الاستشراق والاستغراب ... عرض ومناقشة مقالات لبرنارد لويس
الاستشراق والاستغراب ... عرض ومناقشة مقالات لبرنارد لويس
أحمد عرفات القاضي
دعا بعض المفكرين العرب إلى ضرورة أن يكون الغرب موضوعاً للدراسة والتحليل من قبل الشرق حتى نكون عنه رؤيتنا من خلال دراسات وتحليلات علمية. ومن أشهر هؤلاء دكتور حسن حنفي صاحب كتاب في علم الاستغراب، فدراسة الغرب ومعرفته ستمكننا أن نتجاوز المركزية الغربية التي تمثل عنصرية الغرب ورؤيته للآخر من منظور فوقي، وهذه الرؤية الاستعمارية الاستعلائية هي المعبر الحقيقي عن المركزية الغربيةُ Eurocentricity والتي تجسدت أوضح ما يكون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث جرى تصنيف الأمم والشعوب على أساس عنصري وعرقي يؤكد أفضلية الإنسان الأوروبي والجنس الآري على بقية الأجناس والشعوب وينسب إليه الفضل في نشأة الحضارات وتطور الثقافات والرقي العلمي، والإبداع الفلسفي والفني. وفى ضوء تلك الرؤية أصبح من حق ذلك الجنس الآري - الذي يمتلك وحده الحقيقة - أن يستولي على خيرات هذا العالم، ومن ثم انطلقت الجيوش الأوروبية في غزو العالم، وأباحت لنفسها حق إبادة الأمم والشعوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية واستنزاف ثرواتها وخيراتها من أجل تدعيم مكانة السيد الأوروبي الأعظم في مواجهة العبيد والأراذل والأوباش. . . فيما عرف باسم تدعيم المركزية الأوروبية.
والحقيقة أن موضوع المقارنات بالأحداث والتواريخ بين الشرق والغرب موضوع يهتم به كثيراً برنارد لويس الذي يتعرض دائماً للمقارنة بين الشرق والغرب وبيان موقف كل منهما تجاه الآخر وفي التعرف إليه، فيشير مثلاً إلى اهتمام الغرب بالزمن كعنصر مهم في عملية تقدم الأمم والشعوب ومدى إحساسها بالواقع من حولها في حين ظل الأمر لا يثير اهتمام العالم الإسلامي، وعلى طول الخط فإن نتائج المقارنة تأتي لمصلحة الغرب، على حين يتصرف العالم الإسلامي بمنطق أنه الأفضل، نتيجة لرؤية دينية تحكم نظرته الشاملة للأمور، كما أنه يمتلك كل شيء وليس بحاجة لمعرفة الغرب الكافر، ولا للتعامل معه. وقد نجح الغرب في الخروج من العصور الوسطى نتيجة لإيمانه بالعلمانية، التي تميز بين ما هو ديني وما هو دنيوي، في حين ما زال العالم الإسلامي لا يفصل بين أمور الدين والدنيا نتيجة لأن الشريعة هي القانون الإلهي الذي يجب على المسلمين الالتزام به، وهو قانون غير مرن كالقانون الوضعي، ولن يستطيع العالم الإسلامي الخروج من حال التخلف والتبعية للغرب إلا باتباع العلمانية كمنهج ورؤية في الحياة.
فلويس لا يكتفي فقط بتشخيص أزمة العالم الإسلامي تجاه الغرب والتي تحولت لعقدة نقص وحقد مكبوت ينفس عن نفسه بالإرهاب والقتل والتدمير للغرب وحضارته المتفوقة نتيجة لإحساسه بالعجز والذل. هذه هي رؤية لويس التي لخصها في كتابيه: أين الخطأ وأزمة الإسلام والتي تعبر عن إيديولوجية أكثر من كونها تعبيراً عن رؤية علمية موضوعية لباحث منصف ومحايد في دراساته وأبحاثه. ومن جهة أخرى يدافع لويس عن الاستشراق ودوره في خدمة الدراسات الإسلامية، ويؤكد قدرة المستشرقين اليهود في خدمة هذه الدراسات، لأنهم - من وجهة نظره - أقرب لفهم الإسلام من غيرهم، كما أنهم مؤهلون بحكم معرفتهم باللغات السامية التي تعد اللغة العربية واحدة منها. ويضرب المثل على ذلك بمجموعة من المستشرقين اليهود كنماذج للمستشرقين المشتغلين بالدراسات الإسلامية أمثال جولدتسهير وشاخت وغيرهم. والحقيقة أن لويس تعرض لهذا الموضوع في أكثر من موضع في كتابه الأخير الصادر في 2004.
ففي كتابه From Bable to Dragomans يعرض لهذا الموضـوع تحـت عنوان «في الاستغراب والاستشراق» On Occidentalism and Orientalism يعرض للقضية.
والكتاب عبارة عن تجميع لأكثر من 50 من المقالات والأبحاث والتي تظهر بوضوح صفة من صفات لويس وهي التكرار للموضوعات فمعظم كتبه عبارة عن مقالة أو بحث صغير أو محاضرة نشرت في أول الأمر ثم يظهر بعد ذلك في كتاب. كما يظهر تكرار الأفكار والقضايا بصورة دائمة في مؤلفاته وبحوثه. ويبدأ حديثه عن الموضوع ببحث اهتمام الإسلام بالغرب، ويرى أن كتب قليلة ظهرت حول هذا الموضوع بالرجوع لكتب الفهارس فيذكر حاجي خليفة الموسوعي الببليوغرافي في كتاب له تحت عنوان «إرشاد الحيارى إلى تاريخ اليونان والروم والنصارى» كتب سنة 1655 أن هؤلاء البؤساء مصيرهم المحتوم في جهنم، والذين يعدون في نفس الوقت مبغوضين، كما أنهم وفي حقيقة الأمر من وجهة نظر دينية يعدون مصدر خطر حقيقي باعتبارهم تحولوا كجزء من أهل دار الإسلام لدار الحرب، وأصبح من الضروري معرفة أخبارهم. ويركز لويس على مقطع ورد في كلام خليفة عن الغرب ويرى أنه من الضروري الإشادة بقوله: إن المسلمين يجب أن يستيقظوا من نومهم الطويل في إهمالهم عدم متابعة تقدم المسيحيين عليهم. يجب أن نتعلم شيئاً عنهم وحينئذ نكون قادرين على اتخاذ موقف مناسب. وحقيقة الأمر فإن هذا الكلام كرره لويس في ما بعد، فيركز على إهمال المسلمين المتعمد للغرب والنظر إليهم باحتقار على اعتبار أن ما لديهم من علوم وفنون لا ينبغي الاهتمام به، وفي المقابل فإن الغرب كان يتابع بصورة مستمرة جهود الشرق من طريق طلاب العلم والرحالة، بمعنى آخر كان المسلمون كما هو شأنهم دائما ينظرون للأمور من منظور ديني، وليس من منظور علمي كما هو شأن الغرب العلماني، ومن هنا حرم المسلمون السفر لبلاد الكفر.
وقد بدأ الاهتمام الغربي بالفكر العربي والإسلامي مبكراً ففي عام 1633 تأسس أول كرسي لدراسة اللغة العربية في كامبردج ثم في أكسفورد عام 1636 وذلك بعد فترة طويلة من إنشاء كراسي للغة العربية في باريس وليدن كما لم تتوقف محاولات دراسة الشرق من قبل الغربيين، فالأسرى الغربيين في الحروب الطويلة بين العالمين الإسلامي والغربي كانوا يدونون أفكارهم ورؤيتهم عن الشرق ولكن نادراً ما كان يحدث ذلك من الأسرى العرب والمسلمين كما أن الأسرى المسيحيين الذين عادوا من عند البربر أو الجوار الشرقي في الفترة من القرن الخامس عشر وحتى السابع عشر اعتبروا محاضرين كباراً عن البلدان التي قضوا فيها فترات طالت أو قصرت في الأسر. إن الدراسات المتركزة حول الشرق الأوسط في العالم الغربي تمثل تاريخاً طويلاً، وتعود جذورها إلى القرون الوسطى من خلال المحاولات الأولى التي قامت بها أوروبا المسيحية لفهم الإسلام وتعلم العربية.
أما الباعث على ذلك لدى الغرب فيمكن إيضاحه في أمرين على النحو الآتي:
الأول: الرغبة في الفهم أو حب الفضول، فالعلماء والطلبة الغربيون كانوا يتجولون كمبتدئين في الشرق، خصوصاً في أسبانيا وصقليا وبدرجة أقل في الدول الإسلامية لكي يتعلموا من الحضارة الإسلامية المتفوقة حينذاك بهدف التوصل عبر الترجمات العربية وبفضل الأساتذة العرب إلى مصادر الفلسفة والعلم الإغريقي، فلم تكن اللغة العربية غير أداة والعلماء العرب غير وسطاء، وكان دين الفكر والعلم الأوروبي عظيماً لهؤلاء الوسطاء.
الثاني: كان الجدل أو الهجوم، فقد كان الإسلام والمسيحية متنافسين باعتبارهما أكبر ديانتين. وقد بذل الأوربيون جهوداً كبيرة من أجل حماية المسيحيين من التأثير الإسلامي، ومن جهة أخرى بهدف حمل المسلمين على اعتناق المسيحية، من أجل هذا كان لا بد من دراسة اللغة العربية، والقرآن إلى حد ما، ودراسة النصوص الدينية الإسلامية بهدف دحض الدين الإسلامي في نهاية المطاف.
فأوروبا دائماً لديها فضول معرفي تحلت به منذ عصر النهضة في مقابل زهد العالم الإسلامي في معرفة الآخرين، فهي لا تبدي اهتماماً في معرفة بعضها بعضاً، كما أنها تبدي اهتماماً أقل بالثقافات غير الإسلامية في آسيا وأفريقيا. ومما ساعد على إشباع هذا الفضول المعرفي الجديد رحلات الاستكشافات التي قادت الأوروبيين إلى أرض جديدة وغريبة في ما وراء المحيطات. لقد ساعدت هذه الرحلات على كسر القوالب الثقافية الجامدة وقدمت في آن معاً الحافز والمناسبة الملائمة للانخراط في دراسات أكثر عمقاً. وكان انطلاق القوة العثمانية ونهضتها باعثاً عملياً كبيراً يقف خلف هذه الدراسات، فالإمبراطورية العثمانية كانت تشكل لأوروبا تهديداً وخطراً يتطلبان اتخاذ تدابير دفاعية عاجلة. ومن جهة أخرى كانت تشكل سوقاً واسعة لتجارة الأوربيون يبيعون فيها ويشترون. كما أن الحاجة للاستخبارات السياسية والعسكرية من جهة ومناسبات التجارة وضرورتها من جهة أخرى كانت تستدعي دراسة جديدة وأكثر عملية للمنطقة.
هذه الرؤية الغربية للشرق تحتاج لرؤية معادلة من قبلنا نحن العرب والمسلمين عن الغرب المعاصر نحلل فيها مكوناته الفكرية وقيمه ووجهة الاختلاف بين أقاليمه وخصائص ومميزات كل منطقة بموضوعية حتى تكون أحكامنا عنه أكثر إنصافاً ونتلافى مثالب وسلبيات الرؤية الاستشراقية المعيبة عن الشرق والإسلام. لكن المشكلة أن دراسة الغرب من قبل العالم العربي والإسلامي في معظمها يمكن إيجازها من خلال رؤيتين متعارضتين في المنطلق متفقتين في الهدف والنتيجة وهو ذم العالم الغربي والتركيز على مثالبه وعيوبه وطمس محاسنه ومنجزاته العلمية والحضارية والإنسانية. فالرؤية الأولى يقدمها تيار الفكر الديني الذي لا يرى في حضارة الغرب سوى أنها حضارة فاجرة تقوم على الشهوات والحياة الماديـة ولا مكان فيها للأخلاق والمبـادئ وتتضح هذه الرؤية بصورة أوضح عند سيد قـطب في مـذكراته عن أميركا التي رآها والرؤية الثانية يمثلها الأيديولوجيون العرب من أنصار الفكر الماركسي والاشتراكي ومن دار في فلكهم من القوميين العرب وهؤلاء ينطلقون من منطلقات مخاصمة لبنية الفكر الغربي في الأساس فلا يرون في الغرب إلا الرأسمالية المتوحشة والإمبريالية المتمددة شرقاً وغرباً والتي تريد أن تبتلع العالم في أحشائها وتتحكم في ثرواته وقراراته فتكون لها السيادة واليد الطولى، فهذه الرؤية وتلك تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة موضوعية للغرب حتى يكون التواصل والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب قائماً على أسس منطقية ورؤية واضحة بعيدة عن المواقف المسبقة والأيديولوجيات الجامدة، وكلتاهما تنافي الموضوعية والمنهج العلمي السليم كما تتنافى مع منهج القرآن في التعامل والذي أكد عليها بقوله عز وجل: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى».
الحياة - 01/09/07//
المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=831&lang=ar