مقومات الداعية الناجح

مقومات الداعية الناجح

بقلم الدكتور
علي بن عمر بن أحمد بادحدح

مقدمة المؤلف

الحمد لله جعل الداعي إليه أحسن الناس قولاً ،والمجاهد في سبيله من أفضل الناس عملاً، والصلاة والسلام على أعظم من دعا باللسان، وأشجع من جاهد بالسنان، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان ، أما بعد ..
فإن الدعوة إلى الله سبب الهداية المأمول، وطريق السعادة المأهول، وبها يقع تذكير الغافل، وتحريك الخامل، وهي مفتاح الفهم، ومقدمة العلم، ومدخل العمل، وهي مهمة الأنبياء والمرسلين وسبيل أتباع النبي الأمين، وشرفها وفضلها معلوم، وخيرها وأثرها ملموس.
لا حاجة لبسط القول أو التدليل على أن الدعوة في عالمنا المعاصر تمر بمرحلة صعبة بل عصيبة لأن هذا الأمر ظاهر للعيان، وتعاني الدعوة مشكلات عديدة منها العداء الخارجي والتكالب العالمي الذي يسعى إلى وأد صوتها ومحاصرة نشاطها، ويهدف إلى تشويه صورتها وتجريم حملتها، فالدعوة إلى الله يجعلونها عنصرية تتنافى مع الإخاء، وعصبية تتعارض مع التسامح، والدعاة إلى الله يصورونهم على أنهم قساة غلاظ، لا مجال عندهم لرحمة أو رأفة، هذا إضافة إلى العمل الدائب للمواجهة المباشرة للدعوة والدعاة .
ومن جهة أخرى فإن للدعوة معاناة من بعض حملتها أو المنتسبين إليها، فواحد يسيء من جهة جهله، وآخر من جهة سوء فهمه وثالث من جهة ضيق أفقه، ورابع من جهة شدة أسلوبه وهكذا؛ إضافة إلى وجود بعض الخلل ونقص في العمل في صورة الشاملة الواعية للدعوة بحيث تواكب العصر بالاستفادة من معطياته، والتأقلم مع مستجداته، وحسن المواجهة لعقباته، وجودة التخطيط والإعداد لمتطلباته، كما تراعى الأصول وتستلهم التاريخ وتستنطق التجارب وتستفيد من الأعلام بما يجعل جذورها راسخة، وقواعدها واضحة .
ونظراً للظروف الآنفة الذكر يكون من الواجب إعمال الفكر وتبادل الرأي حول السبل الكفيلة لنجاح الدعوة وتحقيق أهدافها، وحمايتها من كيد الكائدين من الأعداء وجهل الجاهلين من الأحباء، ومن هنا كنت كثير التفكير في مثل الموضوع فكتبت حول نجاح الداعية وقبول دعوته وتأثير شخصيته مقالاً نشرته في إحدى الصحف، ثم في مناسبات متعددة تحدثت عن عناصر نجاح الدعوات، وما زلت أدندن حول هذه المفاهيم والأفكار وألقي عنها كلمات وأدوِّن فيها ملحوظات .
وهذا الكتاب الذي بين يديك هو صدى وترجمة لتلك الأفكار، وما كان ليرى النور لكثرة الأشغال، وتزاحم الأعمال، ولكنني دُعيت للمشاركة في أحد الملتقيات وطلب مني إعداد بحث بعنوان (( مقوِّمات الداعية الناجح )) فكانت هذه الصفحات، التي كتبتها وأنا في ظروف صعبة أثناء انشغالي التام بالمراحل النهائية لإعداد رسالة الدكتوراة، وللتوضيح أقول إن هذا البحث عددت مادته، ورتّبت فصوله وأتممت صياغته في أقل من شهر، وكنت أود قبل طباعته أن أضيف إليه وأزيد فيه ما استجد في الذهن من أفكار، وما تجمّع في الموضوع من نصوص ولكنني تركت ذلك لئلا تتأخر الطباعة، ولعل ذلك يكون في طبعة قادمة بمشيئة الله تعالى .
وحيث قد وصفت لك- أخي القارئ – ظروف البحث ومدة إعداد إضافة إلى ما هو معلوم من قصور الإنسان، لذا فإنني أرجو أن أحظى منك بما تراه من تصويب لخطأ، أو استدراك لنقص، أو فوائد وزوائد تتفضل بإهدائها لي، وهذا مما يسعدني ويثلج صدري، كما ينفعني ويغني فكري ويزيد علمي .
وأخيراً أرفع أجزل الشكر، وأعطر الثناء، وأعظم الحمد، للمولى جلّت قدرته على توفيقه وامتنانه، ثم أثني بالشكر لكل من ساعدني في الإعداد ونقل النصوص وأخص منهم زوجتي وبنات أخي الثلاث، وأشكر دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع على ما قامت به من جهود في تصويب النص وتصحيح أرقام الحواشي وحسن الإخراج، إذ كان البحث في صورته الأولى المستعجلة مليئاً بالأخطاء والاضطراب، كما أشكر من شرفوني بمطالعة البحث عسى الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، وأن يغفر لي ما لا يعلمون .
اللهم هذا جهد المقلِّ، وبضاعة المقصِّر تقبّلها بفضلك، وتجاوز عن نقصها بعفوك . وما كان في ذلك من إتقان وإحسان ففضل منك وإنعام، وما كان من خلل أو زلل فغفلة أو استزلال شيطان . فأقل – يا رب- عثرتي، واغفر زلّتي يا أرحم الراحمين .

أبو الحسن علي بادحدح
جدة 18/5/1417هـ

الفصل الأول : دلالة الموضوع وأهميته:

رأيت من المناسب الوقوف على عنوان البحث ومعرفة معاني مفرداته ودلالاته قبل الخوض في مضمون الموضوع وتفصيلاته .
عنوان البحث ((مقومات الداعية الناجح))، ومن هنا سنقف أمام مدلولات الكلمات الثلاث.

المبحث الأول : دلالة عنوان الموضوع :

أولاً : المقوّم
أصل الكلمة الثلاثي هو قَوَمَ وأحد معانية الانتصاب والعزم . معجم مقاييس اللغة (5/43) ومن أبرز الاستعمالات اللفظية بهذا الأصل((قيام)) والقيام يجئ بمعنى المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى الرجال قوامون على النساء لسان العرب (12/497) النساء [34] وقام الأمر: اعتدل وأقام الشيء أدامه القاموس المحيط (4/168)، وأمر قيم : أي مستقيم ( المحكم لابن سيده (6/366) ، وقوام الأمر (بالكسر) نظامه وعماده (لسان العرب (12/499) ، وقيم الأمر: مقيمه، والقيم: السيد وسائس الأمر(لسان العرب12/502)، ومقوم الشيء وقوامه بمعنى واحد .
فالمراد بمقومات الداعية الناجح الأمور التي هي العماد لنجاح الداعية ليقوم بالدعوة، منتصباً لها عازماً ومحافظاً عليها، مستقيماً معتدلاً في أدائها، قائماً بشؤونها سائساً لأمورها حتى يكون قيامه بها خير قيام يتحقق به المقصود.

ثانياً: الداعية
أصل الكلمة الثلاثي (دٍٍَِِعَوَ)والدعوة المرة الواحدة من الدعاء، والدعاء إلى شيءٍ ما هُو الترغيب فيه والحث عليه كما في قوله والله يدعو إلى دار السلام يونس [25] أي يرغب في الجنة ويقال دعا يدعو فهو داع والمرة منه دعوة وفي قوله تعالى وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً الأحزاب[46] أي داعياً إلى توحيد الله فالداعي هو الذي يدعو إلى أمر ما، والجمع دعاة وداعون والداعي والداعية واحد، والهاء فيه للمبالغة .
فالداعية إذن هو المؤهل القائم بترغيب الناس في الإسلام وحثهم على التزامه بالوسائل المشروعة .
وهذا يوضح أن موضوع الدعوة هو الإسلام كله عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملة، وأن المدعوون هم جميع الناس كل بحسبه فالكافرون يُدعون إلى الإسلام، والمقصرون يُدعون إلى صدق الالتزام، والعصاة يُدعون إلى ترك الذنوب والآثام وهكذا .
قال ابن تيمية في تعريف الدعوة :((والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله وبتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا))(مجموع فتاوى ابن تيمية (15/157) عرَّفها بعض المعاصرين بقوله ((تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم وتطبيقه في واقع الحياة))(المدخل إلى علم الدعوة (ص/17)، وأوجز الطبري القول وأبلغ في المعنى حين قال عن الدعوة: ((هي دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل))(تفسير الطبري (11/53).

ثالثاً : النجاح :-
أصل الكلمة الثلاثي ((نجح)) وهو أصل يدل على ظفر وصدق وخير(معجم مقاييس اللغة (5/390) والنُّجح والنجاح الظفر بالشيء ونجح المرء إذا أصاب طلبته ونجح الأمر إذا تيسر وسهل ورجل نجح :منجح الحاجات ورأي نجيح أي صواب (لسان العرب (2/612،611)، الصحاح (1/409)، القاموس المحيط (1/251) .
فالمقصود هو تحقيق غاية الدعوة، والتوفيق لحصول التيسير في الدعوة وقبولها، ومعلوم أن النجاح الأتم في الدعوة هو قبول الحق والعمل به، ورفض الباطل والإقلاع عنه، فهو قناعة نظرية واستجابة عملية ولكن حصول الإعراض وعدم القبول ليس دليلاً على عدم نجاح الداعية إذ أن الهداية من عند الله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء القصص [56] ونعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((يأتي النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد)) أخرجه البخاري ،كتاب الطب، باب: من كوى أو كوى غيره (10/155)، ومسلم في كتاب الإيمان ،باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (1/199) وهذا قطعاً لا يدل على عدم نجاح هؤلاء الأنبياء وإنما يدل على عدم وجود القابلية عند المدعوين وطمس الله لبصائرهم وطبعه على قلوبهم .
فالنجاح إذن هو القيام بالواجب على الوجه الأكمل وكثيراً ما تتحقق به النتائج وقد تتخلف لحكمة عند الله . وبهذا يتضح مدلول عنوان الموضوع ((مقومات الداعية الناجح)) وأن المراد تسليط الضوء على الأسس اللازم توافرها للداعية في شخصيته وممارساته ومفاهيمه التي تؤدي إلى حصول الهداية وتحقق أثر الدعوة.

المبحث الثاني : أهمية الموضوع :
مما يتقدم عرفنا أن الموضوع يتعلق بما يقوم بالداعية من صفات ومهارات يتحقق بها هدف الدعوة وتحصل الاستجابة، ولا شك أن الاستجابة للداعية ثمرة عظيمة لأنه مبلغ عن الله جل جلاله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومقرر لأحكام الإسلام، ومؤدي ذلك تحقق الاستجابة لله وللرسول، والالتزام بالإسلام ولهذا فإن لهذا النجاح آثار كبيرة محمودة تجعل للبحث في هذا المجال أهمية كبرى وإليك بعض ما ينبئ عن ذلك :
1_ الأجر الجزيل :
يقول الحق تبارك وتعالى :ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من مسلمين فصلت [33] ، فهذا ثناء لمن دعا دون ارتباط بالنتيجة فكيف إذا حصلت الاستجابة، إن الأجر حينئذ أعظم وأجزل كما أخبر عليه الصلاة والسلام في قوله: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: مناقب علي بن أبي طالب، الفتح (7/70) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب (النووي) (15/178) وهذا في هداية الواحد فكيف بهداية الجمع من الناس ؟ الأجر حينئذ يزداد ويتضاعف كما أرشد إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((من دعا إلى هدى فإن له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)) أخرجه مسلم في كتاب العلم،باب :من سن سنة حسنة أو سيئة (النووي 16/227).

2- انتشار الخير :
إن نجاح الداعية وانتشار الدعوة يزيد من انتشار الخير بكثرة ملتزميه والدعاة إليه، والثابتين عليه،وعندما تتزايد هذه الدوائر ويتكاثر أفرادها تكون سبباً من أسباب رضوان الله عز وجل وتنَزّل نصره، وحصول التغيير الصالح في الأمة ضمن السنة الإلهية الماضية: إن الله لا يغير ما قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الرعد[11] ، ومن جهة أخرى فكلما أقبل على الخير واستجاب للدعوة نفر من الناس بما يحققه الله من نجاح للدعاة فإن ذلك يورث عند الآخرين قناعة عميقة، وحماسة قوية للمتابعة من خلال كسر حاجز التردد أو الرهبة، وخوف التفرد بالالتزام ، ومخالفة التيار العام ، كما أن انتشار الخير يبرز صورة مشرقة للمسلمين الملتزمين من خلال سلوكياتهم في سائر شئون الحياة وهذا له أثر مضاعف في مزيد من الإقبال على الالتزام .

3- مغالبة الباطل:
إن كل نجاح للدعوة في فكر وسلوك إنسان هو هزيمة للباطل الداعي إلى طرق ومناهج الشيطان ، وإن كل وجود فاعل للدعوة في ميدان من ميادين الحياة هو غيظ ونكاية في أعداء الله، فالحرص على نجاح الداعية في غاية الأهمية لحماية الأمة من شرور الباطل، والعمل على تحجيم آثاره ، وتقليل أضراره ، وتوهين أنصاره .
ومن المعلوم أنه ((يجب محاربة المبادئ الهدامة من اشتراكية وبعثية وتعصب للقوميات وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة وبذلك يصلح الله المسلمين ما كان فاسداً، ويَردُّ لهم ما كان شارداً ، ويعيد لهم مجدهم السالف وينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض)) مجموع فتاوى ابن باز(1/392) ومن هنا يلزم (التأكيد على دعاة الإسلام وحملته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة والدعوة إلى الإسلام والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره وتبيين زيفه حيث إن الأعداء جنَّدوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم وأوجدوا المنظمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدس على المسلمين والتلبيس عليهم فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها وعرض الإسلام عقيدة وتشريعاً وأحكاماً وأخلاقاً عرضاً شيقاً)) مجموع فتاوى ابن باز (1/392)، فتوفر أسباب نجاح الداعية يعني غلبة الحق وانتصاره وهزيمة الباطل واندحاره .

4- الحماية من المفاهيم والأعمال الخاطئة:
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح وأسباب الفلاح قد يؤدي إلى الفشل والإخفاق ويتولد من أثر ذلك بعض المفاهيم والأعمال الخاطئة ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
أ- الحكم العام بفساد الناس وذلك أن بعض الدعاة – لقلة في فهمه أو ضعف في إيمانه أو تقصير في عمله – يتوالى عليه الفشل ويلقى الإعراض والنفور من الناس ،وبدلاً من أن يصبر أو ينقد نفسه ويغير أسلوبه، ويعالج خطأه نراه ينحي باللائمة على الناس ، ويحكم عليهم بالفساد والاستعلاء عن الحق ، وأنهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما يحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي قال فيه: ((إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم)) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب : النهي عن قول هلك الناس ، (النووي 16/17).
ب- حصول الإحباط واليأس في نفوس بعض الدعاة لتكرار الفشل، وانطوائهم بعد ذلك على أنفسهم ،ثم اعتزالهم الناس وتركهم الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وربما كان فشلهم في كثير من الأحوال ناشئاً عن جهلهم بأساليب وأسباب النجاح في الدعوة .

الفصل الثاني : عناصر التأثير :

المبحث الأول الميل العاطفي والمحبة القلبية :
إن لمحبة تقود إلى المتابعة للمحبوب، وتقديمه على من سواه ،وتلمس موافقة هواه، ولذا قيل في تعريف المحبة إنها ((إيثار المحبوب على جميع المصحوب ،وقيل :موافقة الحبيب في المشهد والمغيب وقيل :اتحاد مراد المحب ، ومراد المحبوب وقيل: إيثار مراد المحبوب على مراد المحب وقيل : هي بذلك المجهود فيما يرضي الحبيب)) روضة المحبين (ص:19-21) .((والحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والفعل الظاهر فيما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/541) ولذا فإن صاحب الرسالة يتحبب إلى المدعوين ، ويسعى إلى كسب محبتهم له وميل قلوبهم إليه ، لأن ذلك أعظم عون على قبولهم منه واتباعهم له ، وبدونه لا يحصل التأثير الإيجابي بالمتابعة ولو أقيمت الحجج ونصبت الأدلة لأن البغض للداعي يصد عن قبول دعوته وإن كانت حقاً :فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك آل عمران[159] فالاستجابة والمتابعة أعظم مقتضيات المحبة ،وهما في الوقت نفسه أعظم آثارها .
وإذا تمكنت المحبة فإنها تورث تعلقاً عجيباً بالمحبوب يدفع إلى فعل مقتضاها من الموافقة وإن كان في ذلك مضرة ظاهرة أو إعراض عن محبوبات أخرى هي أكثر أهمية، ويتحمل المحب في ذلك ما يلقي من المعارضة والملامة، وهذا ما يعرف من حال المحبين والعشاق وهو الذي يفسر ما ملئت به سيرهم من الأخبار والأحوال، وليس هذا في عشق ومحبة الصور المحسوسة من البشر، بل هو واقع في المعاني أيضاً فكثير من الأجواد يعشق الجود أعظم عشق فلا يصبر عنه مع حاجته إلى ما يجود به، ولا يقبل فيه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم ، وأما عشاق العلم فأعظم شغفاً به ، وعشقاً له من كل عاشق بمعشوقه)) روضة المحبين (ص :69)وبالجملة ((فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة ،فهو أصل كل فعل ومبدؤه، كما أن البغض والكراهة مانع وصاد لكل ما انعقد بسببه ومادته))جامع الرسائل والمسائل (2/193).
ومما يقوي أثر المحبة من الموافقة والاتباع ((حصول اللذة والنعمة والفرح والسرور وقرة العين به على قدر قوة محبته وإرادته والرغبة فيه)) روضة المحبين (ص/156،155) ويلحق بذلك أن المحبة توقد نار الشوق فيبقى القلب بالمحبوب ومطلوبه مشغولاً، والعقل في أمره مفكراً (والشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال)) تهذيب مدارج السالكين (ص:525) .
وهكذا نجد للمحبة أثرها العظيم في الفكر والسلوك، (( والمحبة والإرادة أصل كل دين سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والإرادة أصل ذلك كله)) جامع الرسائل والمسائل (2/218) ، ((وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها)) المصدر السابق (2/235) علمنا أهمية هذا العنصر.
ومن منا كان الهوى في غير مرضاة الله خطراً عظيماً بل هو شرك محض وألوهية باطلة كما قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الجاثية [23] ، وبالجملة فعاطفة المحبة من أعظم عناصر التأثير سلباً وإيجاباً ، ومن ثم كان الحرص على كسب القلوب واستجلاب المحبة في طاعة الله معيناً على الاستجابة للخير، والقبول للدعوة ، وإذا وجهت المحبة لله وطاعته فذلك غاية عظمى ، إذ أن محبة الله ((هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون ، وإلى عَلَمها شمر السابقون ، وعليها تفانى المحبون ، وبروح نسيمها ترّوح العابدون ، فهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون ، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات ، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام ، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام)) تهذيب مدارج السالكين (ص/509) ، والمقابل على الضد من ذلك ((فهو عن الخير صاد ، وللعقل مضاد ، لأنه يُنتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً ، ومدخل الشر مسلوكاً)) أدب الدنيا والدين (ص: 33) .

المبحث الثاني : الإقناع العقلي والحجة العلمية :
الهوى يهوي بصاحبه والعقل – بإذن الله -يعصمه ، والعقلاء يحكمون عقولهم في أهوائهم ، وهذا تصرف الرجال فقد يُحب القلب فعلاً معيناً وتهوى النفس سلوكاً محدداً ، فيعترض العقل بالنظر في البواعث ، والتأمل في العواقب ، فيكبح جماح الهوى إذ أنه ((لما كان الهوى غالباً ، إلى سبيل المهالك مورداً ، جعل العقل رقيباً مجاهداً، يلاحظ عثرة غفلته ، ويدفع بادرة سطوته ، ويدفع خداع حيلته ، لأن سلطان الهوى قوي ، ومدخل مكره خفي)) أدب الدنيا والدين (ص:35) ((وإذا كانت الدولة للعقل سالمهُ الهوى ، وكان من خدمه وأتباعه ، كما أن الدولة إذا كانت للهوى ، صار العقل أسيراً في يديه ، محكوماً عليه)) روضة المحبين (ص:10)((وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه ، وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت ، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، ومنهم من يكفه بخيط)) صيد الخاطر(ص:164) .
وربما لا تكون هناك محبة ولا ميل في النفس ابتداء ولكن الحجة والبرهان يحصل بها قناعة العقل التي تزين الفعل أو الرأي للنفس وتحببه إلى القلب ، فالقناعة لها تأثيرها الذي لا ينكر في دفع الإنسان لاتخاذ الموافق والآراء ، وممارسة الأفعال ، أو الامتناع من ذلك ، وتلك مزية العقل الراشد الذي هو من أهم البواعث ((فلا يسمي عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه ، ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ماله عقل)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/24) والمحبة والعقل إن اتفقا عظم الأثر وان اختلفا فمالت المحبة لما حكم العقل بفساده فمآل الأمر إلى غلبة أحدهما بقوته ، وتمكنه ، فقد يقرر العقل ضرر الفعل لكنه يضعف ويغلبه الهوى بباعث حب اللذة ، وقوة الشهوة (وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره وترك ما يعلم أنه ينفعه لما في نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال ، وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية ، لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده ، بل عنه وعما في النفس من حب ما ينفعها وبغض ما يضرها ، فإذا حصل لها مرض ففسدت به أحبت ما يضرها ، وأبغضت ما ينفعها ، فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره)) مجموع فتاوى ابن تيمية (7/540) و ((مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة ، ويحث على الميل للشهوات عاجلاً ، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل ومنع اللذات في الأجل)) ذم الهوى (ص: 13،12).
وهذا يوضح أثر العقل وقناعته في توجيه الآراء والسلوكيات ، مع عدم إهمال أثر القلب وعاطفته ، إذ قد توافق فيقوى التأثير ويتمكن ، أو تخالف فتكون هناك المغالبة ثم الغلبة .

المبحث الثالث : القدوة الحية والنموذج المتحرك :
لا يخفى أبداً أثر القدوة فهي الصورة الحية للفكرة ، والتطبيق العلمي للدعوة ، والتوضيح الجلي للحجة ، ولا شك أنها من أعظم أسباب بذر المحبة في القلوب ، ووجود القناعة في العقول ((وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة ولا سيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها)) مجموع فتاوى ابن باز (3/110).
والعكس صحيح فلو وجدت المحبة ، وأقيمت الحجة ، وبذلت الدعوة كان لتخلف القدوة ووجود ما يعارض مقتضى الدعوة أثره في ضعف التأثير ونقص المحبة ، وزعزعة القناعة ومعلوم ((أن التأسي بالأفعال – بالنسبة لمن يعظّم في الناس – سرٌ مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون عن الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ولا سيما عند الاعتياد والتكرار)) الموافقات (4/248-249) ورحم الله ابن القيم حيث أبدع في بيان عكس هذه الحقيقة عندما قال : ((علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطريق)) ولله در هرم بن حيان حيث حذر من العالم الفاسق فكتب إليه عمر رضي الله عنه يسأله عن مراده فقال : ((يكون إمام يتكلم بالعلم ويعمل بالفسق ، ويشبه على الناس فيضلوا)) نزهة الفضلاء (1/329،328).
وفي كثير من الأحيان تكون القدوة الحسنة مغنية عن كثير من أساليب الترغيب والتشويق وأسباب تحصيل المحبة ، وكذلك تعفي من الاستكثار من الاستدلال ، وإقامة الحجة والمناظرة والجدال ، إذ يتحقق من خلال القدوة الكثير من ذلك بشكل تلقائي وبصورة أعمق وأثبت حيث أن القدوة ((تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي)) القدوة مبادئ ونماذج (ص :11) لأن ((المثال الحي المرتقي في درجات الكمال يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقرير والمحبة ، ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة والمنافسة الشريفة)) القدوة مبادئ ونماذج (ص:8 ) فيحصل التأثر والاقتداء وتكون الاستجابة قوية وهي في الوقت نفسه سهلة وتلقائية ، ((حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك من السؤال في كثير من الأعمال)) الموفقات (4/271،270) ولله در ابن القيم حيث قال : ((إن الناس قد أحسنوا القول فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبِّخ نفسه)) (الفوائد (ص:192) .
وبهذا تتكامل عناصر التأثير فإذا اجتمع مع محبة الفعل اقتناع العقل بثمرته وفائدته وأضيف إليهما قدوة يتمثل فيهما الفعل فإن التأثير يكون قد بلغ مبلغه .
ولا بد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة وخطورة انعدامه حيث ((يستطيع الإنسان أن يكون عالماً جهبذاً في الكيمياء أو العلوم أو الطب أو الهندسة أو غير ذلك من العلوم التي أمرنا الله بتعلمها لتعمر الدنيا ولكن هذه العلوم لا تتطلب منا قيداً سلوكياً ، فقد تكون عالماً في أي فرع من هذه العلوم وسلوكك تبعاً لهواك ولكن هذا لا يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك لأن النبوغ لا يضع قيداً على الأخلاق إلا علم الدين فإنك إن كنت من علمائه أو الداعين إليه أو المتدينين المخلصين لا بد أن تكون قدوة حسنة لما تدعو إليه وإلا ما استمع إليك أحد)) الدعوة قواعد وأصول (ص:111) .
ولله در القائل :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وحسب المسلم قول الله تعالى :يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقول مالا تفعلون الصف [3،2] .

الفصل الثالث : مقومات النجاح في تكوين الداعية

في هذا الفصل أسلط الضوء على المقومات الشخصية اللازمة في تكوين الداعية ليتأهل للنجاح في دعوته ، فالمقصود هو بيان ما يلزم الداعية أن يتحقق به في ذات نفسه، وأن يوجده ويكلمه في سماته وصفاته كأساس لا بد منه قبل أي مقومات خارجية تتصل بالمدعوين أو بيئة الدعوة أو موضوعاتها .
وإن هذه المقومات كثيرة ويمكن أن يطول الحديث في سردها وعرضها وتكون بمثابة استعراض لواجبات وآداب الإسلام مما يفقدنا معرفة الأولويات والأهمية الكامنة في بعض المقومات ،ولذا اجتهدت بعد التأمل والتفكير، أن أسلط الضوء على أربعة مقومات هي الأكثر أهمية وشمولية ويندرج تحتها كثير من الصفات الأخرى .

المبحث الأول : التميز الإيماني والتفوق الروحاني :
إن التميز في مجال الإيمان عقيدةً صحيحةً ، ومعرفةً جازمةً ، وتأثيراً قوياً يعد- بلا نزاع – أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للداعية ، لكي يكون الداعية عظيم الإيمان بالله ، شديد الخوف منه ، صادق التوكل عليه ، دائم المراقبة له ، كثير الإنابة إليه ، لسانه رطب بذكر الله ، وعقله مفكر في ملكوت الله ، وقلبه مستحضر للقاء الله ، مجتهد في الطاعات ، مسابق إلى الخيرات ، صوام بالنهار قوّام بالليل ، مع تحري الإخلاص التام ، وحسن الظن بالله وهذا هو عنوان الفلاح ، وسمت الصلاح ، ومفتاح النجاح ، إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من الله فإذا بالداعية مسدد ، إن عمل أجاد ، وإن حكم أصاب ، وإن تكلم أفاد .

وهذا الباب واسع الجوانب متعدد المستلزمات ، وحسبي أن أبرز أهم هذه الجوانب :-
أولاً : عظمة الإيمان بالله :
أساس كل أمر هو تجريد التوحيد ، والبعد عن الشرك ولا بد أن يكون الداعية صحيح الإيمان ، خالص التوحيد ، عنده من العلم ما يعرِّفه بالله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وأن تستقر هذه المعرفة في سويداء قلبه ، وتملك عليه أقطار نفسه ، وتجري مع الدماء في عروقه ، وأن ينعكس ذلك على سائر أحواله فتنضبط به أفكاره وآراؤه ، وتُحكم به كلماته وألفاظه ، وتُقوَّم به أفعاله وأعماله ، ويجمع ابن القيم هذا المعنى في عبارة أشمل وأعمق حيث يقول في بيان المراد أنه ((التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده ، واجتناب نهيه ، ودوام الافتقار إليه ، واللجأ إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وعياذ العبد به ولياذه به ، وأن لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاءً ، وفيه أيضاً أنه عبد من جميع الوجوه : صغيراً وكبيراً ، حياً وميتاً ، مطيعاً وعاصياً معافى ومبتلى ، بالروح والقلب واللسان والجوارح ، وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما يملك لسيده ، وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت علي بكل ما أنا فيه من نعمة فذلك كله من إنعامك على عبدك ، وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك ، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده وإني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة)) الفوائد (ص:35،34) ، ولا يتصور للداعية نجاح وتوفيق ، أو تميز وقبول دون أن يكون حظه من الإيمان عظيماً ((إذ كيف تدعو الناس إلى أحد و صلاتك به واهية ومعرفتك به قليلة)) مع الله (ص: 188) .
وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب ، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال فإن ((عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه ، بحيث يصير ذكره وحبه ، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهم كله به ، والخطرات كلها بذكره ، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه ، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ، ولا ما يفرح به سواه)) زاد المعاد (2/87) ، كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار الإيمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها :-
1_ التحرر من عبودية غير الله :
الإيمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الأرض ، وكل شهوات الدنيا ، ويصبح حراً لا سلطان لأحد عليه إلا لله ، فلا يخاف إلا الله ، ولا يذل إلا لله ، ولا يطلب إلا من الله ، ولا يأمل إلا من الله ، ولا يتوكل إلا على الله ، وللإيمان تأثير كبير في أعظم أمرين يسيطران على حياة البشر وهما : الخوف على الرزق ، والخوف على الحياة .
أما الأول : فلا يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال ، وكم شغل الناس حبُّ المال ، وكم باع أناس مبادئهم ، وخانوا أمتهم وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذَّهب بأبصارهم وسبى قلوبهم ، أما المؤمن فحقائق الإيمان تملؤ قلبه فلا يتأثر بشيء من هذا لأن في قلبه قول الحق جل وعلا وفي السماء رزقكم وما توعدون الذاريات[22] ولأنه يعلم من بيده الرزق فابتغوا عند الله الرزق واعبده واشكروا له العنكبوت[17] وأنه لا يملك أحد من البشر من ذلك شيئاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً العنكبوت [17] وفوق ذلك يعلم حقيقة الرزق في الدنيا وقيمته المحدودة ويرتبط بقوله تعالى ورزق ربك خير وأبقى طه [131] وقوله إن هذا لرزقنا ماله من نفاد ص [54] وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) أخرجه الترمذي كتاب الزهد ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله ، حديث رقم (2320) ومن هذه المنطلقات الإيمانية قال الشافعي رحمه الله :
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً
همتـي همة الملـوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً
وأما الثاني : فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله ، وأنه لا ينجي حذر من قدر ، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وأن الموت ليس بالإقدام وأن السلامة ليست بالإحجام بل كما قال تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة النساء [78] ومن هنا يتميز المؤمن عن غيره ، فبينما ترتجف القلوب وتنسكب الدموع ، وتعلو التوسلات ، وتقدَّم التنازلات ، حرصاً على الحياة ، نجد المؤمن كالطود الشامخ يهتف مع خبيب بن عدي قائلاً :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ويتذكر قول علي بن أبي طالب :
أي يوميَّ من الموت أفر يـوم لا يقـدر أو يوم قُدر
يوم لا يقدر لا أرهبـه ومن المقدور لا ينجو الحذر
ويتذكر المؤمن حال أنس بن النضر يوم شمَّ رائحة الجنة في أحُد فمضى في شوق إلى عناق الموت ، ويدرك عمق إيمان عمير بن الحمام عندما استطال – لأجل أكل تمرات – هذه الحياة ، ويقف على سرّ الإيمان العظيم عندما يهتف الشهيد قائلاً : فزت ورب الكعبة ، ولا ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهدَّودا بالموت هتفوا قائلين اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا طه [72] .

2- الخشية من الله :
وهي من أعظم آثار الإيمان وأبرز أوصاف المؤمنين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون الأنبياء [49] الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله الأحزاب [39] وقدوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول : ((إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)) أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، كتاب الترغيب للنكاح (الفتح :9/104) ، ((والخشية أخص من الخوف ، فهي مقرون بمعرفة)) تهذيب مدارج السالكين (ص:269) وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن الغافلين والعابثين لأن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله ، فقهُ ذلك أنطق إبراهيم بن سفيان بالحكمة فقال: ((إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها)) تهذيب مدارج السالكين (ص:270) وقال الفضيل بن عياض :((من خاف الله لم يضره أحد ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد)) نزهة الفضلاء (2/661) وهذه الخشية دافعة للطاعة ((وما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله)) نزهة الفضلاء (1/513) والداعية له رتبة عليا من الإيمان ((تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة تخامر نفسه أمام ذي سلطان)) مع الله (ص:190) .
والخشية أساس مراقبة الله ترقي بالمؤمن إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه .

ثانياً : الإخلاص لله :
((الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله)) مع الله (ص:201) وهو ((في حقيقته قوة إيمانية ، وصراع نفسي ، يدفع صاحبه – بعد جذب وشد – إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية ، وأن يترفع عن الغايات الذاتية ، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكوراً)) صفات الداعية النفسية (ص:12) فالمخلصون ((أعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ،ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده)) تهذيب مدارج السالكين (ص: 68) والإخلاص للداعية ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر ، وهو استجابة لأمر الله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين البينة [5] ، وفي تركه خوف من الحرمان برد الأعمال ومنع التوفيق لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) أخرجه مسلم ، كتاب الزهد ، باب الرياء (النووي)(18/115) وفيه وقاية من عذاب الآخرة الذي توعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عمل بلا إخلاص عندما ذكر أول ثلاثة تسعّر بهم النار وهم قارئ وغني ومجاهد لم يقصدوا بأعمالهم وجه الله (أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب من قاتل للرياء والسمعة واستحق النار (عبد الباقي)(3/1514،1513).
فلا بد والأمر كذلك من تحري الإخلاص والحذر مما يضاده فإنه ((لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت)) الفوائد (ص:195) ((والمفروض أن الداعية العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه في الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق)) مع الله (ص:190) والإخلاص يجعل للكلمات حيوية مؤثرة ، وللدعوة قولاً سريعاً .
ثالثاً : حسن الصلة بالله :
والمقصود بها إقامة الفرائض ، والاستكثار من النوافل ، والاشتغال بالأذكار ، والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية ، والحرص على المناجاة الربانية ، وغير ذلك من القربات والطاعات ، لأن العبادة زاد يتقوى به الداعية ، فالصلاة صلة بينه وبين مولاه ، ولا مناص من تميزه في حرصه عليها ، وتبكيره إليها ، وخشوعه فيها ،وتطويله لها ، وشهودها مع الجماعة وله في ذلك قدوات سالفة فسعيد بن المسيب ((ما فاتته الصلاة في الجماعة أربعين سنة)) نزهة الفضلاء (1/370) ((والربيع بن خثيم كان يقاد إلى الصلاة وبه الفالج ، فلما روجع في ذلك قال : إني أسمع حي على الصلاة فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبواً)) نزهة الفضلاء (1/381) ، ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر مع ما ورد في أدائهما خصوصاً من تعظيم الأجر ، وما جاء في فواتهما من التحذير من الإثم والوزر ، وقد ترخص كثيرون في ذلك فلا يهمهم التبكير ، ولا يعنيهم إدراك التكبير ، ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي : ((إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه)) نزهة الفضلاء (1/468) وبماذا يعلقون إذا علموا أن سعيد بن عبد العزيز التنوخي ((كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى)) نزهة الفضلاء (2/611) والحقيقة أن الأمر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير ، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.
والذكر عظيم المنزلة فهو ((منشور الولاية الذي من أعطية اتصل ، ومن منعه عُزل ، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجسام لها قبوراً ، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق ، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منه القلوب)) تهذيب مدارج السالكين (ص:463) ، والذكر هو العبادة المطلوبه بلا حد يُنتهي إليه يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً الأحزاب [41] وبلا وقت تختص به ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى طه [130] وبلا حال تستثني منه الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم آل عمران [91]، والذاكرون هم السابقون إشارة إلى حديث أبو هريرة : ((سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) أخرجه مسلم ، في كتاب الذكر والدعاء ، باب الحث على ذكر الله تعالى (النووي)(17/4) ، في رياض الجنة يرتعون إشارة إلى حديث أنس بن مالك : ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر)) أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب . (انظر الترغيب والترهيب 2/ 408،407)، وبوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم يعلمون (إشارة إلى حديث عبد الله بن بشر ، أن رجلاً قال : ((يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به ؟ قال : لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (انظر الترغيب والترهيب 2/394) ، وبمباهاة الملائكة يسعدون ((إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمن جلسوا يذكرون الله ، حيث قال : ولكنه أتاني جبريل وأخبرني أنَّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) أخرجه مسلم، في كتاب الذكر ،باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر (النووي)(17/23).
والاستغفار من أعظم الأذكار وكان المصطفى عليه الصلاة السلام يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة .أخرجه البخاري في كتاب الدعوات ، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (الفتح11/101) وأخبر أمته أن ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب)) أخرجه أبو دواد في كتاب الصلاة ، باب الاستغفار (1518)(2/178) ولذا فلا بد للداعية من الأذكار ليحيي الله قلبه ، ولا بد له من الاستغفار ليمحو الله ذنبه .
وأعظم الذكر تلاوة القرآن التي هي من أقوى الصلات بالله التي يحتاجها الدعاة ، ولها أثرها في الواقع الدعوة والحياة ((ومن الصلة بالله إعزاز كتابه وإدمان تلاوته وتدبر معانيه ، وعقد مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها ، والواقع الذي ثوى الناس فيه لتكون هذه المقارنة حافزاً على تذكير الناس بالحق ، وقيادتهم إلى الله، وتأهيلهم . وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه وسكناً لفؤاده وشعاعاً لعقله، ووقوداً لحركته ومرقاة لدرجته)) مع الله (ص:191) والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:((ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ،وبنهاره إذا الناس مفطرون ،وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً)) الفوائد (ص:192) .
والخلاصة أن التميز الإيماني من أعظم أسباب نجاح الداعية ، إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ولا قوة البرهان ولا كثرة الأعوان ، بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه ولا شك ((أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى سبيله ، لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق ، وارتباطهم به أوثق ، وشغلهم به أدوم ، ورقابتهم له أوضح)) مع الله (ص:190) ونحن نريد روحانية إيجابية ، لا انعزالية ترتكز على العبادات والأوراد بعيداً عن التفاعل مع الحياة وما فيها من هموم ومعاناة ، نريد ((روحانية إيجابية تحفزه للتضحية وتستهدف الشهادة وتعمق الحاجة إلى رضا الله لتغدو هاجساً يومياً يلاحق كل مواطن رضاه في عملية تدقيق ومعاناة تجعله يعيش مع عقيدته في أفكاره ومشاعره وفي علاقاته ومطامحه ، فتتحول في داخل ذاته إلى هم يومي متحرك يراقب الأشياء من خلاله ، ويحدد موفقه منها على أساسه)) الحركة الإسلامية هموم وقضايا (ص: 14) .
وهناك تقصير ظاهر لدى بعض الدعاة والجماعات الإسلامية في العناية بهذا الجانب المهم وكثيراً ما يكون ذلك بسبب تضخم العناية بالجوانب الفكرية والسياسية وغيرها ، ولذا صار يرى بعض من ينتسبون إلى الدعوة وهم مقصرون في معرفتهم وصلتهم بالله .

المبحث الثاني : الرصيد العلمي والزاد الثقافي :
وهذا أساس لا بد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة التساؤلات ، وحلول المشكلات إضافة إلى ذلك هو العدَّة التي بها يعلِّم الداعيةُ الناس أحكام الشرع ، ويبصرهم بحقائق الواقع ، وبه أيضاً يكون الداعية قادراً على الإقناع وتفنيد الشبهات ، ومتقناً في العرض ، ومبدعاً في التوعية والتوجيه .
((وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلاَّ بالعلم الذي يدعو به وإليه ،ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي)) مفتاح دار السعادة(1/154) .
والخوض في غمار الدعوة وميادينها فيما لا علم للداعي به ، تترتب عليه آثار وخيمة لأن ((العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح)) مفتاح دار السعادة (1/130) ((ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : ((من عبَد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح))، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ((العلم إمام العمل والعمل تابعه)) ، وهذا ظاهر فإن القصد العمل ، والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى)) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/136،135) .
وطبيعة مهمة الداعي خطيرة ونظرة الناس إليه ، واعتدادهم به ، وأخذهم عنه يجعل أمر العلم ((أشد ضرورة للداعي إلى الله لأن ما يقوم به من الدين ، ومنسوب إلى رب العالمين ، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه ، وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه ، فإذا فقد العلم المطلوب اللازم له كان جاهلاً بما يريده ووقع في الخبط والخلط ، والقول على الله ورسوله بغير علم ، فيكون ضرره أكثر من نفعه ، وإفساده أكثر من إصلاحه وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحلّه الشرع وأوجبه وبما منعه وحرَّمه)) أصول الدعوة (ص:135) ومن أكثر الأمور التي يفتن بها عوام الناس التصرف الخاطئ الذي يصدر من بعض الجهلاء من أهل العبادة والصلاح لأن ((الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله)) مفتاح دار السعادة (2/12)، فهذا يقتدون به من أثر حاله ، فكيف بالداعية الذي يوجههم بحاله ومقاله ، إن افتتانهم به أكبر وأشد.

فضل العلم وثمرته :
لابد للداعية أن يوقن أن ((العلم أشرف ما رغب فيه الراغب ، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب ، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب)) أدب الدنيا والدين (ص:40) والآخذ بالعم آخذ بالبداية الصحيحة إذ العلم مقدم على القول والعمل كما قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك محمد [19] .
وبالعلم يحوز الداعية الرفعة في الميزان الرباني وفق قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات المجادلة[11]، والسعي في طلب العلم تحقيق للغاية التي أرادها الله ووجه إليها في قوله فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون التوبة [122] ،فقد جعل الله الأمة فرقتين ((أوجب على إحداهما الجهاد في سبيله وعلى الأخرى التفقه في دينه ، لئلا ينقطع جميعهم عن الجهاد فتندرس الشريعة ، ولا يتوفرا على طلب العلم فتغلب الكفار على الملة ،فحرس بيضة الإسلام بالمجاهدين ، وحفظ شريعة الإيمان بالمتعلمين ، وأمر بالرجوع إليهم في النوازل ومسألتهم عن الحوادث فقال عز وجل فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون النحل [43] وقال تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم النحل [43] .
وإذا سلك الداعية طريق العلم حظي بالخيرية الربانية الثابتة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً من طرق الجنة)) سنن أبو داود ، كتاب العلم ، باب الحث على العلم (3641)(4/57) .
وإذا نال الداعية حظاً وافياً من العلم واندرج في سلك طلبة العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراساً يُهتدى به كما قال ابن القيم عن الفقهاء ((إنهم يكون الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يُهتدى في الظلماء ، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء)) إعلام الموقعين (1/9) ، وعندما يتحرك الداعية ناشراً علمه ساعياً بين الناس بالإصلاح ناعياً عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف الذي ذكره الإمام أحمد حين قال :((الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هَدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم)) إعلام الموقعين (1/9) ، وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد التاريخ أنهم ((هم من اهتدى بهم الحائر ، وسار بهم الواقف ، وأقبل بهم المعرض ، وكمُل بهم الناقص ، ورجع بهم الناكص ، وتقوى بهم الضعيف)) مدارج السالكين (3/304) .
ولأهل العلم في بيان شرف العلم وفضيلته مقالات رائعة منها : قول الخطيب في الفقيه والمتفقه : ((قد جعل الله العلم وسائل أوليائه ، وعصم به من اختار من أصفيائه)) الفقيه والمتفقه (2/71).
وأسند قبل ذلك عن محمد بن القاسم بن خلاد قال : ((يقال العقل دليل الخير ، والعلم مصباح العقل ، وهو جلاء القلب من صدى الجهل ، وهو أقنع جليس ، وأسرُّ عشيق ، وأفضل صاحب وقرين ، وأزكى عقدة ، وأربح تجارة ، وأنفع مكسب ، وأحسن كهف ، وأفضل ما اقتني لدنيا واستظهر به لآخرة ، واعتصم به من الذنوب ، وسكنت إليه القلوب ، يزيد في شرف الشريف ، ورفعة الرفيع ، وقدر الوضيع ، أنس في الوحشة ، وأمن عند الشدة ، ودال على طاعة الله تعالى وناه عن المعصية ، وقائد إلى رضوانه ، ووسيلة إلى رحمته)) الفقيه المتفقه (2/71).
وقال أبو هلال العسكري في ((الحث على طلب العلم)) : ((فإذا كنت – أيها الأخ الكريم – ترغب في سمو القدر ، ونباهة الذكر ، وارتفاع المنزلة بين الخلق ، وتلتمس عزاً لا تثلمه الليالي والأيام ، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام ، وهيبة بغير سلطان ، وغنى بلا مال ، ومنعة بغير سلاح ، وعلاء من غير عشيرة ، وأعواناً بغير أجر ، وجنُداً بلا ديوان وفرض ، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفواً وتلق ما يعتمد منه صفواً )) الحث على طلب العلم (ص:43) .
وقال ابن إسحاق بن أبي فروة : ((أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم وأهل الجهاد فأما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل ، وأما أهل الجهاد فجاهدوا على ما جاءت به الرسل)) الفقيه والمتفقه (1/35).

العلم المطلوب :
ليس بالضرورة أن يكون الداعية عالماً جامعاً لكل العلوم ، وليس من شرط الدعوة تمام العلم واستيفاء قدر بعينه منه ، وليست الدعوة مختصة بالعلماء وحدهم دون غيرهم بل كل من علم من أحكام الإسلام شيئاً دعا إليه ،وكل من علم منكراً وعرف دليل حرمته نهى عنه ، وإذا لم يكن الأمر كذلك تعطلت الدعوة ومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسبق أن أوضحنا أن الدعوة ((مشروط لها العلم ولكن العلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ ولا يتبعض ، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض فمن عَلم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية ، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل ، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئاً أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة ، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه)) أصول الدعوة (ص:302) ، وفعل الصحابة الكرام يدل على ذلك ، فالطفيل بن عمرو الدَّوسي ، وأبو ذر الغفاري ، وهما من السابقين إلى الإسلام قاما بمهمة الدعوة بما معهما من أصل التوحيد وبعض ما نزل من القرآن ، وهدى الله بهما فئاماً من الناس ، ولم يصل أبو ذر الغفاري إلى المدينة ويلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ في العام السابع للهجرة وكان معه قبيلة أسلم ، وقبيلة غفار قدم بهما مسلمتين ، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ((بلغوا عني ولو آية)) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (الفتح)(6/572) وقال أيضاً :((نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلِّغها ، فربِّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه الترمذي في كتاب العلم ، باب : ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2658)(5/34).

ومع هذا البيان إلاّ أننا ندرك أن الداعية وقد تصدر للوعظ والإرشاد والتربية والتعليم مطالب بقدر من العلم والثقافة يعينه على مهمته ويؤهله لها وتلخيص المهم من ذلك يتركز في جانبين :-
الأول : الجانب الشرعي :
لا بد للداعية أن يعرف ((أن أولى العلوم وأفضلها علم الدين ، لأن الناس بمعرفته يرشدون وبجهله يضلون)) أدب الدنيا والدين (ص:44) ، وهنا لا بد أن تفرق بين ما يجب تعلُّمه ولا يسع أحداً أن يجهله ، وبين ما يكون تعلمه فرضاً كفائياً ، وقد قيل في بيان معنى كون العلم فريضة على كل مسلم أنه ((على كل أحد أن يتعلمه ما لا يسعه جهله من علم حاله ... وقال ابن المبارك : ((إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيءٍ من أمر دينه يسأل عنه حتى يعلمه)) الفقيه المتفقه (1/45) ثم أوضح الخطيب البغدادي ذلك فقال :(( فواجب على كل أحد طلب ما تلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه ، كل مسام بالغ عاقل من ذكر وأنثى حر وعبد تلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضاً ، فيجب على كل مسلم تعرف علم ذلك .
وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف ما يحل له وما يحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأموال فجميع هذا لا يسع أحداً جهله)) الفقيه المتفقه (1/46).

وأرى للداعية أن يكون عنده الحد الأدنى من العلوم الشرعية الأساسية وأقترح له ما يلي :
علم العقيدة الإسلامية :- أن يتعلم أصول العقيدة من كتاب معتمد مختصر على مذهب أهل السنة والجماعة ككتاب ((لمعة الاعتقاد)) لابن قدامة ، أو ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية ونحوها .
علم التفسير :- أن يطلع على تفسير موجز موثوق يشتمل على معاني الكلمات وأسباب النزول والمعنى الإجمالي ، ويفيد في ذلك بعض المصاحف المطبوع على هامشها أسباب النزول ومعاني الكلمات ، ثم يجعل له زاداً في دراسة متأنية لتفسير بعض السور والأجزاء المكية والمدنية من كتاب معتمد متوسط مثل ((تفسير ابن كثير)) .
علم الحديث :- أن يدرس كتاباً من كتب الحديث الجامعة المختصرة مثل ((مختصر صحيح البخاري)) أو ((مختصر صحيح مسلم)) ، ويمكن أن يطالع كتاباً من كتب الحديث العامة المصونة في جملتها من الأحاديث الضعيفة والمشتملة على أهم الأبواب التي يحتاج إليها في الإيمان والفضائل والآداب مثل كتاب ((رياض الصالحين)) ، ويحسن أن يطلع على بعض كتب الحديث المختصة بموضوعات معينة ففي أحاديث الأحكام ((بلوغ المرام)) وفي الأذكار ((أذكار النووي)) وفي الشمائل ((شمائل الترمذي)) ونحو ذلك .
علم الفقه :- أن يدرس مختصراً في فقه العبادات والمعاملات وقد يضيف ما يحتاجه من الأبواب على مذهب من المذاهب الأربعة المشتهرة .
علم السيرة والتاريخ :- أن يدرس مختصراً في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ((تهذيب سيرة ابن هشام)) ومن الكتب المعاصرة النافعة ((الرحيق المختوم)) للمباركفوري ، وأن يطالع على الأقل تاريخ الخلفاء الراشدين .
مفاتيح العلوم :- أن يدرس مختصراً في أصول الفقه مثل ((مختصر الأصول)) للشيخ ابن عثيمين أو ((أصول الفقه للمبتدئين)) للأشقر ، وكذلك يدرس مختصراً في علوم الحديث مثل ((تيسير مصطلح الحديث)) للطحان أو ((مختصر علوم الحديث)) لابن عثيمين ، وفي علوم القرآن ((مباحث علوم القرآن)) للقطان ، وفي أصول التفسير ((مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية))وذلك بحسب الطاقة.
علوم اللغة :- أن يدرس مختصراً في النحو ((كالآجرومية)) أو((ملحمة الإعراب)) ، وكذا في البلاغة والأدب يحتاج إلى دارسة موجزة في مثل كتاب ((البلاغة الواضحة)) لعلي الجرام (يمكن النظر في برامج ومناهج لعلم وثقافة الداعية في كتاب ((ثقافة الداعية)) للدكتور يوسف القرضاوي، و ((جند الله ثقافة وأخلاقاً)) لسعيد حوى ، و ((العلم فضله وطلبه)) لأمين الحاج أحمد محمد وغيرها).
وهذه العلوم الأساسية يحتاج الداعية فيها إلى إرشادات عامة أهمها :-
1- التدرج في كل علم من الأدنى إلى الأعلى ، ومن الأيسر إلى الأصعب ، وليَعلم ((أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها ، ومداخل تفضي إلى حقائقها ، فيبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها ، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها ، ولا يطلب الآخر قبل الأول ، ولا حقيقة قبل المدخل ، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة ، لأن البناء على غير أساس لا يبني ، والثمر من غير غرس لا يجني)) أدب الدنيا والدين (ص:55) .
وهذا ابن خلدون يوضح لك الطريق فيقول : ((اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً)) مقدمة ابن خلدون (ص:533) وأفاض في بيان ذلك بما فيه الوفاء.
وقال ابن شهاب الزهري المحدث الإمام : ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة ، ولكن الشي بعد الشيء مع الأيام والليالي)) جامع بيان العلم وفضله (ص:138) .
2- الحرص على التلقي عن الشيوخ كل في فنه وألاَّ يعتمد على الاطلاع المجرد وحده ، فهذه العلوم ليست كالصحف والمجلات يُكتفي فيها بالقراءة والاطلاع ، وكما قيل : ((من كان شيخه كتابه فخطؤه اكثر من صوابه)) وصدق الشاعر حيث يقول :
يظن الغمرُ أن الكتب تَهـدي أخـا جهل لإدراك العلـوم
ومـا علم الجهول بأن فيهـا مدارك قد تـدق عن الفهيم
ومن أخذ العلوم بغير شيـخ يضل عن الصراط المستقيـم
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفتـه من الفهـم السقيـم
وكتب السلف وتراجم العلماء مليئة بأسماء شيوخهم ، وسيرتهم مع من تلقوا عنهم ، وكتب أهل العلم طافحة بآداب الطالب مع شيخه مما يدل على بدهية ذلك عندهم .
وقال الشاطبي :((من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام)) الموفقات (1/9) وقد أفاض رحمة الله في تقرير ذلك وأفاد فليرجع إليه في موضعه .
3- الصبر والملازمة ، وترك الانتقال من علم إلى علم قبل تمامه ، ومن شيخ إلى شيخ قبل الاستفادة منه ، ومن كتاب إلى كتاب قبل إحكامه ، قال الزرنوجي :((ينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ ، وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن حتى لا يشغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول ،وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة فإن ذلك كله يفرق الأمور ويشغل القلب ويضيع الأوقات ويؤذي العلم)) تعليم المتعلم (ص:44).

الثاني : الثقافة الإسلامية :
إضافة لتحصيل العلوم الشرعية وآلاتها فإن الداعية يحتاج بشكل ملح إلى ثقافة الإسلامية العامة ، وكذلك الثقافة المعاصرة ، ولا شك ((أن حركة الداعية حركة واسعة ، وانتشاره كبير واتصالاته كثيرة وهو ولا شك يلتقي أنواعاً كثيرة من البشر كل له مزاجه وثقافته واطلاعه فلا بد للداعية أن يشبع هذه الثقافات ويلم بشيء منها حتى يشارك من يخاطبه كل حسب ثقافته كمدخل من مداخل الدعوة)) الدعوة قواعد وأصول (ص:71) .
ولا بد من الاعتراف بوجود الخلل في هذه الثقافة عند كثير من الدعاة ((فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع المعاصر ، فهناك جهل بالآخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين مع أن الآخرين يعرفون عنَّا كل شيء وقد كشفونا حتى النخاع ، بل هناك جهل بأنفسنا فنحن على اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا ولا نقاط الضعيف لدينا ، وكثيراً ما نضخم الشيء الهيّن ، وما نهون الشيء العظيم ، سواء في إمكانياتنا أم في عيوبنا)) أولويات الحركة الإسلامية (ص:21) .
ولهذا فلا بد من العناية بهذا الجانب وإعطاءه الأهمية اللازمة له ، وأسلط الضوء هنا على الموضوعات المهمة في هذا الجانب من خلال الآتي :
1- الثقافة العامة :
وأعني بها ما يتصل بإبراز محاسن الإسلام ، ومعرفة مقاصد الشريعة ، وتفنيد ورد مزاعم خصوم الإسلام وشبهاتهم ، وإظهار الكمال في أنظمة الإسلام الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، وبيان أنها ترعى جميع المصالح وتسد أبواب الفساد ، وأنها صالحة لكل زمان ومكان وأمثال هذه الموضوعات .
وهذه الثقافة يمكن تحصيل جزء جيد منها من خلال تحصيل العلم الشرعي سيما إذا توسع الداعية في طلبه وتحصيله ، ومع ذلك فهناك كتب جمعت مثل هذه المقاصد وهي كثيرة منها ((نحو ثقافة إسلامية أصيلة)) لعمر الأشقر ، و ((الخصائص العامة للإسلام)) للدكتور يوسف القرضاوي ، و ((المداخل إلى الثقافة الإسلامية)) لمحمد رشاد سالم ونحوها .
2- الثقافة المعاصرة :
وأعني بها عدداً من الجوانب منها :
أ‌- المذاهب الفكرية المعاصرة :- كالشيوعية والرأسمالية ، والقومية ، والبعثية ، والماسونية ونحوها والكتب فيها كثيرة ومن أوسعها كتاب ((المذاهب الفكرية المعاصرة)) لمحمد قطب ، ومن أجمعها مع الاختصار ((الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة)) من إصدارات الندوة العالمية للشباب الإسلامي .
ب‌- الواقع المعاصر :- من جهة الأعداء بدراسة الغزو الفكري ، والدور العلمي للصهيونية والماسونية ومخططاتهم وأسالبيهم ، والتنصير ومؤسساته وأدواره وهناك كتب نافعة في مثل هذه الموضوعات مثل((الغارة على العالم الإسلامي)) تأليف أ.ل . شاتليه ، وترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي ، وكتاب ((أفيقوا أيها المسلمون))لعبد الودود شلبي ، وكتاب ((بروتوكولات حكماء صهيون)) ترجمة خليفة التونسي ، و((أساليب الغزو الفكري)) للدكتور علي جريشة ومحمد شريف آل زيبق .
ومن جهة المسلمين بمعرفة أحوالهم ومتابعة أخبارهم وأوضاع أقلياتهم وهذا موفور في ((حاضر العالم الإسلامي ))للدكتور علي جريشة ، وكتب الأقليات وأحوال بلاد المسلمين .
وإذا توفر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان ذلك عوناً له في دعوته ورافداً من روافد نجاحه .

المبحث الثالث : رجاحة العقل وقوة الحجة :
للإيمان إشراقاته وآثاره ، وللعلم فاعليته ودوره ، ويبقى للذكاء والفطنة أهميتها التي لا تنكر ، وإيجابيتهما التي لا تخفي ، وتوفر الذهن الوقّاد والعقل السديد ميزة عظمى يتحلّى بها الداعية فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة ، بل عقل فطن يرجع إذا اختلفت الآراء ، ويحلل ويدلل إذا فقد الإدراك وغاب التصور ، ويتقن ترتيب الأولويات ، واختيار الأوقات ، وانتهاز الفرص والمناسبات ، ويحسن التخلص من المشكلات ، ويقوى على الرد على الشبهات ، والتكيف مع الأزمات .
وهناك أصناف من المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية لإثبات القضية ولعدم اكتفائهم بالأدلة الشرعية من هؤلاء :
1- الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة .
2- المعتدُّون بعقولهم المقدمين لها على النص النقلي .
3- المخدوعون بالشبهات .
4- المعاندون الذين يتّبعون الباطل تبعاً لمصالحهم ويسعون إلى إضلال غيرهم .
5- الواقعون تحت تأثير الأوضاع والأعراف الخاطئة حتى ألفوها ورأوها صواباً .
وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية واستحضار التفكر والتأمل .

وهذه جوانب من هذه الأساليب مع بعض الأمثلة عليها :-
(أ)أسلوب المقارنة :-
وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه ، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه ، وذلك باستشارة العقل للتفكر في كلا الأمرين وعاقبتهما للوصول – بعد المقارنة – إلى تفضيل الخير واتباعه ومن أمثلة ذلك :-
قال تعالى : أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون الأنعام [122].
قال ابن كثير في تفسيره : ((هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً ، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله ))تفسير ابن كثير (2/172) .
وقال تعالى :أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين التوبة [109] .
وقال القرطبي : ((وهذه الآية ضرب مثل لهم ، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها ، وفي هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقي ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه)) تفسير القرطبي (8/265) .
ومن الأمثلة النبوية التي تبين خيرات الصلاح والصالحين مع مقارنتها بويلات المعصية والعاصين ما يأتي :-
1- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) أخرجه مسلم ، في كتاب البر والصلة ، باب : استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (النووي)(6/ 178) .
قال النووي : ((وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة)) .
2- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ،باب :استحباب صلاة النافلة في بيته (النووي)(6/68) .
ولا يخفى ما في المقارنة بين الحي والميت من إقرار العقل وترجيحه ورغبته لما فيه الحياة ، وهو الذكر الذي به الحياة القلب .
(ب) أسلوب التقرير :-
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى الإقرار بالمطلوب الذي هو مضمون الدعوة :-
من الأمثلة القرآنية على ذلك :-
1- قال تعالى أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون ، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ، أم لهم سلَّم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ، أم له البنات ولكم البنون ، أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ، أم عندهم الغيب فهم يكتبون ، أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون ، أم لهم إله غير الله سبحان الله وتعالى عما يشركون الطور[35-43] . قال ابن كثير في تفسيره : ((هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم ، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً)) تفسير ابن كثير (4/244) .
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية لأن ((وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطلق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل ، أمّا أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه ، ولا يدَّعيه مخلوق ، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن وهي أنهم من خلق الله جميعاً )) في ظلال القرآن (6/3399)، والتعبير بالفطرة مقصوده الأمر المقرر بداهة في العقل .
وتأمل هذا الإلزام بالإقرار بربوبية الله وألوهيته فيما ذكره السعدي في تفسيره حيث قال : (( وهذا استدلال عليهم بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق أو الخروج عن موجب العقل والدين ، وبيان ذلك أنهم منكرون لتوحيد الله مكذبون لرسوله ذلك مُستَلزم لإنكارهم أن الله خلقهم وقد تقرر في العقل مع الشرع أنّ ذلك لا يخلو من ثلاثة أمور :- إما أنهم خُلقوا من غير شيء أي لا خالق خَلَقَهم ، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد وهذا عين المحال ، أم هم الخالقون لأنفسهم هذا أيضاً محال ، فإنه لا يتصور أن يوجد أحد نفسه ، فإذا بطل هذان الأمران وبان استحالتهما تعين القسم الثالث ، وهو أن الله هو الذي خلقهم ، وإذا تعين ذلك ، عُلمَ أن الله هو المعبود وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى)) تفسير السعدي (7/195-196) .
2- قال تعالى واتل عليهم نبأ إبراهيم ، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين ، قال هل يسمعونكم إذ تدعون ، أو ينفعونكم أو يضرون ، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدولي إلا رب العالمين ، الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين الشعراء [69-81 ] .
وهنا ستكون الإجابات بالنفي فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إنّ أصنامهم تسمع دعاءهم أو تجيب رجاءهم ، وهذا يؤدي إلى عدم جدوى هذه الأصنام وبالتالي الاستسلام العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي جاء في هذه الآيات وصف أفعاله سبحانه وتعالى .
ومن الأمثلة الحديثية :-
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستنكراً ومسترشداً : يا رسول الله ولد غلامٌ أسود ، فقال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال ما ألوانها ؟ قال : حُمر ، قال : هل فيها من أورق ؟ أورق :أي : أسمر- النهاية في غريب الحديث (5/175) قال : نعم ، قال :فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعه عرق ، قال : فلعل ابنك هذا نزعة عرق .أخرجه البخاري ، كتاب الطلاق ، باب إذا عرّض بنفي الولد (الفتح9/442).
فهذا الرجل جاء سائلاً مستفتياً عما وقع له من الريبة ، فلما ضرب له المثل أذعن ، وقال ابن العربي : ((فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظر)) فتح الباري (9/444).
2- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ((إن فتى من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أتأذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أدنه ، فدنا منه قريباً ، قال : فجلس ، قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال أتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله جعلني فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم قال : أتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالتهم ، قال فوضع يده عليه ، وقال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه ،وحصن فرجه ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)) المسند (5/257) .
فهذا الشاب قرَّره النبي صلى الله عليه وسلم في رفض هذا الفعل في صور شتى ثم توصل في آخر الأمر إلى رفض ونفي ما كان يطلب الإذن فيه من الزنا .
ومثل ذلك ما فعلته أم سليم زوجة أبي طلحة كما روى أنس بن مالك : ((اشتكى ابن لأبي طلحة ، قال فمات وأبو طلحة خارج . فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت .فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح . وظنّ أبو طلحة أنها صادقة . قال : فبات . فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات ، فصلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما)) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة ، (الفتح) (3/169).
(ج) أسلوب الإمرار والإبطال :-
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعاً للجدل والنزاع خلوصاً إلى حجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع.
ومن الأمثلة القرآنية :
1- قصة إبراهيم مع النمرود قال تعالى ألم تر إلى الذين حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين البقرة [258 ] .
نقل ابن كثير في تفسيره عن بعض السلف أن قول النمرود أنه يحي ويميت استَدل له بأن أتى برجلين استحقا القتل ، فأمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر ، ثم قال : ((والظاهر– والله أعلم – أنه ما أراد هذا لأنه ليس يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ، ويوهم أنه فاعل لذلك وأنه هو الذي يحي ويميت)) ثم قال : ((إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذراته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلهاً كما تدعي ، فأت بها من المغرب ، فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت : أي خرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة)) وبين أن المقام الأول كالمقدمة للمقام الثاني ، وهذا الأسلوب يثبت بطلان ما ادعاه النمرود في ادعائه الأول .تفسير ابن كثير (1/313).
وقد أحسن صاحب الظلال في توضيح هذا الأسلوب حيث قال ((عرَّف إبراهيم ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، ولا يمكن أن يزعمها أحد ... و هذا الملك يسأله عمن يدين له الربوبية ، ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره ،قال ربي الذي يحي ويميت فهو من ثم الذي يحكم ويشرع))، ثم قال تعليقاً على قوله تعالى أنا أحي وأميت: لم يرد إبراهيم عليه السلام أن يسترسل معه في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة ، حقيقة منح الحياة وسلبها ، هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً ، وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقة إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ، وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله ربي الذي يحي ويميت إلى طريقة التحدي ، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله)) الظلال (1/298).
وعلق بمثل قوله السعدي في تفسير فقال : ((فلما رآه الخليل مموهاً تمويهاً ربما راج على الهمج والرعاع قال إبراهيم ملزماً بتصديق قوله : إن كان كما يزعم فإن الله يأتي بالشمس .. الآية فأتى (أي إبراهيم) بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه)) تفسير السعدي (1/320).
2- قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، وهي نموذج مطول في هذا الأسلوب حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية وألوهية الله ، وذلك في الآيات من سورة الشعراء ، قال تعالى :قال فرعون وما رب العالمين ، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ، قال لمن حوله ألا تستمعون ، قال ربكم ورب آبائكم الأولين ، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ، قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين الشعراء [23-29] .
فهنا أعرض موسى عليه السلام عن تهكم فرعون ومضى إلى غايته مقيماً حجته مقرراً قضيته ، ثم غض الطرف عن تهمة الجنون الباطلة ولم يستغرق جهده في إبطالها بل مضى في تقوية أدلته ونصرة قضيته ، حتى أخذ فرعون وحوصر وفشلت حيلته ، وانقطعت تهكماته واتهاماته ، وأفحم بالحجج فلجأ إلى القوة وهي حيلة العاجز في ميدان المناظرة والاحتجاج ، وهذا دليل على أنه هزم وهذا الأسلوب دليل على كمال عقل موسى عليه السلام وحسن تقريره .
ولا شك أن الداعية مطالب بتفهم هذه الأساليب والإفادة منها ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة وسرعة البديهة .
وهذه أمثلة لأئمة ودعاة كانت لهم أقوال ومواقف تبين رجاحة عقولهم وقوة حجتهم .
المثال الأول :
يذكر عن أبي حنيفة أنه حاج قوماً من الملاحدة الدهريين فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك في العقل ؟ قالوا : لا ، هذه شيء لا يقبله العقل .
فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها وتباين أكنافها ، من غير صانع وحافظ ؟ فهبت القوم وأفحموا (أنظر درء تعارض العقل والنقل (3/127) .
المثال الثاني :
طلب الحجاج الحسنَ البصري ، فلما دخل عليه قال له الحسن : يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب ؟ قال : كثير ، قال فأين هم ؟ قال : ماتوا ، فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن (البداية النهاية (9/135).
وهذا المثل على وجازته فيه استخدام العقل بالتفكير والتأمل والوصول إلى النتيجة التي فيها العظة والعبرة .
المثال الثالث :
سأل بعض النصارى القاضي أبا بكر الباقلاني بحضرة ملكهم فقال : ما فعلت زوجة نبيكم ؟ وما كان من أمرها بما رميت من الإفك ؟ فقال الباقلاني على البديهة : هما امرأتان ذكرتا بسوء ، مريم و عائشة فبرأهما الله عز وجل وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد ، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج ‍‍‍‍‍! البداية والنهاية (9/135) .
فكان هذا الجواب في غاية الروعة والإفحام ، لأن ذلك الخبيث أراد التعريض والإحراج بقصة حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها ، فأجاب الباقلاني بأن هذه فرية برأها الله منها ولكنه قرن ذلك بذكر مريم ، ليشير إلى أن براءة عائشة عقلاً أولى ، لأنه لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم أعظم ، فإن قبلتهم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة عائشة من باب الأولى .
المثال الرابع :
ما ذكره مفتي الديار السعودية سابقاً العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم في مجموع فتاواه (مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ (1/75) عن الشيخ عبد الرحمن البكري حيث قال ((كنت بجوار مسجد في الهند ، وكان فيه مدرس إذا فرغ من تدريسه لعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وإذا خرج من المسجد مرَّ بي ، وقال : أنا أجيد العربية ولكن أحب أن أسمعها من أهلها ، ويشرب عندي ماء بارداً ، فأهمني ما يفعل في درسه قال : فاحتلت بأن دعوته ، وأخذت ((كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونزعت غلافه ووضعته على رف في منزلي قبل مجيئه ، فلما حضر قلت : أتأذن لي أن آتي ببطيخة . فذهبت فلما رجعت .. إذا هو يقرأ ويهز رأسه عجباً فقال : لمن هذا الكتاب ؟ هذه التراجم شبه تراجم البخاري هذا والله نفس البخاري !! فقلت لا أدري ! ثم قلت : ألا نذهب لشيخ الغزوي لنسأله – وكان صاحب مكتبة – فدخلنا عليه فقلت للشيخ الغزوي كان عندي أوراق سألني الشيخ من هي له ؟ فلم أعرف ! ففهم الغزوي المراد ، فنادى من يأتي بكتاب (مجموعة التوحيد) فأتي بها فقابل بينهما فقال : هذا لمحمد بن عبد الوهاب ، فقال العالم الهندي مغضباً وبصوت عال : الكافر ! فسكتنا وسكت قليلاً ، ثم هدأ غضبه فاسترجع ثم قال : إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه ، ثم صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه)) . فهذه فطنة داعية وذكاء عالم .

المبحث الرابع : رجاحة الصدر وسماحة النفس :-
إن الداعية الحق شخصية متميزة فهو كالمنارة الهادية من بُعد لمن ضل أو حار ، وهو كالظل الوارف لمن لفحه حر الشمس والمسير في الهجير ، وبالتالي فهو نقطة تجمُّع بالنسبة للمدعوين ، ولذا فإنه يحتاج إلى أن يتحلى برحابة الصدر وسماحة النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق ((فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء)) الظلال (1/500-501) .
وهكذا كان قلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس ، ((ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية ، ووسعهم حمله وبره وعطفه ووده الكريم ، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلاّ امتلأ قلبه بحبه ، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة والرحيبة)) في ظلال القرآن (1/500- 501) ، والنفس السمحة ليس فيها ضيق أو السماحة السهولة واللين . انظر القاموس المحيط (1/229) .
والناس مشاربهم شتى ، وسلوكياتهم متباينة ، واحتياجاتهم كثيرة ، واستفزازاتهم مثيرة ، وهذا لا بد أن يقابله الداعية بالاحتمال ، لأن الاحتمال – كما قيل – قبر المعايب .
هذه الخصيصة مهمة في تكوين الداعية ، يحتاج أن يجتهد في اكتسابها لأنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة القبول ، وتكبح جماح الانفعالات النفسية ذات الآثار السلبية ، وتتجلى هذه الخصيصة في عدد من الخلال توضحها وتبين أثرها ومن أهمها :
أولاً : الرحمة والشفقة :
((إن الداعي لا بد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس ، وإرادة الخير لهم والنصح لهم ، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام ، لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى فهو ذلك إليهم أيضاً)) أصول الدعوة (ص:344،343) .
وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس الحزن والأسى على حال المعرضين والعاصين ، ويتولد إثر ذلك قوة نفسية دافعة لاستنقاذهم من الخطر المحدق بهم ، والهلاك القادمين إليه ، وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفه عند الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا الكهف[6] وقوله تعالى لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين الشعراء [3] . تأمل هذه الآيات فإنه ((من فرط شفقته صلى الله عليه وسلم داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان ، فهوّن الله سبحانه عليه الحال ، بما يشبه العتاب في الظاهر كأنه قال له : لم كل هذا ؟ ليس في امتناعهم– في عدِّنا– أثر، ولا في الدين من ذلك ضرر)) لطائف الإشارات(1/377) .
وقال ابن القيم في تفسيره تفسير ابن كثير (3/72): يقول تعالى :فلعلك باخع ... مسلياًَ لرسول صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه)) .
فهذه نفس الرسول صلى الله عليه وسلم ملئت رحمة وشفقة على هؤلاء حتى كاد يُهلك نفسه وهو يدعوهم ويحرص على هدايتهم ، ثم يخالط مشاعره الحزن عليهم والأسى لهم .
إن الداعية ينظر إلى المدعوين نظرة الطبيب إلى مرضاه ، يرحمهم ويشفق عليهم لعلمه بدائهم وخطورته ، ويتلطف في علاجهم ، وإن رأى منهم عزوفاً عن الدواء لصعوبته أو مرارته هاله الأمر واحتال بكل الطرق لتوصيل الدواء ، وإقناعهم بضرورة تناوله ، ولا يمكن أن يتركهم وشأنهم بحجة أنهم المفرطون ، وهكذا فإن (( الداعي الرحيم لا يكفُّ عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة ، وأن إعراضهم بسبب جهلهم ، فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم)) أصول الدعوة (ص:344) .
فالرحمة – كما ترى – باعث دافع ومحرك للدعوة استنقاذاً للناس من الهلاك ، وهي في الوقت نفسه عامل استمرار وإصرار وتوسيع لدائرة الاستيعاب والتأثير رغم الصد والإعراض .
ولا ينبغي أن تفهم الرحمة على أنها لين وتهاون بل تأتي الرحمة أحياناً كثيرة في ثنايا الحزم وفي أعطاف الشدة التي تهدف لصالح المدعو ، كما قد يشتد الطبيب مع مريضه الذي لا يدرك خطورة مرضه وعظمة الخطر في ترك التداوي أو التقصير فيه ((فليست الرحمة حناناً لا عقل معه ، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام ، كلا إنها عاطفة ترعى هذه الحقوق جميعاً)) خلق المسلم (ص:207) .
وإن في سيرة المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم أعظم وأروع الأمثلة على الرحمة سيما في المواقف العصيبة التي بلغت فيها المعاناة أشد مراحلها التي تضغط بعنف على النفس لتشتد وتقسو ، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم ، ومع ذلك تبقي نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة كما حصل يوم رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أن ذهب إليها وفي قلبه أمل ، فلقي فيها أعظم مما كان يتصور من الإعراض فرجع كسير القلب ، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله جبريل ومعه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((بل أرجو أن يُخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً)) أخرجه البخاري ، في كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء (الفتح)(6/360) ، وفي صحيح مسلم كتاب الجهاد ، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (عبد الباقي) (3/1420) وانظر الرحيق المختوم (ص:150).
وفي يوم أحد عندما شجّ وجهه الشريف ، وكُسرت رباعيته ، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه (انظر الرحيق المختوم (ص:314) ، وبينما الدم يسيل على وجهه يقول عليه الصلاة والسلام : ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) وفي صحيح مسلم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول :(( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) أخرجه مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة أحد (عبد الباقي) (3/1417) ، ومن هنا جاء الوصف الرباني العظيم في ثنايا الآيات التي نزلت في غزوة أحد :فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك  آل عمران [159] .
((لقد أراد الله أن يمتنَّ على العالم برجل يمسح آلامه ، ويخفف أحزانه ، ويرثي لخطاياه ، ويستميت في هدايته ، ويأخذ يناصر الضعيف ، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ، ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنساناً سليم الفطرة لا يضري ولا يطغي فأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وسكب في قلبه من العالم والحلم ، وفي خلقه من الإيناس والبر ، وفي طبعه من السهولة والرفق ، وفي يده من السخاوة والندى ، ما جعله أزكى عباد الله رحمة ، وأوسعهم عاطفة ، وأرحبهم صدراً)) خلق المسلم (ص:204) .
نعم ((إن الرحمه كمال في الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها ، ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى ، هي كمال في الطبيعة ، لأن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة الحيوان ويسلبه أفضل ما فيه ، وهو العاطفة الحية النابضة بالحب والرأفة)) خلق المسلم (ص:203) .

ثانياً : الحلم والأناة :
في مسيرة الدعوة تمر بالداعية أحداث مثيرة ، وأفعال مستفزة ، والناس – باختلاف طبائعهم – تختلف مواقفهم إزاء المثيرات التي تعمل على دفعهم نحو الرعونة والطيش ، فمنهم من ((تستخفه التوافه فيستحمق على عجل ، ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقي على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه))خلق المسلم (ص: 106) .
والحلم ((فضيلة خلقية نافعة .. تقع في قمة عالية دونها منحدرات ، فهو أناة حكيمة بين التسرع والإهمال أو التواني ، وضبط للنفس بين الغضب وبلادة الطبع ، ورزانة بين الطيش وجمود الإحساس)) الأخلاق الإسلامية (2/325) .
والأناة عند الداعية إلى الله تعالى ((تسمح له بأن يُحكم أموره ، ويضع الأشياء في مواضعها ، بخلاف العجلة فإنها تعرضه للكثير من الأخطاء والإخفاق ، وتعرضه للتعثر والارتباك ، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق ، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرض لللتخلف والحرمان من تحقيق النتائج التي يرجوها)) الأخلاق الإسلامية (2/353) ، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم الأشج فقال : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة)) أخرجه مسلم ، في كتاب الإيمان ، باب : الأمر بالإيمان بالله ورسوله (عبد الباقي)(1/48) ، فرحابة الصدر وسعة النفس تقتضي عدم الانفعال المخرج عن حد الصواب والاعتدال ، وجمهور الدعوة قد يقع منهم ما يدفع إلى الغضب ، وكثيراً ما يتصرفون بدافع من العجلة والرغبة في الحصول على النتائج السريعة ، ومجاراة الداعية لهم في الحالتين خلل في مسلك الدعوة ، لأن المسايرة قد تؤدي إلى عواقب وخيمة ، وقد يكون أولئك العامة مندفعين إلى تلك العواقب بحمية عصبية وحماسة استفزازية ، ((لكن المصلحين العظماء لا ينتهون بمصائر العامة إلى هذا الختام الأليم ، إنهم يفيضون من أناتهم على ذوي النزق حتى يلجئوهم إلى الخير إلجاءً ، ويطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء)) خلق المسلم (ص:107) .
ومن أمثله من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أنس بن مالك حيث قال : جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء أهريق عليه (أخرجه البخاري ، كتاب الطهارة ، باب صب الماء على البول في المسجد (الفتح) (1/324) .
ومواقف أخرى كثيرة تبين حمله الذي لا يندفع فيه مع مقتضى الطبع ، ولا يمضي معه وفق أعراف الجاهلية وانتصاراتها المبنية على الحمية لأن ((الجاهلية التي عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم محوها كانت تقوم على ضربين من الجهالة ، جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم ، فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد ، وأما الأخرى فكف ظلمها يعتمد على كبح الهوى ومنح الفساد ، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل بجهل أشد .
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (خلق المسلم (ص:109) .

ثالثاً : العفو والصفح :
ومن مستلزمات الحلم الذي فيه كظم للغيظ وضبط للغضب ، ثم الأناة التي فيها تبصر بالأمور وتأن في التصرف ، مع الاستناد للرحمة بالجاهلين كل ذلك يثمر العفو والصفح لأن ((القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبداً إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والاضطغان)) خلق المسلم (ص:204).
ومادام الداعي المسلم ينظر إلى من يدعوهم نظرة الرحمة والشفقة عليهم فإنه يعفو ويصفح عنهم في حق نفسه ، قال تعالى :خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين الأعراف [199].
وإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنسبة لمن يدعوهم ويحتمل صدور الأذى منهم فإن عفو الداعي وصفحه عن أصحابه أوسع ، قال تعالى : فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر آل عمران [159] .
وعند ما وقعت حادثة الإفك ، كان وقعها على آل أبي بكر شديداً ، فلما نزلت البراءة حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة فأنزل الله في ذلك قوله تعالى : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم النور [22] .
والداعية الذي يهدف إلى استمالة القلوب وهدايتها لا يقسو لأن ((القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس لا يرتبط بمنطق ولا عدالة . إنها نزوة فاجرة تتشبع من الإساءة والإيذاء ، وتمتد مع الأثرة المجردة والهوى الأعمى))خلق المسلم (ص: 207) ، ومن أعظم مواقف العفو عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن المشركين يوم فتح مكة . الرحيق المختوم (ص:480، 481) .
وهكذا فإن رحابة الصدر وسماحة النفس تنتظم الرحمة التي تدعو إلى الحلم الذي يقود إلى العفو فيكون من وراء ذلك التأثير التلقائي لأن الإنسان يتأثر بالإحسان :ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم فصلت [34] .
وهذا أمر مشاهد حيث نرى أن من كان سمح النفس يستطيع (( أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له ، وثقة الناس به ، لأنه يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب ، والتغاضي عن السيئات والنقائص ، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه رقيقاً ليناً ، سمحاً هيناً ، يسر بالنصحية ، ولا يريد الفضيحة ، يسد الثغرات ولا ينشر الزلات والعثرات )) الأخلاق الإسلامية (2/443) .
وبعض الدعاة ممن لا يتحلون في أنفسهم بهذه السمة تجدهم يندفعون مع أدنى خطأ أو أقل عثرة ، وإذا بهم يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وكثيراً ما يواجهون الناس بالأحكام الدامغة الخطيرة من الفسق أو الابتداع أو التساهل ونحو ذلك ، وهؤلاء كثيراً ما يستزلهم الشيطان بهذه الحمية الزائفة التي لا تأتي في موضعها الصحيح ، والشيطان ينفخ في حميتهم بأن الحق أحق أن يتبع ، ويثير التساؤل أين الغيرة الإيمانية والحمية الإسلامية ؟ ليغطي على الأناة التي تنظر في عواقب الأمور والحلم الذي يضبط النفوس والرحمة التي تستميل القلوب ، بعض هؤلاء – وللأسف – يندفعون أحياناً خوفاً من أن يُتهموا بعدم الغيرة أو التميع والتساهل ، ولا يفهم من قولي أن كل فاعل لذلك مذموم ، ولا أن كل موقف يقتضي الحلم واللين فقد أشرت فيما سبق إلى ما ينقص هذا الفهم ولكني أنوه إلى صور في الواقع ناشئة من أفهام قاصرة وممارسات خاطئة .

الفصل الرابع : مقومات النجاح في ممارسة الدعوة:

في الفصل الماضي كان الحديث عن المقومات اللازم توفرها في شخصية الداعية وتكوينه الذاتي ، وهذا الفصل يركز على المقومات التي يحتاجها الداعية – وقد استكمل المقومات السابقة – أثناء ممارسته للدعوة وفي المواقف التي يمر بها .
المبحث الأول : المراعاة والتدرج :
إن تغيير النفوس ونقلها من ميولها ومألوفاتها أمر ليس سهلاً ، وإن الأعراف التي استقرت في العقول وتواطأ الناس عليها لا تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجَّه ، والعادات في السلوكيات التي تجذرت وترسخت لا يتصور اقتلاعها في يوم وليلة ولذا فلا بد من إدراك حقيقة مهمة للدعاة وهي أن المراعاة والتدرج لازمان للتغيير وحصول الاستجابة ، وكما قيل : ((إذا أردت أن تطالع فأمر بما يستطاع)) ، وهناك أمور كثيرة يلزم مراعاتها والأخذ بالتدرج فيها وهذه خلاصة نافعة في هذا الباب :-
أولاً : مراعاة الطبائع
إن الناس يختلف بعضهم عن بعض ، في علمهم وفهمهم وطبائعهم الشخصية وعوائدهم الاجتماعية ، وكل ذلك يحتاج الداعية إلى مراعاته ، وبالنسبة لطبائع الأشخاص فإن المدعوين على ثلاثة أنواع :
1- فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل قليل البصيرة فيحتاج على دعوته بالحكمة .
2- ومنهم المعرض عن الحق المشتغل بغيره فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب التنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة ، وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد .
3- الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة (مجموع فتاوى ابن باز(2/241-243)
ومن الناس من طبعه الحدة وسرعة الانفعال ، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال وكل له مدخل وأسلوب يناسبه ومراعاة ذلك مهمة في نجاح الداعية .
ثانياً : مراعاة الأفهام :
تفاوت الأفهام أمر معروف، وله أسبابه من قلة العلم أو اختلاف البيئة، أو استحكام العوائد ونحو ذلك .
قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى : أي ((ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله)) تفسير ابن كثير (4/500) ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ((يا عائشة لو لا أن قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير : بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين ، باب يدخل الناس وباب يخرجون)) أخرجه البخاري ، في كتاب العلم ، باب ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس (الفتح)(1/223) ، قال ابن حجر في الفتح : ((ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه ، وأنّ الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرّماً)) الفتح لابن حجر(1/225).
وروى الإمام البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا ، عن علي بن أبي طالب قال : حدِّثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ؟ صحيح البخاري ، كتاب العلم . وروى مسلم ابن مسعود : ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) أخرجه مسلم في المقدمة ، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/11) .
قال ابن حجر : ((ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي في ظاهرها الخروج على السُّلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب .
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم)) فتح الباري (1/225) .
ولذا ينبغي للداعية مراعاة ذلك وعدم مخالفته سيما بالنسبة للعوام ، ومن تقصر بهم الأفهام ، وقد عدَّ الشاطبي في الاعتصام هذا التجاوز ضرباً من الابتداع فقال : ((ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه ، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها ، وسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها- وهو الغالب- وهي فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق ، والعمل بالباطل ، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم)) الاعتصام (2/13).
وأوضح ذلك أيضاً في موافقاته ومثل له بأمثلة من إنكار الصحابة لذلك فقال : ((ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات ، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت : لم تقضي الحائض الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها : أحرورية أنت ؟ ، وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغاً لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالاً وفتنة وإن كان صحيحاً)) الموفقات (4/191) .
وهذه كلمات للشاطبي أضعها أمام عين كل داعية وأهتف بها في سمعه ليعلم أنه ((ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره إن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم : فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص)) الموفقات (4/189) .
وأزيد الأمر وضوحاً بذكر القاعدة الضابطة الرائعة التي ذكرها الشاطبي وأرشد إليها مخاطباً كل عالم وداعية حيث أوصاه أن يعرض مسألته على الشريعة فقال : ((فإن صحت في ميزانها فانظر في ماَلها بالنسبة إلى حال الزمن وأهله ، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة ، فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على المصلحة الشرعية والعقلية))الموفقات (4/191) .

ثالثاً : مراعاة المقاصد والنيات :
قد يتفق اثنان في عمل ما ومع ذلك يختلف الحكم عليهما باختلاف النوايا ، فهناك من يفعل الفعل ناسياً ، أو جاهلاً بحرمته ، أو متأولاً فيه ، أو مكرها عليه ولكلٍ حكمه ومنهم من يفعل الإثم قاصداً عالماً بالحرمة لكنه مغلوب بضعف عزمه ، ووسوسة شيطانه فلا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر ، ومنهم قاصد مصرّ ، وآخر محادٌّ الله ورسوله وهكذا ، ونحن نعلم أن النوايا مخفية في طوايا القلوب ، ولكن بعض القرائن والأحوال تدل عليها ، وقد تصرح بها الألسنه فتعرف بوضوح .
وفي المسائل الفقهية ما يوضح هذا المعنى سيما في أحكام الطلاق والأيمان والنذور إذ يسأل أصحابها عن مقاصدهم وما نووا بكلامهم ، ويعول في الحكم على نواياهم ويوكل أصحابها في صدقهم إلى تدينهم لله ، وما يعرف عنهم من قرآئن وأحوال ولنا الظواهر . ومراعاة مثل هذا من الأمور التي لا ينبغي إهمالها كما قال ابن القيم : ((إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه)). ومن أبز الأمثلة على اعتبار النيات حديث التائب الذي قال ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) أخطأ من شدة الفرح (أخرجه مسلم ، في كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها (عبد الباقي)(4/2103) فلم يؤاخذ بذلك ، ومثله حديث مسلم في قصة الرجل الذي أوصى أن يحرق ويذرّ رماده في البر والبحر خشية من عذاب الله ، فغفر الله له لهذا المقصد الذي استولى على قلبه (أخرجه مسلم ، في كتاب التوبة ، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (عبد الباقي)(4/2109) .
رابعاً : مراعاة الأحوال الخاصة :
سئل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية والنصيحة من بعض أصحابه فقال لأحدهم : ((لا تغضب)) أخرجه البخاري ، في كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب (الفتح)(10/535) ، وقال لآخر : ((قل آمنت بالله ثم استقم)) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب جامع أوصاف الإسلام (عبد الباقي)(1/65) ،وقال للثالث : ((لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب ما جاء في فضل الذكر (شاكر) (5/427) وما ذلك الاختلاف في الجواب إلا مراعاة منه صلى الله عليه وسلم للأحوال الخاصة بالسائلين إذ كان يعلم حاجة كل واحد منهم والجانب القاصر عنده ، والأمر اللائق به ، فأوصى كل واحد بما يناسبه .
وجاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ((أقبل وأنا صائم ؟ قال : لا ، فجاء شيخ فقال : أقبّل وأنا صائم ؟ فقال : نعم ، فنظر الصحابة بعضهم إلى بعض (أي متعجبين من اختلاف الفتوى) فقال صلى الله عليه وسلم : قد علمت نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه)) مسند الإمام أحمد (2/185) ، وهذا واضح الدلالة في التفريق بين حال الشيخ وحال الشاب ومراعاة ذلك في الفتوى والمعاملة والتوجيه .
خامساً : مراعاة الأعراف والعوائد العامة :
إن كل بلد لها أعرافها وكل بيئة لها عوائدها ، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية ، من ضروب الحكمة وموافقة جوهر الشريعة ، وقد امتن الله على البشر بإرسال الرسل وخص بالمنة كون الرسل من البشر وامتن على الأقوام بأن جعل الرسل منهم وينطقون بألسنتهم ، فقال تعالى :وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهمإبراهيم [4] فهذا ((من لطفه تعالى بخلقه أن يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به)) تفسير ابن كثير(2/522) ، ولذا ينبغي لداعية التنبه بذلك ، الحرص على معرفة الأعراف والعوائد في البيئة التي يدعو إليها لتكون دعوته مؤثرة في النفوس ، مقنعة للعقول ، محببة للقلوب ، مناسبة للظروف ، قابلة للتطبيق فإذا جاء في بيئة يغلب عليها الفقر ويشيع فيها الكسل فإن المطالبة بالزهد في الدنيا والترفع عن شهواتها غير مناسب للبيئة وأحوال الناس ، وإذا دعا قوماً فاضت الأموال في أيديهم وشغلت الدنيا أوقاتهم فالحديث عن ضرورة التمتع بالمباح من الدنيا والحث على ذلك غير ملائم كذلك ، كما لا ينبغي أن يطول الحديث في الإنكار على أمور لا وجود لها في بيئة الدعوة إذ لا نفع في ذلك ، بل ربما ترتب عليه ضرر من حصول تشويش واضطراب أو حصول تطلع وافتتان بتلك الأمور .
قال ابن القيم في إعلام الموقعين منبهاً على هذا الموضوع : ((ولا تَجمد على المنقول في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك)) إعلام الموقعين (3/78) ، ثم بين أثر ذلك وضرره فقال ك ((ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم)) إعلام الموقعين (3/78) .
وضرب ابن تيمية لذلك مثالاً علمياً فقال : ((ولو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم (أي الكفار) في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين ، والاطلاع على باطن أمرهم أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة)) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص: 173) .
سادساً : مراعاة الأولويات :
المراد بمراعاة الأولويات معرفة مراتب الأعمال ووضعها في مواضعها ، فإن المنهج الإسلامي قد جعل لكل عمل قدراً ، فإماطة الأذى وإن كانت من الإيمان فإنها في الرتبة الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم : ((الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) " ولا إله إلا الله " يقاتل لأجلها كما أخبر الرسول الكريم ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) وإماطة الأذى لا يمكن أن تكون سبباً لقتال بل هي دون ذلك بكثير ويكفي فيها نصح ووعظ ، ولا يمكن المساواة بينهما ، في الدعوة إليهما والبذل في سبيل تحقيقهما .
وهذا ظاهر في بيان تفاوت عدد من الأعمال فيما تضمنه قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون التوبة [19_20] .
ولا بد للداعي أن يعلم أن الأصول لا بد أن تقدم على الفروع ، والفروض تقدم على النوافل ، وفروض الأعيان مقدمة على فروض الكفايات ،وفروض الكفايات التي فيها عجز ظاهر أولى من التي انتدب لها غيره من المسلمين.
وللشيطان أرب في هذا الجانب لدى الدعاة فهو في معركة المراغمة يبدأ بالكفر فإن عجز فإلى البدعة ، فإن لم يفلح فإلى كبائر الذنوب ، فإن فشل فإلى صغائرها ، فإن لم يتمكن فإلى الاستكثار من المباح فإن ((تملص الداعية وسلَّ نفسه لم يكن استعلاؤه على الراحة والرغد كافياً لحصار الشيطان في زاوية اليأس ، بل للشيطان محاولة سادسة فيكون له التفاف واقتحام من ثغرة أخرى ، فينثر ترتيب قائمة الأولويات النسبية ، بعكس القواعد الشريعة في تفاضل الأعمال الإيمانية ويلهي المؤمن بالمفضول المرجوح ، فيقضي من له علم نافع عن جمهور المنتفعين منه ، يشغله بزيادة ركوع أو سجود ، هما جليلان ، لكن التعليم أوجب عليه بعد الفرض منهما ، وينقل آخر له وفرة قوة وبسطة في الجسم والذكاء وخبرة في السياسة والإدارة ، من تفاعله المنتج مع يوميات الخطة الجماعية ،ومن صولاته في ساحة الفكر إلى إشراف على بناء مدرسة أو إغاثة منكوب)) المسار (ص:19).
من المعلوم أن هناك مقاصد ضرورية مقدمة ، ومقاصد حاجية تأتي بعدها ، وهناك أيضاً مقاصد تحسينية تأتي في المرتبة الأخيرة ، ولا بد من مراعاة ذلك ومعرفة أن ((المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية)) الموفقات (2/17) ، ((وأن الضروري هو الأصل وأن ما سواه مبنى عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه ، ويلزم باختلاله اختلال الباقين لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر ، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه فإن ذلك من أوصاف القصاص ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصف)) الموفقات (2/18) .
والعقيدة هي أساس والشريعة هي البناء ، ولا بناء من غير أساس ولا عمل من غير توحيد وإخلاص وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثوراً الفرقان [23] ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك الزمر [65] ، وسائر الرسل والأنبياء كانت الدعوة إلى التوحيد عندهم هي أولى الأولويات وأهم المهمات وكلهم كان نداؤهم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هود [50] ، ومن منطلق العقيدة الإيمان سعوا إلى علاج الانحرافات الواقعة في مجتمعاتهم كلٌ بحسبه ، فموسى عليه السلام عالج الطغيان السياسي الفرعوني وما ترتب عليه من إذلال الناس واستعبادهم على أساس الإيمان ، ولوط عليه السلام عالج الانحراف الخلقي والشذوذ الجنسي في قومه ، وهكذا سائر الرسل والأنبياء .
والمصطفى صلى الله عليه وسلم بدأ بالإيمان والتوحيد ثم شرعت الشرائع وفرضت الفرائض ((والدعاة عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره بادئين بالأهم فالمهم ولكن إذا كان المجتمع مسلماً ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره)) بل يجب ذلك عليه ((لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله ، وتطهير أخلاقه مما يضر بالمجتمع ويضعف إيمانه ولا مانع من البدء بعض الأوقات بغير الأهم إذ لم يتيسر الكلام في الأهم ولا مانع أيضاً من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم إن رأى المصلحة في ذلك أو خاف إن هو اشتغل بهما جميعاً أن يخفق فيهما جميعاً)) مجموع فتاوى ابن باز (1/325) .
وهذا الأمر ينبغي أن يفهم فهماً صحيحاً ، وأن يطبق تطبيقاً سليماً من غير إفراط ولا تفريط ، فالمراد بالبدء بالعقيدة التركيز على أصولها وأركانها وهو ما يجب على المكلف اعتقاده ، إذ يجب عليه ((أن يؤمن بالله ورسوله ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وما أمر به الرسول ونهى ، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به فلا بد من تصديقه والانقياد له فيما أمر ، وأما التفصيل فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به وأمر به ، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ولم يمكنه العلم بذلك فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلاً وهو داخل في إقراره بالمجمل العام ، ثم إن قال بخلاف ذلك متأولاً كان مخطئاً يغفر له خطؤه ، إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان ، ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة ، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل)) مجموع فتاوى ابن تيمية (3/327-328) ، بالتالي فإن الداعية إذا علَّم الناس أصول الإيمان على الإجمال أو وجدهم بها عالمين كان الأولى به أن يركز لهم على مقتضيات الإيمان وآثاره وربط ذلك بواقع حياتهم ، وهذا أجدى وأنفع من المضي بهم إلى مزيد من المسائل والفروع التي لا يحتاجها إلا طلبة العلم بل ربما المتخصصين منهم.
سابعاً : مراعاة المصالح والمفاسد
وهذا الأمر في غاية الأهمية وذلك لأن ((الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ،وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل )) إعلام الموقعين (3/3) ، وهذا مبحث دقيق ينبغي في البداية التنبه إلى أن المراد بالمصالح والمفاسد ما كانت كذلك في حكم الشرع لا ما كان ملائماً أو منافراً للطبع ولا يكون تقريرها وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية (الموفقات (2/37-40) ثم النظر في تقرير المصالح والمفاسد وتقريرها والترجيح بينها يحتاج إلى تقوى لله صادقة ، بصيرة علمية نافذة ، ومعرفة بالواقع واسعة ، ليتمكن الداعية من تحقيق مقصود الشريعة التي ((جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/48) ، والدقة في هذا المبحث تكمن في أن المعروف قد يترك فعله والحض عليه ، والمنكر قد يترك النهي عنه والإنكار عليه ، بل قد يُدعى إلى ترك بعض أفعال الخير ، ويقصد إلى فعل بعض المنكر وكل ذلك باعتبار تحقيق المصلحة ودفع المفسدة ، فعند تحقيق أعظم المصلحتين تفوت أدناهما وهي من المعروف المطلوب فعله ، وعند درء أكبر المفسدتين يُرتكب أخفهما وهي المنكر المطلوب تركه ، والخلاصة أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها ، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصَّل إلا بها ، والحسنة تترك في موضعين ، إذا كانت مفوَّتة لما هو أحسن منها ، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها عن منفعة الحسنة)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/53) .
وفقه المسألة يزيل ما قد يعلق في العقول من عجب أوشك وبيانه أنه ((إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أو كدهما ، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً ، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة ، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة)) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/57) .
وهذه أمثلة عملية في هذا الباب أسوقها من كلام العلماء :
المثال الأول : يقول ابن تيمية : ((فمن كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة ، مثل أن يصوم صوماً يضعفه عن الكسب الواجب أو تمنعه عن العقل أو الفهم الواجب أو يمنعه عن الجهاد الواجب ... وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها وأوقعته في مكروهات فإنها مكروهة وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة ، وهذا يسرد الصوم وهذا يجتنب النساء فنهاهم الله عن تحريم الطيبات من أكل اللحم والنساء)) مجموع فتاوى ابن تيمية (25/272-273) .
المثال الثاني : يقول ابن باز : ((أما إذا كان هجر الشخص قد يترتب عليه ما هو من فعله لأنه ذو شأن في الدولة أو ذو شأن في قبيلته ، فيترك هجره ويعامل بالتي هي أحسن ويرفق حتى لا يترتب على هجره ما هو شر من منكره وما هو أقبح من عمله والدليل على ذلك : أنه صلى الله عليه وسلم لم يعامل رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول بمثل ما عامل به الثلاثة وهم : كعب وصاحباه ، بل تلطف به ولم يهجره لأنه رئيس قومه ويخشى من سجنه وهجره فتنة للجماعة في المدينة ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفق به حتى مات على نفاقه نسأل الله العافية)) مجموع فتاوى ابن باز (4/235) .
المثال الثالث : قال العز بن عبد السلام : ((الكذب سيئة محرمة إلا أن يكون لجلب مصلحة أو دفع مفسدة كالكذب في حالة الإصلاح بين المتخاصمين لأن مصلحة تأليف القلوب أحسن من مفسدة الكذب، وككذب الرجل على زوجته لإصلاحها وحسن عشرتها ، وكالكذب على الأعداء كأن يختبئ عندك رجل مظلوم والظالم يسألك عنه ، حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع فما الظن بالصدق الضار)) قواعد الأحكام في مصلحة الأنام للعز بن عبد السلام (ص:84).
ثامناً مراعاة الأوقات :
والمقصود بمراعاة الوقت تخير الوقت الملائم للدعوة من حيث فراغ المدعوين واستعدادهم للتلقي ، وكذا المراعاة لأوقات المواعظ والدروس ، ومناسبة طول وقتها لأحول الناس ، ويندرج تحت ذلك مراعاة استعداد المدعو وبلوغه المرحلة التي يكون فيها الوقت مناسباً لتفاعله واستجابته .
وشاهد الضرب الأول ما روي عن ابن مسعود : ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)) أخرجه البخاري ، في كتاب العلم ، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا (الفتح) (1/161) قال ابن حجر معلقاً :ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد والعمل الصالح خشية الإملال ، وإن كانت المواظبة مطلوبة ولكنها على قسمين إما كل يوم مع عدم التكلف ، وإما يوماً بعد يوم ، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط ، وإما يوماً في الجمعة ، ويتخلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط (فتح الباري (1/163) ، وعن ابن عباس مثال آخر أشمل وأظهر إذ روي عنه أنه قال : حدث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ولا تملَّ الناس هذا القرآن ، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه (شرح السنة (1/314) .
وأما الضرب الثاني فيشهد له قول ابن مسعود : ((حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم)) ، فسئل عن علامة انصراف القلوب فقال : ((إذا التفت بعضهم إلى بعض ، ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم)) شرح السنة (1/313) ، ويضاف إليه ما روي عن عائشة أنها قالت لقاص أهل مكة عبيد بن عمير : ألم أحدَّث أنك تجلس ويُجلس إليك ؟ قال : بلى يا أم المؤمنين ، قالت : فإياك وإملال الناس وتقنيطهم (شرح السنة(1/314) وإملال الناس يكون بإطالة الحديث في كثير من الأحوال .
وأما الضرب الثالث فمثاله ما رواه البخاري ((عن حكم بن حزام رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع ، اليد العليا
خير من اليد السفلى)) أخرجه البخاري ، في كتاب الزكاة ،باب الاستعفاف عن المسألة (الفتح)(3/393) ، قال ابن حجر ((وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء في حاجته لتقع موعظته له الموقع)) فتح الباري (3/ 395) .
وهكذا نرى أمر المراعاة متشعباً ومهماً ، والحقيقة أن المراعاة ضرب من التدرج لأن المراعاة كثيراً ما تقتضي ترك أمر لعدم ملائمته إما للطبع أو الفهم أو الحال أو غير ذلك والاستعاضة عنه بغيره حتى يكون ممهداً لعرض الأمر المتروك فيأتي في وقته المناسب فمثلاً ((إذا كان الحكم مستغرباً جداً مما لم تألفه النفوس وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قلبه ما يكون مؤذناً به كالدليل عليه ، والمقدمة بين يديه ، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة عيسى عليه السلام وولادته من غير أب ، فإن النفوس لما أنست لولد من بين شخصين كبيرين لا يولد لهما عادة ، سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب)) إعلام الموقعين (4/163) .
وهذه أمثلة رويت عن عمر بن عبد العزيز في مراعاته لأحوال الأمة فيما سبقه من الزمن وحرصه على التدرج في الإصلاح .
1- حكي ((أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – قال يوماً لأبيه عمر : مالك لا تُنفذ الأمور ؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق !! قال عمر : لا تَعجَل يا بني ، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة)) الموفقات (2/93-94) .
2- قال له ابنه ذات يوم ((يا أبت : ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل ؟ فو الله ما كنت أبالي لو غَلت بي وبك القدور في ذلك .
قال : يا بني ، إنِّي إنما أروِّض الناس رياضة الصعب ، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا من هذا ، ويسكنوا لهذا ))
3- روي أن ابنه دخل عليه فقال يا أمي المؤمنين : ما أنت قائل لربك غداً ، إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها ، أو سنة فلم تُحيها ؟ فقال أبوه : رحمك الله وجزاك من ولد خيراً يا بني ، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عُقدة عقدة ، وعروة وعروة ، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء ، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم ، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا هو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة ؟ تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص:240) وغني عن التنبيه أن التدرج يمكن أن يكون تهاوناً وتفريطاً وأن المراعاة لا يصح أن تكون مداهنة ونفاقاً .

المبحث الثاني : الجرأة والحكمة :
((الجرأة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن من الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد الذي يعتقده ، ومن الحق الذي يعتنقه ، ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به ، ومن القدر الذي يستسلم إليه ، ومن المسئولية التي يستشعر بها ، ومن التربية الإسلامية التي نشَّئ عليها .
وعلى قدر نصيب المؤمن من الإيمان بالله الذي لا يُغلب ، وبالحق الذي لا يُخذل ، وبالقدر الذي لا يتحول وبالمسئولية التي لا تكلّ ، وبالتربية التكوينية التي لا تمل ، وبقدر هذا كله يكون نصيبه من الجرأة والشجاعة وإعلان كلمة الحق التي لا تخشى في الله لومة لائم)) صفات الداعية النفسية (ص:23) .
والجرأة للداعية أمر مهم في زيادته وقيادته ، وفي تأثيره ومنفعته ، لأن الناس يتأثرون بالجريء المقدام ، لأنهم في الملمات يحجمون وتتقدم بالداعية جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التصرف فإذا هو المقدم الذي تشخص إليه الأبصار ، ويتعلق به القلوب .
فالجرأة سمه تقدم للداعية تنبئ عن قوة في القلب ، وعزيمة في النفس ، وصدق في المواقف ، وشموخ بالمنهج ، فعندما تنخلع القلوب هلعاً يبقى الداعية الجريء ساكن القلب رابط الجأش ، وعندما تخرس الألسن خوفاً تَنطق الجرأة على لسانه فيجهر بالحق لئلا تنطمس معالمه ، وعندما تحار العقول من هول المفاجآت أو صدمة الكوارث تعمل الجرأة عملها فإذا العقل حاضر ، والتفكير صادر ، ونحن في أعصر رق فيها الدين ، وكثر التساهل في الأوامر والنواهي ، وترخص كثيرون في الرضى بالمنكرات ، واستحيا آخرون من إظهار العمل بالصالحات ، حتى غدا المنكر معروفاً والمعروف منكراً في كثير من الأحوال ، وتدور دورة الحياة بمشاغلها ، وتبهر العقول بمفاتنها ، وتخطف الأبصار ببهارجها ، فتستقر الأوضاع الخاطئة وتستمر المنكرات الظاهرة وما ذلك إلا لقلة أهل الجرأة والشجاعة الذين يتقدمون لرفع راية الحق فيلتف حولهم آخرون ويكونون بؤرة تجمع ترفض الذوبان ، وتستعصي على التهجين ، إن لهذه الجرأة والشجاعة زاد من اليقين بـ(( أن حق الله لا بد أن يسود ، وأن هداه لا بد أن يعلو ، وأن نهجه لا بد أن تتضح معالمه وترسو دعائمه ، وأن المنتسبين إليه ما ينبغي أن تخفت أصواتهم ، ولا أن يغلبوا على تعاليمهم)) مع الله (ص:210) .
والحق أن ((الأمة جمعاء مكلفة أن تكون شجاعة في حماية الدين ، ورد العادين على حدوده من المجَّان والفجار)) مع الله (ص:210) وهذا هو وصف الصفوة المختارة لحمل الرسالة في كل عصر يتلفت فيه الناس من المسئولية ، ويتخلون عن التبعية يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم المائدة [54] ، وعلى هذا بايع النفر الأوائل من الأنصار في بيعة العقبة كما قال عبادة بن الصامت : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ( أخرجه البخاري في كتاب الفتن ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أموراً تنكرونها (الفتح)(13/7) ، ولهذا أيضاً كان ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي (4244)(4/514) وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن ، باب ما جاء في أفضل الجهاد(شاكر)(4/471) .
وليست الجرأة تهوراً كما أن الحكمة ليست جنباً ، والمزج بينهما هو المطلوب الذي ينبغي اتصاف الداعية به في معاملته للآخرين وفي المواقف العصيبة ، وعدم وجود الجرأة والشجاعة يستلزم وجود ضدهما وهو الجبن والذلَّة اللذان لا يليقان بالداعية بحال لأنه ((إذا لم يكن الداعية المسلم شجاعاً مطيقاً لأعباء الرسالة ، سريعاً إلى تلبية ندائها ، جريئاً على المبطلين ، مغواراً في ساحاتهم فخير له أن ينسحب من هذا المجال وألاَّ يفضح الإسلام بتكلف ما لا يحسن من شئونه)) مع الله (ص:211) .
والجرأة تنبعث من اجتماع خلقين عظيمتين :-
أولهما : امتلاك الإنسان لنفسه وانطلاقه من قيود الرهبة والرغبة ، وارتضاؤه لوناً من الحياة بعيداً عن ذل الطمع وشهوة التنعم .
وثانيهما : إيثار ما عند الله والاعتزاز بالعمل له ، وترجيح جنابه على جبروت الجبارين ، وعلى أعطيات المغدقين ( مع الله (ص: 215-217) .
ولقد كان الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت ، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم ، قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: ((لم تراعوا ، لم تراعوا)) ، وهو على فرس لأبي طلحة عُري ما عليه سرج في عنقه سيف)) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (الفتح) (10/455) ، وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم (النووي)(15/67) وقد ترجم البخاري لهذا الحديث في بعض الأبواب فقال باب مبادرة الإمام عند الفزع (6/122) وقال النووي : فيه بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس (15 /68) .
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام في سائر الغزوات ففي يوم بدر يقول علي رضي الله عنه : ((لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)) أخرجه الحاكم في المستدرك(2/143) وصححه ووافقه الذهبي .
ويوم أحد انكشف المسلمون واضطربت صفوفهم فكان صلى الله عليه وسلم هو الثابت حتى اجتمعت حوله كوكبة الفداء الإيمانية .
ويوم حنين كان يقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وثبت حتى فاء الناس إليه وجاهدوا معه فكان النصر .
وفي غير المعارك كانت الجرأة في الحق سمة بارزة في حياته صلى الله عليه وسلم بل كانت حياته عملياً في تلقين الجرأة لتأخذ مسارها متجاوزة حواجز الحياء والمجاملة ، كما تجاوزت حواجز الخوف والجبن ، فها هي عائشة تقصُّ علينا خبر المرأة المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح فأهم قريش أمرها ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كلمه تلون وجهه عليه الصلاة والسلام وقال : أتشفع في حد من حدود الله ، فعرف أسامة الغضب في وجهه ، وأدرك خطأ فعله فقال : استغفر لي يا رسول الله ، ثم قام فخطب الناس فكان مما قال : ((إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (الفتح)(12/87) وقال ابن حجر في الفتح (12/96) وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولداً أو قريباً أو كبير القدر ، والشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه .
وأرى أن من المناسب أن نمضي في جولة نقف خلالها على مواقف جرأة وقعت من بعض أعيان الأمة وعلمائها ودعاتها ، لنرى آثار تلك المواقف ومنافعها ، وأهميتها في نجاح الداعية المقدام الجريء ، وهذه أمثلة من عصور مختلفة وفي ظروف متباينة:-
1- كانت المصيبة عظيمة ، والرزية فادحة ، بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصيب الصحابة الذين تعلقت قلوبهم به محبة ، وارتبطت حياتهم به قدوة بخطب جلل طاشت منه العقول ، وانخلعت القلوب ، واضطربت النفوس ، حتى أنكر الأشداء من أمثال عمر بن الخطاب موته عليه الصلاة والسلام ، ثم جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقرب المقربين ، وأحب الأحباء ، رفيق الغار والهجرة ، وسابق الإيمان والصحبة ، فكانت المصيبة عليه أعظم لكنها لم تنل حظها الوافر من قوة إيمانه ورباطة جأشه ، وفي ذلك الظرف العصيب ، والحيرة تشغل العقول ، والحزن يعتصر القلوب ، قام أبو بكر في جرأة نادرة وصاح بالناس : ((من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)) ، ثم تلا قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون وقوله جل وعلا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ، ((فثاب الناس إلى رشدهم ، وعلموا حقيقة أمرهم)) البداية والنهاية (5/241) .
2- جاء أشراف بني أمية عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى الخلافة رجاء أن ينالوا منه الحظوة ، ويحصلوا على الولايات والأعطيات فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد ، فقال له رجل منهم : لم تعرض علينا ما لا تفعله ؟ قال : ترون بساطي هذا ؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى ، وأني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم فكيف أوليكم ديني ؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم ؟ هيهات هيهات ، فقالوا : لم ؟ أما لنا قرابة ؟ أما لنا حق ؟ قال : ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء ، إلا رجل حبسته عني طول الشقة ( نزهة الفضلاء (1/477-478) .
3- الإمام عبد العزيز بن يحي الكتاني المكي الذي عايش فتنة خلق القرآن وسمع بانتشارها ورواجها في بغداد فعز عليه ذلك فقدم على بغداد فهاله أنَّ ما رأى من أثر هذه البدعة أعظم مما سمع ، فجعل يفكر في عمل يعلن من خلاله عن الحق الذي خفت صوته ، وخاف الناس من إظهار اعتناقه ، قال : فأجمعت رأيي على إظهار نفسي وإشهار قولي ومذهبي على رؤوس الأشهاد والقول بمخالفة أهل الكفر والضلال والرد عليهم ، وذكر كفرهم وضلالتهم ، وأن يكون ذلك في المسجد الجامع في يوم الجمعة لأني رأيت – إن فعلت ذلك – أنهم لا يعجلون عليَّ بقتل ولا عقوبة بعد إشهار نفسي والنداء بالمخالفة على رؤوس الخلائق إلا بعد مناظرتي وسماع قولي ، وهذا هو مطلبي .
وصلى يوم الجمعة في الصف الأول أمام المنبر فلما سلم الإمام ، نهض قائماً على رجليه ليراه الناس ويسمعوا كلامه ، ونادى بأعلى صوته مخاطباً ابنه الذي اتفق معه أن يقف أمامه بين الصفوف ، فقال : يا بني ما تقول في القرآن ؟ قال : كلام الله منزل غير مخلوق ، فلما سمع الناس ذلك ولو هاربين ومن المسجد خارجين خوفاً وجبناً ، ولم يلبث أعوان السلطان أن أمسكوا به ، ولما مَثَل بين يدي كبير من كبرائهم فعنفه فسأله عن سبب صنيعه وجهره بقوله مع علمه بمخالفته لأمير المؤمنين قال : ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه ، وتم له ما أراد فناظر بشراً المريسي بين يدي المأمون وعلاه بالحجة ( مختصر من الدلائل النورانية (110-117) وهو عن الحيدة (3-14) ، فسر المسلمون بذلك وجعل الناس يجيئونه أفواجاً يهنئنونه ويسألونه عن المناظرة .
4- قام مصطفى كمال أتاتورك بأعظم جريمة ضد العالم الإسلامي عندما أصدر في 15 فبراير عام 1924م ثلاثة قرارات هي :
1- إلغاء الخلافة .
2- إلغاء وزارة الأوقاف والأمور الشرعية .
3- توحيد التعليم .
وقرر في الواقع العملي المنهج العلماني في فصل الدين عن الدولة ،ونادى بأن تركيا جزء من العالم الغربي ،ومضى يغير كل شيء له صلة بالإسلام في تركيا ،حتى أصدر في عام 1925م قانون الملابس الذي ينص على إبدال القبعة بالطربوش ،ويقرر عقوبة على من يلبس الطربوش الذي كان اللبس الشائع بين المسلمين ويلزم بلبس القبعة تأسياً بالغربيين وتشبهاً بهم ،وتعظيماً لهم .
وهنا برزت نماذج عديدة من جرأة العلماء العاملين والدعاة المصلحين ومن بينهم الشيخ عاطف أفندي الإسكيليبي الذي تصدى لهذه الهجمة التغريبية ،حتى ذكر في بعض كتبه ((أن بيعة المسلمين للخليفة أمر واجب وهو ثابت بالعقل والشرع)) ثم دلل على ذلك وقرر أن ((وجب تعيين الخليفة أمر ثابت بإجماع الأمة بطريق الأدلة الشرعية)) ، ثم كتب رسالة عن المرأة المسلمة وحجابها بعنوان ((التستر الشرعي)) وذلك في مواجهة التهتك العلماني الغربي ، ثم ألف رسالته الشهيرة ((تقليد الفرنجة والقبعة)) نعى فيها على المقلدين للغرب تقليداً أعمى ، والمتشبهين بالكفار وحكمهم وذكر القبعة مثالاً على ذلك وكان لهذه المواقف والرسائل أثرها الكبير في نفوس المسلمين ومواقفهم وصداها الواسع في منتدياتهم ومجالسهم ، مما حدا بأتاتورك وزمرته أن يقبضوا على شيخ عاطف ، وقدم بعد ذلك للمحكمة بخصوص رسالة القبعة في 26/يناير/1926م ، وصدر بحقه حكم الإعدام ونفذ فيه رحمة الله وتقبله في الشهداء (العثمانيون في الحضارة والتاريخ(ص:221-236) .
وهكذا فنحن نرى لمواقف الجرأة أثراً عظيماً في المجتمعات وخاصة في الأزمات ، والملمات وما لم يكن الداعية هو المتقدم الباذل فمن يكون ؟ .
كلا ليس لها إلا أنت أيها الداعية ، فما أجدى أن يكون الداعية ((صلب العود ، عظيم المراس ، لا يميل مع كل ريح ، ولا يضعف أو يلين أمام أي قوة ، ولا ينحني مع أي خلة ، ولا يندهش أمام أي مفاجأة ، أو يحزن عند أي مصيبة لتوجهه إلى الله بكليته ، واعتماده عليه في كل نائبة ، واحتباسه العوض منه عن كل شيء ،فحبيبه الأوحد هو الله ، وهو ذخيرته وملجؤه وهو هدفه وغايته ، وبذلك تكون شجاعته كاملة ، وبطولته خالدة ، وأخلاقه فاضلة ، وصبره معيناً لا ينفذ)) العثمانيون في الحضارة والتاريخ (ص:221-236) .

المبحث الثالث : الاستغناء والعطاء :
شعار عظيم رفعه على طريق الدعوة الرسل والأنبياء عندما تكرر في خطابهم لأقوامهم وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين الشعراء [109] ، والرجل المؤمن في سورة يس عندما دعا قومه لاتباع المرسلين علل لهم ذلك بقوله اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون يس [21] ، والدعاة سائرون على منهج الأنبياء فلا ينتظرون من أحد عطاء ، ولا يرقبون من إنسان مكرمة ، وأنى يكون ذلك ؟ وكيف يفكرون في مثل هذا الأجر الدنيء والعرض الزائل ؟ كلا إنهم لا تنشغل عقولهم بمثل هذا التفكير لأنها مشغولة بالرجاء في قوله تعالى ولأجرة الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون يوسف [57]، ولا تتعلق قلوبهم بشيء من حطام الدنيا وعطايا الناس لأنها متعلقة بقوله تعالى ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون النحل [41]إنهم يرغبون في نوع آخر من الأجر غير ممنون ولا مقطوع إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون الانشقاق [25] ،وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ هود [108] .
إن صورة الداعية لا تجمل ولا تكمل إلا باستغنائه عما في أيدي الناس وما من شيء يذهب أثر الدعوة ويمحو عزة الداعية مثل سؤال الناس أو انتظار عطائهم ، إنه حينئذ لا يكون داعية بل يصبح تاجراً فاجراً يتاجر بالدين ، يشابه فعل اليهود الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً آل عمران [77] وبهذا السلوك يكون الداعية ممن يصدون عن دين الله كما بين ذلك الله جل وعلا في قوله اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله التوبة [9] وذلك من أعظم البلاء ، ولذا ((ينبغي أن يتعفف الداعية عما في أيدي الناس ليظل عزيزاً مرفوع الرأس ، قادراً على أن يقول ما يريد وأن يبلغ ما يلزم إبلاغه دون أن يحمل منة في عنقه لأحد تجعله مغلول اليد أو مغلول اللسان ، وبقدر ما يستطيع الداعية أن يحقق لنفسه من العفة والورع بقدر ما يكتسب من تقدير وقدرة وإمكانية)) مع الله (ص:74) .
نعم لا بد أن يميز الدعاة ((زهدهم في زخارف الدنيا ، وفضول العيش ، ونهامة المادة ، ومرض التكاثر ، فإنهم لا يستطيعون أن يؤثروا فيمن يخاطبونهم ، ويحملون على إيثار الدين على الدنيا ، والآجلة على العاجلة ، وتلبية نداء الضمير والإيمان على نداء المعدة والنفس والشهوات )) وذلك لأن ((الناس ما زالوا ولا يزالون مفطورين على الإجلال لشيء لا يجدونه عندهم ... فإذا رأى الناس علماء ودعاة لا يقلون عنهم في حب المادة ، والجري ورائها ، والتنافس في الوظائف والمناصب, والإكثار من الثراء والرخاء ، والتوسع في المطاعم والمشارب ، وخفض العيش ولين الحياة فإنهم لا يرون لهم فضلاً عليهم ، وحقاً في الدعوة إلى الله ، وإيثار الآخرة على الدنيا ، والتمرد على الشهوات ، والتماسك أمام المغريات ، وقد قيل فاقد الشيء لا يعطيه)) بعض سمات الدعوة المطلوبة في هذا العصر ، ضمن أبحاث وقائع اللقاء الخامس لمنظمة الندوة العالمية لشباب الإسلامي (ص:410) .
هذا هو سمت أهل العلم والإيمان ذكره الله جل وعلا لنا في قصة قارون يوم خرج على قومه في زينته ، فتاقت إلى حاله ودنياه نفوس الضعفاء لأن قلوبهم خواء ، وجاء الجواب حاسماً من أهل العلم والإيمان لأن في قلوبهم غناء ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً وما يلقاها إلا الصابرون القصص [80] .
وتكتمل شخصية الداعية ويعظم تأثيره إذا ضم إلى الاستغناء العطاء ، وما الدعوة إلاَّ عطاء دائم يبذل فيه الداعية من مشاعره ومن وقته ومن ماله ومن جاهه ومن وقوته ومن حيلته حتى يبلغ الغاية ببذل نفسه وإعطاء روحه جهاداً في سبيل الله وتضحية من أجل الدعوة إلى الله لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون آل عمران [92] .
التاريخ يشهد أن الدعاة إذا اغتنت قلوبهم بالمعاني الإيمانية واستغنت عن المتع الدنيوية استسهلوا الصعب غير مستثقلين ، وركبوا الأخطار غير عابئين وواجهوا الأخطار غير خائفين ، لا تثنيهم رهبة ، ولا تستميلهم رغبة .
وانظر إلى ربعي بن عامر رضي الله عنه يوم قدم إلى أبهة الملك ، بما فيها من متاع الدنيا وزخرفها ، فوطئ الطنافس بأقدامه ، وخرقها برمحه ، واستغنى واستعلى بإيمانه ، وقال قولته المشهورة التي ما تزال تدوي في سمع الزمان : ((جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)) .
ويوم أسر عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه ، قال له ملك الروم : هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي ؟ فقال : لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ؟ ، قال : إذاً أقتلك ، قال : أنت وذاك ؟ سير من أعلام النبلاء (2/14) .
إنها المواقف التي رجمها الزبيدي شعراً عاصفاً رائعاً فقال :
خذوا كل دنياكمُ واتركوا فؤادي حراً وحيداً غريباً
فإنـي أعظمكم دولـة وإن خلتموني طريداً سليباً
وصاغها الرافعي الأديب من قاموس الحكمة في كلمات في غاية القوة فقال : ((إذا رمتك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها ، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه)) نقلاً من المنطلق )وتكررت بعد جيل الصحابة مرات ومرات جددها أئمة الدعاة من الثقات الأثبات فهذا عيسى بن يونس حدث الأمين والمأمون فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها ، فظن أنه استقلها "أي رآها قليلة"، فأمر له بعشرين ألفاً ، فقال عيسى : لا ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهباً إلى السقف ، فانصرف من عنده)) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/357) .
وفي وقت اشتداد الأزمة إبان فتنة خلق القرآن دعي عفان بن مسلم للمحنة فلما حضر عُرض عليه القول ، فأبى أن يجيب ، فقيل له : يحبس عنك عطاؤك ، وكان يعطي في كل شهر ألف درهم ، فقال :وفي السماء رزقكم وما توعدون الذريات [22] ، فلما رجع إلى داره عزله نساؤه ومن في داره ، قال الرواي : وكان في داره نحو أربعين إنساناً (نزهة الفضلاء (2/762).
وليس الأمر مقتصراً على الاستغناء عما في أيدي الأمراء بل هو كذلك بالنسبة للتعامل مع المدعوين والتلاميذ فقد وجه بعض مشايخ مرو إلى علي بن حجر بشيء من السكر والأرز وثوب فرد عليهم بقصيدة قال فيها :
جاءني عنك مرسـل بكلام فيه بعض الإيحاش والإحشام
فتعجبـت ثم قلـت تعـالى ربنا ذا من الأمور العظـام
خاب سعيي لئن شريتُ خلاقي بعد تسعـين حجة بحطـام
أنا بالصبر واحتمالي لإخوانـي أرجِّي بحلـول دار السـلام
والذي سميتـه يزري بمثلـي عند أهل العقـول والأحلام
وأهدى أصحاب الحديث الأوزاعي هدية فلما اجتمعوا عنده ، قال لهم : أنتم بالخيار إن شئتم قبلت هديتكم ولم أحدثكم ، وإن شئتم حدثتكم ورددت هديتكم (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/357) .
وجمع الشيخ عاطف أفندي بين الموقفين مع أصحاب السلطان ومع عامة الناس ، فقد ((دعي إلى طعام الإفطار في رمضان مع السلطان وحيد الدين ، وتقدم السلطان بهدية للشيخ تقديراً له ورجاه أن يقبلها فاعتذر قائلاً : استسمحكم ألا تعودوني على تلقي الإحسان .
وذات يوم أهداه فرَّاش متقاعد ممن يحبونه ويجلونه بعضاً من الحلوى صنعها خصيصاً للشيخ فاعتذر منه وقال له : سامحني لأنني لم أستطع قبول هديتك ، سامحني فإن مهنتي والقضية التي أعمل لها حساسة للدرجة التي لا أستطيع معها تحمل مثقال وطأة المنفعة المادية)) العثمانيون في التاريخ والحضارة (ص:229-230) .
وبقدر أهمية الاستغناء تأتي أهمية العطاء الذي له أثره الأبلغ في النفوس لملامسته لمصالحهم ، وقضائه لحاجاتهم ، وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم –كما قال أنس- ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه وقال : يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (أخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب ما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا (عبد الباقي)(4/1806) .
وهذا صفوان بن أمية رضي الله عنه يقول : لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي (الإصابة (2/187) .
وأبو بكر خرج من ماله كله بذلاً في سبيل الله ، ونصرة لدين الله ، وعمر أنفق في هذا السبيل شطر ماله ، وعثمان جهز جيش العسرة وكان رائداً للمنفقين ، وكذا كان عطاؤهم لدعوتهم ، ومثله عطاؤهم للناس عظيماً تقوى به الدعوة ، ويُتألف به المدعوين .
وليس العطاء محصوراً في المال ، بل هو أوسع من ذلك إذ يشمل كل عون يقدمه الداعية للمدعوين ، وكل معروف يسديه لهم ، فقد يعطيهم من وقته أو جهده أو فكره بل حتى من بشاشة وجهه وحسن استقباله ، وميدان العطاء بالنسبة للداعية فسيح ، وأثره كبير ، فينبغي أن يكون فيه مسابقاً ومنافساً ، ومحققاً لما أوصى به الشيخ البنا الداعية بقوله : ((أن تكون عظيم النشاط ، مدرباً على الخدمات العامة ، تشعر بالسعادة والسرور إذا استطعت أن تقدم خدمة لغيرك من الناس ، فتعود المريض وتساعد المحتاج ، وتحمل الضعيف ، وتواسي المنكوب ولو بالكلمة الطيبة وتبادر دائماً إلى الخيرات)) مجموعة رسائل البنا(ص:21) .
والدعاة ينبغي أن يحرصوا على الخدمات العامة ويخصصوا لها من أفرادهم وجهودهم ما يلائمها ، فلا بد أن يكونوا هم العاملين في الهيئات الإغاثية ، ومشاركة في اللجان الخيرية ، والمشاريع الصحية ونحو ذلك ، ليكونوا أكثر صلة بالناس وأشد قرباً منهم ، وليحوزوا من خلال الخدمة والعطاء استجابة المدعوين وتأثرهم ، إضافة إلى أنهم بذلك يبرزون صورة عملية لشمولية وتكامل الإسلام ، ولصدق وخيرية الدعاة .
ولقد أشارت خديجة رضي الله عنها إلى أثر الخدمة العامة والعطاء الدائم عندما نزل الوحي وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له : ((والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق)) فيا سبحان الله تأمَّل هذه الصور المتنوعة من العطاء وقد تحلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فكيف إذن كان بعدها ؟ .

المبحث الرابع : الاستمرار والابتكار
إن العمل المنقطع يتبدد أثره ، والعمل المتكرر يورث الملل ، ويفقد الحماس ، ثم إن توقف الداعية وعدم استمراريته في دعوته دليل خلل في فهمه ، أو ضعف في عزمه ، وتكراره وعدم ابتكاره يشير إلى قلة حيلته وضعف بصيرته ، وما هكذا يكون الداعية ، بل الداعية نشاط متدفق ، وتجديد متألق ، عمل لا يكل ، وتفكير لا يمل .
والدعاة لهم في هذا الباب مثل عظيم جداً في قصة نوح عليه السلام حيث لبث في قومه داعياً ألف سنة إلا خمسين عاماً العنكبوت [29] ، وكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائباً ، وتنويعاً متكرراً قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ، ثم إني دعوتهم جهاراً ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً نوح [5-9] ، رغم امتداد الزمن الطويل ، ما توقف عن الدعوة ولا ضعفت همته في تبليغها ، ولا ضعفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها ، قال الألوسي في تفسيره : رب إني دعوت قومي أي إلى الإيمان والطاعة ، ليلاً ونهاراً أي دائماً من غير فتور ولا توان ، ثم وصف إعراضهم الشديد، وإصرارهم العنيد ، ثم علق على قوله تعالى: ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقال :أي دعوتهم مرة بعد مرة ، وكرة غبَّ كرة، على وجوه مختلفة وأساليب متفاوتة، وهو تعميم لوجوه الدعوة، بعد تعميم الأوقات، وقوله ثم إني دعوتهم جهاراً يشعر بمسبوقية الجهر بالسر، وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو (تفسير الألوسي (10/89) .
فانظر إلى استمراريته في الدعوة رغم شدة الإعراض والعناد، لم يدفعه ذلك الإعراض إلى التوقف، ولا لممارسة الدعوة بصورة عادية لا روح فيها بل على العكس دفعه الإعراض ليواصل المحاولة مع تنويع الأساليب وابتكار طرق جديدة لتبليغ الدعوة، وتزيده حماسة على ((جعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدوء وراحة البال وهي أوقات الليل)) التحرير والتنوير(29/194) ، ((وتوخي ما يظنه أو غل إلى قلوبهم من صفات الدعوة، فجهر حيث يكون الجهر أجدى مثل مجامع العامة، وأسرَّ للذين يظنهم متجنبين لوم قومهم عليهم في التصدي لسماع دعوته)) التحرير والتنوير(29/197).
ولنا مثل في قصة يوسف عليه السلام لما دخل السجن مظلوماً، حيث انتهز الفرصة ومارس الدعوة .
والاستمرارية خير كما قال عليه الصلاة والسلام ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ)) قال المناوي: ((أدومها : أي أكثرها ثواباً، وأكثرها تتابعاً ومواظبة))، وذكر منافع العمل الدائم فقال: ((لأن النفس تألفه فيدوم بسببه الإقبال على الحق، ولأن تارك العمل بعد الشروع كالمعرض بعد الوصل)) ثم قال : ((وفيه فضيلة الدوام على العمل)) فيض القدير(1/165-166)، ولقد خوطب عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين الحجر [99]، فظل يدعو إلى الله ويبلغ رسالة الله حتى وهو على فراش الموت يوصي أمته كما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه :لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته (الفتح)(8/140) .
وبالنسبة للتنويع والابتكار فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا سراً وجهراً ، وسلماً وحرباً، وجمعاً وفرداً، وسفراً وحضراً، كما أنه عليه الصلاة والسلام قصَّ القصص ، وضرب الأمثال ، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض ، وغيره ، كما رغَّب وبشَّر ، ورهَّب وأنذر ، ودعا في كل آن ، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعال .
والصحابة الكرام من الخلفاء الراشدين طبقوا قاعدتي الاستمرار والابتكار ونكتفي بالإشارة إلى بعض ذلك في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأبو بكر رضي الله عنه أعلن في كلمته العظيمة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إنها استمرارية الدعوة وعدم ارتباطها بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هي دعوة لله مستمرة مدى الحياة ، ثم طبق هذا عملياً فأنفذ جيش أسامة وقاتل المرتدين بأحد عشر جيشاً ثم بعث الجيوش إلى الفرس والروم ، كما أنه أمر بجمع القرآن وخالفه الصحابة أول الأمر ثم أجمعوا على رأيه لما فيه من مصلحة الأمة .
وعمر رضي الله عنه أتم فتوح الشام والعراق ثم فتح مصر وبيت المقدس . وفي شأن الابتكار والاجتهاد ورعاية مصالح الأمة ومنافع الدعوة كانت له آثار عظيمة فقد دوَّن الدواوين مثل ديوان الجند، وديوان العطاء ، وديوان الأعمال وديوان الإنشاء (أوليات الفاروق السياسية (ص:300-304)، وفي مجال الاجتهاد في المحافظة على تماسك الأسرة والمجتمع أمضى طلاق الثلاث ردعاً للمتساهلين (أوليات الفاروق السياسية (131-138)، وفي مجال التشجيع على التعليم قرر الجوائز للمشتغلين بحفظ القرآن الكريم (أوليات الفاروق السياسية (ص:116-119) ، كما قام بجعل أرض السواد وقفاً لجميع المسلمين فكان لذلك أثره في إنهاء نظام الطبقية والإقطاع ، كما أدى إلى دخول أهل تلك البلاد في الإسلام ، وقطع الطريق على عودة جيوش الروم والفرس ، وإضافة إلى إيجاد موارد مالية لتأمين الثغور وتجهيز الجيوش (الدعوة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب (ص:126-137) .
وفي واقعنا المعاصر تزداد الحاجة إلى الاستمرار والابتكار سيما مع كثرة العصاة والجناة من المسلمين إضافة إلى تطور أساليب التبليغ ووسائل الإعلام ، بما فيها من ترغيب وتشويق وتجديد وتنويع استغله أعداء الإسلام لبث الأفكار الشاذة ، وغرس السلوكيات المنحرفة، ولا ينبغي أن تبقى هذه الوسائل حكراً على المحاربين للإسلام ، يعرضون فيها بضاعتهم ، في قوالب براقة ، ويبقى الدعاة جامدين لا ينشطون ولا يجددون ، بل على الدعاة ((أن يبلغوا الناس ما يجب عليهم في أمور دينهم ودنياهم من كل الطرق كطريق الإذاعة والتلفاز والصحافة وطريق الخطابة في المجتمعات ، وفي الحفلات المناسبة ، ومن طريق التأليف ومن كل طريق يمكن منه تبليغ شرع الله )) مجموع فتاوى ابن باز (5/18) ، وهناك الكثير من الوسائل الإيضاحية التي يمكن الإفادة منها ، إضافة إلى وجود قنوات تأثير واسعة جاءت ضمن أنماط الحياة المعاصرة كالنقابات المهنية ، والمؤسسات الاجتماعية وغيرها مما لا بد للدعاة أن يحسنوا التعامل معها والاستفادة منها .
وكل وسيلة مؤثرة ليس فيها ما يخالف الشرع أو يعارض مصلحة الدعوة فالأخذ بها استمرارية وتوسيع لنشاط الدعوة مع ما فيه من التنويع الذي يزيد به الإقبال على الدعوة والتأثر بها .

الفصل الخامس : مقومات مفاهيم الداعية :

الفهم والتصور من الأمور المهمة التي تبنى عليها الأعمال ، وبعض ما مضى من المقومات الشخصية في فروعها كثير من المفاهيم ، غير أن إيجاز القول فيها جعلني أفرد هذه المفاهيم بالحديث استقلالاً ، إضافة إلى أن إفرادها والتركيز على المهم منها يفيد الداعية ويعينه على النجاح ، ويجنبه موجبات الفشل والإخفاق ، خاصة وأنها مفاهيم مرتبطة بالواقع المعاصر ، وبالنشاط الدعوي .
المبحث الأول : مفاهيم حول الإسلام
الفهم الصحيح للإسلام أمر في غاية الأهمية بالنسبة للداعية ، وهذه أسس لا بد منها هذا الجانب :
1- ربانية الإسلام :
الإسلام دين الله جل وعلا إن الدين عند الله الإسلام آل عمران [19]، وبالتالي مادام الإنسان عبداً لله فلا خيار له ، بل لا بد أن يدين بدين الله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الأحزاب [36] ، ومن ثم تتضح له غايته في الحياة وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الذاريات [56]، ويعرف أن المقصد هو الله وأن إلى ربك المنتهى النجم [42]، وأن الطموح والاجتهاد والبذل والتضحية إنما هو النيل رضوان الله وعجلت إليك رب لترضى طه [84]تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً الفتح [29] الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً الحشر [8] .
ويندرج تحت ربانية الإسلام الفهم والإيمان بكمال الإسلام اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً المائدة [3] ، فلا بحث إذن عن مناهج أرضية ، ولا مذاهب بشرية ، إذ هذا الكمال يغني عن ذلك ، ويبرز للإسلام مزية لا ولن تكون في غيره إذ النقص مقطوع به في مذاهب البشر ونحل أهل الهوى ، والتحريف في الرسالات السابقة مقطوع به يحرفون الكلم من بعد مواضعه المائدة [41] ، والمتاجرة بدين الله ثابتة ، والوقائع بها ناطقة ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً البقرة [79] والكفر بحكم اتباع هذا التحريف والتلاعب لا يمكن الاختلاف عليه ، ولا الاجتهاد فيه وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون التوبة [30-31] .
2- شمولية الإسلام :
الإسلام ((دين شامل ، يشتمل على مصالح العباد في المعاش والمعاد ، ويشتمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وينهى عن سفاسف الأخلاق وعن سيء الأعمال .
فهو عبادة وقيادة ، يكون عابداً ويكون قائداً للجيش .
عبادة وحكم يكون مصلياً صائماً ، ويكون حاكماً بشرع الله، منفذاً لأحكامه .
عبادة وجهاد ، يدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله .
مصحف وسيف يتأمل القرآن ويتدبره وينفذ أحكامه بالقوة ، ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه .
سياسة واجتماع ، فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة ، والأخوة الإيمانية ، والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم)) مجموع فتاوى ابن باز (1/147) .
((إنه دين يربط المخلوق بخالقه برباط متين ، كما يقيم أفضل علاقة بين الإنسان وأهله وأقاربه ، وبين الإنسان وأخيه سواء كان على دينه أو على غير دينه ، قائمة على العدالة والترابط والتسامح والتعاون على البر والتقوى، كما أوضح كيف يعامل الحيوان الأعجم بالرفق والرحمة والإحسان قبل أن تتظاهر أوروبا بالرفق بالحيوان من خلال جمعيات أنشأتها لهذا الغرض وهي لم ترفق بعد الإنسان ، ولم ترع حقوقه)) مجموع فتاوى ابن باز (2/299) .
وقد انحسر هذا المفهوم الشمولي للإسلام في أواخر القرن الماضي وبدايات هذه القرن مما حدا بكثير من العلماء والدعاة إلى تأكيده والتركيز عليه وتنويع أساليب وعبارات التغبير عنه فهذا الشيخ حسن البنا يقول : ((الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة ، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء)) مجموعة الرسائل للبنا (ص:7) ، ويقول عن رسالة الإسلام : إنها الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن ، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم ، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة (انظر الخصائص العامة للإسلام (ص:105) .
والسيد سابق في كتابه إسلامنا (إسلامنا (ص:11)يقول عن الإسلام : ((إنه استهدف تهذيب الفرد ، وتعاون الجماعة ، وإيجاد حكم أساسه الشورى ، وغايته حماية الدين وسياسة الدنيا)) .
ومع كثرة التذكير إلا أنه توجد أفهام قاصرة - نتيجة لبعض الظروف أو الضغوط - تنحو نحو فهم جزئي للإسلام يقصره على بعض جوانبه دون بعض ،ويركز على بعض أحكامه وتشريعاته دون بعضها الآخر، ولذا كان التحذير لازماً مع التذكير وليس هناك أعظم من التحذير الإلهي في قوله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا البقرة [85].
ومن أبرز جوانب الإخلال بهذا المفهوم ترك الدنيا وأسباب القوة فيها رغبة في الآخرة وإيثاراً لها – حسب فهمهم- وهؤلاء لا بد أن يعلموا أن ((عبودية الله توجب على أهلها مع ذلك (أي التعبد) أن لا يفرطوا بنصيبهم من مقومات الحياة الدنيا كشأن أهل التصوف والدروشة ، بل لا بد من خوض معركة الحياة وتسخير جميع الماديات واكتساب ما أمكن منها بالطرق المباحة ليتمكن من أداء رسالته في الحياة بالإنفاق في سبيل الله من كافة الوجوه ، ويتماسك كيانه مع إخوانه المؤمنين ، فتكون لهم اليد الطولى التي يقدرون بها على الصلاح والإصلاح في الأرض ، لأن ما في الدنيا من مقومات المادية الهائلة سلاح خطير إذا سبق إليه أهل الضلال وظفروا به كان وسيلة فعالة للتحكم في الناس وإفساد دينهم ودنياهم)) صفوة الآثار والمفاهيم (1/79) ، إنه لا بد لنا أن نهتف بكل داعية (خذ الإسلام كله ، خذه عقيدة وعملاً وعبادة وجهاداً واجتماعاً وسياسة واقتصاداً وغير ذلك ، خذه من كل الوجوه كما قال سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين البقرة [143] مجموع فتاوى ابن باز(1/346،345) .
وهناك أعمال خيرية كثيرة ينتدب بعض الأخيار للقيام بها والرعاية لها لكنهم يخطئون عندما يظنون أن الإسلام هو هذه الأعمال التي يقومون بها ، وأن خدمة الدين تنحصر في الجهود التي يبذلونها ، ومن ثم يطلقون لسان النقد وربما الثلب في كل عامل في غير ميدانهم ، وكل منشغل بغير أعمالهم ، فهؤلاء مخطئون ونحن نقول لهم : على رسلكم فليس الأمر كما تفهمون ، ونقول لمن يخالف هذا الرأي ليطمئن ويفهم : ((إننا لا ننكر الخير الذي يذهب إليه بعضهم ، إنما ننكر فهمهم القاصر ، ويعدهم عن الشمول ، نخشى أن يحرفوا الدعوة عن شمولها إذا عملوا في داخلها ، إن خطتنا تشيع الفقه وتربي بالتعبد ، وتحث على التمسك بآداب السنة، وتتناول بعض العمل الخيري وتعتمد القوة ، ولكن بمقدار الحاجة ، أو بمقدار ما نملك من طاقة في توازن وتدرج ، وبحكمه وموعظة حسنة ، وفي جو من التآخي والتحاب)) المسار (ص:109) وتحت الضوابط الشرعية المستنبطة من آيات القرآن والسنة النبوية .
فلسنا نعيب العمل ما دام من أعمال الإسلام لكننا نعيب جعل هذا العمل هو الإسلام كله والدعوة كلها ، فالجهاد عمل إسلامي ، ولسنا مع من يرى أن حلول مشكلات الأمة الإسلامية ، وتحول أحوال المسلمين ، والصد لأعداء الدين كلها في الجهاد العسكري وحده ، وأن المنشغل بتعليم الكتاب والسنة أو تصحيح الانحراف والبدعة وغير ذلك من الأعمال لا أثر له ولا نفع فيه .
3- وسطية الإسلام :
((ضاع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه)) هذه عبارة مشهورة تبين خطر البعد عن الوسطية التي هي أبرز سمات الأمة الإسلامية كما قال رب البرية وكذلك جعلناكم أمة وسطاً الإسلام وسط فلا إفراط ولا تفريط .
وسط فلا طغيان ولا نقصان .
وسط فلا تشدد ولا ترخص .
وسط بين رعاية حقوق الفرد على حساب الجماعة ، أو العناية بمصالح الجماعة على حساب الفرد .
وسط بين العقلانية الملحدة التي لا تؤمن بغيب ، وبين الغيبية المفرطة التي تؤمن بالخرافة وهكذا .
الوسطية تعني العدل فلا يظلم جانب على حساب جانب آخر ، والوسطية تعني التوازن فلا يختل أمر على حساب آخر .
والإسلام وسط بين اليهود الذين عرفوا الحق وجحدوه ، والنصارى الذين ضلوا عن الحق ولم يعرفوه ، لأن المسلمين عرفوا الحق فاتبعوه .
والإسلام وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء ، والنصارى الذين ألَّهوهم ، لأن المسلمين وقروا الرسل ولم يعبدوهم .
والإسلام وسط بين اليهود الذين أسرفوا في التحريم ، والنصارى الذين أسرفوا في الإباحة ، والمسلمون اتبعوا الشرع الإلهي الحكيم الذي بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم الأعراف [157] .
وسطية الإسلام تعني بعمارة الدنيا لخدمة الآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار البقرة [201] وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا القصص [77] .
وهكذا وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي عندما قال : ((إن لبدنك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك (ضيفك) عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)) أخرجه البخاري في كتاب الصوم ، باب من أقسم على أخيه يفطر في التطوع (الفتح 4/246) .

4- صلاحية الإسلام :
لابد للداعية أن يفهم هذه الحقيقة فهماً واعياً ، يستطيع معه أن يشيع هذه الحقيقة بين الناس فيجتهد في إبراز محاسن الإسلام وإثبات صلاحيته بالأدلة الشرعية ، والشهادات الواقعية .
فالإسلام حرم الربا كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء ولكي لا يزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً ، مما يكرس الطبقية ويزرع في النفوس بذور الشحناء والبغضاء .
والإسلام يحرم الزنا ويمنع من دواعيه فيحفظ المجتمع من ويلات الإباحية من ضياع الأنساب ، وشيوع الأمراض ، وانتشار الجرائم ، وشهادة واقع المجتمعات الغربية تشهد بذلك .
والإسلام يقيم الحكم المستمد من شرع الله ، المعتمد على الشورى ، القائم على العدل ، المستهدف سياسة الدنيا وصيانة الدين .
وهكذا في جوانب الحياة كلها ينبغي إدراك هذه الحقيقة وبيان الوجه المشرق للحياة في ظلال الإسلام ، وأنها ((حياة لا شرك فيها ولا وثنية بل فيها التوحيد الخالص والعبادة لله الذي تعنو له الوجوه .
حياة لا ظلم فيها ولا استبداد ، بل فيها حق وعدالة وحرية وإخاء .
حياة لا جهل فيها ولا أمية ، بل فيها علم ومعرفة وحكمة .
حياة لا رفث فيها ولا فسوق ، ولكن فيها طهارة ونظافة وعفاف .
حياة لا حسد فيها ولا حقد ، بل فيها محبة وتعاون ، وتآزر وتناصر .
حياة لا سرف فيها ولا ترف ، بل فيها بذل وكرم وإيثار .
حياة لا خمر فيها ولا قمار ، بل فيها كدح وعمل وطلب لما أحل الله (إسلامنا (ص:10-11) .

المبحث الثاني : مفهوم الدعوة :
مفاهيم الدعوة التي لا بد للداعية من استيعابها كثيرة ، وهي مفاهيم في غاية الأهمية والتأثير على تصرف الداعية وممارساته ، وارتباطه بالدعوة وإخلاصه لها ، واهتمامه بها ، واستمراره فيها ، وهذه خلاصة في أهم المفاهيم المتصلة بالدعوة :
1- مفهوم الحكم والحاجة :
أ‌- ((إن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم)) ، لكنها فرض على الكفاية ، ((وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره ، فما قام به غيره سقط عنه ، وما عجز لم يطلب به)) مجموع فتاوى ابن تيمية (15/166) ، وينبغي أن لا نفهم فرض الكفاية فهماً يدعوا إلى التقاعس أو التكاسل ، فالكفاية تحتاج أن نفهمها فهماً صحيحاً وذلك من جانبين :
الأول : فرض الكفاية يصح ((أن يقال إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدها على الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها ، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين ، فمن كان قادراً على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر ، وإجباره على القيام بها)) الموفقات (1/114) ، وهكذا ففرض الكفاية يعم ويشمل ، ويتقسط ويتنزل حتى لا يكاد يبقي مسلم إلا وعليه ما يجب عليه بعينه من أمر الدعوة أو لواحقها وتوابعها .
الثاني : حقيقة الكفاية على وجهها الشرعي غير متصَّور وجودها في الزمن المعاصر الذي كثرت فيه الفتن ، وعظم الانحراف ، واشتدت ضراوة الحرب على دين الله من أعدائه ، واستحكمت الجهالة به من أبنائه ، واتسع الخرق على الواقع ، هذا مع ما هو معلوم من أحوال بلاد المسلمين المغتصبة ، وأعراضهم المنتهكة ، وأموالهم المنتهبة دون أن يكون في مجموع الأمة من يرد هذا العدوان ويدفع عن إخوة العقيدة والإيمان ، فيبقى الأمر حينئذ ظاهر الوجوب شديد الحاجة .
ب‌- الحاجة إلى الدعوة ملحة وشديدة بسبب تردي الأحوال في بلاد المسلمين أفراداً وجماعات وشعوباً وحكومات ، إذ أن أعداءهم حرصوا ((على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة جميع البلاد الإسلامية)) مجموعة الرسائل للبنا (ص:220) ، ((ومن الحق أن نعترف بأن موجة قوية جارفة وتياراً شديداً دفاقاً قد طغى على العقول والأفكار في غفلة من الزمن ، وفي غرور من أمم الإسلام وانغماس منهم في الترف والنعيم ، فقامت مبادئ ودعوات ، وظهرت نظم وفلسفات ، وتأسست حضارات ومدنيات ، ونافست هذه كلها فكرة الإسلام في نفوس أبنائها، وغزت أممه في عقر دارها ، وأحاطت بهم من كل مكان ، ودخلت عليهم بلدانهم وبيوتهم ومخادعهم ، بل احتلت قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم)) مجموعة الرسائل للبنا (ص:306).
ونظراً ((لانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان ، وغير ذلك من الدعوات المضللة ، نظراً إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضاً عاماً وواجباً على جميع العلماء ، وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام ، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة وبكل وسيلة استطاعوا ، أن لا يتقاعسوا عن ذلك ، أو يتكلوا على زيد وعمرو ، فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم ))وجوب الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة (ص:20-21) .
فليست الدعوة إذن حاجة عارضة ، أو مطلباً محدوداً بل هي أعلى وأسمى وأعظم أهمية من التصورات الساذجة والأفهام القاصرة ، وليس تركها والتخلي عنها أمراً هيناً بل ((ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد ، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم ))مجموع فتاوى ابن تيمية (28/188) ، وتصور حال الأمة إذا تخلت الجيوش المدافعة عنها عن مهمتها .
هذا الفهم مهم جداً ((فإنه بقدر إيمان الداعية بدعوته ، وتفهمه لضرورتها وحاجة الناس إليها ينجح في دعوته ، وبقدر ضعف هذا الإيمان ، والنظر إليها بأنها مهمة ثانوية يتهاون فيها ، ويتكل فيها على غيره ، ويتعثر في طريقه ويعطيها من فضل وقته)) المدخل إلى علم الدعوة (ص:155) .
2- لوازم الدعوة : مستلزمات حمل الدعوة كثيرة ومنها :
أ‌- فهم حقيقة الواقع المعاصر :
في الواقع المعاصر هجوم سافر، وعداء ظاهر، وتخطيط ماكر، ضد الإسلام والمسلمين ، وهناك وسائل عديدة تستخدم لإضعاف المسلمين واستمرار بعدهم عن أسباب القوة المادية .
هناك وسائل الإعلام وما يبث فيها ((من تمثيل الأخلاق السافلة ، والمرائي الفاتنة ، والصور الخليعة ، وشبه العاريات ، والخطب الهدامة ، والمقالات الكفرية ، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم ، والاحتقار لعلماء المسلمين وأبطال الإسلام وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم ، والمقتضية لاحتقارهم ، والإعراض عن سيرتهم ، وبيان طرق المكر والاحتيال والسلب والنهب والسرقة وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس )) مجموع فتاوى ابن باز (3/228) ونحو ذلك من العظائم والدواهي .
وهناك الآن البث المباشر الذي ينقل لنا عبر الفضاء الفضائح والفظائع وما يندى له الجبين من عري كامل ، وخلق سافل ، وفكر خبيث .
وهناك الغزو الفكري ((وهو داء عضال يفتك بالأمم ويذهب شخصيتها ، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها ... وهذا الغزو يقع بواسطة المناهج الدراسية والثقافة العامة ووسائل الإعلام والمؤلفات الصغيرة والكبيرة وغير ذلك )) مجموع فتاوى ابن باز (3/438) .
كل ذلك يصب على المسلمين ليخرجوا عن دينهم ، ويخرجوا من طاعة ربهم ، ومع ذلك نرى من يخدرهم ليألفوا ، ويخدعهم ليقبلوا ، ويدلس عليهم ليقتنعوا وينطلقوا غير شاعرين بإثم ، ولا مدركين لخطورة ، وهذا مكر اعظم وأخطر حيث ((نرى شياطين الإنس والجن يسمون الفساد إصلاحاً ، والمؤامرات والفتن ونقض العهود تحرراً ، وخيانة الله بنبذ ملة إبراهيم وطنية ، وارتكاب الفواحش مدنية ، والدياثة والقوادة حضارة وتطوراً، واطراح الدين ونبذ القرآن رقياً ومسايرة للزمن)) صفوة الآثار والمفاهيم (1/30)، فهم ذلك كله وتصوره يجعل الداعية مدركاً لعظمة مهمته، وأهمية دعوته.
ب‌- التفاعل مع الدعوة :
إن إدراك حكم الدعوة والحاجة إليها ، ومعرفة الواقع ينتج عنه أمران مهمان :-
الأول : الحماسة والقوة في حمل الدعوة
((إن الداعية يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه ، متوهجة في ضميره ، تصيح في دمائه فتُعجله عن الراحة (الدعة) إلى الحركة والعمل ، وتشغله بها في نفسه وولده وماله ، وهذا هو الداعية الصادق الذي تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة ، وفي السمة التي تختلط بماء وجهه)) تذكرة الدعاة للخولي (ص:34) .
ويتذكر الداعية عظمة الأمانة في حمل الرسالة إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً الأحزاب [72] ، وما تقوم الدعوات ولا تبلغ الرسالات بالضعف والتباطؤ فقد خاطب الله يحي عليه السلام فقال يا يحي خذ الكتاب بقوة مريم [12] ، والمصطفى صلى الله عليه وسلم خاطبه مولاه بقولهإنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً المزمل [5] .
إن الدعوة ليست خطباً تلقي ، ولا مقالات تدبج ، ولا كتباً تؤلف ، إنها قبل ذلك همٌٌّ يؤرق وحماسة تدفع ، وهمة ترفع ، ووقود محرك لا ينفذ .
إنها جدٌّ لا يجتمع معه كسل كما أبى ذلك الداعية الحر عطاء بن أبي رباح حين قال : ((لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى فيه وسادة لأنها تدعو إلى النوم)) البداية والنهاية (9/308) .
إنها سفر نحو آفاق أرقى وأعلى ، وعمل وبذل طموحه أفضل وأسمى ، فالدعاة الحقيقيون ((مذ تيقظوا ما نالوا ، ومذ سلكوا ما وقفوا ، فهمُّهم صعود وترقٍّ ، كلما عبروا مقاماً إلى مقام رأو نقص ما هم فيه فاستغفروا)) صيد الخاطر (ص:355) ، وذلك لعلمهم أن ((الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه وتعالى ليست مما يقطع بالأقدام ، وإنما يقطع بالقلوب)) صيد الخاطر (ص:355) .
إنها نفوس خالصها شعور بالمسئولية وجسامتها ، والمهمة وضخامتها ، فأبت على الأجساد أن تخلد إلى راحة ، وإلى النفوس أن تسكن إلى لهو ، ولله در ابن الخطاب عندما جاءه معاوية بن خديج مبعوثاً من عمرو بن العاص بخبر فتح الإسكندرية فقدم المدينة في الظهيرة ومكث في المسجد فرأته جارية لعمر ، ثم جاءته فقالت : أجب أمير المؤمنين ، فلما دخل وأكل قال له عمر : ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد ، قال : قلت : إن أمير المؤمنين قائل ، قال عمر : بئس ما قلت أو بئس ما ظننت لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية (الزهد لابن حنبل (ص:152) . تلك رعية عمر ما تركت له ليلاً ولا نهاراً ((والداعية مسئول عن رعيته ، فإذا غاب عنها فقد تخلى عن واجبه وعرض أمته لعبث المبطلين وغواية الشياطين)) تذكرة الدعاة(ص:210) .
لذا على الداعية أن يحمل الدعوة ((بهمة عالية وعزم قوي لا يثنيه عنه كثرة خصومه مهما تكالبت عليه قوى الشر إذ لا يعتبرها في جنب الله إلا كالفراش)) صفوة الآثار والمفاهيم (1/72) .
الثاني : التصدي والمواجهة :
ما دام قد أدرك الداعية واقعه ، وحمل دعوته بقوة ، واندفع إليها بحماسة فإنه لا بد أن يتصدى لأعداء دعوته ، وأن يواجه المتربصين بها الدوائر ، وأن لا يترك لهم ميداناً إلا نازلهم فيه ، ولا وسيلة إلا نافسهم عليها ، ولا بلداً إلا وجابههم فيها ، لقد تفنن الأعداء في حرب الإسلام والدعوة واعتمدوا ((سياسة محاربة المساجد بالمراقص ، ومحاربة الزوجات بالمومسات ، ومحاربة العقائد بأستاذة حرية الفكر ، ومحارة فنون القوة بفنون اللذة)) من وحي القلم للرافعي ، نقلاً عن المنطلق (ص:54) ، لذا يلزم الدعاة أن يدركوا أنه لا بد لهم في مواجهة تلك التيارات من محاربة علمية دقيقة شاملة لأن التيارات غزت الأدمغة باسم العلم والفن فمقابلتها بغيره شطط لا يجدي نفعاً ، فلا بد من تكريس جهودهم لمقاومة المذاهب الفكرية مقاومة علمية عميقة ، ونقدها نقداً مفنداً دامغاً ، وأن يقابلوا كل مؤسسة بمثلها مما يعارضها وينقضها ، فيقابلوا المدرسة بالمدرسة والجامعة بجامعة ، ودور التربية والحضانة بمثلها ، والمعاهد والمجامع العلمية المادية بما يقابلها من المعاهد الإسلامية ، ومعاهد التربية الحديثة المادية بمعاهد تربية روحية تفوقها ، ويقابلوا النوادي الثقافية الناشفة من الدين بنواد أخرى مشبعة بروح الدين ، ويقابلوا المكتبات المادية أو المكتبات المؤسس بعضها أو أكثرها لخدمة المذاهب الفكرية والمبادئ العصبية الجاهلية المجددة بمكتبات تخدم العقيدة الإسلامية وتروج كتبها بأحدث وسيلة وأرخص ثمن ، ويقابلوا الصحف المادية والمغرضة بصحف دينية فيها تركيز العقيدة وفضح الباطل ، وإظهار عورات أهله ، ويقابلوا الإذاعات المغرضة وسائر الإعلام من القصص والمجلات وأشرطة الأفلام وغيرها بإذاعات ووسائل إعلامية أخرى توجه الناس إلى الحق ، وتضبط عقولهم وأوقاتهم وتحفظها من سرقة شياطين الإنس والجن واختطافها ، وهكذا فليقابلوا كل وسيلة هدمٍ بوسيلة بناء (صفوة الآثار والمفاهيم (1/145-146) .
ج- التعاون على الدعوة :
يقول الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان المائدة [2] ، ومن مستلزمات الإسلام التعاون مه أهل الإيمان ، ومن فهم ما أسلفناه من كيد الأعداء أدرك أن التعاون أمر لا بد منه في مجال الدعوة .
ولمزيد من لإيضاح أشير إلى عدد من المفاهيم التي تزيد القناعة بالتعاون وتبين الخسارة في تركه .
أولاً : تعدد المجالات
إن الدعوة ليست محصورة في مجال معين أو وسيلة واحدة بل هي ميدان رحب ، ووسائل شتى ، وذلك يعني أنه لا بد من بذل جهود عظيمة ولا بد من إدراك أن الداعية مهما تعددت مواهبه فإنها تقصر عن الإبداع والإتقان في كل مجال ، فهناك من يستطيع الخطابة ويجيدها ، وهناك من يحسن التأليف ويتقنه ، وهناك من ينشر العلم ويدرسه ،وثمة من يعرف العمل السياسي ، وآخر يبدع في العمل الخيري ، وهكذا ولا يتصور أن تغطى هذه المجالات إلا باستفراغ كل داعية جهده في مجال إتقانه ليحصل التكامل ، ورحم الله الإمام مالك أمام دار الهجرة الذي نصب نفسه في ميدان من أعظم ميادين الدعوة وهو نشر العلم الشرعي فكتب إليه من يدعوه إلى غير ذلك فقال : ((إن الله قسم العمال كما قسم الأرزاق فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الجهاد ، فنشر العلم من أفضل أعمال البر وقد رضيت بما فتح الله لي فيه ، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر)) نزهة الفضلاء (2/625) .
ثانياً : قلة الإمكانيات
لا يشك أحد أن الأمة الإسلامية تعاني اليوم من قلة الدعاة وكثرة المنكرات ، وغلبة الجهل مما تحتاج معه إلى جهود ضخمة لإصلاح الأحوال وليس هناك الإمكانيات اللازمة الكافية لهذه الحاجات ، وإذاً فلا بد من التعاون لاستثمار هذه الإمكانيات بأقصى ما يمكن ، والإفادة من التجارب ، وتبادل الخبرات وما لم تكن نفسية التعاون موجودة فإن كثيراً من الخير يفوت .
ثالثاً : خذلان الأعداء
أعداء الإسلام من قديم الزمان كان من أعظم مقاصدهم بث أسباب الشقاق ، وزرع بذور النزاع بين المسلمين عموماً ، وأعيانهم من العلماء والدعاة خصوصاً ، وهذا يحقق لهم من الأهداف والغايات ما لا يستطيعون بلوغه بجهدهم وكيدهم ، ذلك أن الهدم من الداخل أشد فتكاً وأعظم ضرراً ، ولذا كان خطر المنافقين أكبر وأظهر ، وإن عدم إدراك هذه الحقيقة يجعل الداعية يخالف إخوانه من الدعاة لأي أمر عارض ، أو خلاف في أمر مما يسوغ فيه الخلاف ، أو تحمساً لفعل لم ير غيره أنه يناسب في هذا الوقت ونحو ذلك ، فيسعى حينئذ إلى مواجهة إخوانه الدعاة بدلاً من أعداء الله ، ويتفرغ لتسقط أخطائهم ، وتتبع عثراتهم ، فيفرح بذلك أعداء الله بل إنهم يسعون لذلك ويثيرونه ، فعلى الداعية الحصيف أن يفوت عليهم الفرصة وأن يخذلهم باتباع الحق ، وفهم حقيقة الاختلاف المبني على الاجتهاد وإحسان الظن بإخوانه ، والتماس العذر لهم ، والحرص على حماية أعراضهم ، وسمعتهم ، والحرص على التعاون ، وإشاعة الخير ، وله في ذلك نماذج من الأئمة والعلماء ، فهذا الإمام أحمد بن حنبل جاء في سيرته أنه إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد وقيام بحق واتباع لأمر سأل عنه ، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة ، وأحب أن يعرف أحواله .
وهذا الشافعي يناظر يونساً الصدفي فيختلفان ويفترقان ، قال يونس : فلقيني (أي الشافعي) فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة (نزهة الفضلاء (2/734) .
وهذا ابن المبارك سمع رجلاً ينال من آخر وينتقده فقال له ابن المبارك : هل قاتلت الترك ؟قال: لا، قال :فهل قاتلت الفرس؟قال :لا، قال:فهل قاتلت الديلم؟ قال:لا ، قال :أفيسلم منك الترك والفرس والديلم ولا يسلم منك أخوك المسلم ؟
إذا ما بدت من صاحب لك زلـة فكن أنت محتالاً لزلته عـذراً
أحب الفتى ينفي الفـواحش سمعه كأن به عن كل فاحشة وقـراً
سليم دواعي الصدر لا باسط أذى ولا مانع خيراً ولا قائلٌ هجراً
إن في أعدائنا كفاية لاستنفاذ جهودنا في حربهم ، ومواجهتهم فكيف نغفل عن هذا ونوجه سهامنا لبعضنا .
ولم أرَفى الخطوب أشد هولاً وأصعب من معاداة الرجال
وبعض المنتسبين إلى الدعوة إذا تعامل مع الدعاة كان فظاً غليظاً ، ومخالفاً عنيداً ، وإذا تعامل مع العصاة كان ليناً رفيقاً ، ومؤلفاً رقيقاً .
ومن أسباب امتناع التعاون وحصول ما يضاده ضعف الفقه لموضوع الاختلاف وما يسوغ منه وما لا يسوغ ، وما ينكر وما لا ينكر ، وما يسع المختلفين أن يتعاونوا وإن لم يتفقوا عليه وما لا يسعهم معه التعاون ولذا لا بد من العناية بهذا الجانب وفهمه .
ومن الأسباب أيضاً التعصب للموافق ، والتحزب ضد المخالف ، وهذا لا يليق بالمسلم فضلاً عن الداعية ، لأن المطلوب منه ((أن يدعو إلى الإسلام كله ، ولا يفرق بين الناس ، وأن يكون متعصباً لمذهب دون مذهب ، أو لقبيلة دون قبيلة ، أو لشيخه ، أو رئيسه أو غير ذلك)) .((وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى، كما قال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعانوا على البر والتقوى لم يكن كل أحد مع أحد في كل شيء ، بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله ، ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله ، بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونصر المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله ، ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبية جاهلية ، ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله ، ولا تفرق ولا اختلاف)) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/15) .
فعلى العاملين في مجال الدعوة أن يفطنوا لذلك فلا يقوموا بما يوهن صفوف الدعاة ويوغر صدورهم ، ويثير بينهم أسباب الفرقة .
د- الابتلاء وطول الطريق :
ليست طريق الدعوة مفروشة بالورود ، وليست سهلة الورود ، ولا قريبة المنتهى ، بل كما قال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب البقرة [214] وقال تعالى أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين العنكبوت [2-3] ، وإنها سنة إلهية ماضية ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب آل عمران [179] .
وسئل الشافعي : أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ، فقال :لا يمكن حتى يبتلى ، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة .

وطريق الدعوة طويل ((ومن استطال الطريق ضعف مشيه)) ، فلا بد من الصبر على البلاء وطول النفس ، وإدراك أن الزمن جزء من العلاج .

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك