المثاقفة والمثاقفة المعكوسة في الاستشراق تأثير الثقافة العربية الإسلامية أنموذجاً
المثاقفة والمثاقفة المعكوسة في الاستشراق تأثير الثقافة العربية الإسلامية أنموذجاً
عبداللّـه أبوهيف
1- مفهوم المثاقفة والمثاقفة المعكوسة
اندرج الاستشراق حتى وقت قريب في مفهوم المثاقفة التي تفيد تأثير ثقافة قوية أو مستقوية وغازية وقاهرة على ثقافة ضعيفة أو مستضعفة ومغزوة ومقهورة، وكان هذا هو حال الثقافة الغربية الاستعمارية في بلدان الشمال على الثقافات القومية والوطنية المحلية في بلدان الجنوب، وقد ترافق الاستعمار أو الغزو أو الاحتلال بالاستشراق الذي ربط سلطة المعرفة بالقوة، وهو جوهر الخطاب الكولونيالي وما بعده، وقد أوضحه بجلاء أدوارد سعيد في كتابيه المميزين «الاستشراق» (1978) و«الثقافة والإمبريالية» (1993)، وأردفهما بكتابه الفاضح لمحاولات نشر المثاقفة القاهرة للثقافات التابعة برأي مستعمري العقل، وهو «تغطية الإسلام» (1981) الذي استغرق في تحليل المحاولات الاستعمارية والإمبريالية لتشويه الإسلام قوة حضارية في العالم الحديث بالتضليل والتزييف الجائر والظالم للثقافة الإسلامية، وبوشرت عمليات نقد التبعية الثقافية منذ افتضاح تداخل الاستشراق في مفهوم المثاقفة نحو استرداد الهوية ومواجهة الاستعمار الثقافي أو الغزو الثقافي، وعلى الرغم من تسمية الإفريقي السنغالي المسلم حميدو خان ذلك بأوهام «المغامرة المعقدة» (روايته الصادرة بالفرنسية عام 1953)، إلا أنه عبّر في الوقت نفسه عن دواعي مواجهة التبعية الثقافية التي من شأنها أن تعضد الثقافات الذاتية المناهضة لسلطة المعرفة الغربية على الثقافة الإسلامية، وسمّى الكاتب الكيني الكبير نغوجي واثيونغو هذه المواجهة «تصفية استعمار العقل» (1986)، وهو عنوان كتابه، وينادي فيه بنبذ المثاقفة من أجل «تحول اجتماعي أساسي لبنى مجتمعاتنا يبدأ من قطيعة حقيقية مع الاستعمار وحلفائه من الحكام المحليين»(1).
وصارت سلطة المثاقفة هي الأبرز في ميدان المثاقفة الحضارية إثر هيمنة الخطاب ما بعد الكونيالي الذي يضاعف تبعات الاستتباع والاستقطاب والهيمنة في التغطية على الخصوصيات الثقافية وعناصر الهوية القومية، ويفاقم وطأة التأزم الذاتي على الرغم من الاعتراف المتأخر بالمثاقفة المعكوسة التي تُحترم فيها ثقافات الآخرين، بتبادل التأثر والتأثير بين الثقافات مهما كانت مسمياتها وأوصافها، وقد انتشر لدى المثقفين العرب والإسلاميين ما يشبه «جلد الذات» استسلاماً للمثاقفة، بينما داخلت جهود النهضة متأخرة عمليات المثاقفة المعكوسة التي نمّتها دراسات الأدب المقارن اعترافاً بالتقاليد الثقافية العربية والإسلامية في الثقافات الغربية؛ وبدأ إقرار الاستشراق الأوروبي بذلك اعترافاً بمكانة الثقافة العربية الإسلامية (المقهورة) في الثقافة الغربية (القاهرة) للتقليل من خطر الاستعلاء الثقافي أو التذويب الثقافي استهدافاً لإمحاء الخصوصيات الثقافية ونفي أصالتها وتهميش هوياتها.
واستندت المثاقفة المعكوسة إلى اشتغال الاستشراق بنقد «التلقف» المعرفي الذي جعل المؤثرات الأجنبية هي السائدة في مضمار الثقافة العربية والإسلامية حتى شاهت صور التقاليد الثقافية الأدبية والعقائدية والمعرفية كثيراً في خضم تلوينات المثاقفة الطاغية على الإنتاج الثقافي الاستشراقي. وقد وضعت كتاباً كاملاً حول تحليل «الاستغراب» في القصة العربية الحديثة المندغم في «المثاقفة المعكوسة»، وهو «القصة العربية الحديثة والغرب: سيرورة التقاليد في القصة العربية الحديثة»(2) مواجهة للمثاقفة بما هي حضور الغرب في التخييل السردي، وبرهنت إلى حدّ كبير على مدى التبدل في النظرة الاستشراقية إزاء السرد والسردية الغربية في صلب الموقف من العرب والثقافة العربية تقليلاً من شأن المثاقفة واعترافاً بشأن المثاقفة المعكوسة التي تضيء مجالات تأثير الثقافات المقهورة في الثقافة القاهرة.
هل يعد الاتهام المتكرر للعروبة، وقد بانت مبكرة توظيفات المعرفة الاستشرافية في تشويه العروبة والإسلام، نفياً للتاريخ وحقائقه؟ وإنها لسيرة مروعة أن نتذكر مفاصل تلك السياسة المخادعة ومخاطرها الدائمة، بينما تؤكد دراسة تراث الإنسانية الباقي أن التفاعل بين الشعوب والثقافات والحضارات لم تخفت أنواره، وأن الإسلام وثقافته العربية أثّرا إيما تأثير في العمران البشري، فتبنى مفكرون ومبدعون منصفون إسهام العرب والإسلام الحي في حضارة الإنسان من ول ديورانت في سفره الضخم «قصة الحضارة» إلى زيفغريد هونكة في كتابها الشهير «شمس العرب تسطع على الغرب» مما جعل الحديث مبكراً نسبياً قياساً لزمن النهوض العربي القصير في العصر الحديث من جانب العرب في إعادة الاعتبار لمكانتهم التاريخية والفكرية والإبداعية دفعاً لمقولات المثاقفة المتكررة وحدها فكانت الكتب الكثيرة عن المثاقفة المعكوسة التي تتحدث بعامة عن تأثير الثقافة العربية الإسلامية في الفكر الغربي اعتماداً على الدراسات الاستشراقية بالدرجة الأولى أمثال: «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي» لعبد الرحمن بدوي (بيروت 1966) و«رحلة الأدب العربي إلى أوروبا» لمفيد الشوباشي (القاهرة 1968) و«تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي» لصلاح فضل (القاهرة 1971) و«ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي» لمحسن جاسم الموسوي (بيروت 1986) و«ملحمة السيد: دراسة مقارنة» للطاهر أحمد مكي (القاهرة 1970) و«مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي» لمكارم الغمري (الكويت 1991).. الخ، غير أن المعول عليه في أهمية هذا التفكير المختلف هو اعتراف الغرب نفسه في الدراسات الاستشراقية التي تعمقت في ميادين الأدب المقارن بوجود المثاقفة المعكوسة تقديراً لإسهام الفكر العربي والإسلامي في تكوين الفكر الأوروبي ولاسيما أعلامه الكبار، وأكتفي في هذا السياق بذكر بعض الكتب المعربة توكيداً لهذه الحساسية الجديدة أمثال «حضارة العرب في أسبانيا» لمؤلفه ليفي بروقسال (القاهرة 1980) و«الدراسات العربية في أوروبا» ليوهان فوك (لايبزيغ 1955) و«حكم النبي محمد» لمؤلفه الأشهر ليو تولستوي (القاهرة 1972) و«جوته والعالم العربي» لمؤلفته كاترينا مومسن (الكويت 1995) و«الماضي المشترك بين العرب والغرب: أصول الآداب الشعبية الغربية» لمؤلفه أ. ل. رانيلا (الكويت 1999)، والكتاب الأخير دراسة غربية منهجية تشير إلى موضوع انتقال آداب عربية بعينها إلى العالم الغربي...الخ، بل إن كتّاباً كباراً أمثال بورخيس اعترفوا بالتأثير العميق للسردية العربية في السردية الغربية، وسأشير إلى هذه الظاهرة تالياً.
وأتناول في هذا البحث مجالاً من مجالات المثاقفة المعكوسة حسب الدراسات الاستشراقية، وهو تأثير الثقافة العربية الإسلامية والآداب العربية.
2- تأثير الثقافة العربية الإسلامية والآداب العربية
ظهرت إلماحات كثيرة إلى المثاقفة المعكوسة في أعمال المستشرقين عن تأثير الثقافة العربية الإسلامية بعامة والآداب العربية بخاصة، وقد تنامت هذه التأثيرات ضمن نداء حوار الحضارات الذي يقوم على حوار الأديان والعقائد والثقافات، وارتفعت أصوات هذا النداء خلال نصف القرن الماضي، مع تجليات حضور الاعتراف بمآثر الحضارة العربية الإسلامية وإبراز دورها المتألق ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في مضمار التقدم البشري والتطور الإنساني على الرغم من أن معظم المستشرقين، إلا فيما ندر، على الرغم من اختلاف أساليب التناول ومناهج البحث وطرق الدراسات ينتهون في غالب الأحايين إلى نتائج متشابهة، كما هو الحال في تمحيص «مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية» (مجلدان 1985)، ونذكر منها:
1- إن العنصر العربي عنصر متخلف بفطرته، وطبيعته الجنسية والمناخية، الأمر الذي عطل فيه دوافع الإبداع والابتكار.
2- إن الإسلام دين نهي وأوامر وزجر وكبت للحرية والاجتهاد، الأمر الذي أنتج أمة فاقدة للشخصية خاضعة للمشيئة، مسلوبة الإرادة.
3- إن محمداً نبي العرب والمسلمين هو أقرب إلى الشخصيات الإصلاحية منه إلى الأنبياء المرسلين برسالة للعالمين.
4- إن دور العلماء المسلمين في كل أطوار التاريخ لم يتعد النقل عن الحضارات واللغات الأخرى نقلاً حرفياً مجرداً، وأحياناً نقلاً محرّفاً دونما ابتكار أو إضافة.
5- إن علاج الأمة الإسلامية ونجوتها من الكبوة يكمن في احتذاء النموذج الغربي سلوكاً وتطبعاً وثقافة(3)، وقد أنجز المجلدان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج، وكان من بين الاعتبارات إلى إصدار هذا الكتاب مشاركة الأمة العربية والإسلامية سعيها إلى استعادة مكانتها في الدورة الحضارية المتجددة، وإعادة الصلات العريقة والأمشاج والروابط التي كانت تربطها الشعوب والأمم والأجناس. ولو تأملنا ملياً الأبحاث التي تناولت مناهج المستشرقين لتأكد لنا مثل هذه الغلبة لنزوعات المثاقفة في مجالات القرآن الكريم والسنة النبوية وروايتها والسيرة النبوية والعقيدة الإسلامية والقانون والشريعة والفلسفة والتاريخ واللغة والأدب، وأتوقف عند دراسة «موقف مرجليوث من الشعر العربي» لمحمد مصطفى هدارة، وقد افتتحها كاتبها بالقول:
«على كثرة ما كتب المستشرقون في قضايا اللغة العربية والأدب العربي لا نجد مقالة تمثل سوء المنهج العلمي خضوعاً للتعصب المقيت ضد العروبة والإسلام أشد وقعاً وأبعد أثراً من مقالة «ديفيد صمويل مرجليوث David Samuel Margoliouth» المستشرق الإنجليزي الذي نشرها بعنوان «أصول الشعر العربي The Origins of Arabic Poetry» في عدد يوليو عام 1925 من مجلة الجمعية الآسيوية الملكية التي تصدر بلندن: «Jornal of the Royal Asiatic Society» والتي كان رئيساً لتحريرها»(4).
واتفق الرأي على أن بحوثه التي تتصل بالإسلام تتسم بالتعصب المقيت والبعد عن المنهج العلمي والجهالة الفاضحة، كما في كتابيه «محمد ونشأة الإسلام» (1905) و«الإسلام» (1911). وفي بحثه عن العلاقات بين العرب واليهود حتى ظهور الإسلام (المنشور عام 1924).
وردّ عدد من المستشرقين على مرجليوث ضمن جهود المثاقفة المعكوسة مثل برونيلسن الذي دان أفكار مرجليوث حول نفيه لتحضر المجتمعات العربية والإسلامية آنذاك، بقوله: «ليس من المستبعد ازدهار ملكة فنية لدى أقوام ذي حياة بدائية»، وفي رد «برونيلسن» على «مرجليوث» في هذا الجزء يقول: «لن يكون مفهوماً لماذا فضل علماء اللغة الذين ازدهروا في العصر الأموي نفسه اعتبار اللغة أداة معينة على تفسير القرآن، ولماذا جعلوا شواهدهم من الشعر الجاهلي، وفضلّوه على الشعر الأموي»(5). وتيودور نيلدكه الذي تعرض لأفكار مرجليوث أيضاً حول تحديد أولوية الشعر العربي. ولا يخفى أن السمة الغالبة على دراسات المستشرقين هي المثاقفة، ويغلب عليها التضليل والتزييف وتشويه صورة العرب والمسلمين، فبزغ اتجاه المثاقفة المعكوسة من بعض المستشرقين الذين يتقصون في دراساتهم الموضوعية والنزاهة والمنهجية، والأهم الإيمان بتراث الإنسانية من البشر جميعاً مهما اختلفت الحقب أو تباينت الأجناس والديانات والجغرافيات. وتلاقى ذلك الاتجاه في جهود المستشرقين المؤمنين بالروح الحضارية المتواصلة، واختار كتاب «جوته والعالم العربي» أنموذجاً مع جهود العرب المستغربين الذين تعالت في وجدانهم نبرات تعالق وعي الذات والآخر بما تفصح عنه دراسات المستشرقين أنفسهم من جهة، وأعمال بعض أعلام الثقافة الغربية المتأثرين بالثقافة العربية الإسلامية أمثال بوشكين وبورخيس من جهة أخرى. وقال نيلدكه: «إن ذلك يحتاج إلى معرفة بدقائق اللغة العربية والاستعمال الشعري، لا يستطيع اكتسابها أي أجنبي، وما أبعدنا عن إدراك الفروق في الاستعمال اللغوي العربي القديم»(6).
3- جوته والثقافة العربية الإسلامية
تناولت كاترينا مومسن في كتابها «جوته والعالم العربي» الإلهامات الكثيرة التي استوحاها هذا الأديب العبقري من الإسلام والأدب العربي، ووضعت مقدمة للطبعة العربية على أن ترجمته تتيح للقراء العرب الوقوف على مقدار ما للعالم العربي من فضل على واحد من أعظم شعراء أوروبا ومفكريها إيماناً بالأخوة الإنسانية. فقد أعجب جوته بالعرب وأحبهم، وهو خير من يُضرب به المثل للدلالة على مدى تفتح الطاقات الإيجابية المبدعة إذا صادفتها الظروف الملائمة وتخطى المرء حدود التفكير المحلي الضيق وراح يحتك بفكر غريب ومختلف عنه، ووجدت مومسن أن فكرة جوته عن الأدب العالمي كانت في الواقع تعبيراً عن رغبته في شد أزر الأخوة والسلام بين بني البشر. وبهذا المعنى أخذ جوته على عاتقه، وبوصفه شاعراً ألمانياً، تقريب الثقافة العربية إلى أبناء جلدته، وأعربت عن أملها في أن تكون هذه الترجمة فرصة لأن يكسب جوته، صديق العرب، أصدقاء عرباً جدداً، وأن تساعد على تعزيز فكرته عن «الأدب العالمي»، هذه الفكرة التي طالما تاق إلى تحقيقها. وبهذا المعنى أيضاً باركت الترجمة العربية، متمنية لها ولأفكار جوته كل التوفيق والنجاح والازدهار(7).
ويفيد هذا التقديم للطبعة العربية من مؤلفته مومسن في تعزيز المثاقفة المعكوسة في دراسات المستشرقين. وحوى الكتاب مدخلاً عن اهتمام جوته بالثقافة العربية من خلال متابعته للدراسات العربية للمستشرقين وأدب الرحلات، وسعيه لتعلم العربية، وقد اعترف بذلك في حديثه:
«لا ينقصني إلا القليل حتى أبدأ في تعلم العربية أيضاً. إني أودّ أن أتعلم أبجديتها على الأقل بحيث أتمكن من تقليد التمائم والطلاسم والأختام بشكلها الأصلي»(8).
وبيّنت مومسن أن مثل هذه الدراسات (المثاقفة المعكوسة) تبقى حقلاً من حقول علم الاستشراق المختص بالدراسات العربية، لأن هذا العلم هو الذي يقرر قيمة الصورة التي رسمها جوته لنفسه عن العرب ومدى صدقها. وهذا ما لاحظه لنتس أيضاً حين قال: «إن البحث ـ من وجهة نظر علم الاستشراق ـ يكمن فقط في الكشف عن ماهية الملامح التي أبرزها أو استقاها جوته من المادة التي كانت بين يديه. وفي هذا السياق يواجهنا احتمالان متعارضان: فإما أن تكون الصورة التي رسمها جوته لنفسه عن الشرق، كلياً أو جزئياً، صورة صائبة، وإما أنها كانت خاطئة»(9).
وأوردت مومسن معلومة دقيقة عن اهتمام جوته بالدراسات العربية للمستشرقين مفادها أن سجل الإعارات في مكتبة مدينة فايمار اشتمل على العديد من الدلائل التي تشهد على انشغال جوته بالعالم العربي. وقد شاء القدر أن وجهّه المستشرق هردر لدراسة القرآن الكريم، ويعود إليه الفضل أيضاً في عنايته الكبيرة بالشعر العربي، وشهدت مذكرات جوته اليومية على مساعيه المتكررة لتعلم قواعد اللغة العربية لدى ملازمته لكتاب سلفستر دي ساسي «قواعد اللغة العربية».
وعالجت مومسن في الفصل الأول «جوته والشعر الجاهلي» وفي الفصل الثاني «جوته والإسلام»، وهو الجانب الأكثر تميزاً في إضاءة مدى المثاقفة المعكوسة اعترافاً بالمؤثرات الإسلامية العربية في الإبداع الأوروبي، ورأت مومسن أن علاقة جوته بالإسلام وبنبيّه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (569-632م) ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر. فكل الشواهد تدل على أنه كان في أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريم كانت ـ بعد الكتاب المقدس ـ أوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى. ولم يقتصر اهتمامه بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل، فقد نظم، وهو في سن الثالثة والعشرين، قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن «يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي». وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة أعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق عن احترامه وإجلاله للإسلام، وهذا ما نجده قبل كل شيء في ذلك الكتاب الذي يعدُّ، إلى جانب فاوست، من أهمّ وصاياه الأدبية للأجيال، ونقصد به «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». بل إن دهشتنا لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في إعلانه عن صدور هذا الديوان وقال فيها إنه هو نفسه «لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم»(10).
ولا تقتصر هذه المؤثرات على جوته وحده، فقد ظهرت في عصره، جهود ومحاولات جادة للنظر للإسلام نظرة أكثر تحرراً وأقل تحيزاً مما جرت عليه العادة في القرون الماضية. ومع ذلك لا ينبغي أن ننسى أن هذه النظرة لم تصبح اتجاهاً عاماً، بل ظلت مقتصرة على أفراد معدودين استطاعوا أن يرتفعوا بأنفسهم إلى موقف منصف وعادل. فالقلّة النادرة من المفكرين والكتّاب الناطقين بلسان العصر هم الذين يستطيع المرء أن يقول عنهم إنهم كانوا يسعون إلى التغلب على ضيق أفق أبناء جلدتهم، ويحاولون تنوير عقولهم بغية الارتقاء بالمعتقدات وتهذيب أساليب التفكير. وفي مقابل ذلك ظلت الغالبية العظمى من أبناء ذلك العصر ـ إن كانوا قد شغلوا أنفسهم يوماً بالإسلام ـ على مواقفهم المفتقرة إلى الفهم والتقدير والتعاطف والتسامح(11).
وأمعنت مومسن في تحليل صلة جوته الروحية بالإسلام، وقد فاقت تعبيراته وتصريحاته عن الإسلام كلّ ما قيل عنه في ألمانيا حتى ذلك الحين من حيث القوة والجسارة والتحدي. وأتاحت له المرحلة اللاحقة من حياته، أي المرحلة التي أتمّ فيها دراسة القانون في مدينة شتراسبورج، لقاء هردر الذي حثّه على قراءة القرآن الكريم ودراسته. وبانت إلى حد كبير الأصداء القرآنية في مسرحيته «جوتس فون برليشنجن»، وتكررت اقتباسات جوته من الترجمة الألمانية التي قام بها ميجرلن للقرآن الكريم، الصادرة في معرض الكتاب في خريف 1971، وألهمت الدراسات القرآنية جوته التخطيط لكتابة شذرات من مسرحية مسماة «تراجيديا محمد» (1772)، ومنها قصيدة المديح الشهيرة «نشيد محمد». واتسعت مؤثرات الإسلام على حياة جوته العملية، وأشاد على هذا النحو بالإسلام، وأثنى عليه. ويثبت مضمون الحديث أنه، وإن كان قد بلغ السابعة والسبعين من عمره، أي بلغ خريف العمر، لم يتراخَ إعجابه بالإسلام أبداً، بل كان يتعاظم ويشتد رسوخه(12).
وثمة أحداث كثيرة في حياة جوته أنبأت ببداية مرحلة الديوان الشرقي، مما عمّق إسلاميات الديوان الشرقي (1814-1820)، كاقتداء شاعر الديوان بحافظ القرآن، وقوة التأثيرات القرآنية على قصائد الديوان، والتسليم بمشيئة الله في الديوان، والتقدير العظيم لعقيدة التوحيد فيه، واقتباس آيات الله في الطبيعة، وتوارد بعض أسماء الله المائة في الديوان الشرقي، والدعوة في بعض المواقع لبعض المبادئ الإسلامية. وتجلت أيضاً الإسلاميات في كتاب «الفردوس» مثل تصورات الجنة.
وتلازمت المثاقفة المعكوسة، من خلال انتشارها وتوكيدها على المكانة الحضارية للثقافة العربية الإسلامية في تراث الإنسانية، مع جهود الاستغراب الناجمة عنها والمستندة إليها في الوقت نفسه، وأذكر في هذا المجال نموذجين للمثاقفة المعكوسة، الأول المؤثرات العربية والإسلامية في أدب بوشكين في كتابي «مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي» (1992) لمكارم الغمري و«بوشكين والقرآن: دراسة في الأدب المقارن» (2001) لمالك صقور، والثاني المؤثرات الأدبية العربية على قصص بورخيس مثالاً حياً للمثاقفة المعكوسة، وقد عنيت بهذا الموضوع في مؤلفاتي السابقة(13).
4- المؤثرات العربية الإسلامية في الأدب الروسي
وخصصت مكارم الغمري كتابها «مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي» للبرهنة على المثاقفة المعكوسة، فيما يتيحه الأدب المقارن من التواصل الحضاري بين روسيا والشرق العربي ووسائط الاستقبال المعتمدة بناء على دراسات الاستشراق، ومن الرواد الأوائل في حركة الاستشراق الجامعي «الأكاديمي» في روسيا نخص بالإشارة كلاًّ من باير Baier وكير Ker اللذين ظهر نشاطهما في القرن الثامن عشر، حيث ساهما في الجهود المبكرة في تدريس العربية في روسيا، والتي ارتبطت بشكل خاص بإعداد الدبلوماسيين في وزارة الشؤون الخارجية.
وأثنى كراتشكوفسكي على دور باير Baier (1694-1738) في إلقاء الضوء على المصادر العربية، فلأول مرة أبرزت أهمية المواد الشرقية بالنسبة لتاريخ روسيا، ويعد سينكوفسكي Senkovsky (1800-1858) من أهم المستشرقين الروس الذين أسهموا بنشاط كبير في نشر الثقافة العربية، وتميز سينكوفسكي بين أقرانه بمعرفة الشرق العربي على الطبيعة. أما المستشرق الأهم في دراسات المثاقفة المعكوسة فهو كراتشكوفسكي (1883-1951)، وتنتمي كتاباته إلى مرحلتين زمنيتين من تاريخ روسيا هما: روسيا القيصرية ما قبل الثورة، وروسيا السوفيتية بعد الثورة. ورغم أن نشاط كراتشكوفسكي وإسهاماته في مجال الاستشراق تنتمي تاريخياً إلى القرن العشرين، إلا أننا مع ذلك نجد ثمة ضرورة في الإشارة إليه نظراً للمكانة البارزة التي يحتلها كراتشكوفسكي في الاستشراق الروسي، فهو ـ بحق ـ يعد مؤسساً لمدرسة الاستشراق السوفيتية وصاحب دراسات متميزة في اللغة والأدب والتاريخ العربي والمخطوطات العربية(14).
وتعددت وسائط المؤثرات من الرحلات والترجمات والصحافة إلى العوامل المساعدة، ولاسيما الجغرافي والنفسي، أما العامل الجغرافي فيرتبط بموقع روسيا: جارة الشرق والغرب، وقد أشار الناقد الكبير د. ليخاتشوف إلى أن «الثقافة الروسية محظوظة جداً (والأدب بالطبع)، فقد نمت على السهول المتسعة المجاورة للشرق والغرب في الشمال والجنوب».
أما العامل النفسي فيرتبط بوجود شعوب شرقية في عداد روسيا، وقد صارت هذه الشعوب جزءاً لا يتجزأ من تاريخها، لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون عند صانعي الشعر الروسي وقارئيه استعداد نفسي كبير لفهم الشرق والغرب كنمطين متعارضين، بل كوحدة واحدة. وقد ساهمت هذه الوسائط المختلفة بدرجات متفاوتة في استقبال الثقافة الروسية العناصر العربية، التي اكتنزت على امتداد قرون، ووجدت تربة خصبة للتفاعل مع الثقافة الروسية عند حافة القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، مما أذن بحدوث «التأثير والتأثر»، الذي وجد أصدق تعبير له في فترة ازدهار الحركة الرومانتيكية الروسية، التي تأثرت بشكل كبير بالشرق(15).
وفصلّت الغمري القول في أشكال المثاقفة المعكوسة التي أضاءتها إلى حد كبير دراسات المستشرقين الروس، وتجلت هذه الأشكال في مدى انتشار خصوصيات شرقية في الرومانتيكية الروسية والموضوع العربي والإسلامي في إنتاج الكسند بوشكين والإيحاءات العربية والإسلامية في إنتاج ميخائيل ليرمونتوف وتأثير الشرق العربي في فكر ليوتولستوي وإنتاجه، والمؤثرات العربية والإسلامية في إنتاج إيفان بونين.
وأوضح ما ورد في الفصل الرابع عن «الموضوع العربي والإسلامي في إنتاج بوشكين»، وهو الشاعر الأعظم في الثقافة الروسية، وقد تناولت دراستان استشراقيتان الإيحاءات العربية في إنتاج بوشكين، والدراسة الأولى للباحث السوفيتي د. بيلكين Belkin «تصور الشرق في إنتاج بوشكين» تناول فيها ـ جزئياً ـ دراسة تأثير الشرق العربي على إنتاج بوشكين في إطار الحديث عن تأثير مناطق الشرق المختلفة وبخاصة القوقاز وإيران والصين، وقد توقف بيلكين ـ خصوصاً ـ في مجال دراسة تأثير الشرق العربي عند قصائد «قبسات من القرآن»، كما تناول على عجالة القصتين الشعريتين «روسلان ولودميلا»، و«ليالي المصري»».
والدراسة الثانية هي للباحثة السوفيتية أ. لوبيكوفا Lobikova، وتناولت فيها دراسة التأثير العربي على القصة الشعرية «روسلان ولودميلا» في إطار تأثرها بالمنابع الفلكلورية المختلفة، كذلك تناولت «قبسات من القرآن» من خلال رؤية يشوبها الكثير من الخلط وعدم الوضوح. وقدم هذا الفصل محاولة لدراسة مكانة «الموضوع العربي والإسلامي» في إنتاج بوشكين وذلك من خلال تحليل مؤلفات الشاعر المتأثرة بالشرق العربي عبر مراحل إنتاجه المختلفة، وأوردت الغمري في هذا التمهيد، مقدمة عامة نعرض فيها للمكانة العامة لبوشكين في الشعر الروسي، وللرومانتيكية كطابع مميز لإنتاجه، وإلى روافد هذا الإنتاج، وانتهى هذا التمهيد بالإشارة إلى الشرق وملامح سيرة بوشكين الذاتية(16).
وكان حظ الثقافة العربية في فكر بوشكين كبيراً، وقد كان شغوفاً بمتابعتها في مختلف منابعها، فتابع كتابات الرحالة الروس عن الشرق العربي، حيث حازت كتابات أ. مورافيوف Muravev اهتمام بوشكين وملاحظاته، فقد كتب في عام 1823 عن كتاب أ. مورافيوف «رحلة إلى الأماكن المقدسة»، وبدا أن بوشكين كان شغوفاً بالتعرف على تاريخ الخلافة الإسلامية. ويشهد على ذلك توجهه إلى بطرسبرج في عام 1814 لسماع محاضرة ألقاها الأديب الروسي الكبير ن. جوجول Gogol عن الخليفة المأمون وعصره، كذلك تشير لوبيكوفا إلى قراءة بوشكين كتاب أ. كايدانوف «أسس التاريخ السياسي العام»، ج1، التاريخ القديم، وهو الكتاب الذي خصص جزءاً كبيراً للحديث عن البلاد العربية وعن الإسلام ورسوله(17).
وبرزت تأثيرات الشعر العربي على إنتاج بوشكين في: «نافورة باختشي سراي» بخاصة، وقد لعبت الموتيفات العربية في «نافورة باختشي سراي» دوراً في تشييد ذلك «الأسلوب الشرقي» الذي يعبق «بالفخامة» فخرج المؤلف كما أراد له مبدعه «يعبق بالشرق» مجسداً في طياته جزءاً من الأسلوب الشرقي في الشعر الروسي، وهو الأسلوب الذي اقترن في أذهان الأوساط الأدبية الروسية بلغة «الرغبات» وأسلوب المجازات والاستعارات والتشبيهات(18).
وظهرت مراراً صورة العربي والعربية في أدب بوشكين، وذكر المستشرق ستيبانوف أن بوشكين تمكن من «تصويره للعصور البعيدة والثقافات القومية الأخرى من أن ينفذ إلى عمق الجوهر الداخلي لهذه العصور والثقافات، محتفظاً في الوقت نفسه بتقييمه وتفسيره واستيعابه لتلك الأحداث والشخصيات التي كان يصورها»(19).
وتجلت المؤثرات الإسلامية في إنتاج بوشكين في قصيدته «الرسول» (1826) وقصائد «قبسات من القرآن» (1824). وعبّرت هذه القصائد عن إعجاب بوشكين بسيرة الرسول، وهو الإعجاب الذي يشهد عليه استلهامه لمراحل مختلفة من السيرة النبوية في أكثر من قصيدة، وبخاصة في مجموعة قصائد «قبسات من القرآن». بالإضافة إلى ذلك أن تمثل شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يرتبط بالمنهج الفني لبوشكين في علاقته «بتمثل الشخصيات غير الروسية والتي بواسطتها يعبر بوشكين في شكل رمزي عن أفكار الحرية»، فهذه «الرمزية الدينية تتحول إلى غطاء مجازي شفاف يعكس معنىً حقيقياً واضحاً من خلفه»، إن شخصية الرسول ـ هنا ـ في بحثها عن الحقيقة تبرز كمعادل للوجود الإنساني الحقيقي في دأبه نحو الحقيقة(20).
وتبرز مجموعة القصائد التسع التي يجمعها العنوان «قبسات من القرآن» (1824) كأكبر شاهد على تأثر بوشكين بالتراث الروحي للشرق العربي الإسلامي، وكبرهان دامغ على قدرة القيم القرآنية على عبور آفاق الزمان والمكان والتغلغل في نفوس أناس لا يؤمنون بعظمة القرآن الكريم.
وربما تكون «قبسات من القرآن» ـ حقيقة ـ من أهم أعمال بوشكين من وجهة النظر الفكرية والجمالية، فهي بشهادة شيخ النقاد الروس بيلينسكي «ماس يتألق في إكليل أشعار بوشكين»(21).
وتجدر الإشارة بعد ذلك إلى عمق تأثر مؤلفات بوشكين بالشرق العربي في محاور أساسية تمثل الأركان الرئيسة في بناء «الموضوع العربي» في إنتاجه: «روسلان ولودميلا»، والقصائد العاطفية الغزلية، و«نافورة باختشي سراي» و«قبسات من القرآن».
وتعكس «روسلان ولودميلا» علاقة «الموضوع العربي» في إنتاج بوشكين باحتياجات المذهب الرومانتيكي في إنتاجه، فقد استلهم بوشكين في «روسلان ولودميلا» الأثر الأدبي العربي الكبير «ألف ليلة وليلة» بعد أن وجد به الخيال الثري الذي يكمن في أعماقه المثل الأعلى الأخلاقي المميز لرومانتيكية بوشكين. وأثمر في «قبسات من القرآن» «التركيبة الغربية الشرقية». وظهر فيها إعجاب بوشكين بالسيرة النبوية واستلهامه لها للتعبير بشكل مجازي عن أفكار الحرية والنضال المنكر للذات. وتحلى «الموضوع العربي» في إنتاج بوشكين بسمة غالبة ميزت الموضوع الشرقي في إنتاجه وهي: الموضوعية والصدق في تصوير الشرق العربي في كل تنوع خصوصية الثقافة العربية القومية، وفي دقتها التاريخية، وتميزها الحضاري: العربي والإسلامي. وجسّد الموضوع العربي بجلاء حلم الشاعر الذي طالما عبر عنه وهو: «أن تتناسى الشعوب خلافاتها وتلتقي في عائلة إنسانية كبرى»، كذلك يكتسب «الموضوع العربي» حيوية خاصة نظراً لتجسيده للمثل الأخلاقية للشاعر بوشكين وللأفكار الثورية التي عبرت عنها الحركة الديسمبرية في روسيا في الثلث الأول من القرن الماضي(22).
5- بوشكين والقرآن
وتأتي أهمية كتاب مالك صقور «بوشكين والقرآن» (2001)(23) ضمن السياق الكاشف عن المؤثرات العربية والإسلامية في أدب بوشكين توكيداً على المثاقفة المعكوسة وفضائل دراسات الاستشراق كلما دخلت في ميادين الأدب المقارن المنهجي والموضوعي.
وبرهن مالك صقور في دراسته المنهجية على مقولة طالما أغفلها الغرب ودارسو بوشكين، وهي أن القرآن الكريم وآياته ملاذ روحي لبوشكين في سني محنته مما طبع إبداعه العظيم، عندما نُفي وحُوصر من الجهات جميعها: رجال القيصر والسلطات المحلية ورجال الدين وأبيه، أثناء التحضير لانتفاضة الديسمبريين ضد القيصر، فبرزت له حينئذ شخصية الرسول العربي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مرشداً روحياً وأخلاقياً ونضالياً، فأعجب بشخصه الكريم يتيماً أصبح قائداً عظيماً ومحارباً شجاعاً وعطوفاً رحيماً على الفقراء والمساكين ومثالاً للتواضع والرحمة والإنسانية، مثلما وجد في القرآن الكريم ملهماً لإبداعه الشعري الذي أضحى ماسة في تاج الشعر الإنساني(24).
حوى الكتاب توطئة ومقدمة وسبعة فصول وخلاصة، بالإضافة إلى ثبت المراجع بالروسية وبالعربية، وزيادة في الفائدة العلمية المنشودة عرّب عنوانات هذه المراجع وأسماء مؤلفيها، وكتبها بحروف لاتينية كما تلفظ باللغة الروسية لتكون مثالاً للدراسة في الأدب المقارن. ومهّد المؤلف لموضوعه بفصلين الأول عن «روسيا والعرب» والثاني عن «الموضوعة العربية في إبداع بوشكين»، وتناول في الفصل الثالث أهم نصوصه الشعرية «محاكاة القرآن» التي تقع في تسعة أجزاء، تكاد تكون متطابقة مع النص القرآني كما برهنت الدراسة، ثم خصص الفصل الرابع للإجابة عن سؤال: «لماذا حاكى بوشكين القرآن؟»، والفصل الخامس للإجابة عن سؤال هام آخر: «ماذا حاكى بوشكين في القرآن؟»، بينما عُني في الفصل السادس بقضايا الشكل والمضمون، وفي الفصل السابع والأخير بمقولة الشاعر ـ النبي.
ولعل الإشارة إلى الأفكار الرئيسة في خلاصة بحثه تبرز قصد المؤلف من نشر هذا الكتاب القيم في هذا الوقت بالذات:
أولاً: لإغناء الشعر الروسي بأعظم الأفكار وأروعها، والمتجسدة في آيات القرآن الكريم. وهذا ما يؤكده قول بوشكين نفسه: «يتضمن القرآن الكثير من الحقائق والقيم الأخلاقية المطروحة بقوة وشاعرية».
ثانياً: وجد في القرآن، وآياته، الملاذ الروحي في محنته في سني النفي، عندما حوصر من جميع الجهات، لنتذكر مطلع قصيدة «النبي»: «عذبني عطش الروح/ وأنا منبوذ بالصحراء». في أثناء التحضير للانتفاضة، ومرحلة النضال الشرس، والمغامر، لمجموعة الشباب الذين ثاروا وتمردوا، وانتهت بانتفاضة الديسمبريين.
ثالثاً: رأى في شخصية النبي المرشد الروحي والأخلاقي والنضالي في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ روسيا القيصرية. إذ وجد في صبر النبي وثباته وتمسكه بمبادئه وتحمله أذى المشركين وبعض أقربائه والتنكيل به والتبشير بالدعوة، ثم الهجرة، ثم انتصار الرسالة، المثال، والقدوة، لكل المناضلين.
رابعاً: رأى في شخص النبي، مثال القائد، الحكيم، والمحارب المقاتل، وفي الوقت نفسه، المتواضع، الرحيم، العطوف.
خامساً: بحث بوشكين عن القيم الأخلاقية، المتمثلة برفض التكبر والغرور والدعوة إلى التسامح، والطهارة والعفة والحشمة.
سادساً: لقد أحب بوشكين كثيراً فكرة العطاء والزكاة والصدقات التي عدها شكلاً من أشكال التضامن والتكافل الاجتماعيين وإكرام اليتيم والاهتمام به وعطاء الفقير من غير مِنَّة أو أذى، لأن الفقر المدقع هو الذي كان يسود عامة الشعب الروسي الغارق في مملكة الظلام في مرحلة العبودية والرق.
سابعاً: لقد أولى بوشكين أهمية كبيرة لقضية «البعث»: بعث وانبعاث الإنسان، الخانع، الخاضع، للاستبداد والعنف.
ثامناً: لقد أعجب بوشكين بفكرة الجهاد والنضال حتى النصر وفكرة الفداء والشهادة مشجعاً على أن الشهداء لا يموتون، بل يرتعون في الجنة.
ينفع مثل هذا الكتاب في استمرار الجهود البحثية للمثاقفة المعكوسة إعلاء لمقولة حوار الحضارات التي تبين بجلاء ووضوح أن تراث الإنسانية مشترك بين الشعوب وثقافاتها وأديانها ومعتقداتها.
6- ملاحظة ختامية
تشير هذه الرؤية في الدراسات الاستشراقية -مثلما حاولنا أن نبرهن عليها في مجال تأثير الثقافة العربية الإسلامية والآداب العربية على الثقافة الغربية- إلى أن جهود المثاقفة المعكوسة قد انتعشت كثيراً خلال نصف القرن الأخير بما يفيد كثيراً في حوار الحضارات لدى الإقرار بالتفاعل الثقافي بين الأجناس والشعوب والأمم جميعاً.
الهوامش:
(1) نغوجي واثيونغو: تصفية استعمار العقل، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1987.
(2) عبدالله أبوهيف: القصة العربية الحديثة والغرب: سيرورة التقاليد في القصة العربية الحديثة، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1994.
(3) عدة مؤلفين: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية. الجزء الأول. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. مكتبة التربية العربي لدول الخليج، تونس، 1985، الجزء الأول، ص11.
(4) المصدر السابق نفسه، ص396.
(5) المصدر السابق نفسه، ص430-431.
(6) مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الأول، ص431.
(7) كاترينا مومسن (كاترينا مومزن)، جوته والعالم العربي، عالم المعرفة 194، الكويت، شباط 1995، ص9-10.
(8) المصدر السابق نفسه، ص49.
(9) المصدر السابق نفسه، ص18-19.
(10) المصدر السابق نفسه، ص177.
(11) المصدر السابق نفسه، ص183.
(12) المصدر السابق نفسه، ص226.
(13) انظر: عن التقاليد والتحديث في القصة العربية، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1992.
(14) مكارم الغمري: مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي،ص41.
(15) المصدر السابق نفسه، ص52-53.
(16) المصدر السابق نفسه، ص74.
(17) المصدر السابق نفسه، ص87.
(18) المصدر السابق نفسه، ص120.
(19) المصدر السابق نفسه، ص133.
(20) المصدر السابق نفسه، ص142.
(21) المصدر السابق نفسه، ص143.
(22) المصدر السابق نفسه، ص170-172.
(23) مالك صقور: بوشكين والقرآن: دراسة في الأدب المقارن، دار الحارث، دمشق، 2001.
(24) لعل نشر الكتاب ذاته وثيق الصلة بهذه الهجمة الغربية الأمريكية الشرسة على العرب والإسلام، لأن أصول هذا الكتاب تعود إلى أطروحة أكاديمية تقدم بها المؤلف عام 1975 لنيل درجة الماجستير من «جامعة موسكو الحكومية»، ونشر فصلاً عاماً منه في مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق ـ العدد 113 لعام 1980)، مثلما نشر حواراً في جريدة «الثورة» (دمشق) بعنوان «القرآن الكريم وتأثيراته على بوشكين» (25/5/1980).
المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=620&lang=ar