمر بن عبد العزيز الخلافة قام بالمواقف الحكيمة لإنقاذ الأمة مما حل بها، فكانت مواقفه الحكيمة لإصلاح ما فسد من أمور الناس كالآتي:
1 – بدأ بالتغيير مع نفسه، فغير طريق حياته حتى أنكره من عرفه من قبل، فعندما رجع من قبر سليمان أوتي بمراكب الخلافة: بالبراذين والخيل والبغال، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مراكب الخلافة. فقال: ما لي ولها، نحُّوها عني، قربوا مني بغلتي، فقُرِّبت إليه بغلته، وأمر بمراكب الخلافة أن تباع ويُجعل ثمنها في بيت مال المسلمين، وقال: تكفيني بغلتي هذه الشهباء( ).
وكان دخله قبل الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله إلا أربعمائة دينار في كل سنة، ونظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى إنه رد فصّ خاتم كان في يده إلى بيت المال، وقال: هذا مما أعطانيه الوليد بن عبد الملك من غير حقه( ).
2 – بعد أن بدأ بنفسه بدأ بأهله، فسأل زوجته فاطمة بنت عبد الملك عن الجوهر الذي عندها، من أين صار إليها؟ فقالت: أعطانيه أمير المؤمنين، فقال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذنيني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت، قالت: لا، بل أختارك على أضعافه لو كان لي، فوضعته في بيت المال( ).
3 – بعد أن أصلح عمر نفسه وأهله، بدأ بإصلاح أوضاع بني أمية، فأخذ ما بأيديهم من المظالم وردها إلى أهلها، وإلى بيت المال إن لم يكن لها أهل، وسمى أموالهم أموال مظالم، وأمر مناديه أن يُنادي في الناس: من كانت له مظلمة فليرفعها، وجاء كل من كانت له مظلمة فجعل يرد المظالم مظلمة مظلمة( )، وأخذ جميع الأموال التي أخذها بنو مروان بغير استحقاق، فوضعها في بيت مال المسلمين( ).
4 – كتب إلى الولاة على الأمصار الإسلامية يأمرهم بطاعة اللَّه، وينهاهم عن معصيته، ويخوفهم من عقابه، ويرغبهم في ثوابه، ويزهدهم في الدنيا، ويضرب لهم الأمثال بمن مضى ممن كان قبلهم من الخلفاء والولاة، وأنهم قد ذهبوا إلى ما قدموا من عمل، فمنهم الرابح، ومنهم الخاسر، وأمرهم بالعدل مع الرعية، ونهاهم عن الظلم، وأمرهم برد جميع المظالم إلى أهلها، وعزل بعضهم عن الولاية وولَّى من هو أصلح منه، واستدعى بعضهم إلى الحضور لديه ليحاسبه على جوره وظلمه، وحذر الولاة من أخذ الرشوة والهدية من الرعية( )، وأمر الولاة بوضع الجزية عمن أسلم من اليهود والنصارى حيث كان بنو أمية لا يضعون الجزية عمن أسلم، فأسلم بذلك خلق كثير، ومن هؤلاء أهل خراسان، فقد أسلم منها أربعة آلاف في وقت قصير بسبب هذه الحكمة العظيمة( ).
5 – من أعظم مواقفه الحكيمة في إصلاح الأوضاع في الدولة الأموية ما أحياه في النفوس من خوف اللَّه ومراقبته، وغرس ذلك في نفوس الناس، ومن ذلك أنه في يوم الجمعة يخطب الناس، فبكى يوماً، وبكى الناس معه حتى ارتج المسجد بالبكاء، وصار لحيطانه صوت بالبكاء( ).
6 – فقَّه الناس في دين اللَّه، وغرس في قلوبهم حب الكتاب والسنة، وكان يرسل المرشدين إلى البادية ليُفقِّهوا الناس في الدين( ).
7 – لم يكتف عمر بن عبد العزيز بالخطوات الحكيمة السابقة في إصلاح أوضاع المسلمين في الدولة الأموية، بل اهتم بأمور غير المسلمين، فأرسل الدعاة إلى اللَّه  ليبلغوا الناس دعوة الإسلام، ومن ذلك أنه أرسل إلى أفريقيا مجموعة من الدعاة، فأسلم على أيديهم أمم هائلة من البربر وغيرهم.
وبتوفيق اللَّه ثم بهذه الخطوات الحكيمة السبع، ظهرت مواقف عمر الحكيمة في إصلاح الأمة وتجديد الدين، ونفع اللَّه به البلاد والعباد، وأنقذ اللَّه به من الظلم( ).
المطلب الرابع: من مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت ‘:
الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت( ) له مواقف حكيمة كثيرة( ).
منها موقفه العظيم الحكيم مع الملحدين في دعوتهم إلى اللَّه – تعالى – وأنه رب كل شيء ومليكه.
يذكر أنه اجتمع طائفة من الملاحدة بأبي حنيفة ‘ فقالوا: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال: دعوني، فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا: وما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال له: كيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوَّار السيَّار يجري، وتحدث هذه الحوادث من غير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام( ).
وهذا من أعظم مواقف الحكمة في الدعوة إلى اللَّه، فقد استدل على الخالق بوجود المخلوق، فليس هناك من مخلوق إلا وله خالق ومدبر وهو اللَّه ، كما أنه ليس هناك من صنعة إلا ولها صانع، وللَّه المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.

المبحث الثاني: مواقف أتباع التابعين
توطئة:
أتباع التابعين هم من القرون المفضلة التي امتدحها رسول اللَّه × بقوله: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...))( ).
ولتابعي التابعين مواقف حكيمة يستفيد منها الدعاة إلى اللَّه – تعالى – وسأذكر منها – بعون اللَّه تعالى – نماذج في المطالب الآتية:
المطلب الأول: مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الثاني: مواقف الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الثالث: مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الأول: من مواقف الإمام مالك بن أنس ‘:
للإمام مالك بن أنس( )‘ مواقف حكيمة مشرفة، منها على سبيل المثال ما يلي:
1 - من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها: موقفه مع من سأله عن الاستواء. فقد جاء إليه رجل، وقال: يا أبا عبد اللَّه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ( ) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء( )، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: ((الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة(( وأمر به فأُخرج( ).
وهذا موقف حكيم مُسدّد؛ لأنه أجاب بالإجابة الصحيحة بعد التأمل والتفكر، فكانت هذه الإجابة قاعدة ثابتة لأهل السنة والجماعة، تُجرى عليها صفات اللَّه – تعالى – كلها، فالكيف للصفة مجهول لنا لا نعرف كيفيتها؛ لأن اللَّه لم يخبرنا بالكيفية، والصفة معلومة بدليلها من الكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما، والإيمان بالصفة – التي تثبت بالدليل – واجب، والسؤال عن كيفية الصفة بدعة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل كل صفة من صفات اللَّه – تعالى – تدل على معنى حقيقي نؤمن به ونثبته للَّه كما يليق بجلاله( ).
2 – من مواقفه الحكيمة ما رد به على بعض العبَّاد حينما كتب إليه يعظه ويحضه على الانفراد والعزلة عن الناس، ويحضه على العمل، فكتب إليه مالك: ((إن اللَّه قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتحَ له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر))( ).
وهذا الرد الحكيم المسدد مما يدل على فقه الإمام مالك وحكمته، فإن نشر العلم خير أعمال البر، وأفضل من نوافل الصلاة والصوم والصدقة وغير ذلك من نوافل العبادات، لقوله ×: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))( ).
وقوله ×: ((فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم))( ).
فرحم اللَّه مالكاً فقد نطق بالحكمة، وطبق ما كان يقوله ويرغِّب فيه الناس، فكان هو أولى به حيث قال: ((بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة))( ).
ولهذا قال الإمام الذهبي( ): ((إلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة))( ).
ولكن الإمام مالك قد أنصف حينما رسم للناس قاعدة يسيرون عليها، حيث قال: ((كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر × ))( ).
وهذا كلام حكيم وعظيم، يدل على أن جميع الناس ليسوا معصومين من الخطأ، إنما الذي عُصِمَ في تبليغ الشريعة هو محمد ×.
3 – والإمام مالك كان يصدع بالحق ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: ((كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه))( ).
وهذا الكلام من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة؛ لأن من الناس من يحتاجون إلى الغلظة أحياناً، ولا يخرج ذلك عن الحكمة؛ لأن اللَّه – تعالى – وهو أحكم الحاكمين – قال لأحكم الناس أجمعين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ ( ) وقال: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾( ).
وللإمام مالك مواقف حكيمة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها( ).
المطلب الثاني: من مواقف الإمام الشافعي ‘
للإمام الشافعي( )‘ مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه وإخلاصه، ومن مواقفه ‘.
موقفه مع أهل الكلام ودفاعه عن علم الكتاب والسنة:
وقف الشافعي ‘ موقفاً حكيماً مسدداً مع أهل الكلام( )، فقال ‘:
((حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في الأسواق والعشائر، ينادى عليهم ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام))( ).
وقال: ((مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد))( ).
وقال: ((حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ))( ).
وغرس الشافعي في نفوس الناس بغض الكلام وأهله، وحب الكتاب والسنة والتمسك بهما، قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي( ): قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث( ) كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي ‘: قصر الليث ‘، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب( ).
وجاء رجل من أهل الكلام إلى الشافعي – وهو في مصر – فسأله عن مسألة من الكلام فقال له الشافعي: أتدري أين أنت؟ قال الرجل: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق اللَّه فيه فرعون، أبلغك أن رسول اللَّه × أمر بالسؤال عن ذلك؟ قال: لا. قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قال: لا. قال: هل تدري كم نجماً في السماء؟ قال: لا. قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خُلق؟ قال: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه، تتكلم في علم خالقه؟ ثم سأله الشافعي عن مسألة من الوضوء فأخطأ فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم يصب في شيء من ذلك، فقال له: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه، وتتكلف علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى اللَّه، وإلى قوله – تعالى –: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ الآية( )، فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك.
فتاب الرجل( ) على يد الشافعي من علم الكلام، وأقبل على فقه الكتاب والسنة( )، وكان يقول بعد التوبة: ((أنا خلق من أخلاق الشافعي))( ).
وقد أصبح هذا الرجل (المزني) علماً من أعلام الإسلام في فقه الشافعي.
فهذه المواقف الحكيمة في الدفاع عن الكتاب والسنة، وذم الكلام وأهله، والرد عليهم بأسلوب الحكمة، يدل دلالة واضحة على حكمة الشافعي ‘.
ومما يدل على حكمته أيضاً أن اللَّه تفضّل عليه وهدى على يديه كثيراً من أهل الكلام فتركوا باطلهم، وأقبلوا إلى علم الكتاب والسنة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم.
المطلب الثالث: من مواقف الإمام أحمد بن حنبل ‘
للإمام أحمد( )‘ مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه مع اللَّه، وإخلاصه، ومن مواقفه ‘:
موقفه الحكيم الذي حفظ اللَّه به القرآن الكريم:
كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائماً، حتى ظهرت الخوارج، وكفَّرتْ سادات الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي أواخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمشبهة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها؛ لأن الخلفاء والملوك والولاة لم يكن لهم دور في إظهار البدع والدعوة إليها، إلى ظهور المأمون( )، فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، ورفع الجهمية والمعتزلة والشيعة رؤوسهم، وأظهر المأمون عام 212هـ القول بخلق القرآن، وحمل الأئمة على القول بذلك، ثم امتحن العلماء وعذبهم عام 218هـ( ).
وفي آخر حياته قبل موته بأشهر خرج إلى طرطوس لغزو الروم، وكتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يدعو الناس ويلزمهم بالقول بخلق القرآن، فألزم الناس بذلك، وبعث بجماعة من أهل الحديث إلى المأمون، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل نائبه ذلك، وأحضر خلقاً كثيراً من أئمة الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، ودعاهم إلى القول بخلق القرآن عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجاب منهم جماعة( )، ومازال يُهدد من امتنع منهم بالضرب وقطع الأرزاق، حتى أجابوه إلى ذلك كلهم أجمعون إلى أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح( )، ولاشك أن أكثر المحدثين الذين أجابوا إلى ذلك تأولوا قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ ( ).
ثم قُيِّد الإمام أحمد ومحمد بن نوح بالحديد، وحملا إلى المأمون، وعندما وصلا إلى جيش الخليفة ونزلا دونه بمرحلة جاء خادم من الجيش وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول للإمام أحمد: يعز عليَّ يا أبا عبد اللَّه أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، ويقسم لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: اللَّهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤونته. فجاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، ففرح أحمد، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد( )، وأن الأمر شديد، فرد أحمد ومحمد إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه أحمد( )، ووصل أحمد إلى بغداد في رمضان سنة 218هـ وأودع السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، وقيل أكثر من ثلاثين شهراً، وقد كان في هذه المدة يصلي بأهل السجن والقيود في رجليه( )، وكان المعتصم يوجه إليه من يناظره في السجن، فيفوز عليهم الإمام أحمد بحجته ودليله، فيزاد في قيوده، ثم طلب المعتصم حضوره لديه، فحُملَ على دابة وعليه الأقياد، ما معه من يمسكه إلا اللَّه، وكاد أن يسقط على وجهه لثقل القيود، ولكن اللَّه سلم، ثم دخل على المعتصم وأحمد بن أبي دؤاد حاضر عنده، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه( )، ثم قال المعتصم لأعوانه: ناظروه، فقيل له: ما تقول في القرآن؟ فقال أحمد: ما تقول في علم اللَّه؟ فسكت المناظر له، فقال أحمد: من زعم أن علم اللَّه مخلوق فقد كفر باللَّه. فقالوا: يا أمير المؤمنين كَفَرَ وكفَّرنا.
فقال بعضهم: أليس قال اللَّه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ( ), والقرآن أليس شيئاً؟ فقال أحمد: قال اللَّه: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ( )، فدمرت كل شيء إلا ما أراد اللَّه.
قال أحمد: فكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو واللَّه ضالّ مُضِلٌّ مبتدع، فيقول المعتصم: كلموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب اللَّه وسنة رسوله × حتى أقول به. فيقول أحمد بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟( ) فقال أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟ وجرت مناظرات طويلة.
قال أحمد: لقد احتجوا عليَّ بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ﴾ ( ) أفهذا منكر عندكم؟ فقالوا: شبَّه يا أمير المؤمنين، شبَّه. وطال المجلس، وقام المعتصم ورُدَّ أحمد إلى حبس في البيت، ثم وجه إليه من يبيت معه ويناظره، ثم أُحضر أحمد في اليوم الثاني وناظروه إلى قرب الزوال، ثم قام المعتصم ورد أحمد إلى مكانه، وفي اليوم الثالث جيء به فناظروه، وفي هذه الأيام كلها يعلو صوته صوتهم، وتغلب حجته حجتهم، فغلبهم بالحجة والبرهان( )، حتى قال عنه صاحب شرطة المعتصم( ): ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان، ولا خالط الملوك كان أثبت قلباً من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذبان( ).
وطالت المناظرة، فغضب المعتصم وقال لأحمد: لعنك اللَّه طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واسحبوه، خلِّعوه، فأُخِذَ وسُحِبَ وخُلِّع وجُرِّدَ، ووقف به بين الجمهور؛ لجلده وتعذيبه، فقال أحمد: ((يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي اللَّه كوقوفي بين يديك)).
فلما رأى المعتصم ثباته وتصميمه وصلابته فكأنه أمسك حتى أغراه أحمد بن أبي دؤاد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله، فهاجه ذلك على ضربه، ثم بدأ الجلادون يضربون، فيتقدم الرجل منهم فيجلده سوطين، والمعتصم يقول: شد قطع اللَّه يدك.
وأُغمي على أحمد، وذهب عقله مراراً، ويعيدون الضرب ولم يحس بالضرب، وجاء المعتصم إليه ثلاث مرات وهو يُجلد يدعوه إلى القول بخلق القرآن، فيمتنع، ويعيدون الضرب، ثم أمر المعتصم بإطلاقه، بعد أن ضُربَ نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل ثمانين سوطاً، ولكنه كان ضرباً مبرحاً، ولم يشعر الإمام أحمد إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجليه، ثم أمر المعتصم بإطلاقه إلى أهله، وكان ذلك في 25 رمضان سنة 221هـ، ووصل إلى بيته( )، وجاء إليه طبيب في بيته فقال: قد رأيت من ضُرِبَ ألف سوط، ما رأيت ضرباً مثل هذا، وجعل يعالجه ويقطع اللحم الميت من جسده، وأحمد صابر، ويجهر بحمد اللَّه، وبقي أثر الضرب في ظهره حتى مات ‘( ) ، وجعل كل من آذاه في حل بعد أن شفاه اللَّه إلا أهل البدع، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ( ).
وبعد أن توفي المعتصم، وولي الخلافة الواثق( ) فأظهر ما أظهر والده من القول بخلق القرآن، ثم جاءت رسالة إسحاق بن إبراهيم إلى أحمد، يقول فيها: ((إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض اللَّه)).
فاختفى أحمد ‘ بقية حياة الواثق في غير منزله، ثم عاد إلى منزله عندما طفئ خبره، ولم يزل مختفياً في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق( )، ثم ولي المتوكل( ) الخلافة فأظهر اللَّه السنة، وفرج عن الناس، وقمع البدع وأهلها، ونصر أهل السنة( ).
وكتب الإمام أحمد رسالة عظيمة إلى المتوكل، وبين فيها الرد على من قال بخلق القرآن، واستدل على أن القرآن كلام اللَّه بالبراهين القطعية من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة، ودعا للمتوكل بالتوفيق وحسن العاقبة( ).
اللَّه أكبر! ما أعظم هذه المواقف الحكيمة نحو كتاب اللَّه – تعالى – فإن الناس كلهم في الظاهر قد وافقوا المأمون على القول بخلق القرآن: راغبين وراهبين، ولم يبق مُنكر إلا أحمد ومحمد بن نوح، ثم مات ابن نوح، وبقي أحمد وحده، فثبت واستعان باللَّه، فأثبت للناس أن القرآن كلام اللَّه بقوله ومناظرته وفعله، وصبره على العذاب في عهد المأمون، ثم المعتصم( )، ثم الواثق، ولولا اللَّه وحده ثم الإمام أحمد لساد القول بخلق القرآن بين المسلمين، وخاصة عامة الناس، ولكن الناس ينظرون إلى أحمد وثباته وحججه وبراهينه، فثبتوا على القول بأن القرآن كلام اللَّه، منه بدأ وإليه يعود، وإن لم يظهروا ذلك للدولة، ولكن يعتقدون ذلك بقلوبهم، فحفظ اللَّه كتابه، وأظهر الحق على يد الإمام أحمد ‘ بهذه المواقف الحكيمة.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك