مسافر في قطار الدعوة

مسافر في قطار الدعوة

د / عادل عبد الله الشويخ
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله0
(1)
كان أصل هذا الكتاب بضع محاضرات، أُلقيت على مجموعة من ناشئة الدعاة، الغرض منها تبيان شرعية العمل الدعوى الجماعى، وما يتعلق به من أسس الإيمان ومبادئ الإسلام، وما يرتبط بذلك من العلم الصائب، وأنواع العمل الصالح، ورغبت عند البدء فى أن تكون بأسلوب رمزى يجمع بين تقريب الفهم من جهة، ويثير حوافز التأمل فى المعانى من جهة أخرى، وجرى على اللسان التشبيه بالسفر، وبقافلة الإبل المقطورة نحو هدف معين، فكان الرمز ملائماً للمقصد، ومناسباً للعرض والشرح، وقد شجع على ذلك ورود صفة الرواحل فى الحديث النبوى الصحيح، وتكرار نظائر التشبيه فى عبارات السلف، فكان اختيار قطار الدعوة رمزاً لجماعة العاملين للإسلام، أخذاً من عبارة أحد المحدثين الحفاظ، الذى روى عنه قوله : ( أو ما أحب أن أكون فى قطار رسول الله )
(2)
بعد أن تم إلقاء هذه المحاضرات نشرت على مدى ست حلقات فى مجلة ((الإصلاح)) فى دولة الإمارات العربية المتحدة، فرغب الإخوة الأفاضل القائمون على المجلة فى الاستمرار بكتابة حلقات أخرى فى فقه الدعوة، فما كان منى إلا الاستجابة للطلب، واستمرت الكتابة خلال فترة تزيد على أربع سنوات، نشرت فيها ثلاثون حلقة تحت نفس الاسم، ما بين ربيع الأول من عام 1408هـ (نوفمبر 1987م)، وحتى ذى القعدة من عام 1412هـ (مايو 1992)، وكانت جميعها فى مسائل شتى فى أسس فقه الدعوة، جمعتها رمزية باتجاه واحد، ونظمت معانيها مجازات واستعارات متشابهة0
(3)
ونظراً لمرور فترة طويلة منذ بداية النشر، وعدم احتفاظ الكثير من القراء بأعداد المجلة، رغب بعض الإخوة فى أن تُضم المقالات بين دفتى الكتابة، تعميماً لفائدة النشر الأوسع، ودراسة المعانى بشكل متسلسل، ولما كانت الواجبات أكثر من الأوقات، فقد تقرر طبعها كما نشرت، دون تفويت المصلحة بتأخير إظهارها، فيما لو أعيد النظر فيها بالزيادة والتنقيح، إذ إن طلب الكمال أمر صعب المنال، ولعل من حسن ظننا بالقراء، ما يجعلنا نطمئن إلى حسن ظنهم بنا، والتأوّل لنا بالخير عن كل خطأ وزلل0
(4)
لقد اعتمدت منهجية هذه الفصول، التى انتظمت أخيراً على شكل هذا الكتاب على تناول بعض أفكار فقه الدعوة إلى الله عز وجل، بأسلوب مختصر بسيط بعيد عن التقعر والتكلف، حيث تعتمد كل المعانى فيه على النصوص الشرعية وعلى جملة من نصوص السلف والفقهاء والعلماء، دون محاولة الاستكثار والاستقصاء والحصر، وأكتفى- فى معظم الحالات- بالإشارة إلى جزء من النصوص، حتى يعتاد القارئ الرجوع إلى الأصول، والاستفادة من الكتب المنقول عنها، مع بعض التعليقات والشروح الموضحة لتلك النصوص، محاولين الابتعاد –جهد الإمكان- عن الآراء الشاذة، والتأويلات المتكلفة، مع تخريج مجمل الأحاديث النبوية الشريفة0
(5)
شملت الفصول الثلاثون مدى واسعاً من الأفكار الدعوية، فتضمنت أسس الفهم ومراتب العمل، وبعض خصائص الدعاة وأخلاقهم، وتأصيل فقه العمل الجماعى، وربانية العمل والدعوة والتعليم، وأصول معاملة الأفاضل، ومناهج النظر إلى الأخطاء، كما تضمنت أحاديث عن الفتن والمحن فى الدعوات، مع تأصيل العمل النسائى وبعض الأنشطة الدعوية، تخلت ضمن هذه المواضيع حلقات وعظية تقطع ملل القارئ، كتأصيل أدب المسامرة والمزاح، ورحلة فى أشجار الإيمان، واستراحة المسافر، وكانت الفصول الأخيرة إشارات إلى طرق تطوير أجيال الدعاة المتقدمة، بالعودة إلى الأصول، واستلهام المعرفة الإنسانية0 ومن الجدير بالذكر، أن مادة يسيرة من بعض هذه الفصول قد نشرت فى رسائل مستقلة0
(6)
تهدف جملة هذه المواضيع إلى دفع الدعاة إلى المزيد من الوعى المنهجى، والعودة إلى أصالة الفهم والتطبيق، وإلى إثراء العمل الصالح بالجدة والإبداع، وكذلك إلى الارتفاع بمستوى الأداء للتأثير فى تطوير المجتمع الإسلامى، وبناء الأمة فى مختلف مناحى الحياة على أساس الإسلام، وهذا الكتاب مجرد محاولة على الطريق، نشترك فيها مع الآخرين لعلها تضع زاداً ينفع فى دعم أولويات العمل الإسلامى، فى مسار الصحوة المباركة ولعله يصيب بفضل الله ونعمته شيئاً من الهدف، وما كان فيه من صواب فمن الله وحده وما كان غير ذلك فمن نفسى ومن الشيطان، واستغفر الله تعالى منه0
وأسأل القارئ الدعاء لنا بظهر الغيب، ووفقنا الله تعالى
جميعاً لما يحبه ويرضاه
د / عادل عبد الله الشويخ

(1) قطار الرواحل
سلام الله 00 أولاً
أخى القارئ 00 سلام الله عليك، وأحمد الله إليك، ولعلك تصبر معى قليلاً حتى تكمل قراءة هذه الكلمات، والصبر على القراءة عزيز هذه الأيام، ولكنها –كما أظن- حكايات تستحق الرواية، أو عرض يستحق القبول ولعلك فى هذه الأجواء تبحث عن طريق، أو قل ربما عن رفيق، وقد يكون فى العرض شىء من هذا أو شىء من ذاك، وما عليك إلا الانتظار، وأنت تعلم كم هو الركام الكثير فى عصرنا هذا من بضاعة الكلام، والتنافس فى التشدق والإعلام، ولكن بحسبنا كلمات صغيرة لعلها تطرق القلوب الكبار، ومسالك القلوب وعرة ، والولوج إليها صعب، وما حيلتنا إلا بالطرقات الخفيفة، لعلنا نلج القلوب المرهفة، وتنصت لنا الآذان المتعبة من كثرة الصخب والضجيج0 واعلم أخى أن ما يخرج من القلب يدركه القلب، وما يخرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، والرائد لا يكذب أهله والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بالتقاطها، ولقد ميز الله سبحانه وتعالى ابن آدم بالعقل ليميز الحسن من القبيح، والصالح من الطالح، وسوف تكون أمامك مائدة تأخذ منها أطايب الكلام كما ينتقى الطيب من الطعام، ولعلك بهذا تحصل على عاقبة الخير، فنفتح لك القلوب، ونقترح عليك السفر معنا فى قطار الدعوة، لعلنا وإياك نكون من الذين يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، ونبصر بدين الله أهل العمى، ونكون جميعاً من طائفة الحق الذين لا يضرهم من خالفهم فى الدنيا، وفى الآخرة من الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله0
سفر 00 وطريق
ولعل الاقتراح بالسفر مفيد، ولكن أي سفر هذا، إنه السفر الأهم والموصل إلى طريق النجاة، ولا يزال الرسول يوصى بسؤال الله تعالى الهداية، وما الهداية إلا لمن وجد الطريق بعد الضلال0
(( حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى0 إلى طريق رضاه وجنته، كأنه مسافر، وقد ضل عن الطريق0 ولا يدرى أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها، فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة، تمثيلاً لها بالطريق المحسوس المسافر، وحاجة المسافر إلى الله سبحانه، إلى أن يهديه تلك الطريق أعظم من حاجة المسافر إلى بلد إلىمن يدله على الطريق الموصل لها 000 " ( ) 0
فالمسألة إذن ليست رمزية بعيدة، وإنما هى حقيقة الحياة ونقلتها، والإنسان حتى فى حياته الاعتيادية ما هو إلا بين سفر وسفر، طال أو قصر، لينبهنا الله تعالى بالصغير على الكبير، وبالتافه على المهم، وبالطارئ على المستديم0 وقد كان  يذكر أنه فى الدنيا (كراكب استظل بشجرة ثم راح وتركها) والمؤمن مع سفرته الطويلة، فدونها أسفار، فبعد أن قطع سفرته من الجاهلية إلى الإسلام، ثم تسامى بنفسه من المعاصى إلى الطاعات، شمر عن ساعد الجد حتى سافر من السفوح الهابطة إلى القمم السامقة، وكان من السابقين بالخيرات، وهو من هؤلاء الذين ندعوهم لركوب قطار الدعاة بعد التعرف على مصاعب الطريق، وخصائص القطار، وصفات الرفقة0 واستعدادات السفر، وأنت –أيها القارئ العزيز- بالخيار بعد ذلك، والأسفار على قدر الهمم0

رموز الخير
وحتى على فرض التسليم بالرمزية هذه فالرموز ليست غريبة على الحس الإسلامى بل هى فى صميمه، وما مجاز العربية إلا منه، فهذا المصطفى  يشبه الناس بالمعادن فيقول: (( الناس معادن خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا))، ويشبه الوضوء اليومى بالاغتسال من حوض دائم، ويشبه بعض قراء القرآن بالأترجة أو الحنظلة أو غيرها، والناس فى استماع الخير كالأرض التى يصيب بعضها الماء وينبت الكلأ، وبعضها يمسك الماء وبعضها لا ينبت الكلأ ولا يمسك الماء0 ومن تمثيل المصطفى  لركب الناس فى سفرهم إلى الآخرة، جعلهم كركاب سفينة دون انتفاء0
فانظر إلى السفر الحياتى وفيه من أصحاب الخير الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، وفيهم من أهل الشر الذين لابد من أطرهم على الحق، حتى لا تضيع سفينة الحياة، ولعل قدرة الله تعالى شاءت بأول تاريخ البشرية الثاني أن تكون السفينة معنوية وحقيقية عندما تهادت سفينة نوح، بركب المؤمنين تقطع السفر الطارئ، ليكون التنبيه دوماً أن سفينة الإيمان باقية تتهادى بين موج هادئ، أو عواصف هادرة بحماية الله وحفظه، ولا تزال:
سفينة الأمس لا زالت بجدتها سبحان من صاغها للناس سبحانا

الرواحل 000 قليلة
ولطالما كانت التشبيهات النبوية بالإبل لأنها أقرب إلى التصور فى بيئة العرب، وهو نوع من التنبيه على حقائق الكون والحياة فى كل بيئة، ومن ذلك قوله  : (( إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة))( )0
وهيهات أن تصلح كل الإبل لحلم الأثقال، كما لا يصلح كل الناس لحمل الأمانة الثقيلة لغلبة الشهوات، وثقلة الأرض، وهذا يدل على أن البعض كالإبل السائبة، والبعض يصلح للقافلة وهم النجباء الأوفياء، وهم الذى يحرص على السفر بهم0
قال الأزهرى: إن الله ذم الدنيا وحذر العباد سوء مغبتها ووضع لهم فيها الأمثال ليعتبروا كقوله تعالى:  إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء (يونس:24) وما أشبهها من الآى، وكان النبى يحذرهم مما حذرهم الله، ويزهدهم فيها فقال: لا يجدون الناس المرضى كإبل مائة، ليس فيها راحلة أراد أن الكامل فى الزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة قليل، وهذا ينسجم مع آيات الله وأحاديث الرسول 0
وقال الخطابى: (( إن أكثر الناس أهل نقص وجهل فلا تستكثر من صحبتهم، ولا تؤاخ منهم إلا أهل الفضل، وعددهم قليل بمنزلة الراحلة من الإبل الحمولة ودليل ذلك قوله تعالى: ولكن أكثرهم لا يعلمون (القصص:13)0
(( 00 وقال القرطبى: الذى يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذى يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم، ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة فى الإبل الكثيرة00 وقال ابن بطال: معنى الحديث أن الناس كثير والمرضى منهم قليل00))( )
ولعلك – أنت – من هذه الرواحل، إن شاء الله 0
ابن مقطورة
والإبل الرواحل نوعان: منها سائبة، وإبل مقطورة، والتى تسمى عندئذ القطار ((والقطار من الإبل عدد على نسق واحد))( )
وهذا القطار من النجائب، ويرتبط على نسق واحد بحبل بينهم، ليتوجهوا نحو وجهة ثابتة، وبخطى وئيدة، لا تعوقهم عوائق الطريق، ولا يتلفتون للوراء، ولا يشذ عنهم إلا ضعيف هزيل، أو مريض أجرب، وبهم يفوز المسافر، وعليهم تقطع المفاوز ووجهتهم معروفة، ودليلهم حداء، لا تزعجهم صرخات النشاز، ولا يحول دون سيرهم همس الإغراء 00 وهذا القطار من الإبل به سميت العربات الحديدية المتشابهة، والمربوطة مع بعضها البعض تسحبها قاطرة واحدة على خط معروف00 وبهم – قطار الإبل، وقطار الحديد – تشبه قافلة الإيمان التى نريد السفر معها، مجموعة متماثلة متماسكة من المؤمنين، طريقهم اتباع الهدى النبوى، وحبلهم حبل الله المتينواعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا000 (آل عمران : 103) أصل منهجهم الكتاب والسنةن وجواز ركوبهم الإيمان والعلم، وتأشيرتهم إخلاص العمل وصوابه0
ورفقتهم فى السفر رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار (النور :37)0 ووجهتهم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين (آل عمران:133)، وزادهم فى السفر التقوى وذلك خير زاد، ومحطات استراحتهم فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه (النور:36)، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يبخلون إذا بخل الناس، سفرهم كله عبادة ليله ونهاره، لأنه سفر لله ومع الله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (الذاريات : 56) 0
فى السفر نفرة
والسفر حركة، وهو تناسق مع الكون، وتساوق من أصداء تسبيح الخلق، فالحركة سنة كونية، ولا تزال الأجرام فى حركتها وكل فى فلك يسبحون (يس:40) و(( الإلكترونات)) فى مداراتها والذارات فى مسيرتها، وفق سننن ثابتة لا تتغير إلا وفق سنن أخرى، وكما فى عالم المادة، ففى عالم الأحياء، نبات ينمو، وزهر يتفتح، وثمرة تنضج، وفراشة تطير وخلائق تسبح وتدور، والكل فى حركة لا تفتر، فهى سنة الله التى لا تتغير، والمؤمن وحده يتناسق فى عمله مع حركة الكون، ويتفاعل مع انسيابيته، ويتصرف وفق سنة الخالق وكما أراد، وبالتالى فهو يسبح الله تعالى كبقية الخلائق بلا انحراف عن الفطرة، ولا اعوجاج عن الصراط المستقيم، وقدتكون حركة بعض المؤمنين أشد من بعض، فهم أقواهم على السفر وأرغبهم فيه، وهؤلاء هم أهل النفرة سواء فى الجهاد أو العلم، أو فيهما معا: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (التوبة: 122) (( بل ينبغى أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة تتفقه0 ثم ترجع تعلم القاعدين فيكون النفير على هذا نفير تعلم00 وما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد كلهم بل ينبغى أن تنفر طائفة للجهاد وفرقة تقعد تتفقه فى الدين00 وعلى هذا فالنفير نفير جهاد 000)) ( )0
فيا الله ما أحلى نفرة المؤمن مع غيره كطائفة تتفقه فى الدين، وتنذر القوم لعلهم يحذرون0

النية 000 بداية الطريق
ترى كيف يسافر المسافر، وهو بلا مقصد، فبالنية يتحدد السفر، وتتوضح الوجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة طالت أم قصرت، وعلى صدقها يحمل الزاد، وهكذا سفر المؤمن لابد من النية الصادقة، وهى أصل الأعمال (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى 000)) ( ) 0
والنية أصل العبادات، وبها يتميز الصحيح من السقيم، والخالص من غيره، وبالنية تتحدد منازل السالكين، ووجهة القاصدين، ومن يريد بها وجه الله تعالى، أو يريد السفر بأى نوع كالهجرة إذ إنها قد تكون، لمصلحة دنيوية، أو دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، وبهذه النية يتحدد الإخلاص الذى به يؤجر المرء على متاعب الطريق، وبه يستعذب العذاب، وبه تهون مشاق الطريق0
والإخلاص وحده يقود إلى شفافيه القلب، وصفاء الوجدان، لأن المؤمن لا يفكر بعده إلا فى عظمة ربه ولا يتوجه إلا إلى خالقه، فلا يضيره متاعب المثبطين، ولا نداء المرجفين، ولا يقعده فتور الهابطين0 ومن الإخلاص الطهارة من الغل والغش (( فالإخلاص سبيل الإخلاص، والاسلام هو مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان 000 ولزوم جماعتهم هذا أيضاً مما يطهر القلب من الغل والغش فإنه صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم لهم 00 )) ( )0
فإذا كان المستعد للسفر قد طهر قلبه من الغل والحسد، فما أحلى رفقة أهل الإيمان معه، وما أجمل سكون أهل اليقين وإياه، فهنا يحلوا الطريق وعندها يحمد القوم السرى0
مقومات السفر
إذا كنت- يا أخى القارئ- لا زلت مصراً على الإتمام، فاعلم أن مقومات السفر ثلاثة :
أولها : منهج السفر ولا مجال لنا فى الاجتهاد فيه، إذ إن الاجتهاد فى أسفار الدنيا مسوغ لأن مبناه على مصالح العباد، أما السفر مع قافلة الإيمان فقد تكفل رب العزة بالمنهج، وهى فكرة (( الإسلام)) وحدها فهو يحدد الغاية والأهداف، والوسائل والغايات، والله تعالى لا يتقبل غيره0
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه 00 (آل عمران: 85)
وثانياً : دليل الطريق أو حداء القافلة، أو ربان السفينة، وهى القدوة التى لابد منها، والتى ابتدأت بزعامة الأنبياء والمرسلين، وكانت تحت راية المصطفى ، ولا تزال قاعدة السفر هكذا حتى فى عالم الحقيقة لا المجاز (( إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم )) ( )0
(( فإذا كان قد أوجب فى أقل الجماعات، وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم، كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك 000)) ( )
وثالثها: رفقاء السفر والذين لابد منهم لقضاء الحاجة ولا يزال البشر يحتاج بعضهم لبعض حتى تتحقق مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهذه سنة الله فى خلقه (( وكل بنى آدم لا تتم مصلحتهم لا فى الدنيا ولا فى الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر00، فإذا اجتمعوا فلابد من أمور يفعلونها يحتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهى عن تلك المفاسد00 )) ( )0
فافهم –أخلى فى الله- أركان الجماعة المؤمنة، فهم ركب من المسلمين، تقودهم إمارة بالحق، لتحقيق الدعوة إلى الله عز وجل، على وفق منهاج النبوة0
(2) السفينة السائرة
لازلنا نبحث عن مقومات السفر فى طريق الدعوة والدعاة، ذلك السفر المتفرع بدوره عن سفرة الحياة، إذ لا يزال الناس مسافرين منذ خلقوا من شاطئ الدنيا إلى شاطئ الآخرة، يركب بعضهم اللجة فيصل إلى شاطئ الندامة، والبعض يركب مع سفينة الأمل والرجاء، مع السفينة التى يقودها الأنبياء فتتجاوز أمواج الفتن، وعواصف البلاء حتى تصل شاطئ الأمان0 والتشبيه فوق أنه معنوى، فله أساس حقيقى أيضاً فما بداية البشرية الثانية إلا من مجموعة المؤمنين الناجين مع سفينة نوح عليه السلام – التى صنعت على عين البارى عز وجل، وتجاوزت بهم جبال الأمواج وعصمهم الله :
((الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط رحالهم إلا فى الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبنى على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة راحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، ومن المعلوم أن كل أنة من أنات السفر غير واقفة ولا المكلف واقف، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التى يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح على قدم الاستعداد للسير)) ( )0
قافلة الخير
ولا يزال ركب المؤمنين مستمراً يحدوه المصلح بعد المصلح، والقائد 00 وسفينة المؤمنين هى سفينة النجاة التى تحمل ركب الإيمان وتنقله من شاطئ الدنيا إلى الآخرة، ولا يزال البشر – أيضاً – وهم على شاطئ الحياة فى قوافل متعددة، منها قوافل البغى والاستطالة، ومنها قوافل الخير والمعروف، ومنها قوافل الشر والعدوان0 وقافل الخير فيها من هو مقتصد، ومنها من هو سابق للخيرات، وهؤلاء هم قوافل الأبرار من الدعاة الذين زالت عنهم وحشة السير التى يجدها المتخلفون، ولان لهم ما استوعره المترفون:
((أسمعهم منادى الإيمان النداء، فاستبقوا إليه، واستيقنت أنفسهم ما وعدهم به ربهم فزهدوا فيما سواه، 000 علموا أن الدنيا دار ممر لا دار مقر ومنزل عبور لا مقعد حبور، وأنها خيال طيف أو سحابة صيف00 وأقبلت الآخرة إلى قلوبهم مسرعة كما أسرعت إلى الخلق مقبلة، فامتطوا ظهور العزائم وهجروا لذة المنام، وما ليل المحب بنائم، علموا طول الطريق وقلة المقام فى منزل التزود، فسارعوا إلى الجهاز، وجد بهم السير إلى منازل الأحباب، فقطعوا المراحل وطووا المفاوز 00 )) ( )0
تأشيرة السفر
وهنا يأتى دور الراغب فى السفر معهم، فلابد له من الاستعداد والعزم على ذلك، وشروط ذلك ثلاثة: الإيمان، والعلم، والعمل0 وهنا كان العزم على الالتحاق بالركب الميمون، أولها: الإيمان وهو عمود الأمر وأساسه، وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وبه تصلح أمورهم فى أمور المعاش والمعاد، وبه تتحقق المصالح0 والإيمان قاعدة الشريعة، وهو الفرقان بين الحق والباطل، والمميز بين ركب الناجين وركب الهالكين، كما أنه بدونه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، والمبلغ بهذا الإيمان هو المصطفى  وعلى كل مؤمن أن يؤمن بما جاء به على وجه الإجمال، وأما ما جاء على وجه التفصيل فهو فرض أقدارهم وحاجاتهم ومعرفتهم، ومن لا يتبع الرسول، وهو أتبع الخلق فى الطريق الموصل لله، فسوف يضل، ويعجز عن معرفة الحق، ولا يستطيع النظر والاستدلال الموصل إلى اليقين، ويصيب الإنسان عند ترك النهج النبوى الضلال فى الدنيا والشقاء فى الآخرة0 ولهذا فإن من مقتضيات الإيمان اتباع المرسلين وما أنزل عليهم، وما أنزل على محمد وعلى أساسه يجب أن يكون البحث التام، والنظر القوى، والعمل بعد ذلك بالعمل الصالح ظاهراً وباطناً وللإيمان خصائص وصفات منها ما سيذكر باختصار :
الإيمان قول وعمل
وأول خصائص الإيمان أنه قول وعمل، أو قول وفعل :
((فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات، مراد من ادخل ذلك فى تعريف الإيمان ومن نفاه، إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط فى كماله))( )0
ورأى السلف من علماء الأمة التوسط دون إفراط وتفريط، والبعد فى هذا الأمر على طرفى نقيض، فمن المبتدعة من قال: الإيمان اعتقاد ونطق كالمرجئة، أو هو العمل والنطق والاعتقاد كالمعتزلة، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً فى صحته، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً فى صحته، والسلف جعلوها شرطاً فى كماله، بل وإن اشتراط السلف لكمال الإيمان بالعمل إنما هو بالنظر لما عند الله تعالى، أما عند إقرار الأحكام فى الدنيا، فلا يحكم على أحد بالكفر إلا إذا اقترن به عمل يدل على الكفر كالسجود للصنم، أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة، أو لإقراره بالكفر، أو الاستهزاء بآيات الله تعالى00
قد ينفى الإيمان أحياناً عن شخص رغم إقراره، ويراد به نقصانه، وعدم كماله، كما يطلق الكفر على الفعل دون الفاعل، كما يطلق الكفر على ترك الصلاة، بينما لا يطلق لفظ الكافر على تارك الصلاة إلا إذا تركها جحوداً أو إنكاراً، والشهادتان تعصم دم الناطق بهما ويهما إثبات ونفى، إثبات الوحدانية لله تعالى، ونفى الألوهية والربوبية عن غيره، كما وفيهما التصديق بما جاء النبى  عنه، والتوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق:
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون (الأنبياء: 25)0
أنواع التوحيد
إن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع
أحدهما: الكلام فى الصفات، والأسماء، وما يتفرغ عنها 0
والثانى: توحيد الربوبية، وبيان أن الله واحد خالق كل شىء0
والثالث: توحيد الألوهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له 0
والأول : إثبات صفات الله عز وجل كما أخبر عنها، وأن الله تعالى ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته، ولا فى أفعاله، وخصائصه لا يوصف بها شىء من المخلوقات0
والثانى : هو الإقرار بأن الله خالق كل شىء، وهذا حق ولا ريب فيه، والقلوب مفطورة على الإقرار به، وعليه اتباع الشرائع الأخرى، كما أن عرب الجاهلية كانوا يقرون بوجود الخالق ولا يسجدون للأصنام إلا ليقربوهم إلى الله زلفى0
والثالث : هو التوحيد المطلوب، والمتضمن توحيد الربوبية، وهو الذى يحتاج المسلمون الإقرار به، والقرآن الكريم مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه، وضرب الأمثال له، ومقتضى الشهادة: الإيمان اليقينى بالله تعالى وما يتضمن من أسمائه وصفاته، وأنه هو :
((قديم بلا ابتداء،دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام، حى لا يموت قيوم لا ينام، خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة000 وكما أنه محيى الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شىء قدير00 لا يحتاج إلى شىء ليس كمثله شىء، وهو السميع البصير)) ( )0
الإيمان يزيد وينقص
ومقام الإيمان الثانى أنه يزيد وينقص، وعلى هذا إجماع السلف حيث يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى، ويتأثر بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصدر الأول أقوى، وإيمان الصديق أقوى من إيمان غيره، وإيمان الملائكة أتم من غيره :
(( ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما فى قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون فى بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه فى بعضها، وكذلك فى التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها 000))( )0
وهذا التباين فى الإيمان إنما هو بأثره على السلوك، وبنتائجه من الخشية والتقوى0
قال الطحاوى – رحمه الله- : (( وأهله فى أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخافة الهوى وملازمة الأولى)) 0
وتشبيه ذلك كأصل الضوء فى المصابيح المختلفة فى قدرتها الكهربائية، فأصل الضوء واحد فيها، ولكنها تتباين فى شدة الضوء المنبعث منها بناء على قدراتها وما تتزود به من طاقة، وكذلك يمكن القول بأن الأمر كالبصراء المختلفين فى قوة البصر وضعفه، إذ أن فيهم الأخفش والأعشى، ومنهم من يرى الخط الثخين دون الدقيق، ومنهم من لا يرى إلا بعدسة، وأصحاب العدسات بينهم فروق بقوة عدساتهم، بينما هو جميعاً يصنفون فى مجموعة المبصرين0
((إن التساوى إنما هو فى أصله، ولا يلزم منه التساوى من كل وجه، بل تفاوت درجات نور (لا إله إلا الله) فى قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى، فمن الناس من نور (لا إله إلا الله) فى قلبه كالشمس، ومنهم من نورها فى قلبه كالكوكب الدرى، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضئ، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بإيمانهم، وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما فى قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته))( )0
والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه فى الكتاب والسنة كثيرة جداً منها 00 قوله تعالى :
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً(الأنفال : 2) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى(مريم:76) ويزداد الذين آمنوا إيماناً (المدثر:31)0 (وكان عمر يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيمانا 00)0 (وكان ابن مسعود يقول لأصحابه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً)0 (وكان معاذ بن جبل يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة)0
وجميع هذه الأقوال تدل بوضوح على أن الإيمان يزيد، والزيادة تتضمن حدوث النقصان أيضاً، وكما أن الإيمان – على وجه الإجمال – يزيد وينقص، فكذلك شعبه، فقد يكون على درجة عالية من التوكل لما ينكشف له من البراهين، وتثبت عنده من التجارب بينما تكون شعبة إيمانية أخرى على أوجها عند مؤمن آخر، وهكذا فمن المؤمنين من يكون على درجة عالية من الحياء والآخر على درجة عالية من التوكل، وآخر على أقصى درجات الحب لإخوانه، وغير ذلك (وكل ميسر لما خلق له)، والارتفاع بمستوى شعبة إيمانية يدرأ النقص فى غيرها، وهكذا يتفاضل أهل الإيمان بالطاعات، كما يتفاضلون بما يتداخل مع الطاعات من المعاصى، بل إن المؤمن نفسه ليس على درجة سواء فى الأوقات المختلفة لما يطرأ على قلبه من شبهات، أو يتلبس به من الشهوات، وبالتالى قد تنقص صفة إيمانية معينة، وتزيد أخرى فى فترة معينة دون غيرها0
الإيمان 00 والإسلام
بين لفظتى الإيمان والإسلام عموم وخصوص وفى العلاقة بينهما أقوال ثلاثة :
منها : أن الإيمان هو الإيمان بالأصوال الخمسة، والإسلام إتيان الأعمال الظاهرة 0
ومنها: أن الإسلام هو الكلمة ( أى شهادة التوحيد ) 0
ومنها: أن الإسلام مرادف للإيمان، وهو رأى ضعيف لا تسنده أقوال السلف 0
وقد صنف فيه العلماء التصانيف الكثيرة، إلا أن التحقيق العلمى مع الأخذ بنظر الاعتبار لجميع النصوص الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال السلف كلها تدل على أن الإيمان قد يرد على وجهين: أحدهما : ما قد يرد مقروناً بكلمة الإسلام، والثانى: وروده مجرداً فيكون عاما يتضمن الإسلام، بينما يكون رديفاً له فى الحالة الأولى، عندما يذكر مقروناً 0
( 000 فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة والزكاة، والصيام والحج، وجعل الإيمان ما فى القلب من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وهكذا فى الحديث الذى رواه أحمد 00 0 الإسلام علانية، والإيمان فى القلب) 0
وإذا ذكر اسم الإيمان مرداً دخل فى الإسلام والأعمال الصالحة كقوله فى حديث الشعب: (الإيمان بضع وسبعون شعبة 00 ) وكذلك سائر الأحاديث التى جعل فيها أعمال البر من الإيمان 000 )( ) 0
أى إن الإيمان أعم، حيث تكسب لفظة ((الإسلام)) معنى التخصيص، ومن الأحاديث التى تسند الوجه الأول حديث جبريل المشهود :
((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً 000
والإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )0
ويشهد للوجه الثانى الأحاديث التى جعلت الدين ثلاث درجات أعلاها الإحسان وأوسطها الإيمان ثم الإسلام، وبذلك يكون الإسلام بعض الإيمان، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، منها قول ه  :
(( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم )) 0
ومعلوم أن من كان مأموناً على الدماء والأموال، فسوف يسلم المسلمون من لسانه ويده، ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه 0
والخلاصة أن :
( اسم الإيمان تارة يذكر مفرداً غير مقرون باسم الإسلام، ولا باسم العمل الصالح ولا غيرها، وتارة يذكر مقروناً، إما بالإسلام كقوله فى حديث جبرائيل: (( ما الإسلام وما الإيمان))؟ وكقوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات (الأحزاب : 35) وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح كقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات (البروج: 11)، وإما مقروناً بالذين أوتوا العلم، كقوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان000 (الروح : 56) ( )0
وهذا الفهم يمكن أن تخضع له جميع النصوص دون إشكال، كما أن المؤمن يدرك منه أن منزلة الإيمان أعلى، وكذلك فإن فروع الإسلام قد تكون – بحد ذاتها – هى من شعب الإيمان أيضاً 0
(3) شعب الإيمان
لما كان الإيمان يتشعب كما ورد فى الحديث الشريف : (( الإيمان بضع وستون شعبة 000)) 0
فلابد من النظر لها، وإتيانها –ولو بدرجات متفاوتة- كما أنها تتفاوت بين شخص وآخر، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع :
(1) أعمال القلب (أربع وعشرون خصلة) وهى :
( الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شىء، واعتقاده حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المساءلة فى القبر، والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبى  واعتقاده تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته، والإخلاص –ويدخل فيه ترك الربا والنفاق – والتوبة والخوف والرجاء والشكر والوفاء والصبر، والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة والتواضع – ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير – وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب ) 0
وكل منها له مباحثه الواسعة، وله أدلته من الكتاب والسنة، وفى عجالة هذا المبحث تكفى الإشارة لها 0
أعمال الجوارح
(2) أعمال اللسان (سبع خصال) وهى : ( التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر، ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو ) 0
(3) أعمال البدن (ثمان وثلاثون خصلة) وهى : (التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضاً ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف، والصيام فرضاً ونفلاً، والحج والعمرة كذلك، والطواف والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحرى فى الإيمان، وأداء الكفارات 000 والتعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين 000، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، 000 ومنها القيام بالإمرة مع الدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولى الأمر، والإصلاح بين الناس000 والمعاونة على البر ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة الحدود والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة 000 وإنفاق المال فى حقه 000 ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق00) 0
وقد يتغير الرقم قليلاً بضم البعض إلى البعض أو التفريق، وهذا مما تفسره الروايات المختلفة، وقد يختلف بعض المسميات عند طوائف من العلماء، وقد اختير هنا ما ذكره ابن حجر – رحمه الله – فى شرح صحيح البخارى (1/52)، لدقتها وشمولها واختصارها من جهة، ولاستنادها على جملة النصوص الشرعية الصحيحة0
كفر دون كفر
ونقيض الإيمان الكفر، وكما أن الإيمان يتبعض، فكذلك الكفر والفسوق والعصيان فهو مراتب، وإدراك المؤمن لهذه الحقيقة مهم جداً، فالكفر مراتب وأعلاها ما يخرج من الملة، وأدناها ما يكون من أمور الجاهلية، أى أن الطاعات قد تسمى إيماناً، والمعاصى كذلك قد تسمى كفراً، ولكنه ليس بالكفر الذى يخرج عن الملة، لما ورد عن  أنه قال : (( أريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط 000)) 0
ولما كان الكفر مراتب، كان التعامل معه على مراتب أيضاً حسب الظروف والمقدرة والمصالح0 ومثل الكفر كلمة الجاهلية، لقول النبى  لأبى ذر رضى الله عنه عندما عَيَّر أحدهم: (( إنك امرؤ فيك جاهلية))0
وظلم دون ظلم
وكذلك الظلم: لقول الصحابة عندما نزل قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم (الأنعام: 82)، أينا لم يظلم، فأنزل الله تعالى قوله: إن الشرك لظلم عظيم (لقمان : 13) 0
ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله (بظلم) عموم أنواع المعاصى، ولم ينكر عليهم النبى  ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم الظلم وهو الشرك 00 فدل على أن للظلم مراتب متفاوته 000 ) ( )0
والتعامل مع الظلم والمعاصى يكون على مراتب أيضاً، فمنها ما يقرب من الشرك والكفر فيقتضى المحاربة والمفاصلة حسب الإمكان، وحسب تقدير المصلحة بحيث لا يترتب عليها مفسدة، أو تفوت مصلحة أكبر، وفى أدناها الظلم اليسير الذى يمكن التجاوز عنه، أو لا يترتب عليه موقف أو حد فى الحياة الدنيا، وكذلك فإن مراتب الظالم تبنى على مقدار المفسدة المترتبة عليها هل هى كبيرة أو صغيرة؟ هل هى فردية أو جماعية، وغير ذلك0
اجتماع الخير والشر
وهذه القاعدة ينبنى عليها عمل إذ قد تجتمع بعض المعاصى وبعض الطاعات فى الشخص الواحد، فيكون الحب والموالاة للخير الذى فيه، والبغض والمعاداة للشر الذى فيه، إذ لا يمكن أن يكون الشخص خيراً محضاً ولا شراً محضاً والحكم على الشخص بما يغلب عليه0
(إذا اجتمع فى الرجل الواحد خير وشر، وفجور وبر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع فى الشخص الواحد موجبات الإكرام والمهانة، فيجتمع له من هذا وهذا 00) ( )0
وهذا من العدل الذى جاءت به الشريعة، ومن الإنصاف فى حق العباد 0
حلاوة الإيمان
من ثمرات الإيمان تلك الحلاوة التى يجدها المؤمن فى نفسه، وهى من اللذات المعجلة فى الدنيا، لا يحس بها غيره، بل هى بنفسها تتفاوت حسب درجة الإيمان، وإدراك شعبه والعمل بها، رغم أن كل مؤمن يحس بها فى بعض أوقاته ليقيس عليها 0
( والحلاوة التى يجدها المؤمن فى قلبه فوق كل حلاوة، والنعيم الذى يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التى تناله أعلى من كل لذة، كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى مثل هذا، إنهم فى عيش طيب0 وقال آخر: مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا، وما ذاقوا أطيب ما فيها)( )0
ولعل ذلك من ملامح قول المصطفى  : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار)( )0
قال الإمام النووى: (( هذا حديث عظيم، أصل من أصول الدين، ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق فى الدين0 وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول))( )0
وما من عالم ولا عابد، إلا وقد وجد هذه اللذة فى نفسه، بسبب الإيمان والتوحيد 0
(فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذى لا يمكن التعبير عنه إنما هو معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية، والمعارف القرآنية00 والقلوب فيها وسواس النفس، والشيطان يأمر بالشهوات والشبهات مما يفسد عليه طيب عيشها، فمن كان محباً لغير الله فهو معذب فى الدنيا والآخرة، إن ينله فهو فى العذاب والحسدة والحزن0 وليس للقلوب سرور، ولا لذة تامة إلا فى محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله)( )0
وهذه اللذة هى من الثواب المعجل للمؤمن فى الدنيا، كما أن العيشة الضنك هى من العقاب المعجل للكافر لإعراضه عن ذكر الله تعالى، وتتفاوت هذه اللذة على حسب درجة ترك المعاصى، وقد يتلذذ الإنسان بالمعصية مؤقتاً ولكنه سيعقب به ألماً وغصة، وآثاراً تدوم عليه، والله عليم بخلقه0
كبائر 00 وصغائر
وكما أن شعب الإيمان تتفاضل فيما بينها أهمية على قدر أثرها، كما أنها تزداد وحسنها، فإن المعاصى والذنوب –هى الأخرى- صغائر وكبائر، والكبائر ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وما يسد المعرفة الله، وما فيها من ذهاب للأموال والأبدان، وقيل: ما يترتب عليها حد أو توعد بالنار، والتعزيز فى الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب، فمن الكبائر الشرك والقتل، والزنا والسحر، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وشهادة الزور وأمثالها، أما الصغائر فهى مما ليس فيها حد فى الدنيا ولا وعيد خاص فى الآخرة كالنار أو اللعنة والغضب، (وهذا الأمر على أرجح الآراء) 0
(ولكن ثم أمر ينبغى التفطن له وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره)( )0
ولذلك فعلى المؤمن أن لا يستهين بصغيرة، كما أن الباب مفتوح للاستغفار عن الكبيرة وكل من الصغائر والكبائر تكفر بالتوبة النصوح بشروطها، وبالاستغفار المقترن أو المتضمن للتوبة، والحسنات التى تذهب السيئات، والمصائب التى تكفر بها الخطايا، وعذاب القبر ودعاء المؤمنين واستغفارهم فى الحياة وبعد الموت، وأهوال القيامة، والعبور على الصراط، وشفاعة الشافعين، والله فوق ذلك أرحم الراحمين لمن يبذل جهده، ولا يأمن من مكر الله تعالى، وعلى المؤمن أن يظل متأرجحاً بين الخوف من غضب الله عز وجل، وبين الطمع فى رحمته0
ومع معرفة الكبائر والصغائر، تظل القاعدة التالية صحيحة فى الحكم على ظاهر الناس: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ) 0
الوسطية من خصائص العقيدة
فهذه القاعدة وسط بين الإفراط والتفريط، فهى ترد على الطائفة التى تنفى التكفير مطلقاً، وتتساهل فى ذلك، وتسكت عن الكفر الظاهر البواح، أو ترد الأمر للغيب (مع العلم بأن فى أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين، وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك، فإنه يستتاب، وإلا قتل كافراً، والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور) ( )0
كما أن القاعدة ترد على أهل الغلو الآخر، وهم الخوارج –ومن فى حكمهم- القائلون بتكفير المرء بكل ذنب حتى ولو لم يستحل ذلك الذنب، وكذلك المعتزلة- ومن فى حكمهم- القائلون بخروج صاحب الذنب من الإيمان مع إحباط عمله، ودخوله فى (منزلة بين المنزلتين) وأشباه هؤلاء ممن سيستمر ظهورهم حتى قيام الساعة0
(وهنا يظهر غلط الطرفين، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع فى الباطن يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا فى الباطن منافقين، بل هم فى الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين)( )0
والبدع فى دين الله من أقبح المعاصى وأسوأ الذنوب، لأن المعصية تودى بصاحبها فقط، والبدع اعتداء على تشريع الله عز وجل، وإخلال بتوحيد الربوبية، كما أن فيها الضلال الكبير لكثير من الناس، ولذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، ولذلك كان العابد العالم أفضل من الجاهل لقدرته على معرفة البدعة والتخلص منها، والبدع هى التى جعلت الأمة تفترق على بضع وسبعين شعبة كلها زائغة لأنها على الخلاف المذموم مع الطائفة المنصورة الملتزمة بأصول الشريعة0
تجنب الشذوذ والفرقة 00 من الإيمان
ونختم الحديث عن الإيمان بإحدى شعبة المهمة، ويلخصها قول أهل السنة بما يلى :
( ونتبع السنة والجماعة، ونتجنب الشذوذ والخلاف والفرقة، ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة00 ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً ) 00
والاستنان يجب أن يكون بأفضل هذه الأمة – فالصحابة- أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، والجماعة لا تتم إلا بالاعتصام بحبل الله، المتين، ورد الخلاف إلى الله ورسوله، لأن أهل الخلاف هالكون إلا أهل السنة والجماعة المعتصمون بالقرآن والسنة، لما ثبت فى الأحاديث من أن فرق الخلاف فى النار، وليس المقصود هنا الخلاف هالكون إلا أهل السنة والجماعة المعتصمون بالقرآن والسنة، لما ثبت فى الأحاديث من أن فرق الخلاف فى النار، وليس المقصود هنا الخلاف الممدوح، أو المتأول، أو خلاف التنوع، وإنما الخلاف المبنى على البدع والأهواء، وإنكار النصوص، والله وحده الهادى إلى سواء السبيل0
(4) العلم بعد الإيمان
جرى العلماء على التثنية بكتاب العلم بعد كتاب الإيمان، فى تصنيف الكتب الفقهية والحديثية، لما للعلم من أهمية ومكانة، وليس أدل على أهميته من قول الله تعالى : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (المجادلة: 11)00 وقوله عز وجل رب زدنى علماً (طه: 114)0
يقول ابن حجر فى فتح البارى: (يرفع الله المؤمن من العالم على المؤمن غير العالم، ورفعه الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية فى الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية فى الآخرة بعلو المنزلة فى الجنة00 وقوله عز وجل : رب زدنى علماً (طه: 114)، واضح الدلالة على فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه  بطلب الازدياد من شىء إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعى)( )0
وإنما يفضل الإنسان على غيره أساساً بالعلم وليس بقوة بدنه، ولا بشجاعته، أو بنطقه وكلامه، فما من صفة بدنية إلا وهناك من الحيوانات التى خلق الله من هى أقوى بها من الإنسان، والناس أنفسهم إنما يتباينون بالعلم، وبه ساد العلماء، على التجار، وساد الفقهاء على الحكام، وفى العلم حياة القلوب وشفاء الصدور0
والعلم أشرف ما يرغب فيه راغب، وأفضل ما يجد فيه طالب، وشرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمو عند طالبه، وهو أفضل خلق، والعمل به أكمل شرف، ولا يجهل فضل العالم إلا الجاهل، لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم أيضاً، وهذا الأمر أبلغ فى فضله، فالعالم يعرف الجهل ومضاره، والجاهل لا يعرف فضل العلم وأهله0
تنازع العلم والمال
ما تنازع العلم مع شىء إلا وغلبه، ولكن تكفى الإشارة إلى صراعه مع المال، وهو زينة العصر، ومفخرة الدهر، ولكن هيهات أن ينتصر المال على العلم، وإن ظهر فى عصرنا ما يظهر منه عكس ذلك، ولا عبرة بما يلاحظ الآن بوقوف أهل المال بالعلم0 وحتى لو كان المال اليوم ترس المؤمن فما فائدة الناس منه وما فائدة المجتمع إذا كان المال بيد البخيل فهو كوجود السيف بيد الجبان وقد قال على رضى الله عنه : (( العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقه، العلم محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها العلم، يكسب العالم الطاعة فى حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقى الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم فى القلوب موجودة))( )0
ثم ذكر ابن القيم –رحمه الله- ما يقارب الخمسين وجها فى تفوق العلم على المال، وفيما ذكر كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد 0
الحيتان والطيور 00 فى الخدمة !!
كم يشقى الإنسان – فى العصر الحالى – فى ترويض حيوانات البحر، أو الطيور المحلقة لجعلها فى خدمته، من أجل أداء بعض المهمات، ولكن الله تعالى قد تكفل لطالب العلم – وطالب العلم فقط – أن تقوم الحيتان فى الماء، والطيور فى الهواء بالدعاء له والاستغفار، أى قد سخرها لخدمته دونما عناء منه وجهد، وهذه الميزة لم ينلها أى مؤمن آخر مهما كان فضله وعمله، وكفى بهذا الإحسان دليلاً على شرف العلم وطلبه، والسعى إليه فقد قال  : (( من سلك طريق علم سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن السموات والأرض والحوت فى الماء لتدعو له 000))( )0
معناه بسط الجناح وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها، فيبلغه حيث يقصده من البلاد فى طلب العلم، وقيل: معناه المعونة، وتيسير السعى له فى طلبه00 وقيل: إن الله سبحانه وتعالى ألهم الحيتان وغيرها من أنواع الحيوان الاستغفار للعلماء لأنهم هم الذين بينوا الحكم فيما يحل منها ويحرم للناس، فأوصوا بالإحسان إليها، ونفى الضرر عنها مجازاة لهم على حسن صنيعهم 00)( )0
فإذا كانت هذه منزلة طالب العلم، فيشمر المسافر إلى الله عن ساعد الجد رغبة فى ثواب الله، وطلباً لمرضاته، ورهبة من عقاب الله لترك أوامره، وإهمال زواجره، واجتماع الرغبة والرهبة تزداد الهمة وتسمو فى طلب العلم0
(أصل العلم الرغبة، وثمرته السعادة وأصل الزهد الرهبة، وثمرته العبادة، فإذا اقترن الزهد والعلم، فقد تمت السعادة000)( )0
وبعد التعلم 000 التعليم
أول العلم الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره، ونشره التعليم والإرشاد به، وهو من شكر النعمة لفضل العلم، ومن كتم علماً يلجم بلجام من نار، والتبليغ بالعلم واجب، وقوله تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين (التوبة: 122) كاف للاستشهاد بواجب التعليم، وما أجمل أن تزين هذه الفقرة بشىء من لوحة معاذ بن جبل –رضى الله عنه :
(( تعلموا العلم فإن تعلمه خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس فى الوحدة، والصاحب فى الخلوة، والدليل على الدين، والمصبر على السراء والضراء، والوزير عند الأخلاء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم فى الخير قادة سادة يقتدى بهم، أدلة على الخير تقتص آثارهم، وترمق أفعالهم، وترغب الملائكة فى خلتهم00 لأن العلم حياة القلوب من العمى، ونور يبلغ به العبد منازل الأبرار، والدرجات العلى والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل ويعبد، وبه يوحد وبه يمجد00 وهو إمام والعلم تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء000)( )0
فهنيئاً لمن رحل وسافر وفى معيته معلم ومتعلم، فيكسب أجر التعلم ويكسب التعليم، وهيهات أن يدرك ذلك إلا بصحبة الأبرار، واللبيب اللبيب الذى يدرك ذلك0

حتى بدون نية
هيهات 00 هيهات أن يقبل عمل بلا نية، والأعمال مشروطة بمقاصدها والعلم أحد الأعمال من طلبه لله أعزه الله تعالى، ومن طلبه لغيره أو كله إلى نفسه، ومن طلبه ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة، وهذا الأمر من ارتباط الأعمال بالنيات من قواعد الشريعة، ولكن – مع هذا الأصل الهام – قال العلماء بجواز العلم ابتداء حتى لو لم تكن نية، ولا يجوز للعالم منع العلم عن غيره بحجة أنه لا نية لهم، وهذا الاستثناء لم يحصل لكل فروع الشريعة إلا فى العلم، وهذا بحد ذاته دليل شرف العلم، وعلو منزلته:
قال حبيب ومعمر بن ثابت: طلبنا الحديث وما لنا فيه نية، ثم رزق الله النية بعد 0
وقال معمر : إن الرجل ليطلب العلم لغير الله، فيأبى عليه العلم، حتى يكون لله 0
(وقال الثورى: ما كان فى الناس أفضل من طلب الحديث، فقيل: يطلبونه بغير نية؟ قال : طلبهم إياه نية)( )0
والسبب فى ذلك أن العلم – بحد ذاته يقود فى غالب الأحوال إلى حسن النية فينتفع به صاحبه، أو ينقله لصادق نية فيستفيد منه، ولو اشترطت النية بقرائنها الواضحة لا ندرس العلم الشرعى، ولهذا ما أكثر ما كرر أبو حامد الغزالى قول المحققين: (( تعلمنا العلم لغير الله، فأبى الله أن يكون إلا الله))( )0
ليستدل على أن النية قد ترافق طلب العلم فيما بعد، وكذلك فقد يمتنع العلم عن المرء ولكنه يؤجر بمعرفة ألفاظه، وينقله للآخرين، ويا سبحان الله العظيم، ما أعظم العلم وأروعه، أن يكون له مثل هذا الفضل العظيم، فأين المشمرون السائرون؟0
العلم ثلاثة!
والعلم المقصود هو الموصل للآخرة، وهو النافع فى رحلة السفر، والذى أراده الله رحمة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة الله على عباده أجمعين، وهو العلم الذى يهدى به الله لأقوم الطرق وأحسن السبل، حيث يفتح الله به قلوباً غلفا، وأعينا عمياً وآذناً صماً، وهو العلم الذى تشرق به الظلمات، وتتألف به القلوب، وقد حدد الرسول العلم بثلاثة أمور :
(( العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل الله))( )0
فالآية ما أراده الله تعالى لنا من أجل سلامة العقيدة، ومعرفة أسمائه وصفاته، لحسن عبادته، وبه تصح العبادة للتقرب إليه، وبه يقوم السلوك لكسب مرضاته، والسنة لمزيد الرضا منه، وتطبيق منهاجه، والفريضة لتحقيق مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهذا هو صلب العلم الذى نتعبد الله به، وبه يباهى الله الملائكة، ويسببه يستغفر الحوت فى الماء، والطير فى الهواء لمعلمه، وما عدا ذلك فهو ملح العلم وحواشيه، ومن فضل المعرفة وتوابعها، وهو من ظواهر العلم التى تحسين الأداء، وتدفع العمل، ويبقى جوهر العلوم العلم الشرعى فهو للخير مفتاح، وللهداية مصباح، وهو عمدة الشريعة ورأسها، ومبنى الحياة وأساسها، وعليه مستقبل الإنسان وقطب مداره، وحسن معيشته ومحط سعادته0
وإلى بيان بعض مميزات العلم المراد ونخص منها ثلاثة :
العلم قبل العمل
وهكذا قال المصنفون، وهم يقتدون بصنيع الإمام البخارى – رحمه الله – لقول الله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك (محمد : 19) فبدأ بالعلم بالتوحيد ثم أردفه بالاستغفار وهو من مظاهر العمل، بل وليس للعلم السبق فقط، وإنما المكانة لقوله  (( فضل العالم على العابد، كفضلى على أدنى رجل من أصحابى))( )0
مما يدل على فضل العلم، ونزول رتبة العمل المجرد عن العلم، كما أن قليل العمل ينفع مع العلم بالله، وأن كثير العلم لا ينفع مع الجهل بالله عز وجل0
( قال ابن المنير : أراد به أن العلم شرط فى صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل، فنية المصنف – أى البخارى رحمه الله – على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم – أن العلم لا ينفع إلا بالعمل – تهوين أمر العلم والتساهل فى طلبه ) 0
قال ابن عباس : (( تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها )) 0
وقال قتادة : ((باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده، أفضل من عبادة حول ))0
وقال سفيان الثورى: (( ما أعلم عملا أفضل من طلب العلم وحفظه لمن أراد الله به )) 0
وقال مطرف بن عبد الله : (( حظ من علم أحب إلى من حظ من عبادة )) 0
وقال الشافعى: (( طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ))( )0
فاحرص – أيها المسافر – فى رحلة الخير على التزود بالعلم حتى تكون الرحلة كما يريدها البارى عز وجل، وبهذا ينالك التوفيق 000
اقتضاء العلم العمل
ما أحلى تشبيه العلم بالشجرة، والعمل بالثمرة، فالشجرة قد تثمر، ولكن لا يمكن الحصول على ثمر من غير شجر، وكذلك العلم قد يتبعه عمل، والعمل لا يكون صائباً بغير العلم، ولكن فوق منزلة العلم المجرد منزلة تفوقها كثيراً وهى منزلة الشجرة المورقة المثمرة، شجرة العلم إذ أينعت بالثمر، ولذلك قيل : (( العلم شجرة ثمرتها العمل))0
وهذا هو الأصل فى مكانة العلم إذ إنه يقتضى العمل الصائب الصحيح الذى لا جزاء له إلا الجنة، وقيل فى علاقة العلم والعمل ودليل اقتضاء الأول وجود الثانى :
(( العلم والد والعمل مولود، والعلم إمام والعمل تابع والعلم مع العمل كالرواية مع الدراية، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً فى العمل ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما، العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل))( )0
ومما قيل ما جمعه الماورودى بقوله: (( ثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه00 خير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع 00 ثم العلوم العمل بالمعلوم00 من تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخل من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد ))( )0
العلم قابل للتبعيض
إذا كان لابد للعلم أن يقود إلى العلم، فكيف السبيل إلى العمل بالعلم وغاية العلم لا تنتهى؟
ومتى الوصول إلى المراد حتى يبدأ بالعمل؟ والعلم محيط واسع، وبحر شاسع، وكلام الله تعالى لا تكتبه مداد البحار وإن امتدت، ولا أقلام الأشجار وإن سطرت، ولا تشبع منه البلغاء، ولا يستكفى منه العلماء، فيقال: كل هذا حق وصحيح، ولكن على المؤمن أن يعمل بما علم، فالعمل يتجزأ وفق العلم، لأن العلم قابل للتبعيض، أى أنه من أجزاء وأقسام، وكل قسم يتجزأ بدوره إلى أقسام كالبحر الذى تؤخذ منه القطرة، وقد يؤخذ منه الإناء، وقد يؤخذ منه الرافد الدفاق، وهكذا العلم قد تؤخذ منه المسألة كما يؤخذ منه الباب، وقد يتبحر المرء فى الفن منه، كما يكون فيه الفقيه البارع، وفى هذا يقول المصطفى  :
(( بلغوا عنى ولو آية0 ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ))( )0
( والآية تطلق على ثلاثة معان : العلامة الفاصلة، والأعجوبة الحاصلة، والبلية النازلة000 ويجمع بين هذه المعانى الثلاثة أنه قيل لها آية لدلالتها وفصلها وإبانتها، وقال فى الحديث –ولو آية- أى واحدة ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآى ولو قل ليتصل بذلك جميع ما جاء به النبى  ) ( )0
والنص واضح فى ضرورة تبليغ العلم مهما قل، ولا حجة لأحد بترك العلم، بل لا عذر لأحد من ترك الأمر بالمعرف والنهى عن المنكر قدر الاستطاعة، لأنه ما من مؤمن إلا وقد حفظ الفاتحة، والفاتحة تتضمن سبع آيات محكمات، فما يضير المؤمن أن يعمل بها، وأن يبلغها للناس، وتبعض العلم –وإمكان تقسيمه- لا يسهل عملية العمل به فقط، وإنما تبليغه للناس أيضاً فهو يبلغ مسألة بعد أخرى، وفناً بعد آخر، حسب الحاجة إليه، وظروف الدعوة، وإمكان الاستجابة، بل وإن التعمق فى فهم النصوص والاجتهاد فى المسائل لا يكون أيضاً إلا بمراحل، ولا يتم إلا بالتجزئة ولذلك قيل :
(( الاجتهاد ليس أمراً لا يقبل التجزئ والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً فى فن أو باب أو مسألة دون فن آخر، أو باب، أو مسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه))( )0
أما الاستشهاد فى تبليغ العلم كأجزاء فليس أدل على نزول القرآن منجماً حتى يعمل به آيات بعد آيات، والله أعلم بالصواب0
(5) ترويحة على طريق العلم
ثلاثيات 000 ورباعيات
فى واحة الانطلاق قد يشعر المسافر ببعض الضيق، مما هو مجبول عليه بالفطرة، فلابد من استراحة، وقد روى عن الرسول  : (( روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذ كلت عميت))، وفى استراحة العلم هذه قد يحتاج المؤمن لبعض الاسترواح بشم باقة من الزهور من واحة العلم، وقدتحتوى الباقة على الزهرة أو الزهرتين، أو فوق ذلك، وقد اخترت لك باقات من الزهور، بعضها ثلاثية الأوراد، وبعضها رباعية، لعلك تأنس بها0
فمن الثلاثيات :
قال عبد الله بن المبارك: (( من بخل بالعلم ابتلى بثلاث : إما أن يموت فيذهب علمه، أو ينسى، أو يتبع السلطان ))( )0
وعن ابن عمر رضى الله عنه : (( لا تتعلم العلم لثلاث، ولا تتركه لثلاث، لا تتعلم لتمارى به، ولا ترائى به، ولا تباهى به ، ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضاء بجهالة))( )0
(قد يضجر الإنسان بسبب ثلاثة : الضجر من معاناة الحفظ ومراعاته، وطول الأمل فى التوفر عليه عند نشاطه، وفساد الرأى فى عزيمته)( )0
( أقسام العلم ثلاثة : صلب العلم، وملح العلم، وما ليس من صلبه ولا ملحه ) 0
علامات العالم ثلاثة: العلم بما علم، وملازمة الشيوخ، والتأديب معهم)( ) 0
ومن الرباعيات :
( أربعة تفيد العلم هن من كسب العبد: كمعرفة الكتابة، واللغة والصرف، والنحو) 0
( وأربعة من عطاء الله تعالى : الصحة ، والقدرة، والحرص، والحفظ ) 0
( وإذا صحت هذه الأشياء هانت عليه أربع: الأهل، والولد، والمال، والوطن ) 0
( وقد يبتلى بأربع: شماته الأعداء، وملامة الأصدقاء ، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء) 0
( فإذا صبر على طلب العلم أكرمه الله فى الدنيا بأربع: بعز القناعة، وهيبة اليقين، وبلذة العلم، وبحياة الأبد)0
( وأثابه فى الآخرة بأربع: بالشفاعة فى إخوانه، وبظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، ويسقى من حوض المصطفى  ، ويجاور النبيين فى أعلى الجنة)( ) 0
( الرجال بالنسبة للعلم أربعة : رجل يدرى ويدرى أنه يدرى فذلك عالم فاسألوه، ورجل يدرى ولا يدرى أنه يدرى فذلك ناس فذكروه، ورجل لا يدرى ويدرى أنه لا يدرى فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدرى ولا يدرى أنه لا يدرى فذلك جاهل فارفضوه)( )0
وهيا بنا – إذن- إلى المزيد من النظر فى بعض خصائص العلم التى لا غنى للمسافر معنا عن معرفتها 0
لاحياء فى العلم
صح عن المصطفى  أن الحياء كله خير، والحياء شعبة من الإيمان، ولكن استثنى من ذلك شىء واحد فقط وهو العلم، وقد سألت أم سلمة النبى  حول احتلام المرأة ولم يمنعها الحياء من ذلك، فترجم البخارى للحديث بما يلى :
(( الحياء فى العلم، وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر، وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين)) 0
إن الحياء من الإيمان، وهو الشرعى الذى يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر، وهو محمود، وأما ما يقع سبباً لترك أمر شرعى فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعى، وإنما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد : لا يتعلم العلم مستح00 وكأنه أراد تحريض المتعلمين علىترك العجز والتكبر لما يؤثر كل منهما من النقص فى التعليم)( )0
وبناء على هذا، فعلى المتعلم أن لا يستحى من سؤال من هو أعلم منه مهما كان نوع السؤال، وعلى الكبير أن لا يستحى من التعلم من الصغير، وعلى كبراء القومن أشراف الناس وأمرائهم أن يتواضعوا لطلب العلم، فالحياء فى العلم يمنع الكثير من الخير ويفوت العظيم من المعروف0
وللنساء 00 نصيب
دأب الإعلام المعاصر على أن يجعل ركناً للمرأة فى المجلات أو الصحف أو الإذاعة، وفى نفس الوقت يتهمون الدين بالتفريق، والواقع أن عملهم هذا – بحد ذاته – تفريق فإذا اختصت المرأة بركن، فهذا يعنى أن الأركان الأخرى ليست لها، بينما كان الخطاب الشرعى عاماً للمكلفين ذكوراً وإناثاً، ولا يصرف النص التكليفى إلى النساء فقط، أو الرجال فقط إلا بقرينة – كما قال علماء الأصول- وهذا مما لا يكون إلا فى مجال يختص بالرجل أو المرأة، ولهذا فكل ما قيل عن العلم يخص الرجال والنساء معا، ولكن لخوف الفتنة كان العلم والوعظ من الرسول  يبلغ لهن عن طريق الرجال، ومع هذا فقد طالبن بحقهن الاستماع، وأن رسول الله  : (( خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة 00 ))( )0
وفى حديث آخر للبخارى :
( قالت النساء للنبى  غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن 00 )
وبالتالى، فالنساء شقائق الرجال، وطلب العلم عليهن فريضة، وعليهن بمتابعة المحاضرات، وسماع التسجيلات، كما أن على أهل العلم أن يجعلوا جزءاً من أوقاتهم ودروسهم للنساء، بشرط الالتزام بضوابط الشرع وتوجيهاته0
والتدرج ضرورة
إن العلم مراتب، وأجزاؤه مرتبة ترتيباً ضرورياً، وبعضها طريق إلى بعض، وكل فن من الفنون كالبناء ينبنى على بعض، ولا يمكن التدرج فى سلم درجاته إلا بعد الانتهاء من الدرجة الأوطأ، وهذا التدرج هو أس التربية المنهجية، فلكل عمر معين مناهجه الخاصة، كما أن المساقات المدرسية والجامعية تترتب ترتيباً بعضها بعد بعض، والأخذ بهذه العملية منهج ربانى، أراده الله تعالى فى تعليم العلم الشرعى، ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما: ((كونوا ربانيين حكماء فقهاء 00 ويقال : الربانى الذى يربى بصغار العلم قبل كباره))( )0
( والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها، وقيل: يعلمهم جزئياته قبل مقاصده 000وكذا تعليم العلم يجب أن يكون بالتدريج لأن الشىء إذا كان ابتداؤه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه ويتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالباً بخلاف ضده 000)( )0
ويتضح من هذا النص ضرورة ملاحظة هذا الجانب فى تبليغ العلم الشرعى وتدريسه، وعدم محاولة ضخ الكم الهائل من العلم الشرعى فى فترة زمنية قصيرة، بحيث ينسى بعضه بعضا0
ولكن هذه القادة قد تنقض بالأمور الهامة جداً التى يجب أن تقدم على غيرها وإن كانت أصعب كتعلم الموازين الشرعية الدقيقة وفهم قواعد التصور الإسلامى، أو مسائل التوحيد، فعندئذ لا تردد فى تعلمها وتعليمها، ولا مجاملة ولا تسويف، وإنما البت فيها من أول طريق المسافر إلى الله تعالى، ولا أنصاف حلول فيها، ولابد من القضاء الحاسم فيها، أما ما سوى ذلك فإن تعلمها هو الذى يجب أن يكون وفق القاعدة الأساسية فى التدرج فى العلمية والتربوية0
وتخول الموعظة 00 فى الربانية
وقد يتحمل المرء العلم سواء فى تعلمه أو تعليمه، ومستواه يتلاءم مع مقدار العلم نوعاً وكماً، ولكن القلوب لها إقبال وإدبار، والعقول لها أوقات وأوقات، والنفوس تتغير رغبتها بين فترة وأخرى، ولذلك كان تعلم العلم وتعليمه يجب أن يكون وفق الهمة والرغبة، ووفق طاقة الأشخاص، ولابد من استراحات ومواقف بين الدرس والدرس، وبين الأسبوع والأسبوع، وعن ابن مسعود – رضى الله عنه – قوله :
(( كان النبى  يتخولنا بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة علينا ))( )0
والموعظة والتذكير يقاس عليهما العلم والتدريس، وكلها تحتاج إلى تخول لأن الاستمرار والكثرة تؤدى إلى الملال والضجر، وبالتالى لا تؤثر فى النفوس بل قد تعتاد النفوس عليها فلا تعد تتأثر بالموعظة، والله أعلم بعباده0
(وقال عبد الله بن مسعود: حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم، فإن انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، قيل وما علامة ذلك؟ قال : إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم)0
التخصيص
ومن المعانى الضرورية، إدراك أن العلم ليس مشاعاً بكل أنواعه، وذلك لاختلاف المفاهيم والمدارك، والتجارب والممارسات، مما قد يؤدى بالبعض عند سماعه لنوع من العلم إلى فهم خاطئ، أو قد يؤقعه فى تأويل باطل، بل قد يحمل الكلام أكثر مما يحتمل، أو يبينه على أساس واه، وفى بعض الحالات قد يكون ظاهر الحديث أو المقال – بسبب الفهم الخاطئ، أو عدم الإدراك الكامل – قد يقوى على البدعة، أو يقود إلى المعصية، بينما أصل المعنى ليس على ذلك، ومنها ما ورد عن الرسول  عندما قال لمعاذ – رضى الله عنه : (( من لقى الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة0 قال : ألا أبشر الناس؟ قال : لا ، إنى أخاف أن يتكلوا )) 0
قال البخارى : (( من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وقال على: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله))( )0
أما الإمام مسلم، فقد اعتبر ذلك قاعدة منهجية فقال : (( فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معانى الخاص من أهل التيقظ والمعرفة فلا معنى لهم فى طلب الكثير وقد عجزوا عن معرفة القليل))( )0
ولذلك كان لابد للمؤمن المسافر مع ركب الدعاة الانتباه لهذه القاعدة فى التعليم، وأن يتذكر قول الإمام الشاطبى – رحمه الله - :
( إن عليك فى علمك حقاً، كما أن عليك فى مالك حقاً، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك)( )0
لا تتحدث إلا بالخير
لما كان غاية العلم الخير، صار من الضرورة النظر إلى غاية العلم، فإن كان العلم حقاً، والغاية منه شراً كان التحديث به من الشر، ولذلك ينبغى النظر إلى أثر تبليغ علم ما على السامع فقد يكون للسامع هوى فى نفسه، أو بدعة يدعو لها، فيكون تحديثه بما تميل إليه نفسه إعانة على بدعته، أو مساعدة فى بلوغ هواه 0
( قال ابن مسعود : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة 0
قال الخطيب: ويتجنب (أى العالم) فى روايته للعوام أحاديث الرخص وما شجر بين الصحابة والإسرائيليات)( )0
( وممن كره التحديث ببعض دون بعض – الإمام أحمد- فى الأحاديث التى ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك فى أحاديث الصفات، وأبو يوسف فى الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة فى سفك الدماء بتأويله الواهى، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوى البدعة، وظاهره فى الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب)( )0
ولذلك وجب وعظ الأغنياء بالزهد، وأن يوعظ البخلاء بالإنفاق، والكسالى بالجد والنشاط، وعموماً لابد أن يكون الوعظ متناسياً مع من يوعظون به من أجل المزيد من الخير، وليس لتبرير أخطائهم وعيوبهم0
المسابقة العلمية 00 سنة نبوية
قد تظن – أخى القارئ- أن المسابقات العلمية طارئة على المنهج الإسلامى، وأنها من روح العصر، ولكن الحق أن العلماء كانوا – على مر العصور – يستعملون الألغاز والأحاجى فى تدريس العلم، وخصوصاً عند الاستراحات، وبين الدروس المتعددة، بل وألفوا فيها الكتب والمصنفات، وهم فى ذلك يتبعون الهدى النبوى0
إذ جلس النبى  بين أصحابه يوما فقال ملغزاً لهم : (( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثونى ما هى؟ قال – أى راوى الحديث عبد الله بن عمر – فوقع الناس فى شجر البوادى00 فوقع فى نفسى أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هى يا رسول الله؟ قال : هى النخلة)( )0
( وفى الحديث غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه00 وأما ما رواه أبو داود 00 عن النبى  أنه نهى عن الأغلوطات (أى صعاب المسائل) 00 فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنت المسؤول أو تعجيزه، وفيه التحريض على الفهم فى العلم 000)( )0
وهكذا، حرصت الشريعة الإسلامية على أن يستفيد المؤمن من جميع وقته، حتى عند استراحته وفيئته، فأجازت له اللهو المباح، واللعب الجاد، فكان من المباح للمؤمن استعمال الرمى والمناضلة، والمسابقة الفكرية، والإلغاز من أجل قوة العقل، وفى الحالتين فلا تفريط فى الوقت، ولا ضياع فى الجهد، فيا للروعة ما أحرص الإسلام على وقت أبنائه0
والسمر فى العلم
قالت أم المؤمنين عائشة : (( لا سمر إلا لمتعلم أو مسافر أو عروس))
وهذا أيضاً من فضل العلم، فالسمر (وهو الجلوس ليلاً للحديث) لا يكون إلا للطاعات والعبادة، إذ تنتشر فيه الملائكة، وتتنزل فيه الرحمة، وما أكثر ما تضيع هذه الفرصة – هذه الأيام- على المؤمنين0 إذ يصرفون أوقاتهم على السماع للمنكر، ومقابلة التلفزيون لفترات طويلة، دونما شعور بأن هذا مضيعة للعمر، ومجهدة للجسم وقد استحب الرسول  للمؤمنين صرف هذا الوقت – إن لم يكن للعبادة – فالسمر فى العلم استفادة من الوقت وراحة الجسم0
وقد قال عبد الله بن عمر – رضى الله عنهما – إن النبى  صلى بهم العشاء فى آخر حياته فلما سلم قام فقال : (( أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد ))( )0
فأخذ العلماء من هذا الحديث – ومنهم الإمام البخارى- جواز السمر بالليل بالعلم والموعظة، وإن خلط العلم بالملح والنوادر مطلوب دائماً للتقوى بها على طلب العلم 0
قال الإمام على – كرم الله وجهه – روحوا القلوب ، وابتغوا لها طرف الحكمة0
(وكان الزهرى يقول لأصحابه: هاتوا من أشعاركم ، هاتوا من أحاديثكم، فإن الأذن مجاجة، والقلب حمض)( )0
فإن رغبت فى سمر الليلة – أخى المسافر – فما عليك سوى أن تعيد قراءة حلقة اليوم، أو تنظر المصادر نفسها للاستزادة مما فيها من علم 0
(6) العمل الصالح
والعمل الصالح 00 يرفعه
لقد سبق الحديث عن ركنين هما من خصائص السالكين إلى الله، والمسافرين فى طريق الدعوة، الإيمان والعلم، والحديث هنا عن العمل الصالح، وهو الركن الثالث الذى لابد منه لإجازة المسير، فالإيمان علم القلب وعمله وتصديقه، وبالعلم تعرف مقادير الأعمال ومراتبها وفاضلها من مفضولها، والعمل ثمرة الإيمان ومقتضياته، وتابع العلم ومتمماته، وبه يكمل معنى الإيمان، ويتحقق فضل العلم، وعليه الحساب والعقاب، وبه يحصل الإنسان على الأجر والثواب0
والعمل الصالح يظهر معنى الشهادتين، والآيات الكريمة تدل على اقترانه مرة بالإيمان لأنه من ثمراته، ومرة تقرنه بغفران الذنوب وتكفير السيئات، تأكيداً لمعنى الثواب والعقاب0 وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (المائدة: 9) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب (الرعد:29)0
وفوق الثواب الأخروى فإن العلم الصالح يؤدى إلى تحقيق سعادة الإنسان فى الحياة الدنيا، ويحقق مصالحه المعاشية، دون خلل أو نقص، وبه تحكم تصرفات البشر ليتحقق لهم العيش الرغيد، والابتعاد عن العمل الصالح إذا أراده البشر يؤدى بهم إلى المعيشة الضنك، والحياة الشقية0
العلم ميزان العمل
لكل شىء فى الحياة ميزان يفرق بين الخطأ والصواب، وبين فاعلية العمل الخيرة وطبيعته الهدامة، فرب عمل لا يجنى منه سوى الدمار، وهو ذلك العلم الذى لا ينبنى على علم من الله تعالى 0
(إن العلم إمام العمل، وقائد له والعمل تابع له ومؤتم به، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتدياً به، فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه، كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، والأعمال تتفاوت فى القبول والرد بحسب وافقتها للعلم، ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول والمخالف له هو المردود فالعلم هو الميزان وهو المحك قال تعالى : الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور00( ) (الملك:2)0
أما أعمال الكافرين التى لا تستند على علم شرعى، ولم يكن الشرع إماماً لها، فهو العمل الذى ثمرته ف الحياة معيشة ضنك ويحضر الإنسان بسببه يوم القيامة أعمى، وكم من عمل للإنسان لم يكن مهتديا بالهدى النبوى سبب الويلات له، واحل فى الأرض البوار، والأعمال غير المهتدية بعلم الشريعة ظاهرها جميل وبناء، وثمرتها ويل دمار، ونهايتها جهنم وبئس القرار، وهى إضافة إلى أنها سبب نكد البشرية، ودمار الإنسان، فهى فى الآخرة لا قيمة لها، بل كرماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف، وأعمال الكافرين –كذلك- وإن ظهرت جميلة وبراقة، إلا أنها (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا)0
ثم تكون أعمالهم فيما بعد حسرة عليهم0 فالعلم ميزان يفصل بين أعمال الخير وأعمال الشر، وفرقان بين الحق والباطل، وبينما تظل الكلمة الحق أصلها ثابت وفرعها فى السماء، أما أعمال الكافرين، فالله تعالى يقول عنها : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً (الفرقان:23)0
بداية العمل 00 مشاهدة الآلاء
إن التصورات الذهنية لابد أن تسبق كل عمل، سواء أكان من أعمال الدنيا أم الآخرة، ولذا كان لابد للخواطر التى تسبق العمل الصالح أن تكون صالحة أيضاً، وأول مواطن صلاحها الاعتراف بنعمة الله عز وجل، ليعلم أن :
(مبدأ كل علم نظرى وعمل اختيارى هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب على التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضى وقوع الفعل، وكثرة تكراره تقضى العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها، فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها، وإلهها، صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحبته، فإن سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء، فيظهر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته فى آلائه ونعمه، وتوحيده وطرق معرفته، وطرق عبوديته، وإنزاله إياه حاضراً معه مشاهداً له، ناظراً إليه، رقيباً عليه، مطلعاً على خواطره وإرادته وهمه)( )0
وبالتالى فإن مراقبة الله تعالى ورؤيه نعمه، أول مواطن الاستقامة، وبداية طريق التوحيد، وإن مشاهدة الآلاء فى التوفيق والسداد، بل فى جلب الخواطر والأفكار الصالحة التى تقود إلى العمل الصالح بحد ذاتها عبادة، وتدل على التوحيد، وفوق ذلك تتضمن تمام العبودية ويكون العمل بتوفيق من الله تعالى0
أخلصه 000 وصوبه
لا يقبل العمل ما لم يكن خالصاً وصائباً، فالنية الصالحة ترفع العمل الصالح وتجعله مستجاباً، ولكن النية وحدها لا تكفى ما لم يكن العمل صائباً بذاته، والصواب لا يتأتى ما لم يكن العمل وفق الشريعة، وما أكثر ما كرر السلف قولهم عن العلم (أخلصه وصوبه)، ولما قيل للفضيل بن عياض عن معنى هذا قال : (( إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة00 وذلك تحقيق قوله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً( ) (الكهف: 110)0 وكان أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه يقول فى دعائه: ((اللهم اجعل عملى صالحاً واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً))( )0
(وهذان الوصفان- وهما إسلام الوجه لله والإحسان- هما الأصلان المتقدمان، وهما كون العمل خالصاً لله، صواباً موافقاً للسنة والشريعة، وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن القصد والنية لله00 والعلم الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، وهو ما أمر الله به، والذى أمر الله به هو الذى شرعه الله ، وهو الموافق لسنة رسوله، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله، وكان محسناً فى عمله، فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب)( )0
والمتتبع لنصوص الشرع يجدها دوماً بين الإخلاص والصواب، وهو الطريق المستقيم الذى لا يجنح إلى فتن الشهوات أو فتن الشبهات، بل صراط الشريعة الذى لا عوج فيه0
فرص متوفرة
ومن رحمة الله عز وجل بعباده، أن جعل فرص العمل الصالح متوفرة دائماً، ومتنوعة ومتباينة، فلكل ظرف عبادة، وفى كل حين عبادة، وعلى كل حال هنالك عبادة، كما أنها تتفاضل فيما بينها من حيث الأجر والثواب، ومن حيث طلب الشرع لها، فالفرض أولى من غيره، والسنة أفضل من المباح، ودفع الضرر مقدم على جلب المصلحة، والمصالح تتفاوت بينها، فالقطعية قبل الظنية، والجماعية أولى من الفردية، وقد تكون العبادة المعينة أفضل فى وقت دون غيره، وفى مكان دون آخر، والعبادة ذاتها بحق شخص معين أفضل له من نفس العبادة بالنسبة لشخص آخر، وهكذا تكون الصلاة فى وقتها من أفضل العبادات، والجهاد فى وقته لمن قدر عليه أفضل من النوافل، ودعوة الناس للخير أفضل من جميع العبادات إلا الفرائض، وهكذا تتفاضل العبادات مما لا يدرك إلا بالعلم، ولهذا كانت عبادة العالم أفضل من عبادة الجاهل لأنه أعلم بمواطن الأفضل، وأقدر على تمييز الأولويات التى يحبها الله ورسوله0
(وهذا الباب، باب تفضيل بعض الأعمال على بعض، إن لم يعرف فيه التفصيل، وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال فى كثير من الأعمال، وإلا وقع فيه اضطراب كثير، فإن فى الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات، حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعاراً لمذهبه00 والواجب أن يعطى كل ذى حق حقه، ويوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعى فى ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية، ويعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد  )( )0
تنوع 000 وتنوع
قد يتنوع الأفضل بسحب أجناس العبادات، حيث إن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، وبين أفراد الجنس الواحد تفاضل، فدعاء الله أفضل من دعاء الحاجة، وصلاة الفرض أفضل من صلاة النافلة، والذكر بالمأثور أفضل من الذكر بغيره وهكذا0
وقد يكون الأفضل باختلاف الأوقات، فالقراءة، والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة، والذكر بعدهما أفضل من قبلهما، وقرآن الفجر أفضل من قراءة وقت آخر، والتهجد بعد النوم أولى من جعلها بعد العشاء، وأشباه ذلك0
وقد يكون بحسب عمل الإنسان الظاهر، فالذكر عند الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن بعد الفاتحة فى القيام هو المشروع والذكر والدعاء عند الطواف أولى من قراءة القرآن وعلى هذا يقاس غيره0
وقد يكون الأفضل بحسب اختلاف الأمكنة، فالذكر والدعاء عند الصفا والمروة أفضل من الصلاة، والطواف للقادم أولى من الصلاة، والعكس بالنسبة للمكى0
وقد يكون التفاضل بالنسبة لوضع بالمكلف، فالجهاد للرجل أفضل من الحج، وجهاد النساء الحج، وطاعة المتزوجة لأبويها دون طاعتها لزوجها، وغير المتزوجة طاعتها للوالدين، وهكذا 00
وتارة يكون التفاضل بحسب المقدرة، فالعاجكز والأعمى تكون العبادة فى حقه أفضل من الجهاد، وقد يكون العمل فى حق مكلف أنفع لقلبه وأطوع لربه، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للآخرين، (والله بعث محمداً  بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد وهدياً لهم، يأمر كل إنسان بما هو أصلح له ، فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له، وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعبادات البدنية – كالصيام والصلاة – أفضل له. والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبى  باطناً وظاهراً 00)( ) 0
كل يعمل على شاكلته
إن النفوس الصاعدة، والهمم العالية، هى التى تتطلع إلى مراتب العمل العالية، والناس مراتب، ولذلك كانت الأعمال مراتب أيضاً، والأصل فى ذلك ما فى قلب الإنسان من الرغبة والرهبة، وقوة اليقين وضعفه وعلو الهمة أو دناءة النفس، وما يؤثر على المرء من اشتغاله بالنعمة وشكرها أو إنكارها، وغير ذلك مما قد يجعل النفس لا ترضى بالدون لشرفها ونبلها، أو ترضى بأخس الأشياء لدناءتها وصغرها، وأصل الخير كله بتوفيق الله تعالى ومشيئته، وفى دفعه عن الإنسان الموفق أن لا يغفل بالعلم عن العمل، أو يسارع إلى الذنوب ويترك التوبة، أو أن يغتر بصحبة الصالحين تاركاً عيوب نفسه0
وبناء على هذا فالنفوس نوعان وبينهما مراتب، فنفس تقابل شكر النعمة بالمحبة والثناء والمراقبة له، والطاعة، والتعظيم والإجلال، ونفس تقابل النعم بالمعاصى والإعراض عن الطاعات، وشتان بين نفس عالية تتطلع إلى الأعالى، ونفس تقنع بالدناءة0
(فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش، ولا بالسرقة والخيانة، لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (الإسراء : 84)، أى على ما يشاكله ويناسبه فهو يعمل على طريقته التى تتناسب أخلاقه وطبيعته)( )0
لا تلتفت إلى الوراء 000!!
ومن شرف النفس، وعلو الهمة أن لا ينتظر صاحب الهمة الثناء من أحد، بل يسارع فى الخيرات، ويعجل إلى ربه غير ملتفت لأحد، لأن الناظر إلى أجر البارى عز وجل وما ادخره لعباده المؤمنين لا يلتفت لأحد يعوقه، ولا إلى ثناء آخر يغريه، فهو من الموت كالهارب من أسد مفترس وأمامه جنة عرضها السموات والأرض، فهو لا يلتفت إلى عوائق الطريق، ولا إلى علائق الدروب، فيكون الإخلاص دافعاً للركض إلى الله تعالى دون خوف أو وجل، ودون تلبث أو اغترار، لأن الذم والثناء قد تساوى عنده فى رحلته، وليس فى نفسه قوة للالتفات لغير المقصود، فكما أن الإخلاص يقود إلى ذلك، فإن مجاهدة النفس بالمقابل تقود بذاتها إلى الإخلاص0
( لا يجتمع الإخلاص فى القلب، ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا فى الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد فى الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص)( )0
فهنيئاً لمن عقد العزم بكل قلبه على الرحيل، وانطلق لا يلوى على شئ0
ورهط الخير فى الانتظار
وأفضل الأعمال – فى كل الأمور – ما كان جماعياً فصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، والحج لا يكون إلا مع جماهير المسلمين، والجمعة لا تصح إلا فى جماعة، ومع أن المحاسبة على الطاعات والمعاصى فردية، إلا أن الفضل والثواب يزداد فيها عند عملها مع جماعة، مما يدل على فضل الجماعة فى الإسلام، والنظر الدقيق لجميع العبادات فى الإسلام يجد المنحى الجماعى فيها واضحاً0 وأمر الجماعة أوسع من أن يكون فى العبادات فقط، بل هو سنة الله فى خلقه، وهو أمر تدعو له مصلحة الدين والدنيا، ولذلك كانت الروح الجماعية واضحة فى المعاملات والعادات0
(وكل بنى آدم لا تتم مصلحتهم لا فى الدنيا ولا فى الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر على دفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدنى بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقصاد، والناهى عن تلك المفاسد)( )0
وفوق ذلك كله، فالعمل الجماعى مطلوب أيضاً فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أى فى الدعوة إلى الله عز وجل ولا يسع الفرد المسلم إلا أن يعمل مع جماعة مؤمنة لإعلاء كلمة الله تعالى، وليس أدل على ذلك من قول شيخ الإسلام :
( وروى الإمام أحمد أن النبى  قال : (( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم))، فأوجب  تأمير الواحد فى الاجتماع القليل العارض فى السفر، تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة)( )0
ويظهر من النص أن العمل الجماعى يقتضى القوة والإمارة، القوة التى جعلها الله تعالى بأصل الجماعة، والجماعة أقوى دائماً من الفرد، وحزمة العصى أقوى من العصا، والجماعة لا تكون إلا بإمارة، فما أحلى من التزم بذلك، وكانت رفقته فى السفر قافلة الدعاة، حيث بهم يسعد، وبحديثهم يلتذ، وبمعاشرتهم يقوم العمل، وبسماعهم تصح النية، فالمسافرون معهم كتيبة الحق، وقافلة التوحيد الذين يسمعون من الله، يتبصرون بنور الله، وينطقون بكلام الله، ويسعون فى طاعة الله، ويلهجون بذكر الله، أولئك أئمة الهدى، ومصابيح طريق السالكين إلى الله، أولئك هم قادة البشرية، وخلفاء الرسل، أهل العلم الصائب والعمل الخالص أولو البصر واليقين وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (السجدة : 24) 0
فليتنافس المتنافسون
أيها السالك إلى الله، والمسافر فى القطار مع الدعاة العاملين، عليك بالمنافسة فى الخير وسارع إلى المعروف، ولا تخش من ذلك، ولتعلم أن المنافسة المذمومة هى الحسد غير المشروع، والحسد خلق ذميم، ونفس صاحبه ساقطة، تحسد غيرها لعجزها ومهانتها، والحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود: أما المنافسة الممدوحة فهى التى يطلق عليها أحياناً الحسد المشروع لورودها عن النبى  (( لا حسد إلا فى اثنتين، رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار))( )0
وهذا الحسد المشروع هو الذى يطلق عليه فى الغالب (الغبطة) أو المنافسة المحمودة وهى : (المبادرة إلى الكمال الذى تشاهد من غيرك فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه، فهى من شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، قال تعالى : وفى ذلك فليتنافس المتنافسون (المطففين:26) وأصلها من الشىء النفيس الذى تتعلق به النفوس طلباً ورغبة فتنافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب رسول الله  يتنافسون فى الخير ويفرح بعضهم لبعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً عليه من تنافسهم فيه، وهى نوع من المسابقة، وقال تعالى : فاستبقوا الخيرات000 (البقرة : 148)( )0
فيا أيها السالك إياك والاقتداء بالكسالى والمثبطين، والنظر إلى أصحاب الدنيا والمتكالبين، وشمر عن ساعد الجد، واحزم أمرك، وتوكل على الله، وركضاً ركضاً إليه 0
الجزاء المقدم
لا جزاء للعمل الصالح إلا الجنة، ومع هذا الفضل العظيم، فإن الله تعالى قد يقدم الأجر باللذة والسرور الذى ينتاب المؤمن، ولطالما يشعر المؤمن بلذة العمل الصالح وطيب الوقت والنعيم الذى لا يمكن التعبير عنه، والإشعار عليه، ويشعر به من تفتح له الحقائق الإيمانية، والمعارف الربانية0
كما قال بعض الشيوخ : لقد كنا فى حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى هذه الحال إنهم لفى عيش طيب، وقال آخر : لتمر على القلب أوقات برقص فيها طرباً، وليس فى الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة، إلا نعيم الإيمان والمعرفة، ولهذا كان النبى  يقول (( أرحنا بالصلاة يا بلال)) ولا يقول : أرحنا منها ))( )0
وهذه اللذة التى لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدوا أهل الطاعات عليها بالسيوف، وهذه لذة لا يشعر بها إلا من عمل مخلصاً وجهه الله تعالى، وما من مؤمن إلا أذاقه الله شيئاً من هذه اللذة، ولو كانت يسيرة ليقيس بالأدنى على الأعلى، وينشط للخير 0
(لذة كل أحد على حسب قدره، وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة، وأرفعهم قدراً من لذته فى معرفه الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته فى إقباله عليه وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله 00 وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه فى الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه 000)( )0
وأخيراً أيها المسافر :
نرجو أن تكون قد شعرت بهذه اللذة فإن تكن كذلك، فأبشر بلذات 0

(7) التأهب للمسير
زاد الطريق
إن مما تدركه العقول بالفطر السليمة، أنه لابد لأى مسافر من زاد يتقوى به على وعثاء الطريق، ومشقة البعاد، وتجاوز العقبات والوهاد، والزاد مادى إن كان السفر بالجسم ليتقوى به لأنه من جنسه، فكذا مسافر الروح والقلب يحتاج إلى الزاد الذى من جنس الأمر، والمفرط الخاسر من لم يتزود لسفره :
( عجباً لراحل مات، وما تزود للرحلة، ولمسافر ماج وما جمع للسفر رحله، ولمنتقل إلى قبره لم يتأهب للنقلة، ولمفرط فى أمره لم يستشر عقله 000
إخوانى 00 مر الأقران على مدرجة، وخيول الرحيل للباقين مسرجة، سار القول إلى القبور هملجة، وباتت أرواح من الأشباح مستخرجة، إلى كم هذا التسويف والمجمجة، بضائعكم كلها بهرجة، وطريقكم صعبة عوسجة، وستعرفون الخبر وقت الحشرجة 000)( )0
إن لحق أن يتزود المؤمن لآخرته بما يعينه على تجاوز الحساب والعقاب، ويحمل من المؤونة ما يجلب له المغفرة وتجاوز الصراط، ففى اليوم الآخر لا يقبل من المرء مال ولا بنون، ولا بيع ولا خلال، وإنما تقبل فيه القلوب السليمة، والأعمال الصالحة، فابن آدم يموت ويرجع كل شىء ويبقى معه العمل الصالح0
ومثل ذلك – على وجه التخصيص- سفر الداعية فى قافلة، إذ عليه التزود بالزاد الملائم للرحلة من النية الصالحة، وطلب الثواب0
تزودوا للقاء الله وانطلقوا لنصرة الحق والتقوى هى الزاد
وأن يتزود كذلك بالعلم الصحيح من القرآن والسنة ليعلم بذلك الصواب من الخطأ، وأن يعرف الواقع الذى يدعو فيه فتقع الكلمة فى مواضعها من القلوب، ويملك النفس العالية التى تتصاغر عندها المشاكل والمتاعب، وأن يتزود بالهمة العالية التى تدفع به للخير، وهو فى كل ذلك – ككل جهاز مادى أو بشرى- محتاج إلى طاقة الدفع وطاقة المسير، والداعية يجد من إيمانه ويقينه، وما يتقوى به هذا الإيمان من عبادة صحيحة، ومجاهدة حقة الطاقة الكبرى لدفعه فى قطار العطاء 0
ومن بركات السفر إلى الله تعالى مع قافلة الدعاة، ما يتم به من إسباغ النعمة على العبد، وما قد يفتح الله تعالى على عباده من أبواب الفضل، وخزائن النعم، وما يتفضل به على عباده من الرحمة التى لا تخطر على بال بشر إلا من عاش لذتها، وارتشف من معينها، ولا يتذوق حلاوة هذه الرفقة، ولذة هذا العيش إلا من كان له نصيب من معرفة الله وتوحيده، وعاش حقائق الإيمان، وجرب هذه اللذة فى عالم الواقع بالخلطة مع أهل اليقين، وخلان الوفاء، والمؤمن بهذا يميز بين هذه الخلطة الإيمانية التى تجلب الاطمئنان والسعادة، وتدعو إلى الغبطة والحبور، وبين الخلطة مع أهل الجاهلية والمعاصى وما تجلب من التعاسة والكدر، وما تسببه من النفرة والضجر0
((فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذى لا يمكن التعبير عنه إنما هو فى معرفة الله – سبحانه وتعالى- وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية، والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت فى حالة أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى هذه الحال إنهم لفى عيش طيب، وقال آخر: لتمر على القلب أوقات يرقص فيها طرباً ))( )0
(ويقول الآخر مع فقره: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف000)( )0
لذة المسافر
وفوق لذة المسافر هذه بطيب الرفقة، وفرحة النفس وما يشعره بالفوائد الإضافية، والمكاسب الزائدة، فإن الله تعالى يقذف فى قلبه حب السفر إليه والهجرة فى سبيله، كحب مسافر الدنيا لخلق الله فى الأرض، ولذة السفر الدعوى مع قافلة الدعاة هى فى معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والعمل فى سبيله، والتردد إليه بالعمل الصالح، والتقرب لمرضاته بتطبيق سنة نبيه، ولذات كل إنسان على حسب قدره، وعلى علو همته، أعلى مقدار شرف همته، وفى كل ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، فمن الناس من تنتهى لذاته إلى أقذر الأمور وأخس الأشياء، ومنهم من تسمو لذاته إلى أفضل الأمور، وزعلى الطاعات، والدعاة إلى الله تعالى جمعت لهم لذة الدنيا والآخرة، وجمعت لهما على أكمل وجه، وهم أيضاً فى ذلك مراتب :
(وأكمل الناس لذة من جمع لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه، فهذا مما قال تعالى فيه : قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة (الأعراف: 32)، وأبخسهم حظاً من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات: أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها 000)( )0
الاستعانة بالمباح
وفوق لذة المسافر فله أن يستعين بالمباح، بل وقد يستعين بالمستحب ويشهد المنافع لنفسه، وقد يكون المباح مما تأنس النفس به، ويرتاح القلب إليه، فيكون الداعية المسافر فوق ما يحصل عليه من الأجر الأخروى، فإنه يلتذ بالحلال من الخير من أنس ومزاح، أو لهو مباح، أو لعب برئ 0
(وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات، وترك المحرمات، فقد شرع أيضاً كل ما يعين على ذلك، فينبغى تيسير طريق الخير والطاعة، والإعانة عليه، والترغيب فيه بكل ممكن، مثل أن يبذل لولده وأهله أو رعيته ما يرغبهم فى العمل الصالح، من مال أو ثناء أو غيره، ولهذا شرعت المسابقة بالخيل، والإبل، والمناضلة بالسهام، وأخذ الجعل عليها، لما فيه من الترغيب فى إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد فى سبيل الله000)( )0
ولهذا كان الترويح عن القلوب بالمباحات يقوى الاستعدادات للطاعة، بل المباح طاعة بحد ذاتها إذا أدى المزيد من الطاعة، ولأن ما فى إتيان الحق من مغالبة الهوى، ودفع الشهوات به، فيتقوى المؤمن على ذلك بشىء مما تألفه النفس0
(وكان عمر بن عبد العزيز يقول: والله إنى لا أريد أن أخرج لهم المرة من الحق، فأخاف أن ينفروا عنها فأصبر حتى تجئ الحلوة من الدنيا، فأخرجها معها، فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه 00( )0
وهكذا فإن الله تعالى – وهو أعلم بخلقه – بعلمه بطبيعة البشر، هيأ لهم مجال الطاعة، وطرق الاستعانة على هذه الطاعة، دون مشقة أو حرج، وفوق ذلك يكسبهم الأجر الوفير فى الآخرة، مع اللذة الدنيوية التى يستشعرها المؤمن فى حياته، والتى تزداد مع كثرة انشغال العبد بأعمال الخير، وتزداد وضوحاً عند الدعاة العاملين، والمسافرين فى قافلة الخير، إذ يزداد أنسهم بالطريق، ويشتد فرحهم بالرفيق، وتتصاغر عندهم المتاعب، وتهون عليهم الدنيا ويقل عندهم الكدر، وتصفو نفوسهم، حتى تكون قرة أعينهم بالصلاة، ولذة حياتهم العبادة، وأحلى أسمارهم فى مجالسة الإخوان، وأجمل مزاميرهم فى سماع القرآن، وتكون أحلى غاياتهم الموت فى سبيل الله، وأنبل مقاصدهم رضا البارى عز وجل0
والله غايتنا
وانطلاقاً من صحة المقصد، كان لابد للداعية من استحضار النية وتجديدها، والسعى إلى تخليصها من الشوائب المكدرة، من طلب علو أو جاه، أو الاستزادة من مكسب أو ثناء، والتذكر دائماً لحديث المصطفى  ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى00))( )0
إذ إن النية التفريق بين عمل المؤمن المقبول وغير المقبول، والنية فيصل بين العادات والعبادات، كما أنها تميز الفرض عن المندوب، وصلاح الأعمال لا تكون إلا بخلوص النيات، وقد جاءت الأخبار المستفيضة أن قبول الأعمال بصوابها وإخلاصها، وهما مقتضى شهادة التوحيد، فالإخلاص أن يكون العمل لله وحده، والصواب أن يكون وفق شرعه الذى شرعه للناس0
(وقد تواتر النقل عن الأئمة فى تعظيم هذا الحديث00 وليس فى أخبار النبى شىء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث)0 واتفق بعض العلماء على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، وقال بعضهم يدخل فى ثلاثين بابا، وقال الشافعى: يدخل فى سبعين باباً 00
ولأن حديث النية يحدد ركن العمل الأساسى وهو الإخلاص، ولذلك كان التذكير به لكل مؤمن لابد منه، وعلى الداعية أن يكون أشد تذاكراً واستحضاراً لهذا الحديث، وأن نعلم أن : ((النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالاً أو مالاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو العمل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه، والنية فى الحديث محمولة على المعنى اللغوى ليحسن تطبيقه على ما بعده، وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل 000))( )0
وبالتالى يدرك معنى الاستحضار لنية القلب، وإخلاص التوجه لله عز وجل، وأن السفر لله تعالى بالدعوة إلى دينه، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليم الناس الخير، وإرشادهم للأعمال الصالحة، يحتاج إلى النية الصادقة حتى يتوج العمل الدعوى بالبركة والقبول0 ولقد أشار الحديث نفسه إلى الهجرة كأحد معانى السفر0
( والهجرة : الترك، والهجرة إلى الشىء الانتقال إليه من غيره، وفى الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت فى الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن00 الثانى: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان00)( )0
وبالتالى فالسفر بمعنييه الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، والانتقال من حال إلى الحال الأفضل من الارتقاء بالمؤمنين من مدارج السالكين هما ضمن معانى الهجرة التى أراد لها الحديث النبوى صدق النية والتذكر بها، فكان حريا بكل داعية وضع النية نصب عينيه، وأن يرفع الشعار مع قافلة العاملين ((الله غايتنا))0
أهداف ومراحل
وضمن الغاية الكبرى، وداخل الهدف الواسع، تبرز أمام الداعية مع ركب الدعاة مجموعة الأهداف المرحلية المتداخلة مع بعضها، أو التى يردف بعضها بعضاً وتظل هذه الأهداف نصب عينى العامل الداعية لا تنبثق أعماله إلا لخدمتها، والسعى إلى تحصيلها، فإذا كان الداعية مسافراً إلى ربه، فالأهداف المرحلية هى مراحل السفر التى يطويها واحدة تلو الأخرى، حتى وصوله للغاية0
(العبد من حين استقرت قدمه فى هذه الدار فهو مسافر إلى ربه، ومدة سفره هى عمره الذى كتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان فى هذه الدار إلى ربه، ثم قد جعلت الأيام والليالى مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل فلا يزال يطويها مرحلة عبد مرحلة حتى ينتهى السفر، فالكيس الفطن هو الذى يجعل كل رحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالماً غانماً فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد، فيقسو قلبه، ويمتد أمله، ويحضر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد فى قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها، هان عليه العمل فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزود00)( )0
وهكذا، فالداعية يفهم المراحل، ويعمل لهدف كل مرحلة متزوداً لكل مرحلة بما يعينه عليها، مدركاً طبيعة المراحل، ولا تغيب عن ناظريه طبيعة الطريق الذى يسلكه، كما يدرك الطريق الذى يسلكه دعاة الشيطان، فلا يستحث المسير دون سبب، ولا يتقاعس عن السير دون مبرر، ويعلم أن ( المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) كما يعلم أن ساعات عمره تعد عليه، وسوف يحاسب على عمره فيم أفناه، ويربأ بنفسه لتشبه بأهل الكفر والفسوق والعصيان فى اللهاث السريع، بل يصرخ وعجلت إليك رب لترضى (طه: 84) والداعية الواعى لا يجره نسيان أصل الغاية الواسعة، والأهداف الكبيرة وغاية السير أن يلتهى بالجزئيات، والخلافات البسيطة، أو أن يحرص على مكاسب جزئية، وبالتالى فلن يكون الداعية ممن يهزه الكسب السريع، أو يوقفه الإغراء المؤقت، وعليه أن لا يعيش على أنغام المترخصين الكسالى، وأنه لا تطريه غوغاء المتهورين العجالى، وعليه أن يرنو ببصره دوماً إلى الأمام مشتاقاً إلى نهاية المرحلة، حتى يندفع إلى مرحلة أخرى، حتى يصل قرير العين مطمئن القلب، وهناك يحمد القوم السرى0
معرفة الطريق
ولابد للقاصد السفر من استجماع الهمة، وحفظ العزيمة لاجتناب الموانع وتحدى العوائق، وأن يأخذ من جملة الزاد الذى يحمله القوة العلمية بما تتضمنه من فقه للطريق، ومعرفة بالدرب، وهو للداعية معرفة الواقع الذى يعيش فيه، لا أن يعرف الأحكام ولا يعرف تطبيقها، ويحفظ الألفاظ ولا يدرك مراميها، ويلهج بالأحكام ولا يغوص إلى عللها، فالشريعة نزلت لتحكم فى عالم الواقع، ولتحقق مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهكذا فالمسافر إلى ربه لا يتم سيره أو يعرف مقصوده إلا بالقوة العملية التى تضئ درب المسير، وتوضح طريق المقصود0
(000 وبالقوة العملية يسير حقيقة بل السير القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر المعابر والوهاد، والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح00)( )0
وعند توسعة هذه المعانى تفصيلا على الداعية أن يعرف الواقع الذى يعيش فيه، وطبيعة البشر، ومدى استعداد كل إنسان للتلقى، وأن يراعى الأعراف، وأحسن الظروف الزمانية والمكانية، كى تؤدى كلمته أثرها فى النفوس، وكذلك فإنه من الوعى أن يلتمس الداعية فى رحلته الأولويات، فلا تكون الوسائل على حساب المقاصد، ولا النوافل على حساب الفروض، وأن يكون مهتماً بإصلاح الجوهر أولاً ثم يزينه بالمظاهر، ويبدأ بالأهم ثم المهم، ويعلم الناس الموازين والقواعد، ولا يشغلهم بالتوافه أو المرجوحات، وكذلك عليه أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، حتى لا يكون بعض الحديث فتنة لبعض، وبهذه المعرفة يستطيع قطع المراحل:
(فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى واستشعر القرب من المنزل فهان عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقى، وبرد العيش عند الوصول فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة 00)( )0
أما الذى يشغل نفسه بصغائر الأمور، ولا يضع الكلمة فى مواطنها الصحيحة، ولا يدرك مراتب العقول، واختلاف المدارك، فهيهات له الوصول، وقد يقضى زمانه دون أن يقطع مرحلة من الطريق، لانشغاله بالبسيط دون الأمر الجلل، مثله كمثل لمسافر الذى ينشغل الانشغال الكبير بإعداد الطعام، أو الاستراحة الطويلة حتى تفوته دابة السفر0
وعوائق أخرى
ومن العوائق فى طريق المسافر إلى الله، ما قد يكون على القلب من درن الشبهة أو المعصية، والإنسان بين فتنتين، أحدهما : فتنة الشبهات التى سببها قلة العلم فينحرف إلى صراط الضالين، والأخرى : فتنة الشهوات التى سببها قلة العمل فينحرف إلى صراط المغضوب عليهم، ولكل فتنة درجات ومراحل، وكلها تعوق السير إلى الله تعالى، وقد تقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام، فيقال عن العوائق أنها: ((أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله، وتقطع عليه طريقه، وهى ثلاثة أمور: شرك ، وبدعة، ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة، وهذه العوائق لا تبين للعبد حتى يأخذ فى أهبة السفر، ويتحقق بالسير إلى الله، والدار الآخرة، فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحس بتعويقها له بحسب قوة سيره، وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعداً لا يظهر له كوامنها وقواطعها))( )0
والمؤمن المرهف الحس، والداعية الراحل مع القافلة يدرك بالبصيرة والتجربة كيف أن السيئة تعرقل الخطوات، والمعصية تجذب عن السير، بينما الطاعة تجلب الهمة، والهمة تجلب طاعة أخرى، فتتدفق الطاعات، كما يسلسل الماء الزلال0
والعادات قاتلات
فكما أن المسافر – على وجه الحقيقة- يخالف بعض عاداته من المأكل والملبس، ويترك بعض عاداته فى المنام والأعمال، فإن بعض العادات قد استولت على الناس ونشأوا عليها واتخذوها سنناً، فعم بها المصاب، وهجر لأجلها السنة والكتاب، حتى أصبحت بعض العادات تحول بين العبد وبين طاعة ربه، وسببت الخذلان، وكانت من أعظم الحجب عن معرفة الحق واتباع السبيل القويم، بل وقد تصبح العادات المنكرة، عند البعض من أعرف المعروف، والخروج عنها من أنكر المنكر، ولهذا فالمسافر إلى ربه لابد له من هجر العوائد، وما ألفه الناس من الرسوم والعادات0
(فالعوائد: السكون إلى الدعة والراحة، وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التى جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هى عندهم أعظم من الشرع00 فالمعروف عندهم ما وافقها، والمنكر ما خالفها000)( )0
والداعية المنصف من نفسه، عليه أن لا يجعل من العادات والأعراف المخالفة لما شرعه الله حاجزاً يمنعه من المعروف، ومانعاً يصده عن الخير، فلا يبالى بأعراف أهله وذويه، ولا يهتم لعادات مجتمعه وما يحويه، ما دام مخالفاً لشرع الله تعالى، بل عليه أن يكون الداعية الذى يصد التيار، ويقاوم المنكر، ويحارب البدعة، وفوق ذلك يكون القدوة الذى ينشئ المعروف، ويقيم السنة، ويكون المثال الذى يحتذى، فيكون له أجر العاملين، وأجر المقتدين به0
والعلائق 00 من العوائق
(( وأما العلائق فهى كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياستها، وصحبة الناس والتعلق بهم، لا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه000)( )0
ونظير هذا فى مسافر الدنيا كمن ملك الزاد والراحلة، واشتاق للسفر ومباهجه، ولكنه تعلق بخيط يشده من زوجة لا يريد فراقها، أو ولد يعز عليه تركه، أو تجارة لا يريد مبارحتها، فكذلك الداعية المسافر إلى ربه، قد يملك زاد الرحلة وكفاية العمل، كما يملك إخلاص النية ووضوح الطريق، ولكن علائق الدنيا، وثقلة الأرض وجاذبية الحياة، تشده إليها، فيبرر القعود بالتمسك بالتعود، وترك النهوض إلى معالى الأمور، فيجذبه النوم الهادئ الرغيد، وتقعده الوظيفة المسترخية، وتتزين له الدنيا ببهرجها وزينتها، وينسى أن الدنيا كلها لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وأنه تعالى ادخر لعباده ما لا أذن سمعت ولا عين رأت، وأن الله تعالى أعد للمتقين جنات عرضها كعرض السموات والأرض0
والداعية الهمام يدرك أن الوصول للغاية المحبوبة يتضاءل عندها كل ما يبذل لأجلها، ويضع نصب عينيه النعيم الخالد ولا يتعلق بأهداب الدنيا التافهة التى يتكالب عليها الناس ومصيرهم جميعاً إلى القبور، وتاركين وراءهم جميع المألوف والمحبوبات، فإذا ما أدرك الداعية المؤمن ذلك، فقد قطع العلائق بين قلبه وجواذب الأرض، وراح مسرعاً لطلب رضا الله عز وجل (ركضاً إلى الله بغير زاد 00)0
عليك بحفظ الهمة
والتخلص من العوائد والأوضاع التى استحدثها الناس، وهجر الوائق التى تصدعن عن قطع الطريق، والتجرد عن علائق القلب التى تحول بين الداعية المسافر ومبتغاه، وتحول بين قلبه وبين تجريد التعلق بالهدف، لابد له من ترك الفضول، والأخذ بالعزيمة، والسعى للأهم، ويترك ما يشغله عن المقصود من الطعام والشربا، وفضول الخلطة والسأم، ويأخذ من زاد السفر ما يعين على الطلب، ويرفض ما يقطع عنه الأخذ، وترك الأمور الثلاثة مدارها على أمرين هما النية والهمة، وبهما يحصل المطلوب الأعلى، فكانت النية بداية زاد المسافر، وهمته أولها0
(المطلب الأعلى موقوف حصوله علىهمة ونية صحيحة، فمن فقدها تعذر الوصول إليه، فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره، وإذا كانت صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب، فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته)( )0
أى أن الطريق أوله نية صحيحة، وهمة عالية، وآخره مقصد صادق، وغاية سامية، والداعية بين النية والهمة يتوضح له الطريق المطلوب، ويتخلص من كل العوائق التى تمنعه من السير فى ركاب الخير، واللحاق بقافلة الأبرار0
(00 ومن لا تنهض همته إليها فلا يزال فى حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذى خلق له مصدراً منكوساً، وقد أسام نفسه مع الأغنام راعياً مع الهمل واستطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه وبورك له فى تفرده فى طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن السبيل يرافقه فى سبيله)( )0
وهكذا يكون الفرق واضحاً بين المؤمن القاعد الذى استسلم للسكون، ورضى باليسير، وأقنع نفسه بالقعود، وبين الداعية الهمام الذى لا يرضى إلا بمعالى الأمور، ولا يقنع إلا بقيم المحاسن، وهنا كان لابد له من الهمة العالية التى تصعد به إلى المعالى وتسمو به إلى القمم، وهذه الهمة هى كما قيل عنها: ((الهمة العالية لا تزال حالمة حول ثلاثة أشياء: تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية، فإن تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت فى أودية الوساوس والخطرات00
إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ، ونام الليل كله، فمتى يصل إلى مقصده))( )0
فهنيئاً لك أيها الداعية فى رحلتك نحو الهدف، وأنت تقطع المفاوز عبر المفاوز، وأنت بينهما بين نية صحيحة وهمة عالية 0

(8) رفقة الطريق
خيرية الركب
وكما أن المسافر – على وجه الحقيقة- لابد له من رفقة الطريق، فكذلك المسافر إلى الله تعالى فى طريق الدعوة، أو السائر إلى الآخرة، لابد له من الجماعة التى يأنس بها، وتذهب عنه وحشة التفرد، وتصحح له الأخطاء، وتوضح له عقبات الطريق، وبهذا أمر الإسلام – كما جاء فى النصوص الشرعية – إذ حث على الرفقة حتى فى أسفار الدنيا، فكيف بأسفار الآخرة، والتى فيها يكون المؤمن أشد حاجة إلى المعين الصالح، والمشارك الموافق، الذى يكون مع شريكه كاليدين تغسل إحداهما الأخرى0
وإن لرفقهاء درب الآخرة خصائص ومواصفات لابد منها، فرفقاء الطريق الدعوى هم الذين علت هممهم، وصفت نياتهم وصح سلوكهم، حتى سبقوا الناس وتركوا السكون، وتزاحموا على ركوب القافلة ركضاً إلى الله تعالى، وتسارعاً إلى مرضاته، فلم يوقف لهم على رسم، ولم يلتزموا باسم، ولم ينتظروا أن يشار إليهم بالأصابع، أو ترفع لهم الأعلام، فقد علت منهم الهمة التى لا تقف دونها حركة السفر، ولا يرضى صاحبها بغير الخالق عوضاً، كما صفا منهم القصد الخالص من الشوائب حتى لا تعوق عن المقصود، وكان منهم التجرد التام للمعبود، وعلامة أخرى لرفقاء الطريق هؤلاء، ألا وهى صحة السلوك السالم من الآفات والعوائق والقواطع والحجب، والذى لا يصح إلا بثلاثة أشياء : هى تمام خصائص إخوان الدرب وخلان الطريق0
(أحدها: أن يكون الدرب الأعظم، الدرب النبوى المحمدى، لا على الجواد الوضعية00 الثانى: أن لا يجيب على الطريق داعى البطالة والوقوف والدعة00 الثالث : أن يكون فى سلوكه ناظراً إلى المقصود00)( )0
وحشة التفرد
ولعل من أبرز ما يستدل له فى فضل الجماعة فى السفر الحقيقى ما ورد عنه  (( لم يعلم الناس ما فى الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليل وحده)) رواه البخارى0
ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا ما كان لضرورة، ومصلحة كما ورد فى حديث آخر مروى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما (( قال ابن المنير: السير لمصلحة الحرب أخص من السفر والخبر ورد فى السفر فيؤخذ من حديث جابر جواز السفر منفرداً للضرورة، والمصلحة التى لا تنتظم إلا بالانفراد والكراهة لما عدا ذلك))( ) 0
بل إن الراكب وحده شيطان، كما ورد فى الحديث الشريف: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) ( )0
فإذا كان هذا الأمر فى عمل دنيوى كالسفر، فكيف بالسفر المعنوى، كالأمر بمعروف أو النهى عن منكر، والعمل فى سبيل الله، والسعى للعمل الصالح، والقيام بحقوق الناس، والجهاد فى سبيل الله، ففى كل هذه الأمور قد ينفرد الشيطان بالإنسان وحده، وكلما ازداد عدد الجماعة، كلما كان فضح الشيطان أسهل، وسد المنافذ عليه أيسر، وقد ورد فى حديث المصطفى أنه قال: ((00 فمن أراد منكم بحبحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد00))( )0
والإمارة شرط
والجماعة لا تتحقق إلا بأمير أو قائد، وقد جرت سنة الله تعالى فىكل خلقه، بذلك، فلو نظر الإنسان إلى قطعان الماشية لرآها تنقاد خلف واحد منها، ولو أبصر أسراب الأسماك فى الماء، والطيور فى الهواء لرآها زرافات وأسراباً، اقتضاء لتطبيق حكمة الله تعالى، لأن مصالحها لا تتم إلا بهذا الاجتماع، فهو الذى يشكل منها قوة تحمى بها نفسها، وبالجمع تتآلف، وبه تتم مصالحها من إحضار القوت، وأداء العمل وتكامل المهمات، وفوق ذلك حفظ النسل والنوع، وقد وجه الله تعالى أنظار البشر للتفكر فى ممالك النحل والنمل، وكيف تجرى سنته فى إجراء مصالحها وهى فى جماعاتها وأسرابها 0
وما تجرى به سنة الله تعالى فى هذه الخلائق تجرى على البشر بكل أجناسهم ومذاهبهم، إذ لابد لهم من التعاون والتناصر، والذى لابد له من أمر ونهى اللذين هما ركن الإمارة ومقصد التأمير0
(كل بشر على وجه الأرض فلابد له من أمر ونهى، ولابد أن يأمر وينهى، حتى لو كان وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: ((إن النفس لأمارة بالسوء 000 وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلابد أن يكون بينهما ائتمار بأمر، وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة فى الصلاة اثنين، كما قيل: (( الاثنان فما فوق جماعة)) 00 وأما الأمور العادية ففى السنن أنه  قال : لا يحل لثلاثة يكونون فى سفر إلا أمروا أحدهم عليهم 000)( )0
والمتبصر بالنصوص يدرك كيف حث الإسلام على الجماعة فى الأمور الدنيوية، كالسفر وأمثاله، لأجل التعاون على جلب المنافع، ودفع المضار، وما يرتبط بالعمل الجماعى فى إمارة لابد منها تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وإن هذا الأمر قد فطر عليه بنو آدم لأن (الإنسان مدنى بالطبع). وكذلك فالأمور الدينية –وحتى العبادة- فإنها تتحقق بالشكل الأفضل وتؤدى إلى الأجر الأوفر عندما تؤدى جماعة، فصلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد، والحج لا يؤدى إلا مع ركب من المؤمنين، وصيام رمضان مع مجموع المسلمين فرض، بينما النافلة فيه تؤدى منفردة، وهكذا فالأمر مطرد فى جميع الشؤون الدينية فكيف إذاً والدعوة إلى الله تعالى من أهم الواجبات التى أمر الشرع بها، وهى من نوع أداء الأمانة للأمة0
لذا كان لزاماً للسائرين إلى الله بالدعوة الدينية، من سلوك طريق الجماعة (ولهذا أمر النبى أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور فى طاعة الله تعالى، ففى سنن أبى داود 000 أن رسول الله  قال : (( إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم))00 فإذا كان قد أوجب فى أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك00( )0
التخزب للحق 00 من المعروف
والإمارة باعتبارها من أركان الجماعة، تشهد لها العقول الصحيحة بالاعتبار، كما تشهد لها النقول الصحيحة بالصحة، وبالإمارة وما تتضمنه من القادة والجنود الذين يسعون إلى هدف واحد، يتحقق التعاون على البر والتقوى، ويكون التحزب الذى يرضاه الله عز وجل لتحقيق المصالح الشرعية0
(وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التى تتحزب، أى تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا فى ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل فى حزبهم بالحق أو الباطل، والإعراض عمن لم يدخل فى حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذى ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله قد أمرا بالجماعة والائتلاف)( )0
وهذه الفتوى وأمثالها، وما سبق من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، تشهد للعمل الجماعى بالصحة، وفوق ذلك كله، فإن صراع الباطل اليوم بأحزابه وجماعاته الظالمة، ليؤدى إلى ضرورة تلاحم المسلمين بكل قوة للعمل الجماعى للإسلام ودعوته، حتى تكون موازين الصراع متكافئة، وتتحقق الوسائل المتماثلة، فإن الله عز وجل قد شرع الأخذ بالقوة، وإعدادها بما يتناسب مع وسائل أهل الباطل، والداعية الفقيه يدرك من بين جماهير المسلمين ضرورة هذا الأمر، فكان لزاماً عليه الانضمام إلى قافلة الدعاة والسير معها فى طريق السائرين على درب الخير حتى يقوى معسكر الحق فيزاحم معسكرات الباطل0
فعلى الطريق قوافل وقوافل، السباق طويل، وأهل العصيان والكفر على استعداد، وركب المؤمنين ينتظر من يشمر عن ساعد الجد ويلحق بهم 0
واحذر الآفات
ومع فضل الجماعة، وقدر الترابط، إلا أنه لابد من التحذير، فإن مع كل مصلحة شائبة قد تحولها إلى المفسدة، أو تغيرها من الخير إلى الشر، ما لم تؤخذ الأمور بضوابطها، وتحدد المسائل بشروطها، فليعلم الداعية أن : (الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصى بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات :
إحداها : تزين بعضهم لبعض 0
الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة 0
الثالثة : أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود)( )0
فإن تزين البعض للبعض يدخل الرياء والنفاق، ويفوت المصالح، وتكون الرفقة لأجل الإثم والعدوان، أو أن يكون التحزب لذاته فتضيع المبادئ على حساب الأفراد، كما أن الخلطة الزائدة عن الحاجة تؤدى إلى اللهو غير المباح، فتضيع الأوقات، وتهدر الطاقات، ويتشتت الخير0
كما أن الاجتماع قد يصبح شهوة لذاته، فتفوت به الطاعات، ويصد عن المعروف، وتختلف بسببه الأولويات، فتضيع الأهداف من أجل الوسائل، وتهدر المقاصد من أجل الأساليب، وعندما يصبح رجوع الداعية لنفسه –بعض الوقت- أولى، لا يستوحش من كثرة القاعدين، بل يأنس بالقلة من العاملين، ويستبشر بالمضى مع قافلة المؤمنين، ويسعى :
(000 ليجعل حديث الأحبة حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها، وشرابها ودواءها، ولا يوحشه انفراده فى طريق سفره، ولا يفتر بكثرة المنقطعين فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم، وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هى من عوارض الطريق00)( )0
وليعلم الداعية المسافر مع ركب الدعاة أن طريقه طويل وشائك، والسعيد من قطعه ووصل به شوط النهاية، ولا يهتم بكثرة الذين يستصعبون ركوب المركب الصعب، أو الذين يتساقطون من البداية، أو أولئك الذين يقطعون بعض مراحل السير، فإن الناس همم مختلفة ولا يزال البعض الآخرون، وهو الذى يصمد أمام كل عقبات الطريق، ولا يتكاسل عن بعد الشقة، ولا يتعب من مخاطر وحشة التفرد، بل ينتظر يرنو ببصره، مع اشتعال قلبه بالأشواق للهدف، وعلو همته للوصول للغاية، وسمو روحه إلى النهاية، وهذا كله لا يتحقق إلا بنية صادقة، وعزيمة صحيحة تجعله فى ركض إلى الله دونما التفات إلى الوراء، ورحلة مع السائرين دونما شوق إلى الدعة والهدوء جعل كل شىء وراءه إلا من الرجاء فى الغاية التى أوقف نفسه عليها0
والطاعة 00 أصل الجماعة
لا معنى لفكرة الجماعة بدون إمارة، ولا مبرر للإمارة ما لم يكن لها طاعة والطاعة فى الشريعة لا تكون إلا فى المعروف، ولقد جاءت الأأحاديث مستفيضة فى وجوبها سواء أكانت فى السفر الحقيقى كما وردت وتقاس عليها الأعمال الدعوية لتحقيق طاعة الله تعالى أم ما ورد فى غيره حتى تجرى جميع الأمور على نسق واحد ورأى واحد، ومع هذا فقد وردت الآيات والأحاديث أيضاً فى وجوب طاعة الأمير صراحة فى الأعمال الدعوية –وهى مقتضى السفر بمعناه المجازى- وقد أردف الله تعالى هذه الطاعة بطاعة الله ورسوله، فقال عز وجل : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم(النساء: 59)( )0
(وأولوا الأمر : أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق – رضى الله عنه- للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال : ((ما استقامت لكم أئمتكم)) ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعاً فإنه من أولى الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه فى طاعة الله، ولا يطيعه فى معصية الله 00)( )0
وقيل فى أولى الأمر أنهم الأمراء، وهو قول الجمهور، بل والراجح عند الإمام البخارى والقرطبى، وهناك رأى آخر أنهم العلماء ولا خلاف بين الرأيين إذ إن الأصل فى رأى الأمراء أن يكون وفق أقوا العلماء، والمقصود من الرأى الثانى التأكيد على شرط العلم فى خصائص الأمير، وإذ المفترض فى الأمير العلم، وإذا التزم الأمير بالعلم فقد ارتفع الخلاف ومن الأحاديث قوله : ((من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات ليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية))(2)0
ويتوضح من النقل والعقل أن الطاعة أمر لابد منه، لكل جماعة تريد العمل الدعوى لتحقيق الأهداف، ولكى تصبح الأعمال بأعلى كفاية. وتكون الوسيلة الأنجح للوصول إلى المقاصد، كما يتحقق الوصول إلى الهدف المكانى بشكل أفضل للجماعة المسافرة0
شروط ثلاثة
والعمل الجماعى مظهر من مظاهر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولهذا لابد له من ثلاث خصائص، تؤدى إلى تحقيق الشروط الثلاثة وهى: العلم والرفق والصبر، فالآمر بالمعروف والناهى عن المنكر لا يكون عمله صالحا إلا بعلم وفقه يميز بهما المعروف عن المنكر، وقواعد الأمر بالمعروف، وأن يتعرف على أحوال المأمور والمنهى، وأن يتوصل إلى مبتغاه بالمعروف، ولا يقع فى المنكر، ويصل إلى المقصود بأحسن الوسائل وأقرب الطرق، وكذلك لابد للداعية من الرفق الذى لا يكون فى شىء إلا زانه، بحيث يكون صبوراً على الأذى، ويحلم إن أصابه، حتى لا يفسد أكثر مما يصلح، وكذلك حتى يكون أمره بالمعروف معروفاً، ونهيه عن المنكر غير منكر 0
(فلابد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر00 العلم قبل الأمر والنهى، والرفق معه، والصبر بعده00 وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً فى جميع الأحوال 00)( )0
والصبر 00 نصف الإيمان
ولقد علم أن الإيمان نصفان : نصفه شكر، ونصفه صبر، وهو دليل ثبات باعث الدين فى مقاومة الهوى ومشتهيات الطبع0
(وأحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة فى تحمله، وانتظار الفرج)( )0
وكما هو مشاهد – فى الحياة العملية- حاجة المسافر للصبر، فإن الداعية فى سفره أيضاً فى قافلة الدعاة بحاجة إلى صبر أخص من صبر المؤمن، فهو يحتاج إلى مراتب أعلى من الصبر الاعتيادى إذ هو بحاجة إلى الصبر على عموم التكاليف والسعى فى مصالح الإسلام، والتنازل عن الكثير من حقوقه، وأن يصبر على رغائب النفس وشهوات الهوى، وعلى انحراف طبائع الناس وغرورهم وأثرتهم والتوائهم، ويصبر على وقاحة الطغيان، وانتفاشة الباطل، وقلة المعين، مع طول الطريق وكثرة العقبات، ووسواس الشيطان، وكذلك الصبر على هداية الناس، وعلى الابتلاء والفتن، وعلى التكذيب بالدعاة، والصبر على مشقة الالتواء والعناد، ومشقة إمساك الناس عن الخير وترددها، وفوق ذلك كله، فالداعية يحتاج إلى الصبر حتى مع أقرانه من الدعاة، إذ إنهم من البشر لا يخلو أحدهم من جفوة، وانقطاع ود، وقلة الإنصاف غالبة فى طبع البشر، مع أن الداعية لابد له من الخلطة والصبر عليها، وقد قيل : ( لا يزهدنك فى رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته وعرفت فضله، وبطنت عقله، عيب خفى تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله00)( )0
ولهذا كله أخبر الله تعالى مبيناً هذا النوع من الصبر بقوله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا000 (الكهف : 28)0
بين الجندية والقيادة
ومن الصبر، صبر القادة وما به من صبر على الأتباع، وما يظهر منهم من متاعب وأذى، والصبر على حاجتهم ومطالبهم، والصبر على استعجال الجنود وإلحاحهم، والصبر على المداراة والرفق، والصبر على متاعب الطريق، وصبر على التكاليف، إذ إن القدوة أو القائد من الدعاة قد يطلب منه مالا يطلب من غيره من حسن العشرة، وطيب التعامل، وأداء الحقوق، والسعى فى حاجات الناس، وكل ما يشكل عليه عبئاً إضافياً، وهو بشر محدود القابلية، ومحدود القدرة، ومحدود الطاقة، وبحكم كونه قدوة قد تكبر منه الهفوة، وتضخم منه الزلة، ويتعرض إلى قالة الغيبة، وحكايات الألسن، بل قد يناله من الأذى الشىء الكثير، ما يدعوه إلى المزيد من الصبر، ولهذا تحمل الرسول  الكثير وهو أعدل الناس وأشفقهم، ومع هذا فقد أوذى حتى قال : ((قد أوذى موسى بأكثر من ذلك فصبر))( )0
(إن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك يتلقون ذلك بالصبر والحلم، كما صنع النبى  اقتداء بموسى عليه السلام)( )0
ومن جهة أخرى قد يحتاج الداعية نفسه إلى الصبر على أمير، وما قد يلحقه منه مما يكره بسبب الحدة فى الطبع، أو الاستئثار، أو الحزم المتشدد، أو غلظة فى القول، أو تخشين فى النصح، مما لا يخلو منه البشر، ولا يتجرد عنه القادة، وأحياناً يكون سبب الكراهة من التابع لحساسية فى طبعه، أو سوء فى فهمه، ومما يعذر الأمير فيه، كل هذه الملابسات بين التابع والمتبوع، مما يحصل بسبب الطبيعة البشرية، والتى تحصل فى كل مجموعة عمل معاً، لابد لها من الصبر، ولهذا أوصى الرسول  به فقال : (( من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية))( )0
وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر
لما كان الصبر مع الرفق والعلم من قواعد العمل الجماعى، ولابد له من رفقة الطريق كان التذكير به مهماً، والتواصى به لابد منه، وكانت سورة العصر التى كان الصحابة يفترقون بالتعاهد عليها، تضع من أهم أسباب عدم خسارة الإنسان بعد الإيمان والعمل الصالح وهو التواصى بكل من الحق والصبر، والتذكير بهما، ولقد علم من سورة الصعر أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبتان، والتواصى بالحق والصبر مرتبتان أيضاً 0
قال ابن القيم – رحمه الله : (( 00 وتواصوا بالحق: وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً، فهذه مرتبة ثالثة، وتواصوا بالصبر: صبروا على الحق، ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة، وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً فى نفسه مكملاً لغيره، وكما له بإصلاح قوتيه العملية والعلمية00)( )0
ومن التواصى بالحق النصح لجماعة المسلمين وإمامهم –كما ورد فى الحديث الشريف- وهو علامة الإخلاص، ودليل منافاة الغش والحسد، وهى من علامات الخير فى الجماعة المؤمنة :
(فإن النصيحة لا تجامع الغل إذ هى ضده، فمن نصح للأئمة والأمة فقد برئ من الغل00 ولزوم جماعتهم هذا أيضاً مما يطهر القلب من الغل والغش، فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم، والذمم لهم)( )0
وما دمت –أخى القارئ- قررت السفر، وقبلت الانضمام للركب المسافر من قافلة الدعاة، فإليك المزيد من خصائص الدعاة الخلقية والنفسية، وما عليك الآن سوى امتطاء دابة السفر تالياً قوله تعالى : سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين(13) وإنا ربنا لمنقلبون  (الزخرف : 13،14)0

(9) بداية الطريق
لا ينفك الداعية من سفر إلى الله تعالى. متخذاً إياه وحده هادياً ومعبوداً، وغاية ومقصوداً، فلا يطمئن قلبه إلا بذكره، ولا تسكن نفسه إلا إليه، فبه يسمع، وبه يبصر، وإن بطش بطش بالله، وإن مشى مشى الله، ويتخذ من رسوله  وحده دليلاً وإماماً، وقائداً وزعيماً، ويفرده بالمتابعة والاقتداء، ويتخلق بأخلاقه وآدابه وهو –بهذا السفر بمعانيه الحقيقية والمجازية – له فى كل وقت هجرتان :
(هجرة إلى الله : بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل، والإنابة والتسليم، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجوء، والافتقار فى كل نفس إليه00)
(وهجرة إلى رسوله: فى حركاته وسكناته، الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه، الذى هو تفصيل محاب الله ومرضاته 00)( )0
وهاتان الهجرتان من جملة معانى السفر القاصد فى قطار الدعوة، وبهما يتوضح الطريق، إذ إن كل الطرائق مسدودة، إلا لمن اقتفى سنة المصطفى  فى إتباع أحكام الشريعة، دونما غلو أو تقصير، وبهذا الطريق تتحقق السعادة التى تدور نفياً وإثباتاً، مع ما أراده خالق النفوس العالم بها، وجدير بالداعية أن يجعل لحظات عمره كلها، تدور فى الاستعداد للرحيل، والتشمير فى العمل مع القافلة، ومعرفة أبعاد الطريق، وأن يتنافس فى التشمير عن الهمة، التى يسعى لها السابقون، حتى تقر عينه، وتأنس وحشته، وبسلوك الطريق الصائب، يذهب عن المسافر الخوف، ويرفع عنه الحزن، ويطمئن به القلب، فتسكن نفسه إلى الله وحده، وتخلص محبته لله وحده، ويقتصر خوفه عليه، حتى ينال رضوانه0
الرفيق قبل الطريق
ولابد للمسافر – فى عالم الحقيقة- من رفيق يحفظ له الود، ويحمل عنه بعض مؤونة السفر، ويخفف عنه المتاعب، إذ لا يخلو السفر عن الخطر، وبعض ضيق الصدر، وفى الجماعة أمن من الخوف، ولقد اعتبر الفقهاء ، الرفقة من آداب السفر،. فقال الإمام الغزالى موصياً المسافر :
(( أن يختار رفيقاً، فلا يخرج وحده، فالرفيق ثم الطريق، وليكن رفيقه ممن يعينه على الدين، فيذكره إذا نسى، ويساعده إذا ذكر، فإن المرء على دين خليله، ولا يعرف الرجل إلا برفيقه0))( )
والمعنى مأخوذ من قوله  : ((لو يعلم ما فى الوحدة، ما سار راكب بليل وحده))( )0
لقد ورد القول مراراً فى أن العمل الدعوى، وما يتفرع عنه من الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، سفر مجازى، يقاس على سفر الحقيقة، فكان لابد من شروطه، أن يكون مع رفقة الخير، وبالتالى فإن قطار الدعوة، أو قافلة الدعاة ستجمع الأخيار، وتنتقى الأبرار، قبل اختيار الطريق ومناهجه، وما هذا الانتفاء إلا وفق ما شرعه الله ورسوله ، وهو الذى يقى مصارع الفتن ويحمى من لأواء التفرق ومن متاعب التشتت، وبه يقصر السفر، وتتحقق الأهداف0
ولا بأس – هنا مرة أخرى – من التذكير بأن الرفقة لابد لها من إمارة، يكون فيها الأمير على درجة أعلى فى خصائص الأخلاق، ومميزات الأخوة، وأخذاً من القياس على السفر، يستدل على ذلك بما قاله الإمام الغزالى: (( وليؤمروا أحسنهم أخلاقاً، وأرفقهم بالأصحاب، وأسرعهم إلى الإيثار، وطلب الموافقة، وإنما يحتاج إلى الأمير، لأن الآراء تختلف فى تعيين المنازل والطرق، وإنما يحتاج إلى الأمير، لأن الآراء تختلف فى تعيين المنازل والطرق، ومصالح السفر، ولا نظام إلا بالوحدة، ولا فساد إلا بالكثرة، وإنما انتظم أمر العالم لأن مدير الكون واحد))( )0
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (الأنبياء : 22) 0
ومتى كان المدبر واحداً انتظم أمر التدبير، وإذا كثر المدبرون فسدت الأمور، فى الحضر والسفر 00
فلهذا وجب التأمير، ليجتمع شتات الركاب. وإذا كان مسافر الحقيقة يسلم نفسه كلية لقائد القافلة، أو أمير السفر، أو قائد المركبة، -مهما كان نوعها- وهو مطمئن إليه، فما أحوج الداعية إذن إلى أن يسلك نفس الأمر – فوق ما يشارك فيه من نصح وشورى- فى أمور الدعوة حتى يصل الركب إلى المقصود0

جماعة 00 ودعوة
والسفر إلى الله تعالى بأفضل أنواعه، والذى به يكمل التقرب إليه، ما كان مع جماعة المؤمنين هذه، والذين هم أدلاء الركب، ورفقاء الطريق، وبهم يأنس المسافر، ويذهب عنه السوء والفحشاء، وتخلص نفسه من الغش والغل والبغضاء، وذلك بسبب الإخلاص الذى يدفع عنه أسباب السوء، وبالنصح لكل أئمة المسلمين الذى يدفع عنه الغل والحسد، وتوضح الطريق، وتنبه على الأخطار، وتجتاز معه موانع السير، وعوائق الطريق وذلك لقوله  كما فى سنن الترمذى وغيره : ((00 ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم00))0
(وقوله : ولزوم جماعتهم: -هذا أيضاً- مما يطهر القلب من الغل والغش، فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم، والعيب والذم لهم 0
وقوله : فإن دعوتهم تحيط من ورائهم: هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة التى هى دعوة الإسلام، وهم داخلوها، لما كانت سوراً وسياجاً عليهم، أخبر أن من لزم جماعة المسلمين، أحاطت به تلك الدعوة، التى هى دعوة الإسلام، كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة، وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل فى جماعتها أحاطت به وشملته00)( )0
فلينظر إلى المعنى الجميل فى رفقة الدعاة الأبرار، والتحزب معهم، فهو تخزب لله، وفيه ولاء لجماعة المسلمين، وهو فى الوقت نفسه يلم شمل الأمة لا يفرقها كما يدعى أهل الباطل، ولكن الذى يفرق الأمة هو أحزاب الباطل وجماعات الشيطان، لأن لكل منهم راية، ولكل جماعة فيهم سبيل، والناس إن لم يجمعهم الحق، تفرقهم شعب الباطل، والخلق إن لم يجتمع على راية الخالق فكيف يجتمع على رايات المخلوقين؟!
ولينظر إلى قول الفقيه العارف، ودعوته للانضمام إلى قافلة الخير، وهو يصرح من قرون مضت : ) فالدعوة تجمع الأمة، وتلم شعثها)، بينما صرخات الباطل تفرقها، ولتسمع دعوته وهو يصرخ من زمن : (فمن دخل فى جماعتها أحاطت به وشملته) فى دعوة صريحة واضحة من عالم أدرك مرامى التشريع، واستقى من كوثر المصطفى  كيف يدعو للدخول مع جماعة الدعوة، حتى تحيطه دعوة الإسلام، ويحرسه سياج الإيمان، ويقوى معسكر الحق فى منع العدو من الولوج إليه، ويدعم كتائب التوحيد فى رد الهاجمين عليه0
منازل السائرين
وهذه الجماعة المؤمنة هى التى استلانت ما استوعره المترفون، وأنسوا ما استوحش منه الجاهلونن وقد سلكوا طريق الآخرة، مخالفين للشهوات والأهواء، راكبين على متن الإخلاص والتقوى، لا يهابون وعورة الطريق، ولا يخشون بعد الشقة، يسهل عليهم ارتقاء العوالى، وهبوط الأودية، لا يخلدون إلى الراحة والدعة، بل يؤثرون الآجل على العاجل، يعلمون أن الدنيا دار ممر لا دار مستقر، ويعرفون أن الحياة منزل عبور، لا مقعد حبور، وكلهم ((قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله، وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله، وهؤلاء كلهم مستعدون للسير، موقنون بالرجعى إلى الله، ولكنهم متفاوتون فى التزود، وتعبئة الزاد، واختياره، وفى نفس السير، وسرعته وبطئه))0
فالظالم لنفسه: مقصر فى الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، لا فى قدره، ولا فى صفته 0
والمقتصد : اقتصد من الزاد على ما يبلغه .. ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجرة الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة 0
والسابق بالخيرات: همه فى تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده، ولا يتجر منه 00 ))( )0
ومن هؤلاء الدعاة الذين ارتضوا –فوق ذلك- الانضمام إلى القافلة، وركوب متن قطار الدعوة إلى الله عز وجل، فكانوا قائمين بحجة الأنبياء فى الأمة ونفذوا إلى حقيقة أمر الخالق، وعاينوا ببصائرهم ما غمض عنه الآخرون، فواصلوا العمل، وشمروا للسفر، وباشروا باليقين الحركة، لعلمهم بالنهاية السعيدة، وسمعوا نداء الإيمان فاستجابوا له، واستبقوا الخيرات، وزهدوا فيما رغب فيه الجاهلون، وعلموا أن الدنيا خيال طيف، أو سحابة صيف، أو أنها ظل زائل، وحلم زائف، فصاروا وقد ولت عنهم الدنيا مدبرة، كما جاءت الآخرة إليهم مقبلة، فجاءوا إلى قطار الدعوة مسرعين، وإلى قافلة الدعاة مهرولين، ((000 فامتطوا ظهور العزائم، وهجروا لذة المنام، وما ليل المحب بنائم، علموا طول الطريق، وقلة المقام فى منزل التزود، فسارعوا فى الجهاز، وجد بهم السير إلى منازل الأحباب، فقطعوا المراحل، وطووا المفاوز، وهذا كله من ثمرات القلب، فإن القلب إذا استيقن ما أمامه من كرامة الله، وما أعد لأوليائه بحيث كأنه ينظر إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلم أنه إذا زال الحجاب، رأى ذلك عياناً، زالت عنه الوحشة التى يجدها المتخلفون، ولان له ما استوعره المترفون00))0
فإذا ما وصل الدعاة بقطارهم إلى هذه المنزلة، فإنها منزلة أول مراتب اليقين، ثم تليها بعدها، عند مواصلة السفر (عين اليقين) ثم بعدها (حق اليقين). فهنيئاً لمن شمر عن ساعد الجد، وصبر وجاهد حتى الوصول0
نية محركة
والدعاة فى حالتهم الدنيا، يفترض فيه أنهم من المقتصدين، وإلا فهم من السابقين بالخيرات، ومن أجل هذا السبق سارعوا للجد فى السير، والرحيل مع القافلة، وما قنعوا بالجلوس الساكن، ولا اللبث الدائم، وإ،ما شمروا عن همة السير مع قطار الدعاة، كى يستبقوا الخيرات، ولهؤلاء السالكين، خصائص وصفات، فوق صفات المؤمن المقتصد، أولها نية صادقة محركة للأفعال لا ترضى بالدون، ولا تقنع بالسكون، تركض إلى المنايا، ولا تغرها الأمانى، فهى نية تصاحبها همة، ويسبقها عزم، ويدعمها تصميم، ويحدوها أمل0
( ولما كان العمل لابد فيه من شيئين؛ النية والحركة، كما قال النبى . ((أصدق الأسماء حارث وهمام)) فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية، لكن النية المحمودة التى يتقبلها الله، ويثيب عليها: أن يراد الله بذلك العمل، والعمل المحمود: الصالح، وهو المأمور به)( )0
ولذلك صارت هذه أول الخصائص المهمة للسابقين المسافرين فى قطار الدعوة، من الذين لا يرضى أحدهم أن يحيا للطعام والشهوات فقط، ولا يسيم نفسه مع الأنعام، ولا يرضى لذاته الرعى مع الهمل، ولا يستلين فراش العجز، بل يرفع علم الحركة، ويشمر للسعى والمثابرة، هاتفاً من أعماقه ((ركضاً إلى الله))0
خصائص ومميزات
ولهؤلاء الركب خصائص أخرى لابد منها لرفقة الطريق:
أولاها: خصائص فردية تمكن الفرد من العيش والعمل، وتحمل المشاق، وصحة التوجيه، كالعلم، والحماسة وغيرها من مجمل صفات المسلم المقتصد الاعتيادية 0
والثانية : خصائص ملائمة للحياة الاجتماعية، تمكنه من العيش مع جماعة، حتى يتفاعل معها، ويؤثر فى مسيرتها، كالأخوة، والطاعة، والصبر والإيثار0
وثالثها: خصائص جهادية، تمكنه من تحمل السفر الطويل، والأخذ بالعزائم، والمرونة فى التعامل والشجاعة والتضحية0
ويختلف الدعاة بقدر اختلافهم، فى تحصيل هذه الخصائص التى يوفق الله لها من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، وهى لا تنال إلا بالتعب والمشقة، والصبر والمصابرة، مع بذل الوسع، وصدق التوجه، لأن هذه الخصائص هى التى تؤدى إلى السعادة، إذ لولاها ساد الناس كلهم فيها، وتساوى صاحب الهمة العالية والكسلان، والله أراد أن تكون السعادة، بما تقود إليه من مقعد صدق، ومقام كريم، منوط بالمكارم والخصائص الحسنة، والتى هى بدورها لا تتحصل إلا بمشقة الرواحل (فالمكاره منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا فى سفينة الجد والاجتهاد 00)( )0

والعلم 00 أولا
ولابد – أولا- للداعية المسافر من العلم النافع بالطريق، لأنه به يعرف المكان السهل من الطريق الوعر، ويميز إشارات الطريق، وكذلك يكشف العوائق ويعرف التخلص منها، كما أنه يتبين مواطن النزهة، ومناط البهجة فيتمتع بها، وهكذا العلم الشرعى يميز به بين العمل الصالح والطالح، وبه يعرف ما يؤجر عليه، كما يستدل به الداعية على أولويات العمل، وأى الأعمال أكثر أجراً، فى الزمان والمكان، وكذلك يتعرف على مواطن الخلل، وأماكن الزلل، فيبتعد عنها، ويعرف مسالك الشيطان، فيتجنبها، وطرق الرحمة، فيلج فيها، ومن أجل ذلك كله، كان العلم أساس السفر فى معنييه الظاهر والباطن00 ((لأن العلم يعرف مقادير الأعمال ومراتبها، وفاضلها من مفضولها، وراجحها من مرجوحها، فصاحبه لا يختار لنفسه إلا أفضل الأعمال، والعامل بلا علم يظن أن الفضيلة فى كثرة المشقة، فهو يحتمل المشاق، وإن كان ما يعانيه مفضولاً ورب عمل فاضل، والمفضول أكثر مشقة منه 00
إن العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به ، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتدياً به، فهو غير نافع لصاحبه، بل مضرة عليه 00))( )0
روابط الأخوة
وأخوة الطريق لها روابط، كالحبال التى تربط إبل القافلة لتجعلها قطاراً، أو قل كأواصر الحديد، التى تربط عربات المسافرين، لتجعل منهم القطار الحديث، وفى كليهما تتحقق أداة السفر، التى يلجأ إليها السالكون إلى الله تعالى، ويتحقق فيهم وصف المسافرين فى قافلة الدعاة0
وأولى هذه الأواصر، أو تلك الروابط، بل وأساسها: (رابطة العقيدة) إذ جعلها الله تعالى بنص القرآن الكريم بقوله : إنما المؤمنون إخوة (الحجرات : 10) 0
وقال رسول الله  : ((00 المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه00))( )000 (( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه000))( )0
ومقتضى هذه الروابط، المعاملة بالعدل والإحسان، والحمد على الحسنات، والنهى عن السيئات، وأن تكون الموالاة والمعاداة، وفق القرب والبعد من الشريعة، وأن تكون وفق ما أمر الله ورسوله به، ويكون الحب فى الله ورسوله، كما تكون البغضاء فى الله ورسوله0
أما الرابطة الثانية للمسافرين إلى الله تعالى فهى : (رابطة الفكرة) فإن للعقول تجانساً بينها، فوق تجانس القلوب، فإذا ما انضم إلى رابطة العقيدة، رابطة التشابه الفكرى، فى الإيمان بالإسلام كعقيدة ونظام، ودين ودولة ومصحف وسيف، وأنه لابد من العمل الجماعى، لنصرة الدين، وإعزاز الإسلام، فسيكون هذا التجانس الفكرى وسيلة أقوى، لربط الجماعة المهاجرة إلى ربها، ويقوى العلائق بينها، ويزيدها قوة واندفاعا0
أما الرابطة الثالثة فهى : غاية السفر، وهدف الرحلة، وهو ما يطلق عليه (أخوة العقد)، أو (رابطة التنظيم)، مما يجعل السفر أحسن إعداداً، وأقل مشقة، وأسهل مؤونة، وبه تقل متاعب الطريق، ويمكن تجاوز العوائق، وبواسطته يقرب الهدف، وتمهد السبل، ولابد أن تكون من الوفاء بها من قبل كل داعية، لأنها عقد كبقية العهود0
((وبالجملة، فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات، وغيرها، ترد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فكل شىء يوافق الكتاب والسنة يوفى به 00)( )0
وبهذا تضاف رابطة العهد، والتعاقد على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كعقد يلزم الوفاء، وبه تتم الروابط الثلاث للجماعة المؤمنة، وتكون قافلة الدعاة ما يمكن أن تكون، ويصبح قطار الدعوة كأصلب ما يمكن، فيندفع بسرعته القصوى، وطاقته العظمى، نحو الهدف السامى، بتوازن وثبات، متجاوزاً العقبات وقاطعاً المفاوز، لا يخشى من زعزعة العواصف ولا تخلخل الصف، ولا تفكك الأجزاء، وهذا سر قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا 000 (آل عمران : 103) 0
(10) إخوان الطريق
تشكل الدعوة الإسلامية – بمعناها الرحب- إحدى دعائم المجتمع الإسلامى، بل أحد أركان الجماعة المسلمة، وهى سر قوتها فى كل زمان ومكان، فهى الآصرة التى تشد الأفراد بعضهم إلى بعض، وهى روح الإيمان، ولباب الشعور الفياض التى تجعل بناء الجماعة راسخاً لا تنال منه الفتن، ولا تعصف به الأهواء، وبالأخوة الإسلامية يصبح الأفراد كأغصان الدوحة الواحدة، لا تكاد تؤثر فيهم عواصف الأعداء، أو رياح الأهواء، إلا كما تنال الرياح اللينة من أغصان الشجر التى تبقى معلقة بالشجرة السامقة الثابتة، والجماعة تبقى بذلك كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها فى السماء، لأنها متمسكة بأصل التوحيد، ومرتبطة بخالقها وبارئها0
ولما كانت الأخوة ثمرة اللقاء على العمل فى سبيل الله، بل إنها أساس له، ولا يستقيم العمل إلا بها، فيجب أن تكون الولاية بين المؤمنين لله ورسوله، ونتيجة لولاء العقيدة لا لغيرها، ولهذا كانت النتيجة أن الله تعالى يجازى بالأخوة كأحد أهم الأعمال الصالحة التى يؤجر المرء عليها: (( سبعة يظلهم الله فى ظله، يوم لا ظل إلا ظله ورجلان تحابا فى الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه 00 ))( )0
كما أن الأخوة فى الله هى طريق إسعاد البشرية بوجه عام، بناء على أخوة الإيمان، ولكنها فوق ذلك، يجب أن تكون أقوى وأشد للجماعة المسلمة ولقافلة الدعاة، على الطريق، بل إنها ملازمة للإيمان، وهناك قاعدتان أساسيتان، لابد منهما لكى تستطيع الجماعة المسلمة أن تضطلع بالأمانة الضخمة، والرسالة العظيمة0
((هاتان القاعدتان المتلازمتان هما: الإيمان والأخوة، الإيمان بالله وتقواه ومراقبته فى كل لحظة من لحظات الحياة، والأخوة فى الله، تلك التى تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم فى الحياة البشرية، وفى التاريخ الإنسانى، دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة الحياة على أساس المعروف، وتطهيرها من لوثة المنكر00))( )0
وهذا الأمران مأخوذان من تلازمهما فى قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(102) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً0 (آل عمران : 102 ، 103)0
المؤاخاة بالعهد
ومع الأخوة الإيمانية، تأتى رابطة المؤاخاة الأخص، التى تزيد من أخوة الطريق ترابطاً، كما يترابط المسافرون لغرض واحد فى سفر الدنيا، فيزداد الدعاة فى قطار الدعوة تماسكاً وقوة، ورابطة المؤاخاة بمعانيها الشرعية الثابتة، أقرها الفقهاء امتداداً لفكرة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، (والمؤاخاة العهدية) على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا شك فى صحتها، وما أنكره بعض الفقهاء لعقد المؤاخاة، فهو إنكار لما حصل فى بعض القرون الإسلامية من وضع عقود مؤاخاة مخالفة للشريعة، كإيجاب الميراث للمتآخيين، مما هو منسوخ بأصل التشريع، أو المؤاخاة على ما ينكره الشرع، كتبادل شرب الدماء المحرم، أو الإغاثة على الباطل، أو التعاهد على ما لا يملك، كالتعاهد على أن من دخل الجنة من المتآخيين يدخل صاحبه معه، وغير ذلك مما يعرف بطلانه شرعاً، ومن أقواله العوام وجهلة المسلمين، وأهل البدع0
أما المؤاخاة على الخير والمعروف، فهو من حق المؤمنين، يزيده التعاهد بينهم رسوخاً، ويكون الوفاء به ملزماً كالوفاء ببقية العقود الشرعية، قال شيخ الإسلام: ((وأما عقود الأخوة بين الناس فى زماننا، فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التى أثبتها الله بين المؤمنين بقوله : إنما المؤمنون إخوة (الحجرات: 10)، وقال النبى  : ((المسلم أخو المسلم))، وقوله (( لا يبع أحدكم على بيع أخيه))، وقوله: ((والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه))، ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التى تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة، والصيام والحج، والمعاهدة عليها على ما وأجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة000))( )0

أما المؤاخاة التى فيها إثبات أحكام خاصة، فهى أيضاً جائزة عند أبى حنيفة وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، أما مالك والشافعى وأشهر الروايتين عن أحمد أن ذلك منسوخ، وهو الأرجح، ولكن أقوال الفقهاء القائلين بالنسخ هذا إنما هو منصب على نظم المؤاخاة فى أزمانهم، لما تتضمنه من إثبات أحكام منسوخة، كنظام التوارث، وغيره من العقود الفاسدة، أما التآخى على الخير والمعروف، فهو من المجمع على صحته، إذ لو لم يثبت قياساً على مؤاخاة المهاجرين والأنصار، فإنه يصح على أنه عقد من العقود الشرعية، يلزم صاحبها بالوفاء كعقود البيع والشراء، والأقضية المختلفة، قال الإمام الغزالى رحمه الله: ((فإذن الوفاء بعقد الأخوة إذا سبق انعقادها واجب))( )0
إذ إنها أولى من العقود الأخرى التى عليها مصالح المعاش فقط، والعقد على التعاون الدعوى غايته المصالح الدينية والجماعية الراجحة 0
السلام 00 والقيام
وأول مقتضى معاملة إخوان الطريق البدء بالسلام، فهو من أدب الإسلام الرفيع، وفيه معانى الود والتواضع والرحمة، أو الاحترام والمحبة والتدبير، وللسلام قاعدة وميزان وصفه الرسول  بقوله : (( يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير 000))0
وغيرها مما هو معروف، وأصبح مشتهراً فى الأعراف00
(( إذا تلاقى ماران راكبان أو ماشيان 00 يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدراً فى الدين إجلالاً لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها الشرع00 وقال ابن العربى: حاصل ما فى الحديث، أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل وقال المازرى وغيره: هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها، لأنها لم تنصب نصب العلل والواجبة الاعتبار حتى لا يجوز العدول عنها 00 ))( )0
أما غير ذلك من الأحكام، فتؤخذ من العادات الغالبة، كما أنها ليست ملزمة، إذ الأصل فى السلام إشاعة المودة، والحب، والإحترام بين الجميع، وقد يصحب السلام القيام، وقد يكره إذا قصد منه التعظيم، ويجوز القيام أيضاً لأصحاب الفضل كما قال  للأنصار عند قدوم سعد : ((قوموا لسيدكم00 أو قال : خيركم 00)) 0
وخلاصة رأى الفقهاء فى القيام ما ذكره الإمام النووى بقوله : (( وأما القيام فالذى نختاره أن مستحب، لمن له فضيلة ظاهرة، من علم أو إصلاح، أو ولادة أو ولاية مصحوبة بصيانة، ويكون على وجه البر والإكرام لا للرياء والإعظام، وعلى هذا استمر عمل الجمهور من السلف والخلف 00))( )0
ولابد أن يترافق مع السلام والقيام –كأحد حقوق الأخوة- التوقير والاحترام، وعدم المماراة، والسؤال عن النفس والأهل، والسعى فى الحوائج وحسن الاستماع والإنصات، وأن لا يتشاغل المرء بنفسه، وبأحد أعضائه عند الحديث مع أخيه، وأن لا يسارع فى الرد، أو الاعتراض إلا بحجة واضحة، وأن لا يقاطع المتكلم طمعاً فى إثبات معرفة، أو سبق إلى معلومة، ونظائر ذلك مما يعرف بالشرع أو العرف0
ويلتحق بالأمر كذلك الزيارة التى تتعلق فيها بعض هذه الأخلاق، فهى من السنن الواضحة0
((ويسن زيارة الصالحين والإخوان 00 وإكرامهم وبرهم وصلتهم وضبط ذلك يختلف باختلاف أقوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغى أن تكون زيارتهم على وجه يرتضونه، وفى وقت لا يكرهونه 00))( )0
أى لابد من التوسط فى الزمان والوقت والموعد المناسب، من غير إقلال يؤدى للهجران، ولا زيادة تقود إلى الملال، والضابط فى كل ذلك أيضاً عدم التكلف المذموم0
من حقوق الصحبة
ومن مقتضى حقوق الأخوة، واجبات الصحبة، وهو مجموعة الحقوق بين أهل الأخوة الإيمانية، تزداد وتتأكد عند رفقة الطريق بأخوة العقد، والتعاهد على الدعوة فى سبيل الله، ومن هذه الحقوق باختصار :
القيام بالحاجات مع البشاشة والاستبشار، ولها مراتب أدناها القيام بذلك عند السؤال، وأوسطها القيام بها دونما سؤال، وأعلاها تقديمها على حوائج النفس0
السكوت عن ذكر المعايب، والمماراة والجدل المذموم معه، وعدم سؤاله فيما يحرجه، وكتمان سره، وأن لا يقدح فيه، أو فى أهله وأحبائه0
السكوت عن كل ما يكرهه، فالمؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات، مع ترك إساءة الظن، وستر العيوب، والتغافل عنها 0
التودد باللسان، وفقد الأحوال، ويظهر انشغال قلبه به، ويبدى السرور بما يفرحه، والثناء عليه عند غيره، وذب الغيبة عنه 0
الدعاء للأخ فى حياته، وبعد موته بكل ما تدعو به لنفسك 0
الوفاء والإخلاص، والثبات على الحب إلى الموت والإحسان لأهله وأصدقائه بعد الموت، وأن لا يتغير على إخوانه عند حصول نعمة كبيرة له 0
التخفيف وترك التكلف والتكليف، فلا يكلف أخاه بما يشق عليه، ولا يكلف التفقد لأحواله والقيام بحقوقه، ويستأنس بلقائه، ويقوم بحقوقه0
التوقير من غير كبر، والتواضع من غير ذلة، ولقاء الآخرين بوجه الرضا من غير ذل لهم، ولا خوف منهم0
الإحسان إلى من يقدر أن يحسن إليه ما استطاع، والشفاعة لمن له حاجة عند من عنده منزلة، والسعى فى قضاء الحوائج 0
ونظائر ذلك مما هو مبسوط فى (آداب الأخوة والصحبة) فى كتب المواعظ الرقائق( )0
اختلاف 00 وائتلاف
لقد خلق الله تعالى الناس فى تباين، وجبلهم على اختلاف فى المدارك والعقول، والنفوس والطبائع، فجاءت قدراتهم وطاقاتهم ونفوسهم متباينة كذلك، وقد أدرك الناس بفطرتهم هذا المعنى، بل وأدرك البشر من كله ملة، أن هذا التباين يحقق مصلحة البشرن فإن عطاء البعض يكون فى عقولهم، والبعض الآخر بقوة سواعدهم، وآخرين بشىء من هذا وشىء من ذاك، مع تفاوت فى الطاقات النفسية والروحية، واختلاف فى السمات والخصائص، وقد قالت العرب هذا المعنى أيضاً فجاء فى أمثالها السائرة ((لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإن تساووا هلكوا))( )0
إذ ربما تندفع نقيصة هذا بفضيلة ذاك، ومن اختلاف المواهب تتحقق المقاصد، (ومن رام إخوانا، تتفق أحوال جميعهم، رام متعذراً، بل لو اتفقوا لكان ربما وقع به خلل فى نظامه، إذ ليس كل واحد من الإخوان يمكن الاستعانة به فى كل حال، ولا المجبولون على الخلق الواحد، يمكن أن يتصرفوا فى جميع الأعمال، وإنما بالاختلاف يكون الائتلاف)( )0
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين(هود : 118)0
( لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد، نسخاً مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها، وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على الأرض، وليست طبيعة هذا المخلوق البشرى الذى استخلفه الله فى الأرض.. ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته، وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه، وأن يختار هو طريقه ويحمل تبعة الاختيار، ويجازى على اختياره للهدى أو الضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته000)( )0
إن اختلاف الناس فى خصائصهم ومميزاتهم هو سبب عمارة الأرض، واستمرار الحياة إذ إن فى التنوع تكاملاً يقود إلى درء النقص، وسد الثغرات، وتوازن الحياة، إذ تتكامل خصائص البشر فيما بينها لتؤدى المهام المتباينة فى الحياة، والمقاصد المختلفة فى العيش، وبذلك تتم مسيرة الحياة وفق توازن وفى ثبات، يتحقق فيه استمرار الحياة كما أراد خالقها0
ومن منطق هذا الاختلاف، سيكون الدعاة –رغم وجودهم فى جماعة واحدة، وينطلقون إلى هدف واحد- بينهم من الاختلاف الشىء الكثير، ومرد هذا الخلاف إلى اختلافهم فى التفكير والأداء وفى الدوافع والسلوك، وإلى اختلاف القابليات الفطرية، والكفايات المكتسبة، مما قد يؤدى إلى النفور والتباعد، لولا أن الله تعالى تكفل للجماعة المؤمنة بوحدتها، إذا سلكت سبيل المنهج الإسلامى فى العمل، وأخذت بالأخلاق الإسلامية فى التعامل0
00لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (الأنفال :63)0
التسامح : سر الألفة
ومن الأخلاق الإسلامية التى لابد للدعاة من التحلى بها، وجعلها نصب أعينهم حتى تتمكن القافلة من السير المستمر، وتكون كفاية القطار فى السير أعلى ما تكون، دونما انشغال بالخلاف، أو مضيعة جهد بالجدال، الأخذ بمبدأ التسامح، إذ إن التسامح من مقتضيات الأخوة، والأولى بالعبد مسامحة أخيه فيما أساء به إليه، فمن سامح أخاه سامحه الله، ومن تجاوز عن سيئات أخيه تجاوز الله عنه، ومن استقصى استقصى عليه، والله عز وجل يعامل العبد فى ذنوبه بمثل ما يعامل به العبد بقية الناس فى ذنوبهم معه0
(00 فمن أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان، فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان، ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان، لم تعظم عنده إساءة الناس إليه، فليتأمل هو حاله مع الله كيف هى مع فرط إحسانه إليه، وحاجته هو إلى ربه 00)( )0
ولو تبصر كل إنسان بهذه القاعدة لصفت نفوس، وحلت مشاكل، وتصاعدت همم، وأينعت أشجار الإيمان، وتفتحت أزهار الأخوة، ولكن الإنسان ظلوم جهول يطلب المغفرة على كثرة ذنوبه، ولا ينسى إساءة غيره إليه، وقد قيل : (( لو أنصف الناس لاستراح القاضى))0
احتمال الغضب
ومن مقتضى الصحبة والأخوة بعد التسامح، احتمال غضب الأخ وحدته وسوء طبعه، ورغم أن الغضب صفة مذمومة، وفيها بعض من خلق إبليس، ومن صفات النار التى خلق منها0 وخصوصاً إذا كان الغضب لذات المرء أو دفاعاً عن النفس، وليس غضباً لله ورسوله، كما كان الغضب يظهر أحياناً على رسول الله  انتصاراً لدين الله تعالى، وحرصاً منه على محارم الله عز وجل، أو ما كان يظهر منه أحياناً إثباتاً لأهمية أمر ما، ومع ذلك كله، فقد يظهر الغضب على بعض البشر، بل لا يكاد إنسان يخلو منه أحياناً، ولا يبرأ منه أحد، فلا ينبغى على إخوان الدين أن يقدح أحدهم فى أخيه بسبب غضب طارئ، أو حدة طبع مفاجئة، بل عليه الصبر حتى ذهاب الغضب عنه، ورجوع الهدوء إليه، وأن لا يعان الشيطان على الأخ، بل يعان الأخ على الشيطان، ثم يوعظ بعد ذهاب الغضب بالحكمة والموعظة الحسنة0
((قال الإمام الشافعى: قيل لسفيان بن عيينة، إن قوماً ما يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم، يوشك أن يذهبوا ويتركوك، قال : هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقى))( )0
فلينظر إلى حكمة هذا العالم الجليل الذى يرفض لتلاميذه أن يتركوا أخذ العلم منه لسوء خلقه، وهكذا يجب أن يكون الدعاة على درجة من الحكمة، ولا يتركوا أخاهم ضحية الغضب الطارئ، وفريسة إغواء الشيطان، كما تجب ملاحظة أن ظروف الحياة ومتاعب العيش، وكثرة الأعمال، وضيق الوقت، قد يؤدى بعضها إلى ضيق فى الصدر، وخصوصاً عند التقصير فى تلاوة القرآن، أو قلة الذكر، وهذه الأمور ليست تبريراً للغضب ولا دعوة إليه، بل إنما تذكير فحسب بأنها تصلح لأن تكون أسباباً يعذر صاحب الغضب بها، ومما قد يجعل أصحاب الخير من الدعاة أكثر تحملاً له، وتسامحاً معه، ورفقاً به. إن قواعد الإنصاف تقتضى أن لا يترك الخير لما قد يصاحبه من الغضب، وأن لا يهجر إخوان القافلة بسبب تلبسهم بالحدة، لأن مثل هذا الأمر فيه تفويت للمصالح، وإهدار للخير 0
تخفيف الأثقال 00 يسهل الاستماع
عند الحاجة إلى النقد أو الرد، والنقاش أو الحوار، لابد أن تكون أجهزة الاستقبال على استعداد لذلك، ولعل من أول مراتب الاستعداد تخفيف الأثقال، فأنى للإنسان أن يسمع والهموم تثقله، ولهذا قيل عن حقوق الأخ: (فأول حقوقه اعتقاد مودته، ثم إيناسه بالانبساط إليه فى غير محرم، ثم نصحه بالسر والعلن، ثم تخفيف الأثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة، أو يناله من نكبة فإن مراقبته فى الظاهر نفاق، وتركه فى الشدة لؤم 00)( )0
وهكذا تقع النصيحة من المنصوح موقعها، ويتقبل الرد، ويستقبل الاعتراض، وكلما كانت نفس الإنسان أكثر صفاء، والقلب فى أحسن حالاته، كلما كان استقبال الموعظة حسناً، واستماع النصيحة يسيراً ، أما إذا كانت النفس متكدرة، والقلب منشغلاً بهموم أخرى كهم قاطع، أو شغل مانع، كمرض جسدى، أو تعب نفسى، أو انشغال بمريض فى الأسرة، أو انهماك فى مشكلة فى العائلة، فإن كل ذلك يمنع الاستماع، ولابد من تخفيف بعض العلائق، وإزالة شىء من العوائق، بالمودة والانبساط حيناً، وتخفيف الأثقال حيناً، حتى تفتح ثغرة فى القلب، ومنفذاً إلى النفس تصل منها الموعظة، ويتسرب منها النصح، فيكون الرد هيناً، وسبيل الحوار مفتوحاً، وينساب النقد هادئاً مؤثراً 0
وفى المعاتبة خير
قال أبو الدرداء : ((معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله ))0
إنها كلمة حق وصدق، فعدم المعاتبة مع بقاء صفاء القلب أولى، ولكن إذا قلت النفوس من هذه المنزلة، وتراكمت فى القلب آهات وأنات، وازدحمت فى النفس حسرات وزفرات، وشعر الإنسان أن فى نفسه ضيقاً، وفى قلبه كدراً مما قد يتحول إلى وحر وغل، أو حسد وحقد، فعندئذ لابد من غسل الدرن، وهذا لا يكون إلا بالمعاتبة، ولا يتفرغ إلا بالمصارحة، ولذلك فلا بأس بها حتى مع كبار المراتب وأهل الفضل، واستعمالها من باب الضرورة التى لابد منها، التى تدرأ مفسدة أكبر 0
ولكن تشترط المعاتبة بعدم الإكثار منها حتى لا تتحول إلى ملامة ونقد، وإنما المقصود منها القدر اليسير الذى يزيل ما علق فى النفوس، وينكس بقايا مشاعر التقصير فى القلوب، والضرورة دائماً يستعمل لها الحد الأدنى0
(فإن كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطراح جميعه دليل على قلة الاكتراث بأمر الصديق، وقد قيل: علة المعاداة قلة المبالاة، بل تتوسط حالتا تركه وعتابه فيسامح بالمتاركة، ويستصلح بالمعاتبة، فإن المسامحة والاستصلاح إذا اجتمعا لم يلبث معهما نفور، ولم يبق معهما وجد 00)( )0
كما يتوضح من النص أن من صالحية المعاتبة ليس تقليلها فقط، وإنما تعاقبها مع المسامحة، فمرة هذه ومرة هذه، وهذا المنهج –عند أصحاب الخلق- لا يلبث معه النفور ولا يبقى معه صدود، بل تصبح فترات الملامة تقوية المحبة، وأوقات الصدود تنمية الوداد فتعود القلوب بعد ذلك أصفى، والأواصر أقوى0
حسن التصرف 00 نبذ التكلف
قد يظن البعض أن حسن المعاملة، هو المبالغة فى المجاملة، والتملق بالتكلف، والتصديق على كل قول، وعدم الاعتراض، والمشاركة بالتبسم إذا ابتسم، وإظهار الألم إذا تألم، وكل ذلك من التصنع المذموم، والتكلف المكروه0
(فإن الملق مصايد العقول، والنفاق تدليس الفطن، وهما سجيتا المتصنع، وليس فيمن يكون النفاق والملق بعض سجاياه خير يرجى، ولا صلاح يؤمل، ولأجل ذلك قالت الحكماء: اعرف الرجل من فعله لا من كلامه، واعرف محبته من عينه لا من لسانه 00 )( )0
إنما الأصل حسن التصرف، مع القناعة القلبية التامة، دون تكلف وتصنع، وأن يكون تصرف الإنسان طبيعياً يأخذ حظه من الحديث والمشاركة، وتظهر على محياه علائم الغضب والرضا دون إخفاء، ويكون ظاهره كباطنه، وكل هذا لا يتم إلا مع صدق النية مع الله تعالى، والثقة بالنفس 0
ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان لأجل مصلحة عامة، حيث يبذل الرجل وجهه لأجل ذلك كطلب مال للدعوة، أو شفاعة لمؤمن، أو لمصلحة دينية غالية، وقد ضرب مثل لذلك ما يستحب فى التملق لشيوخ العلم والتجرية لاستخراج ما عندهم، والتحايل على معرفة علومهم، وقد اعتبر الإمام الغزالى هذا المنحى كأحد شروط المتعلم فأمر المتعلم بأن يلقى للمعلم : (زمام أمره بالكلية فى كل تفاصيل، ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق، وينبغى أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته000)( )0
وأخيراً 00 ميزان الإنصاف
ولابد من جمع كل الأمور تحت قاعدة العدل التى هى من موازين الشريعة، والعدل يقتضى الإحسان والإنصاف، والإنصاف معناه النظر إلى جانبى كل أمر دون إفراط أو تفريط، ودونما بخس أو شطط، وهكذا ينبغى النظر إلى خصائص إخوان الطريق، ورفقاء السير، حيث نظير إلى جانبى الحسنات والسيئات، وأيهما أغلب فى الشخص، بل وأيهما أكثر دوماً ، حتى لا تضيع حسنات إخوانهم، ولا يبخص الناس أشياءهم0
(إن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له فى الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتبين لم يحمل الخبث، يخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث.. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر فى فطرهم. إن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليختلج داعى عقوبته على إساءته، وداعى شكره على إحسانه، فيغلب داعى الشكر لداعى العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر
فإن يكن الفعل الذى ساء واحداً
فأفعاله اللاتى سررن كثير) ( )
ولو خلا كل داعية لنفسه وأنصف مع إخوانه، لشاهد بعين البصيرة والإنصاف، أن كل واحد منهم قد غلبت حسناته سيئاته، وأنهم نعم رفقاء السير، وإخوان الطريق0

امنع التعصب
ومن قواعد العدل الذى هو أساس الشريعة، عدم المبالغة فى المديح، والإطراء بالثناء فإن نتائجه ونتائج التجريح سواء ، وكلاهما تجاوز للعدل والإنصاف، وفيهما خروج من العدل إلى الظلم، وذلك لأنه قد يتطور الوصف إلى حد الخروج عن أصل الوصف إلى نمط آخر مخالف، وبعدها يتحول التجريح فى المسائل إلى الاستزادة فى دواعى التمادى والإصرار، ويكون إبداء المحاسن لأحد الناس غضباً-من طرف خفى- ممن يعانده بالرأى، فيتعصب أصحاب القائل بالرأى الآخر، ويبالغون هم أيضاً فى المدح ليقللوا من شأن صاحب الرأى الأول ثم يتحول الموضوع من الترجيح إلى نوع من التعصب للأفكار حتى يترسخ فى أذهانهم بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا. بعد أن كانوا جماعة واحدة، فيضيع الأصل والمنهج من أجل الصراع على الوسيلة، وما أروع ما شرح الشاطبى –رحمه الله- هذه المسألة وإن كان أصل تفسيره على الخلاف بين أهل المذاهب، ولكنها مشاهدة عياناً فى صفوف الدعاة وهم داخل إطار جماعة واحدة، فاسمعه يقول: ((فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح، فإن النفوس مجبولة على الانتصار لنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها، فمن غض من جانب صاحبه، غض صاحبه من جنبه، فكان المرجع لمذهبه على هذا الوجه غاضاً من جانب مذهبه، فإنه تسبب فى ذلك، كما فى الحديث ((إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه)) .. يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)) فهذا من ذلك، وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع.. فالترجيح بما يؤدى إلى افتراق الكلمة وحدوث البغضاء ممنوع) وما ذكره الشاطبى وغيره نتيجة واحدة من نتائج المبالغة فى المديح والإطراء، ومعها نتائج أخرى يدركها الحس السليم بالمعرفة والتجربة، أما إذا اقترن المدح بطعن وتقبيح فهذا أشد وأنكى0
(إن الطعن والتقبيح فى مساق الرد أو الترجيح، ربما أدى إلى التغالى والانحراف فى المذاهب، زائداً إلى ما تقدم فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة.. قال الغزالى فى بعض كتبه :
(أكثر الجهالة إنما رسخت فى قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، وأظهروا الحق فى معرض التحدى والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت فى بواطنهم دواعى المعاندة والمخالفة، ورسخت فى قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها00)( )0
فإذا كان الثناء حتى فى مجال الترجيح والرد قائداً إلىمفسدة، ففى مواضع أخرى ستكون مفسدته أكبر، وخصوصاً إذا اقترنت بالأهواء والتعصب0
وهكذا تكون المودة والأخوة بين رفقاء الطريق، مع الحب الجامع لإخوانهم المسلمين، دون تعصب ولا هوى، فتزداد الألفة فوق الألفة، وتكثر المحبة مع المحبة، وتصفو القلوب فوق صفائها، ويزداد الذين آمنوا إيماناً0
فهنيئاً لمن كان فى القافلة، واستزاد من الخير حتى وصل مرتبة الإحسان، فإن الله تعالى يقول : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (العنكبوت:69)0

(11) أشواك على الطريق
إنه لمن الخطأ الفادح الظن بأ، جمهور الدعاة بمعزل عن ارتكاب الأخطاء أو الاعتقاد أن ما يتصف به هؤلاء الدعاة من خلق رفيع، أو إيثار كبير، وتواضع جم، يدفع بهم إلى المثاليات العالية، ويحلق بهم فى خصائص العصمة، لأن مثل هذا الأمر خروج عن خصائص الإنسانية التى جبلت على الخطأ وكان من سنتها ارتكاب الزلل0
ولكن أخطاء الدعاة السائرين فى قافلة الدعاة ستظل هى الأقل فى كميتها، والأضعف فى نوعيتها، وما هى إلا كأشواك الطريق التى لابد منها للمسافر على قدميه، ولابد لكل قافلة من تجاوزهنا، بل اقتضت سنة الخالق أن العسل لا يحصل عليه إلا بلسع النحل، والأزهار تحاط بالأشواك، والثمار الصالحة لا تنال إلا ببعض الجهد، وما كان للإنسان أن يحصل على ما يفيده فى المعاش والمعاد إلا بشئ من المكابدة والعسر0
(00 وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة، فالنفس موكلة بحب العاجل، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب، ومطالعة الغايات، وأجمع عقلاء كل أمة على أن ا لنعيم لا يدرك بالنعيم، وإن من رافق الراحة حصل على المشقة وقت الراحة فى دار الراحة، فإن على قدر التعب تكون الراحة 00)( )0
أشواك وأشواق
وأخطاء الدعاة بما لها من أثر على المجتمع، وما تؤديه من نتائج نظرة الناس لقافلة الخير، وما قد تؤدى به تلك الأخطاء البشرية إلى تصدع داخل القافلة ذاتها، لابد من معالجتها وتقليلها إلى الأقل الممكن، ولكن لابد من النظر إليها كحقيقة بشرية يجب مواجهتها بالمعروف، ومعالجتها بالحكمة، وأنها مظهر من مظاهر الابتلاء والمحن، وأنه الجسر المعترض الذى لابد للقافلة من عبوره 0
((00 وكان ذلك الجسر الذى لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج فى حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم من نعمة جسيمة، ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان 00))( )0
(( فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله، والإخلاص له ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به، والأنس به، واطمأن إليه 000 وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه، عن كل ما سواه، فإنه لا يبقى فى قلبه متسع لسهود أذى الناس لهب البتة، فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة00)( )0
وبهذا تكون الأشواك مترادفة مع الأشواق إلى الله، فلا يظهر أثرها ولا يحس الداعية بغرزتها، لتعلق قلبه بما هو أسمى0
ومع هذا، فلابد للدعاة من معرفة بعض الموازين فى النظر إلى الأخطاء وعلاجها0
الخطأ 00 سنة البشر
إن أول الموازين فى النظر لأخطاء الدعاة الاعتقاد الجازم واليقين التام أن الخطأ من سنة البشر، وأن الدعاة مهما كان لهم من الفضل فهم من البشر، وبالتالى فإن النظر لهم لابد أن يكون بنفس الميزان، ولا ينظر إليهم كملائكة يسيرون على الأرض، وبالتالى تكون الهفوات المنظورة منهم كبيرة على الرائى والمشاهد، والبش – بحسب فطرتهم- لابد من جريانهم على الخطأ (فكل ابن آدم خطاء)، وكل أحد من أهل الفضل لابد أن تترك تربية أهله، وطبيعة مجتمعه، وجينات وراثته، بصمات واضحة عليه، لا يستطيع منها فكاكاً مهما جاهد نفسه، أو حاول التملص من تلك البصمات التى تخفى وراءها العيوب الخلقية كما تخفى الخصائص الجسمية والنفسية، وهذا المنطق الصحيح يجب أن لا يبالغ فيه أحد إلى حد ينفى عن الإنسان محاولاته لإصلاح نفسه، إذ إن فى هذا الأمر وقوعاً فى بدعة الجبرية، ولكن المؤمن يصارع القدر بالقدر، ويبحر بسفينة القدر فى بحار القدر، ويهرب من قدر الله إلى قدر الله، ولكن المقصد أن الإنسان مهما حاول، فسوف تبقى فيه بقية من عيوب، ورواسب من أخطاء، لكى يتم وعد الله تعالى فى كتابة الخطأ على ابن آدم، ويجرى عليهم ما جرى على الأنبياء والمرسلين0
( وهذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التى فيها كلام الله الذى كتبه على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء فى النبى  وقال : شاب بعث بعدى يدخل من أمته أكثر مما يدخلها من أمتى، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبى الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذى قام به موسى، والعدو الذى برز له، والصبر الذى صبره، والأذى الذى أوذيه فى الله تعالى، أمر لا تؤثر فيه مثل هذه الأمور 00)( )0
وما صدر عن موسى – عليه السلام – من الأخطاء فقد صدر مثل ذلك من غيره من الأنبياء والمرسلين، ومثل ذلك حصل لصحابة رسول الله  كما حصل لحاطب رضى الله عنه، والرسول  يقول لعمر رضى الله عنه: (( لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم)). وقال لعثمان رضى الله عنه عندما اخرج الصدقة العظيمة : ((ما ضر عثمان ما فعل بعدها))، وقال لطلحة رضى الله عنه لما صعد على ظهره على الصخرة: ((أوجب طلحة00)) وغير ذلك0
وهكذا قد تجرى الأخطاء، فى قافلة الدعاة، وفى قطار الدعوة وعلى قادتها وزعمائها، ولا مفر من ذلك، والبحث عن الكمال نادر، والقناعة بالدعاة إذا غلبت حسناتهم سيئاتهم هو المطلوب، بل إن ميزان الآخرة هكذا، فإيهما غلب كان التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات الذين آثروا مرضاته ومحبته، وعملوا صالحاً، وبذلوا جهدهم بالخير والفلاح، وإن غلبتهم بعض الشهوات بدواعى طبعهم، فيعفو عنهم بمنه وكرمه، ويسامحهم عن هفواتهم، فإذا كانت هذه سنة الخالق فى الآخرة، ألا تكفى الخلق أن تكون سنتهم فى الدنيا0
وإذا كان هذا الميزان لابد منه للناس فى النظر لأخطاء الدعاة، فهو فى الوقت نفسه لابد منه للدعاة فى نظرتهم للناس، وإنزالهم منازلهم، وعدم بخس الناس أشياءهم، وأن يحاولوا جهدهم فى الاستفادة من محاسن الغير، وتجنب عيوبهم، إن لم يقدروا على معالجتها، وغنى عن القول كذلك، أن ميزان العدل هذا يأخذ أولوية التطبيق فى نظر الدعاة بعضهم لبعض0
الضرر يزال
والاعتراف بأن الخطأ من سنة البشر لا يعنى التساهل معه، أو التجاوز عن إصلاحه، لأن من أصول الشريعة قاعدة (الضرر يزال) والأخطاء من الأضرار التى يجب إزالتها والتنبيه لها هو أصل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وعلى المخطئ إذا زل أن يحسن إسراع الفيئة ويتدارك ما فرط فيه، ويداوى جروحه، وعلى الداعية أن يكون أكثر بصراً من غيره بعيوبه وأخطائه، وأن يكون مثله كمثل الطبيب البصير الحاذق الذى يزول عنه مرضه أسرع مما يزول عن الجاهل، لأنه أعلم الناس بأسباب المرض وعلله، وطرق علاجه ، بل ,احرص الناس على إزالته وكذلك على الدعاة أن لا يتشبه أحدهم فيما يرىمن ظاهره أنه هفوة، وعليهم أن يأخذوتا دائماً بالعزائم، وأن لا يكون التشبه بأحد من الخلق إلا بالمصطفى، لأن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم  ، وأهم من هذا الأمر أن لا يتشبه الداعية بأخطاء الغير من العلماء أو الأقوياء فى الدين، أو أن يفتدى ببعض تساهلاتهم فإن لهم من نقاط القوة ما يدرأ عنهم نقاط الضعف، ولهم من الحسنات ما ترد به السيئات، ومن تتبع الرخص لم يصب من الخير شيئاً، بل على الداعية أن يتشبه بالغير فى أحسن ما عندهم، وخير ما يتصفون به، ومنع الداعية من التشبه بضعيف أو أخطاء أفعال الغير، كمنع المبتدئ فى العلم من التشبه بكبار العلماء فى لين ورخص أقوالهم وأفعالهم، لما فيه من الخطر والمجازفة0
(ومنع المبتدئ عن التشبه يضاهى منع الحديث العهد بالإسلام من مخالطة الكفار، ويندب الشجاع له، ومن الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عنهم من المساهلات جائز، ولم يدر أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء )( )0
وتشبه الضعيف بالقوى فيما يرى من ظاهره أنه هفوة يضاهى اعتذار من يلقى الأوساخ اليسيرة فى كوز ماء ويتعلل بأن أضعاف هذه الأوساخ قد تلقى فى البحر، والبحر أعظم فما جاز للبحر فهو للكوز أجوز، ولا يدرى المرء أن البحر بقوته وكتلته يغير الأوساخ ويحيلها عن صفاتها الأصلية، بينما تكون الأوساخ هى الغالبة فىالكوز الصغير، ونص الإمام الغزالى يغنى عى الاستطالة، فالقاعدة أن على المبتدئ والطالب الاقتداء بنقاط القوة من الأفاضل، لا أن يقتدى بنقاط الضعف0
والنقد 00 ضرورة
والسكوت عن الأخطاء، أو الغض عن الهفوات، لمصلحة راجحة لا يمنع من ممارسة النقد، والذى هو من مظاهر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بل إن عملية النقد بذاتها هى الطريقة المثلى لتصحيح الأوضاع إذا كانت وفق منهجها الصحيح، وإذا تمت بشكل منهجى وطريقة تحليلية، والمقصود بالنقد هنا بشكله الموضوعى هو مراجعة الأشخاص والأفكار والأنشطة، ثم محاسبتها أو تحليلها وفق القواعد والأسس المتفق عليها، سواء أكانت شرعية، أو تم الاتفاق عليها وفق تفكير عقلى، والنقد يحرر الأجواء العقلية من التعصب، ومن أجواء المشيخة، ويجدد الآراء، ويصنع المنهجية التى تتوسط بين الإفراط فى تبنى آراء أشخاص معينين واعتبارها أشبه بالمقدسة، وبين التفريط فى تلك الأفكار ورميها فى سلة المهملات. ولذلك فالدعاة عموماً مدعوون إلى إيجاد حرية الرأى، والتعبير والتعود على وجهات النظر المختلفة لأن هذا يدفع بالعمل الإسلامى إلى الأمام، ويحقق الخصوبة الفكرية، ويفتح مجالاً لتبادل الآراء، ولكن كل هذا يجب أن يتم خلال الأجواء الصحية، ووفق ضوابط تمنع عند عملية النقد الشطط والانحراف00 ومن هذه الضوابط :
أن تكون عملية النقد مشروطة بقواعد المنهجية، وأسس الحوار الموضوعى0
أن تكون وفق الأساليب الشرعية، وضمن قواعد الأدب التربوى فى الحوار والنقد 0
أن يكون النقد من الأكفاء جهد المستطاع دون منع الآخرين من ذلك 0
أن تكون العملية النقدية فى أوساطها الخاصة، وبين العقول التى تقدر العملية النقدية 0
أن تكون عملية النقد ضمن قنواتها بحيث تكون المصالح راجحة على المفاسد 0
أن يختار الناقد الأجواء والظروف المناسبة حتى يحقق النقد غايته الصحيحة، وغير ذلك مما هو مبسوط فى غير هذا الموضوع 0
النسبية 00 من موازين النقد
والنسبية صفة كونية، ومن القوانين والسنن فى الكون والحياة، وهى تنتقل إلى أمور الحياة كذلك –ما لم يكن الحق مطلقاً من الله عز وجل فلا نسبية فيه- وبناء على هذا فإن كل فرد مسلم تمتزج فيه الطاعات والمعاصى، فيكون النقد له نسبياً على قدر تلك الطاعات أو المعاصى، وعلى أساس تلك النسب تتحقق له الموالاة والمعاداة، والداعية المسلم عليه أن يبغض فى الله، ويحب فى الله، وقد يتلازم الحب والبغض للشخص الواحد، ويترشح أحدهما بالغلبة، فيظهر التباعد والتقارب وفق ذلك، وتكون كذلك المخالفة أو المباعدة وتكون النتيجة إما موالاة أو معاداة، وقد تشكل النتيجة أحياناً، فيكون الميزان النسبى آنذاك والذى يوضحه الغزالى رحمه الله بقوله :
(وإنما الشكل إذا اختلطت الطاعات والمعاصى فإنك تقول كيف أجمع بين البغض والمحبة وهما متناقضان؟ وكذلك تتناقض ثمرتهما من الموافقة والمخالفة، والموالاة والمعاداة؟ وأقول: ذلك غير متناف فى حق الله تعالى، كما لا يتناقض فى الحظوظ البشرية، فإنه مهما اجتمع فى شخص واحد خصال يحب بعضها ويكره بعضها فإنك تحبه من وجه، وتبغضه من وجه 00)( )0
والحب بالطبع يقتضى تصرفات المعاملة الطيبة، كما أن البغض لبعض الخصائص يقتضى بعض التصرفات كالنقد وفق شروطه وضوابطه، وبعض التخشين والتغليظ، أو بعض الانقباض والتوحش، وكل ذلك يتم وفق موازين العدل والإنصاف ومن موازين العدل والإنصاف أيضاً الموالاة والمعاداة حسب الجهة التى يميل إليها من حيث الحق والباطل حسب مقياس الشريعة0
فكن معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال، وبين الإقبال والإعراض وبين التودد والتوحش عنه… ثم ذلك التوسط تارة يكون ميله إلى طرف الإهانة عند غلبة الجناية، وتارة إلى طرف المجاملة والإكرام عند غلبة الموافقة، فهكذا ينبغى أن يكون فيمن يطيع الله تعالى ويعصيه، فيتعرض لرضاه مرة ولسخطه مرة ( )0
وهذا الأمر فيما هو بمقياس الشريعة، أما الهفوات والصغائر، فالأصل فيها الستر والإغماض، وكذلك الأمور الاجتهادية البحتة والآراء الشخصية، والخصائص الذوقية ما لم تكن لها آثار كبيرة على المصالح العامة، ومسيرة العمل الإسلامى فى صفوف الجماعة المسلمة0
والخلاصة أن الحب والبغض، أو الموالاة والمعاداة إنما يقوم بها الداعية المؤمن بسبب الصفات والخصائص التى يتمثلها الأشخاص لا بسبب ذواتهم0
هفوات الدعاة
أما منهج النظر إلى الزلات والهفوات من الدعاة فهو على مراتب ثلاث :
أولاً : عدم تتبع الزلات ابتداء0 وثانيتها: عدم إشهار ازلة عند معرفتها0 والثالثة: العفو عن الزلات، مع التنبيه لها وعلاجها0
وما هذه المراتب إلا من نتائج المحاسبة للنفس، إذ ينشغل المؤمن بمحاسبة نفسه دون النظر إلى زلات الآخرين وكذلك تدل هذه الأمور على صفاء نفس المؤمن، وأخذه بظواهر الأعمال من إخوانه دون ريبة أو ظنون، وإذا كان ذلك واجباً من واجبات الأخوة، فإن الأمر أكثر وجوباً فيما يخص العلماء وأهل الإيمان، ولذلك قيل فى قواعد معاملتهم :
(ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم فى أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا 00 وأمرنا أن نتبع ما أنزل إليها من ربنا وألا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقاً فى معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان00 وهذا أمر واجب على المسلمين فى كل ما يشبه هذه الأمور. ونعظم أمر الله تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين: لاسيما أهل العلم منهم كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الهوى فى التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم)( )0
وإذا كان الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا، فإن هذا المنهج يسع عباده أيضاً، وخصوصاً بالنظر إلى الدعاة، وكذلك العلماء والأمراء والقادة، دون طاعتهم بما يخالف أمر الله ورسولهن وطاعتهم فيما أمر الله به ورسوله، والاستغفار لهم، والإيمان بأن طاعتهم أو الاقتداء بأفعالهم الحسنة هو من طاعة الله تعالى0
وهذا المنهج الصواب هو عمل الأبرار والأخيار من أهل العدل والإنصاف، أما أشرار الأمة فهم الذين يتلذذون بذكر معايب الناس ويتتبعون الزلات0
(الأشرار يتتبعون مساوئ الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الفاسدة فى الجسد، ويترك الصحيح منه )( )0
وقد ورد فى الحديث الشريف: ((00 ومن قفى مسلماً بشىء يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ))( )0
أشرعة 00 ليست للنشر
ومع عدم التتبع المفروض، ينبغى على الدعاة الإنصاف، فلا يسارعوا إلى نشر الزلة، لأن إشهار الزلات من خصائص الأشرار، وليس من شعار أهل المروءات، وأن أهل البغى والاستطالة هم الذين يسارعون إلى إشاعة ونشر الفاحشة، ولكن مقتضى الإيمان والمروءة والأخوة السكوت عن الإشهار، وغض النظر عن التشهير، والشريعة الإسلامية نهت عن التشهير كما ورد فى قوله  : ((00 ومن ستر مسلماً تسره الله يوم القيامة00)) متفق عليه0 كما أن إشهار الزلات فى الجماعة المسلمة أمر خطير، لذلك قال تعالى مشيراً لحادثة الإفك : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون  (النور : 19) 0
(إن إشاعة أخبار الأفراد السيئة، أو تجريحهم يترك المجال واسعاً بعد ذلك لتجريح كل أفراد الجماعة، فتصبح الجماعة بمجموعها ذات سمعة ملوثة، وكل فرد فيها مهدد بالاتهام، وفوق ذلك فإن اطراد التهم يوحى بأن جو الجماعة ملوث، وصفها غير نظيف، وجوها آسن، وبعد ذلك تهون التهم فى حس الأفراد، وتقل بشاعتها بكثرة الترداد، والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخيص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التى كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة فى الجماعة أو نادرة00 وفوق الآثار التى تترتب عليها فى حياة الناس00)( )0
لذا كان من أشد واجبات الدعاة وجوباً عدم الترخص فى نشر زلات بعضهم إلى بعض، والتستر على المعايب مالم يكن فى كشفها مصالح راجحة وعامة، ويؤدى سترها إلى مفاسد واضحة، وكذلك الميزان فى النظر إلى عيوب بقية الناس0
العفو عن الزلات
وعلى فرض وجود النقص، أو ظهور الزلة، وخصوصاً إذا لم تكن صفة دائمة، أو علة مستديمة، أو لم يكن لها أثر عام يفوت مصلحة عامة، أو يجلب مفسدة قطعية، فإن العفو عن الزلات أولى والسكوت عن النقائص أجدى لأنها إعانة على الشيطان، وتشجيع على إسراع الفيئة، وفتح المجال واسعاً للتوبة، مع الإبقاء على مودة القلب وصفاء النفس0
قال أبو الدرداء : إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى0
وقال النخعى: (( لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه، فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غدا ))( )0
والالتزام بهذا المنهج هو دليل صدق النية مع الله، وحب الخير للناس، وتقريبهم للطاعة، وهو دجليل على محاربة الشر وفدع كيد الشيطان، وتفويت طرق الغواية وهو كذلك علامة الإيمان ومظهر الإحسان، فى انتظار العودة، ومسارعة الفيئة، وهو مظهر من مظاهر الرفق بالعباد وإدراك لطبيعة النفس البشرية فى تقلبها بين الخير والشر، ومن يرحم عبيد الله بهذا النهج سيهيئ له الرحمن من يواسيه عند الانحراف، ويأخذ بيده إلى الاستقامة عند الشطط، ويفوت عليه مزالق الشيطان، ويعوضه الله تعالى بفعله بمن يأخذه بيده عند الزلة0
ودفع التهمة 00 من الوفاء
وفوق المراتب الثلاث ضرورة الرد عن عرض المسلم، لقوله  : (( ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله، أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين))( )0
ودفع التهم من عليا مراتب حقوق الأخوة، وفيها درء مفيد عن الجماعة المسلمة، وتأليف القلوب حولها، ويؤخذ هذا المعنى أيضاً حادثة الإفك إذ يستنبط منها :
* (جواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل، ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس، إذا تضمن ذلك إزالة توهم النقص عن الحاكى إذا كان بريئاً عند قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع من سبق، وإن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير فى الإثم أولى من تركه يقع فى الإثم، وتحصيل الأجر المدفوع عنه 00) 0
* ( وفيه ذب المسلم عن المسلم خصوصاً من كان من أهل الفضل، وردع من يؤذيهم ولو كان منهم بسيل000)0
* ( وفيه البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع، وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على من قيل فيه، هل وقع منه قبل ذلك ما يشبه أو يقرب منه، واستصحاب حال من اتهم بسوء إذا كان قبل ذلك معروفاً بالخير، إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك 000)( )0
وإذا كان دفع التهم عن الأقران من الوفاء، فإن دفعه عن الدعاة وأفاضل المسلمين ومما لا يعرف عنه تهمة سابقة، أو خطأ هين يضيع فى فضل كبير أولى بدفع التهمة عنه، وإزالة ما علق به 0
وبدفع التهم لتظل أجواء الثقة فى قافلة الدعاة نظيفة صافية، كما تظل القافلة برمتها سامية فاضلة تهتف بالناس للحاق بها 0
إقالة ذوى العثرات
ولعل هذا الأدب من عموم قاعدة الأعضاء عن الهفوات، نشر الزلات، ولكنه أكثر تخصيصاً بالأكابر أصحاب القدر من الجاه والشرف والسؤدد ولا يشترط من إقالة عثراتهم أن يكونوا أصحاب فضل فى الدين والشرع، بل يكفى فى ذلك ما خصهم الله تعالى به ففى الحديث الذى روته عائشة –رضى الله عنها- أنه  قال : ((اقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) ( )0
وقد يستدل به أن المقصود أهل المعاصى، أو الذين دامت طاعتهم فزلت أقدامهم بعض الأحيان، ولكن هذا التعبير غير معهود فى كلام المصطفى  وإنما المقصود به ما نحن بصدد الاستدلال له، وعلى هذا جمهرة المحققين ومنهم ابن القيم –رحمه الله- حيث قال: (( والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بنى جنسهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنبيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله000))( )0
ويقاس على ذلك أصحاب الزلات النادرة إذا كثر منهم الخير واستطاب، أو أصحاب السلطان فى سلطانهم، وكذلك من كان لهم نسب شريف أو فضل ظاهر فى مجتمعهم، وكذلك للذين لهم سابقة دينية، أو بطولة إسلامية، مما هو معروف فى كل مجتمع وبلد إذ إن فى الستر على هؤلاء مروءة من جهة، وتشجيع على التحلى بالفضائل، وإتيان المواقف الحسنة من جهة أخرى إضافة إلى روح الإبقاء على القدوات ليتأسى الناس بصالح أعمالهم0
والمروءة : زيادة فضل
ومن مقتضى الابتعاد عن الأخطاء أو معالجتها الالتزام بالمروءة وهى صفة لابد للداعية منها، فوق صفات المسلم الجيدة الكثيرة، فكما أن المسافر لابد له من طاقة عقلية واسعة، وعزيمة جادة صادقة، وقوة فى البدن عالية، وهمة فى النفس أبية، تجعله قادراً على السفر ومهماته، وبعد الطريق ومشقاته، وعلائق الدرب وعوائقه، وإلا كان عبئاً على غيره، وحملاً على عاتق سواه، فكذلك مسافر الدعوة لابد له من صفة زائدة تجعل الأقدر على الدعوة، والأشد فى حمل عبئها، والأجدى فى الانتساب إليها، وكذلك يصبح الدعاة بمجموعهم الأعلم بأخطائهم ومعالجتها0
والمروءة جملة من الخصائص ، قيل عنها :
(اجتناب الأمور الدنيئة المزرية به، كالأكل فى السوق يعنى به الذى ينصب مائدة فى السوق ثم يأكل والناس ينظرون.. أو يمد رجليه فى مجمع الناس، أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب.. بحضرة الناس بالخطاب الفاحش00)( )0
وقيل عن صاحب المروءة أيضاً :
(( أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً فى الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله فى دينه ودنياه 00
فمن ترك المروءة، لبس ما لا يليق بأمثاله، بأن يلبس الفقيه القباء والقلنسوة، ويتردد فيها فى بلد لم تجر عادة الفقهاء بلبسها فيه00 ومنه المشى فى السوق مكشوف الرأس والبدن00 وكذا مد الرجل بين الناس والأكل فى الأسواق 00 أو يكثر من الحكايات المضحكة، أو يخرج عن حسن العشرة مع الأهل والجيران والمعاملين، ويضايق فى اليسير الذى لا يستقصى فيه00 ومنه أن يتبذل الرجل المعتبر نفسه بنقل الماء والأطعمة إلى بيته إذا كان ذلك عن شح، فإن فعله استكانة، واقتداء بالسلف التاركين للتكلف، لم يقدح فى المروءة، وكذا لو كان يلبس ما يجد، ويأكل حيث يجد لتقلله وبراءته من التكلف المعتاد، وهذا يعرف بتناسب حال الشخص فى الأعمال والأخلاق، وظهور مخايل الصدق فيما يبديه00))( )0
ويلاحظ من هذين النصين وغيرهما كيف أن المروءة صفة زائدة عن مجمل الأخلاق الإسلامية، ومرتبة متقدمة منها، ومنزلة متفوقة فيها، تزداد الحاجة إليها عندما يعمل الداعية مع رهط من الدعاة فى إطار جماعة واحدة، فتكون عندئذ من مقتضيات الأخوة تماماً، كالمسافر الذى لا يمكن له الانسجام مع بقية المسافرين إذا ما شذ بسلوك مخالف، أو حاد من عرف مشترك، أو استأثر بأذواق شاذة، ولهذا كانت المروءة صفة يمتاز بها أخيار الرجال، وأهل الفضل والمعروف، وفى هذا يقول الشافعى – رحمه الله - :
(( لو أن الماء البارد يفسد مروءتى ما شربت إلا ماء حاراً ))( )0
وبناء على هذه الصفة، وانطلاقاً منها يكون الداعية مع القافلة أقل أخطاء، وأقوى فى معالجة أخطائه، كما يكون كيساً ولبقاً فى معالجة أخطاء غيره، وبالتالى يصفو كدر الصف، وتزداد نقاوة الجماعة، فيصلب عودها، ويسهل طريقها، وهيهات أن يتوفر هذا الخير لجماعة أخرى أرضية، وذلك لأن : (( من لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن أدى إلى هلاكه فى الآخرة لضعف ناهى الدين ، ومن لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها لضعف ناهى المروءة، فأين هذا من قول الشافعى –رحمه الله تعالى- لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتى لما شربته00))( )0
ومن المروءة 00 اتهام النفس
وتتفرع عن المروءة جملة أخلاق وخصائص تميز ركب الأخوة عن غيره، وبها تتباين قافلة الدعاة عن سواها، ومنها حسن الظن بالآخرين، والاعتذار عنهم، وطيب الخلق الذى ترشد إليه الألفة. ولهذا كانت المروءة تستدعى أن الداعية إذ ما أسئ إليه أن يعتذر فى نفسه للآخرين، بل يقال له: (( ينبغى أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً، فإن لم تقبله فرد اللوم على نفسك، فتقول لقلبك: ما أقساك!! يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله، فأنت المعيب لا أخوك 000))( )0
وهكذا يكون أمر الاعتذار، وهو من أجل دواعى الإنصاف، وأن لا يكون الداعية ممن يرى القذى فى عين أخيه، ولا يرى الحصى فى عينه والمروءة بهذا الوصف من مظاهر الإخلاص لله تعالى، والوفاء، بواجب الأخوة الحقيقية، وبالتالى تتميز الجماعة المسلمة بأحلى صورة فى الوجود، وتتميز قافلة الدعاة عن قوافل الجاهلية، ويسمو قطار الدعوة عن غيره، ويشكل الدعاة بأواصر الأخوة، ورابطة العقد الإيمانى، جيلاً إيمانياً يتمم ركب اللاحقين، والجميع عبر الأجيال يحملون نفس الشارة، ويعملون لنفس الغاية، فتصفو النفوس، وتسمو القلوب، وتصل الأجيال إلى هدفها النهائى، ويكون للسابق أجر اللاحق، ويذكر المؤمن أخاه المؤمن فى إعزاز وكرامة، يسير الجميع فى صف واحد، وفى كتيبة واحدة، تحت راية السماء، تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم، كما تغذ السير قدماً إلى الهدف النبيل0
(12) أخطاء العلماء
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من صلصال من حما مسنون ، ومن نفخة من روح الله تعالى، ولهذا سيظل الإنسان دوماً يملك صفات الطين اليابس الذى يصلصل عند نقره، ومن روح الله التى تنقل هذا التكوين إلى الأفق الإنسانى الكريم، بحيث يستحق أن يرتفع بمستواه عن خصائص الطين المجرد ويمنح الخصائص الإنسانية، التى تميزه عن كل الكائنات الحية.
وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون(28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين (الحجر : 28، 29) 0
((00 هذه النفخة التى تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقى عنه، ولتجاوز النطاق المادى الذى تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدى الذى تتعامل فيه القلوب والعقول، والتى تمنحه ذلك السر الخفى الذى يسرب به وراء الزمان والمكان، وراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات، وألوان من التصورات غير محدودة فى بعض الأحيان 000))( )0
ومع هذا، فسيظل هذا الإنسان بثقلة الطين فى طبعه، فينتابه الضعف والقصور، والزلل والخطأ، كما أن له المقدرة على اتباع الزلل بالتوبة، والخطأ بالصواب، ولن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه، فلن يكون ملكاً يملك خصائص الكمال الملائكى، كما أنه لا يطلب منه أن يكون حيواناً يترك طاقاته الروحية، إذ إنه فعل ذلك فيستخرج عما يريد الله تعالى له، فيدمر نفسه وغيره0
طرفان 00 ووسط
إن خصائص الطين فى ابن آدم هى التى جعلته مرتكباً للأخطاء ويتعرض للزلل، والدعاة.. باعتبارهم بشراً – لابد لهم أن يقعوا فى الأخطاء أو الذنوب، بقصد أو بدون قصد، وهذه الأخطاء هى بعض الأشواك فى طريق المسافرين فى قطار الدعوة، والتى على الدعاة معرفتها وإزالتها، ولكن هناك جملة أخرى من الموازين والقواعد التى يجب على الداعية الالتزام بها عند النظر إلى أخطاء العلماء أو الآمرين بالمعروف، وأهل الفضل إذ إن لهم مكانة خاصة، تقتضى بعض الموازين التى تحفظ المصالح الراجحة عند الأخذ بها0
إن هذه الموازين تطبق على مدى واسع من الأخطاء تتفاوت بين طرفين، فهناك أخطاء كبرى تخالف أصول العقيدة، وقواعد التشريع لابد من إنكارها بكل الوسائل ومحاولة إزالتها وهناك أفعال وأقوال بسيطة ظاهرها الخطأ، أو أنها مما تختلف فيه الأذواق والأساليب، فهذا مما يتنزه عنه الداعية فى أن يخوض فيها أو يحاسب عليها، أما ما كان بينهما، فهو مما يخضع بجملته للموازين والقواعد التالية، حتى يكون الطريق معداً للسير دون أى الأشواك والعوائق التى مصدرها العلماء والأمراء وأهل الفضل، ودون تعطيل لعملية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر0
الخطأ 00 سنة البشر
لما كان العلماء والفقهاء من البشر، فلابد من وقوعهم فى الأخطاء أيضاً، ولا تزال سنة الله جارية فى ذلك، وما من فقيه إلا وله فتاوى شاذة يعجب المرء منها، وكأن الله تعالى شاءت قدرته ذلك ليستدل البشر على أن العصمة لله وحده، ولولا أن تتبع أخطاء العلماء ليس من الموازين الشرعية، ولا فائدة من ذكرها، لذكرنا طرفاً منها، بل لقد صنف العلماء فيها تآليف، ونكتفى بذكر ما أخطأ فيه ابن حزم على غزارة علمه، وتبحره فى أقال السلف حيث فضل نساء النبى  على العشرة، فقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- : ((وبالجملة، فهذا قول شاذ لم يسبق إليه أحد من السلف، وأبو محمد مع كثرة علمه وتبحره، وما يأتى به من الفوائد العظيمة، له من الأقوال المنكرة الشاذة ما يعجب منه، كما يعجب مما يأتى من الأقوال الحسنة الفائقة، وهذا كقوله: إن مريم نبية، وإن آسيا نبية، وإن أم موسى نبية))( )0
ونظائر هذا كثيرة، حتى إن بعض العلماء أفرد كتباً وأبواباً فى (أخطاء العلماء)، ولم ينج من ذلك حتى الصحابة، إذ ورد عن بعضهم فتاوى ردت من قبل الصحابة الآخرين، وما ذلك إلا ليجرى أمر الله تعالى من أن كل شخص يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم  0
ولكن مثل هذه القناعة لا يجب أن تؤدى إلى القناعة بالخطأ وعدم معالجته، فخطأ العالم أو الأمير يحاسب عليه دون إجحاف، ويلزم بتطبيق المبادئ والآراء الصائبة، ويشار عليه ويحاط بالنصيحة والإرشاد، ويوعظ على مدار الأيام والليالى، ثم بعد ذلك كله، يتجاوز له عن الخطأ الذى لا مفر منه ويطاع فى اجتهاده الذى وصل إليه0
(أما العالم فلا ينبغى أن يقلد فيما زل فيه، إذ إن الدين لا يؤخذ بالخطأ 0
وأن العالم قد يزل ولابد، إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم00)( )0
ومعاتبة الداعية أو العالم ومحاسبته يجب أن تكون أيضاً على مقدار العيب، أو حجم الخطأ فهنالك من الأخطاء ما يجب أن تكون المحاسبة عليها شديدة، وهى ما كانت تتعلق بأمر دينى، أو أنها تقود الجماعة المسلمة للخطر، ومنها ما هو فكرى مما يكون ضرره محدوداً، ومنها أخطاء ذوقية ضررها على الشخص ذاته، فيجب أن لا يبالغ فى المحاسبة، أو يشدد فى الوعظ، لما فى ذلك من قتل لروح الإبداع وتثبيط للهمة، إضافة إلى أن مثل هذه الأخطاء من نتائج الاجتهاد المقبولة0
ومع تطبيق هذا الميزان مع القادة والمشايخ، فهو أولى بالتطبيق بين الأقران فى قافلة الدعاة، حيث يكون التنبيه على الزلل وفق الآداب الشرعية، وضمن قواعد الشريعة، والإعذار فيما كان الاجتهاد فيه سائغاً0
التنازع بين العلماء
وينبغى النظر كذلك فى ميزان آخر، أن التنازع بين أهل الفضل أمر جار، ولا يخرجهم عن الفضل لأسباب كثيرة، وكذلك التنازع بين العلماء، ولم يسلم من ذلك حتى صحابة رسول الله  إذ جرى النزاع بينهم فى مسائل عديدة :
فمنها : إنكار ابن عباس على زيد مخالفته للقياس فى مسألة الجد والإخوة 0
ومنها: رده على أبى هريرة فى الوضوء من حمل الجنازة، ومن أكل ما مسته النار 0
ومنها : ما أنكرته عائشة أم المؤمنين على بعض الصحابة حتى صنف فيه الزركشى كتاباً أسماه (الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة)0
ومنها : اختلاف الصحابة فى بعض مسائل المواريث كالمشتركة والعمريتين وغيرهما 0
ومنها : خلاف عمر لأبى بكر – رضى الله عنها – فى سبى أهل الردة وأرض العنوة، وأشباه ذلك مما يطول ذكره0
ولعل الخلاصة فى ذلك قول ابن القيم رحمه الله :
(إن أهل الإيمان قد يتنازعون فى بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة فى كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً 00 )
فإذا كان الأمر هكذا بين الصحابة، فما جرى بين بقية علماء الأمة أكثر، وإذا كان كل هذا قد جرى فى مسائل لها نصوص شرعية فإن ما يجرى بين القادة والأمراء، وفى أمور اجتهادية بحتة ليس مستغرباً، بل الغرابة فى أن لا يحصل 0
احذر التقليد
ويبنى على زلة العالم، والتنازع بين العلماء، ضرورة أن لا يقتدى المكلف بالخطأ ويقاس على ذلك أن لا يقتدى الداعية بأخطاء القادة، وعيوب المسؤولين، فهو –وإن كان واجبه الطاعة- إلا أن الطاعة فى المعروف، وسوف يحاسب العبد عن نفسه يوم القيامة، وإنما الاقتداء بالخير والحسنة0
(قال عمر رضى الله عنه: يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال بالقرآن –والقرآن حق- وزلة عالم000
وقال معاذ – رضى الله عنه - : وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق 000)
وكذلك ليس على الداعية – بحجة الطاعة – التعصب للقادة والرؤساء وإن أخطأوا الخطأ الفاحش، فهذا من التعاون على الإثم والعدوان، وإنما عليه الإحسان إذا أحسن الآخرون، وتجنب الإساءة إن أساءوا، وعليه بالاقتداء بأفضل ما عند القادة، فإنه إن تتبع الاقتداء بنقاط الضعف عن القادة، فهو فى ذلك كمن تتبع رخص العلماء، وبالتالى فهو فى هذه وتلك لم يصب من الخير شيئاً 0
وإذ كان هذا موقف الداعية ممن هو أعلم منه، أو أرفع منه شأناً، مع تأدية واجبة بالنصح والإرشاد، والموعظة الحسنة، فعليه فى الوقت نفسه ألا يشغل نفسه كثيراً بما جرى بين الأئمة والعلماء من الخلاف، إذ إنه بهذا الأمر يضيع جهد، ويصرف وقته دون طائل، ويضيع عليه سبل الاستفادة0
(ينبغى لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم فى بعض، إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وحسن الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحاً عما جرى بينهم00 فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك000)( )0
وهذا هو الأصل فى تصرف المسترشد مع علماء الأمة، وتصرف طالب العلم مع العلماء، وكذلك تصرف الداعية تجاه خلاف القادة، ونهج المستجد أمام خلاف القدماء، وسبيل الاتباع عند اختلاف الأمراء، إن الغاية الاشتغال بما يعنى، والاستغناء عما لا يعنى، ففى ذلك الأجر والمثوبة، وفى عكسه الفتنة والبلاء 0
زلة العالم
ولذلك لزم أن يكون الحذر شديداً من زلة العالم، والتحوط كثيراً من خطأ القائد، وعلى التابع لهما أخذ الانتباه التام واليقظة الكبيرة من الاقتداء بخطا هذا وزلة ذاك، (وكان معاذ بن جبل – رضى الله عنه- يقول فى خطبته كثيراً : إياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقول المنافق الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نوراً، قالوا : وكيف زيغة الحكيم؟ قال : هى كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفئ وأن يراجع الحق000)0
وكان أحد التابعين يقول عن الاقتداء بالحسن البصرى، وابن سيرين، وهو يوصى ابنه (إن أخذت بشر ما فى الحسن ، وبشر ما فى ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله ) 0
أما الإمام الغزالى فقد حذر من ذلك أيضاً، وقال : إن ذنوب العالم قد تكون صغيرة إلا أن ضررها قد يكون كبيراً، ثم أردف قائلاً :
(فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموتمن العالم ويبقى شره مستطيراً فى العالم أياماً متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه)( )0
ويبنى على وجود زلات العلماء عدم اعتبارها من الدين، أو من المسائل الشرعية التى يؤخذ بها اعتبارها اجتهاداً، وإنما هى آراء مهدرة لا قيمة لها، وكذلك ليس المقصود هنا بالآراء الاجتهادية التى تصدر عن القادة، والواجبة الاتباع على أساس الطاعة الشرعية فيما لا يتعارض مع نص شرعى، وإنما المقصود عدم الاقتداء بالأكابر فى الزلات والعيوب والنقائص التى يعرف من الشرع أنها زلات وعيوب ونقائص، والأصل فى التابع طالباً كان أو داعية تجاه العالم أو القائد أن يتبع القاعدة التالية 000 وهى :
(إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له 00 كما أنه لا ينبغى أن ينسب صاحبها على التقصير أى : إذا بذل غاية وسعه واجتهاده –ولا أن يشنع عليه، ولا يتنقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقتضى رتبته فى الدين)( )0
وهذا المنهج الصواب عند السلف الذى لابد للدعاة من استيعابه فى معاملة العلماء والنظر إلى أخطائهم0
التماس الأعذار 00 بالأسباب
يتعرض الإنسان – ومنذ طفولته- إلى تركيبة متشابكة من العوامل والمؤثرات التى تؤدى إلى تكوين مجمل خصائصه الذاتية، ومن هذه العوامل مجموعة الخصائص الفطرية كالذكاء والموهبة، وقابلية الذاكرة، والاستيعاب اللغوى، وسرعة الإدراك، والقدرة العددية، ونظائرها، وكذلك مجمل الخصائص والقدرات الآلية كدقة التحكم، وتوقيت رد الفعل، وسرعة الاستجابة وأشباه ذلك، ومجمل الخصائص الإبداعية كالتفكير التباعدى، والتقويم، والإدراك، وأشباه ذلك، ويضاف إلى الخصائص الفطرية مجموعة العوامل البيئية كالحضارة، وطريقة تربية الوالدين، ثم يأتى دور العوامل الاجتماعية كنمط الحياة، والعزلة والخلطة، وهل للشخص أشقاء أم لا، وطبيعة أساتذة كل مادة خلال حياته الدراسية، ثم بعد ذلك المجموعة المتشابكة من العوامل المكتسبة من تأثره بالمحيط والأفراد والأجواء والعائلة، والثقافة الذاتية ونوعها وكميتها، ثم طوارئ الحياة كالفتن والزواج والطلاق والمشاكل السياسية وطبيعة البلد، وغير ذلك مما يشكل إحصاؤه صعوبة واضحة، والإنسان بعد ذلك كله نتيجة لمثل هذه المؤثرات فى خصائصه وصفاته وقدراته0
إن إدراك هذه الحقيقة تجعل المنصف يعذر أخطاء وعيوب أهل الفضل والأكابر، كما أنه لا يبالغ فى مدحهم والثناء على عبقريتهم، فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد كل هذه الأسباب ليخلص الإنسان بخصائص ومميزات ومواهب معينة، ولابد من الناظر لميزات كل إنسان أن يسارع إلى التماس العذر له عند رؤية بعض النقائص لأن المنظور إليه إنسان قد تعرض لأسباب النقص، فكم من قائد ملهم يفتقد الخطابة والكتابة لعجز فطرى، وغير ذلك مما يمكن القياس عليه ويعتذر به عن النقص عند أهل الفضل والمعروف، رغم أن هذا ليس تبريراً يمنع أهل المعروف من الاستزادة من الخير، والصعود فى سلم المعروف، والارتقاء فى المعالى، ودفع النقائص، وقبول النصائح، ولكنها حقيقة حياتية يجب أن لا تهمل فى النظر إلى الناس 00
اختلاف الفهوم
ومن التماس العذر، أن يعلم الداعية أن العقول تتفاوت فى مداركها، وتتباين فى أفهامها، إضافة إلىعوامل الفطرة والبيئة وجملة العوامل المكتسبة، مما يجعل بعض الدعاة يفهم شيئاً ويقصر فى فهم أشياء كما أنه يعلم أشياء وقد يجهل أبسط الأشياء :
(وما أكثر تفاوت الناس فى الفهوم، حق العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير فى الأصول والفروع، فترى أقواماً يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس 00)( )
وقد ثبت فى الدراسات التربوية المعاصرة، أنه لو حضر جمع من الناس يستمعون إلى محاضرة عامة غير تخصصية فإن الثلث منهم فقط يستوعب معظم المحاضرة، والآخرون يكون استيعابهم على درجات متفاوتة، وتقل النسبة كلما كانت المحاضرة أكثر تخصصاً، إضافة إلى أن معظم المعلومات قد تنسى بعد بضعة أيام، كما أن ما يفهمه الشخص أول الأمر هو الذى يستقر فى الذهن، غالباً، حتى ولو تفهم الإنسان فيما بعد خطأ ذلك، ما لم يكن على درجة كبيرة من الوعى والانتباه، وغير ذلك من الأمور التربوية – التى يطول ذكرها وشرحها – مما له أثر على درجة الفهم والاستيعاب، ولكن تذكر هذه الحقيقة هنا لاستفادة المربين والقادة منها فى جعل أفكارهم وأقوالهم فى منتهى الوضوح والصراحة، وبأوضح الأساليب وأبسطها وأن تقدم المعلومات لأهلها فقط، ولا بأس بتكرار الفكرة بأساليب متعددة، وغير ذلك مما هو مبسوط فى غير هذا الموضع (منها مثلاً شروح أحاديث البخارى من كتاب العلم).. وكذلك يستفيد من هذه الحقيقة عموم الدعاة والأتباع فى النظر إلى أقوال أهل الفضل وأعمالهم من القادة والأمراء. فقد تختلف عليهم بعض الأفكار وتلتبس عليهم بعض المفاهيم، خصوصاً إذا كان مستوى صاحب الفضل على درجة عالية من الكفاءة اللغوية أو المقدرة العلمية، وكذلك لابد من الانتفاع من هذه الحقيقة حتى فى مخاطبة الأكابر وأهل الفضل، فقد يكون فضلهم فى جانب، ولكن فيهم ضعف فى جانب آخر0
ولذلك وجب مخاطبة الناس على قدر أفهامهم –حتى ولو كانوا أصحاب فهم وفضل – فى المسائل التى لا يمكن لهم إدراكها لضعف فى الفهم، أو لقلة التجربة حتى لا تكون فتنة لقول ابن مسعود: (ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تدركه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم)). لذا كان إعطاء كالعلم على قدر إدراك الأكابر له0
وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم ومعرفتهم وحاجتهم وما أمر به أعيانهم فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو عن فهم دقيقة ما يجب على القادر على ذلك 00)( )0
وهذه قاعدة أخرى فى إيراد الأفكار وإصدارها مما له علاقة بمعاملة الأفاضل، مما يحقق المصلحة المطلوبة من عملية أداء الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ومن ترتب مفسدة عليها، ويحقق وحدة الصف، وقوة الرابطة، دون حصول فتنة، أو غلبة هوى0
وجود الأخطاء 00 مظنة التواضع
إن كل ابن آدم خطاء، كما أخبر عن ذلك المصطفى  ولذلك جرى الخطأ على ابن آدم بل ووقع ذلك على الأنبياء أيضاً، ولكن الله عز وجل يصحح بعد ذلك الخطأ، ليثبت العصمة لأنبيائه، وتبقى عدم العصمة على غيرهم، وشاءت إرادة الله تعالى أن تجرى سنة الخطأ على اجتهادات الصحابة، كما تجرى على علماء الأمة، ولذا كان من المعلوم فى أبواب العلم، وأقوال السلف أنه ما من إمام إلا وله زلات واضحة، أرادها الله تعالى حيث يثبت الصواب من جهة أخرى. وقد كرر شيخ الإسلام الذهبى هذه القاعدة عند إيراد الجرح والتعديل لكثير من الأئمة، ومنها ذكره لقول أبى موسى المدينى :
(أشار بهذا إلى أنه قل إمام إلا وله زلة، فإذا ترك لأجل زلته ترك كثير من الأئمة، هذا لا ينبغى أن يفعل)( )0
كما وأن وجود الزلة لأى عالم مظنة تواضعه لاعتقاده أنه مهما بلغ من العلم والفضل فسوف يقع فى الخطأ، ولعل ذلك من حكمة الخالق عز وجل، وحتى لا يؤخذ العلم من شخص معين، أو أن يقدس شخص ما، مهما بلغ من العلم أو الزهد، وأن يتجه المسلمون دوماً إلى المنبع الصافى، والمورد العذب، وأن يكون استقاء العلم فى كل زمان ومكان من القرآن الكريم والسنة المطهرة، كما أن الاقتداء لا يكون إلا بالمصطفى  حتى يكون الخير مستمراً فى أمته حتى قيام الساعة 0
إن شعور العالم بجريان الخطأ عليه، وإحساس العامل بحصول المعصية منه، وتوقع الأمير ظهور العيب فيه، وتأمل القائد صدور الغلط عنه، سيقود كل ذلك إلى تواضع كل منهم، وطلب النصح من الغير، والانتباه إلى النفس، والاستشارة المستمرة، والتعاون مع الآخرين لطلب النصح، وفوق ذلك كله طلب الإعانة من الله عز وجل للتوفيق وسداد الرأى، واستخارته فى كل الأمور، وكذلك فإن العالم يستزيد من العلم لدرء النقص، ويستكثر العامل للخير من العمل لتغطية الخطأ، ويشمر الزاهد عن ساعد الجد ليدرأ الرياء، ويجتهد القائد فى أداء الواجب وحفظ الحقوق خوفاً من حصول الضعف، وهكذا يشمر أهل الفضل، والمعروف للاستزادة من كل خير بسبب مظنة الخطأ والضعف والزلل، وبالتالى فإن سنة الخطأ من حكمة الله تعالى، ومن تمام فضله على البشر0
رب العزة يتجاوز عنا لخطأ
إن الله عز وجل فى عليائه قد تجاوز عن خطأ المجتهد سواء فى المسائل العلمية أو العملية، لعلمه بأن الخطأ جار على البشر، والتهديد بالعقاب يعطل عملية الاجتهاد التى لابد منها لأمور المعاش والمعاد، ولذلك جرت المسامحة لكل مجتهد – كما قال شيخ الإسلام- حتى 00
( ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفاً للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله اقوال اجتهد فيها، أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، بل قد قال تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا (البقرة : 286) قال تعالى : ((قد فعلت))، وكذلك فى سائر الدعاء، وقال النبى  : ((إن الله تجاوز لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).. فالمفتى والجندى والعامى إذا تكلموا بالشئ بحسب اجتهادهم، اجتهاداً أو تقليداً قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ عملهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين، وإن كانوا قد أخطأوا خطأ مجمعاً عليه 00)( )0
فإذا كان الله عز وجل يسامح العلماء على اجتهادهم فى دينه، فإن المجتهد فى الأعمال والآراء التى لا تستند على نصوص أولى بالمسامحة، وأقرب إلى مغفرة الله وحفظه، بل وإن سعة رحمته تعالى تثيب على هذا الاجتهاد، ولو كان خاطئاً، وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يسع الناس كف ألسنتهم وتصفية قلوبهم، وتحسين معاملتهم عند النظر إلى اجتهاد أصحاب الفضل والعمل والعطاء0
غنم بلا غرم
إن الأصل أن كل مكلف محاسب عما يفعله أو ينطق به يوم القيامة، ولن يضيره خطأ الآخرين، ولما كانت غاية المسافر إلى ربه أن يصل سالماً وغانماً، فعليه الاستفادة من الآخرين بمقدار ما ينتفع منهم فى آخرته، ولذلك فإن النصح للغير من أجل الأجر المترتب على ذلك مع الاستفادة من الغنم، فما على المكلف شىء من الغرم، بل وما عليه بعيب الأكابر إذا أرشدوه إلى الخير، ما يضيره نقص الأماثل إذا أبعدوه عن الشر فهو كمن (000يطلب مهرباً من سبع ضار يفترسه، لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وضراوة سباع النار بالجهل الله تعالى أشد من ضراوة كل سبع، فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائناً من كان00)( )0
فلينظر الداعية إلى حسن التشبيه، فمن يهرب من النار أو السباع هل ينظر إلى من هو الناصح؟ ومن يدلك على الطريق فهل يهمك أن يكون سالكاً معك أو لا، فكيف بمن يدلك على طريق الجنة، ويحذرك من طريق النار، أو ليس من سنن الحياة أن العسل لا يجنى إلا وقد يصاب المرء بشىء من لسع النحل وشذى الزهور لا يشم إلا بالآم الأشواك إذ إن حلاوة العسل مشوبة بإبر النحل، وأريج الورود محاط بأشواك الحماية، ولكل جمال شائبة تظهره ولكل تمام نقص يبديه0
حياء الخور
قد يظن البعض أن تطبيق الموازين السالفة، تقتضى السكوت عن واجب النصح، وتبليغ الموعظة، وهذا فهم خاطئ فالميزان الآخر أن على الداعية وغيره أن يجعل عدم النصيحة من باب الحياء، فهذا من الخور والضعف، والحياء خلق رفيع، كما أن النصيحة واجبة، ولا تعارض بينهما، والقاعدة فى ذلك، ما قاله النووى رحمه الله :
((فيجب على الإنسان النصيحة، والوعظ، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر لكل صغير وكبير، إذا لم يغلب على ظنه ترتب مفسدة على وعظه، قال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن00(النحل : 125)0
وأما ما يفعله كثير من الناس من إهمال ذلك فى حق كبار المراتب وتوهمهم أن ذلك حياء فخطأ صريح، وجهل قبيح، فإن ذلك ليس بحياء، وإنما هو خور ومهانة وضعف وعجز، فإن الحياء خير كله، والحياء لا يأتى إلا بخير، وهذا يأتى بشر، فليس بحياء، وإنما الحياء عند العلماء الربانيين والأئمة المحققين، خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق)( )0
وإبداء النصيحة بشروطها وضوابطها، واجب شرعى لابد من الأخذ به، وإلا ضاعت الموازين، وتبددت القواعد وانتشرت الأخطاء بل ويصبح كبار المراتب من القادة والأمراء أسرى لأفكارهم وتصوراتهم اعتقاداً منهم أنهم على الصواب الدائم، وموقف الاحتجاج بالحياء فوق أنه ضعف ومهانة، فهو مظهر من مظاهر حب الذات والخفو عليها من النقد والملامة، ودليل على الاعتزاز بالنفس والشفقة عليها من العتاب والرد، فالمؤمن الربانى واثق وشجاع، يقدم النصيحة مع الاحترام والنقد مع الشفقة، والرد على المودة، وكل هذه الأمور من المعروف لا يمكن أن تتعارض مع الحياء، لأن الحياء من الخير أيضاً، ولا تعارض بين خيرين00
(وأما كون الحياء خيراً كله، ولا يأتى إلا بخير، فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحى أن يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف فى العادة، وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم أبو عمرو بن الصلاح –رحمه الله- أن هذا المانع الذى ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقى00)( )0
ولابد من مراعاة التوسط عند النصح، حتى تتحقق الغاية منها، وإلا فالإنقاص منها يجعلها غير مفهومة، والزيادة عليها تفوت المصلحة منها0
(وإنما يلزم من حق الإخاء بذل المجهود فى النصح، والتناهى فى رعاية ما بينهما من الحق، فليس فى ذلك إفراط وإن تناهى، ولا مجاوزة حد وإن كثر وأوفى، فتستوى حالتهما فى المغيب والمشهد، ولا يكون مغيبها أفضل من مشهدهما وأولى، فإن فضل المشهد كرم واستواءهما حفاظ 000)( )0
وأخيراً 00 عليك نفسك
لما كان هدف السالك إلى الله تعالى الوصول إلى الهدف بالحصول علىرضا الله تعالى، فيجب أن لا يلتفت إلى العوائق المثبطة، أو العلائق المؤخرة، بل يؤنو ببصره إلى أمام لا يلوى على شىء، ويعجل إلىربه ليرضى، ويسارع إلى جنة عرضها السموات والأرض، ولما كانت إطالة النظر فى معايب الناس من عوائق السير إلى الله تعالى، كان تركها والبحث عن مساوئ النفس أولى، فعلى المتعلم أن يأخذ من العالم علمه دون إشغال نظره بعيوبه، وعلى التابع أن يتبع القائد بالمعروف احتساباً للأجر دون البحث عن نيته، وعلى الداعية إبلاغ دعوته أداء للواجب دون استقصاء لنقائص الأمير، وعلى التلميذ التقليد فى المحاسن وتعلم الفضائل طمعاً فيما عند الله تعالى دون صرف الفكر فى زلات مربيه، وهكذا الأمر كحال التلميذ فى المدرسة مع أستاذه، يبذل همه وجهده لفهم الدرس، وتذوق حلاوة النتيجة دون الاهتمام بهندام الأستاذ ومظهره0
إن هذه المنزلة فى مدارج السالكين إلى الله هى منزلة المحاسبة، وبدايتها مقايسة الذنب مع نعمة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة التفاوت، ويعلم العبد فيها عظمة الربوبية ورحمة الخالق، وحاجته إلى مغفرته مما ينسيه قصور الناس، ومعايب الآخرين، بل إن المحاسبة تذكره بفضل الله عليه ومنته دون غيره من العباد، وأن لولا هداية الله لما زكت نفسه، ثم تدعوه المحاسبة إلى إساءة الظن بنفسه، ولا يسئ الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن الظن بنفسه فهو أجهل الناس بنفسه، بل عليه أن يفرق بعين العلم بين نعمة الإحسان واللطف وبين النعمة التى فيها الاستدراج، وهذه المحاسبة تدعوه أيضاً إلى التمييز بين ما عليه لله، وما له، ومن تمام هذا التمييز، أن يعلم أن رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه ونسيان عيوبه، مما أدى به فراغه ورضاه عن نفسه إلى الاشتغال بعيوب الآخرين، وهكذا تفعل المحاسبة الحقة فى نفس العبد وأنه إذا عرف نفسه انشغل بها عن غيره، ومن رأى عمله عرضة لكل آفة ونقص رأى تفوق غيره عليه، وخشى على نفسه0
(ولا يكمل هذا المعنى إلا بأن تربأ بنفسك عن تعيير المقصرين، فلعل تعبيرك لأخيك بذنبه أعظم ذنباً من ذنبه، وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس وشكرها، والمناداة علها بالبراءة من الذنب، وإن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع، والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى، الكبر والعجب، ووقوفه بين يدى الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب، أنفع له وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها، والاعتداء بها والمنة على الله وخلقه بها، فما أقرب هذا العاصى من رحمة الله وما أقرب هذا المدل من مقت الله فذنب تذل به لديه أحب من طاعة تدل بها عليه، وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً، خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكى وأنت مدل، وأنين المذنبيين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخراج به داء قاتلاً هو فيك ولا تشعر00)( )0
(13) من آداب الطريق
لقد قيل: إن للسفر آداباً تبتدئ من رد المظالم وإعداد النفقة وتنتهى بآداب الرجوع بما تتضمنه من ذكر ودعاء، أو جلب الهدايا للأطفال والنساء، وبينها جملة آداب كثيرة ، منها :
( 00 طيب الكلام 00 وإظهار مكارم الأخلاق فى السفر، فإنه يخرج خبايا الباطن، ومن صلح لصحبة السفر صلح لصحبة الحضر، وقد يصلح فى الحضر من لا يصلح فى السفر000 والسفر من أسباب الضجر، ومن أحسن خلقه فى الضجر فهو الحسن الخلق000 وتمام حسن خلق المسافر الإحسان إلى المكارى، ومعلونة الرفقة بكل ممكن، والرفق بكل منقطع00 وتمام ذلك مع الرفقاء بمزاح ومطايبة فى بعض الأوقات من غير فحش ولا معصية00)( )0
ولا يخلو –كذلك بالمثل- سفر الدعاة فى القافلة الميمونة، ورحلتهم فى قطار الدعوة من الحاجة لبعض هذه المعانى أو كلها، فبين سفر الحقيقة وسفر المجاز تداخل وتشابه، يدل على وحدة الكون، ووحدانية الخالق، ومن هذا التشابه ما خلقه سبحانه وتعالى مما يحتاجه البشر من الأخلاق وسائر الأحوال، فاقتضت حكمته أن تكون الأخلاق فى الأعمال الظاهرة من سفر الحقيقة، مشابهة ومناظرة لأعمال الباطن التى يمثلها سفر المجاز برحلة الدعاة فى قطار الدعوة، إذ يمكن أن يقال عن آداب سفر الدعاة: إنهم فى سفرهم بحاجة إلى طيب الكلام، وحسن المعاملة مع الخلق، كى ينضموا لإعطاء الصورة الوضيئة أمام الناس للحاق بهم، بل هم أحوج إلى أخلاق الأخوة، وآداب الصحبة بينهم كى يتم سفرهم براحة وأمان، ويصلوا إلى مقصودهم بنجاح، ومن صلح للسفر مع الدعاة فى قطار الدعوة صلح للعيش مع الخلق، وللقيام بنصحهم وإرشادهم، فقد يكون المؤمن صالحاً فى نفسه ولكنه لا يصلح للحاق بركب الدعاة0
من تمام خلق الداعية –قياساً على سفر الحقيقة- الإحسان إلى قائده للخير بالمعروف، والدعاء لمعلميه بالتوفيق، والإحسان إلى كل من قام بواجب وإرشاده لقافلة الدعاة، وكذلك معاونة إخوانه فى الدعوة، والرفق بالمنقطعين عن القافلة، والحديث معهم بالحكمة والموعظة المستمرة مع الأحباب كلهم بحسن الخلق، وتمام الوفاء، ومقتضى المروءة، وكل ما هو مشهور متداول من أخلاق المسلم0
ومع نظائر هذه الأخلاق التى تؤخذ بالقياس، فهناك آداب على الطريق لها خصوصية لابد منها للداعية السائر فى الركب 0
تعاريف العارفين
(علم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الخطأ والخلل، وهو شعبة من الأدب العام)( )0
هذا هو الأدب، وسمى بالعلم لأنه يؤخذ بالاكتساب والمعرفة، ويعلمه المرء بالتعلم، وإن كان كل إنسان جبل على بعض الآداب بالفطرة، وما على كل مسلم إلا أن يكتشف ما جبل عليه، ويحمد الله على ما وهبه من ذلك، وتقويم بعضها حتى يصل إلى مرضاة الله تعالى0
تيه الجاهلية – ومرفأ الإسلام
وخلاصة الأمر أن الأدب عند علماء الأمة وسلفها، ما اصطلح عليه فيما بعد بالأخلاق وماهيتها، ومصدرها وقياسها، فمنه من جعلها مطلقة وآخرون قالوا بنسبيتها، ومنهم من فصلها عن الغايات، وآخرون قالوا بنسبيتها، ومنهم من فصلها عن الغايات، وآخرون جعلوها جزءاً من المفاهيم والسلوك، ومن الفلاسفة من ساوى بين البشر والأنبياء، ومنهم من أنزل البشر إلى عالم البهائم، وهكذا كان التخبط من عصر أفلاطون وأرسطو، وحتى راسل وديوى، مروراً بكانت ودور كهايم0
والعقيدة وحدها ميزت معنى أخلاق المسلم وحددت مصدرها، وأوضحت طبيعتها، فكانت فى النهاية هى الأدب الذى يحاول المسلم أن يصل إلى المستوى السامق فيه، ويتمثل بحقيقته:
(وحقيقة الأدب: استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب : استخراج ما فى الطبيعة من الكمال، من القوة إلى الفعل، فإن الله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التى جعلها فيه كامنة كالنار فى الزناد، فألهمه ومكنه، وعرفه وأرشده، وأرسل إليه رسله، وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التى أهله بها لكماله إلى الفعل، قال الله تعالى : ونفس وما سواها(7) فألهمها فجورها وتقواها(8) قد أفلح من زكاها(9) وقد خاب من دساها (الشمس : 7: 10)0
فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدلالة على الاعتدال والتمام، ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى00 ثم خص بالفلاح من زكاها فمناها وعلاها، ورفعها بآدابه التى أدب بها رسله وأنبياءه، وأولياءه، وهى التقوى00)( )0
فإلى معرفة بعض هذه الآداب ليتمثل بها الدعاة :
مودة وألفة
ومن آداب الطريق الألفة مع الركب لأن الله بنافذ قدرته، وبالغ حكمته، قد خلق الناس بتدبيره، وفطرهم بتقديره، فكان من لطائف التقدير، أن جعل البشر محتاجين لبعضهم، ليكون الخالق وحده بالغنى منفرداً، وبالقدرة مختصاً، فكان كل إنسان محتاجاً لأخيه، ولابد له من الاستعانة بغيره، وإن كان هذا الأمر فى أمر الدنيا محموداً، فهو فى أمور الدين أكثر وجوباً 0
والألفة لا تتم إلا بعدل الداعية مع غيره، إذ لابد أن يحمل نفسه على المصالح، ويكفها عن القبائح، ويقف مع إخوانه دونما تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز جور، والتقصير ظلم، وهذا العدل لا يتم إلا بقلة الطمع، وزيادة الورع، والداعية إن لم يكن آلفاً مألوفاً قد يؤذى من قبل الغير إما حسداً لنعمته، أو عدواناً عليه، فهو بالألفة ينتصر على حاسديه، ويمتنع من شانئيه، وبالألفة تجتمع عليه القلوب، ولا تنفض عنه النفوس، وبها يجتمع الشمل ، ويزول الذل0
والألفة تتم بالمؤاخاة الصادقة فى طريق الدعوة، فإن إخوان الصدق زينة فى الرخاء، وعصمة فى البلاء، وإن أخوة الطريق إذا تقوت روابطها بما هو مكتسب كالتعارف والائتلاف، والتشاكل فى الفكر والقناعة، والانبساط والمؤانسة، وخلوص المودة والثقة، والمعاضدة والصداقة، والمحبة والاحترام، حتى تصل مراحل الألفة إلى أقصاها0
(وليس لما جاوزها رتبة مقدرة، ولا حالة محددة، لأنها تؤدى إلى ممازجة النفوس، وإن تميزت ذواتها، وتفضى إلى مخالطة الأرواح وإن تفارقت أجسادها، وهى حالة لا يمكن حصر غايتها، ولا الوقوف عند نهايتها000)( )0
وبدون الألفة يقل الترابط، وإذا ضعف الرباط، صعب المسير وبعدت الشقة، ولذلك جعل دعاة هذا العصر (الأخوة) من شروط بيعها، وقالوا عنها :
(أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأعلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتغرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار00)( )0
المبادئ 00 لا الرجال
ومن مقتضى الألفة، المودة والاحترام، وعدم تحزب البعض للبعض، فالدعاة هم معلمو الناس الخير، فلا ينبغى لهم التحزب للآراء، والتعصب للرجال، وإنما خدمة المبادئ السامية، وأداء واجب الأخوة بينهم، والتعاون مع كل صاحب فضل لأداء واجب النصيحة للناس، وتبليغ الدعوة لهم، وإشاعة روح التعاون والوحدة، ومنع التصدع والفرقة، وبالتالى أن لا يكون حب الناس لداعية ما، وما فتحه الله عليه من التفاف الناس حوله، مبرراً لتحزيب الخلق حول شخصه، وتجميع الناس حول ذاته، بل أن يعاون غيره من أجل أداء الواجب، وواجب الدعاة تعليم الخير0
ولعل كذلك من الحرص على الألفة، وما تؤدى إليه من التناصر والتعاون، أو الانتصار للرجال، بل أن يكون الانتصار للحق وحده، والتحزب لأهل الخير إنما هو للخير الذى فيهم، وكراهية أهل الباطل إنما هو لسبب الباطل الذى يدعون إليه، وكل إنسان ينظر إليه بمقدار الخير الذى فيه فيوالى فيه، وإلى قدر الشر الذى فيه فيعادى عليه0
وقياس الناس والأفكار والمواقف لابد أن يكون بميزان الإسلام، ووفق المبادئ يقاس الرجال، ولابد من الأخذ بالمنهج الإسلامى عند النظر إلى الأشخاص والمواقف، وإن أقدار الرجال تقاس بمقدار الاقتراب أو الابتعاد عن المبادئ والشريعة باعتبارها عقيدة التوحيد البعيدة كل البعد عن الشرك، أما أن تقاس المبادئ بالرجال، فذلك فى الأفكار الجاهلية والمبادئ الأرضية، بل وعند بعض أصحاب البدع، تكون صحة الآراء تبعاً لمنزلة الأشخاص، وتقاس قدسية المبادئ بالطبقة التى ينتمى إليها القائل، إلا أن أهل التوحيد قالوا :
(اعرف الحق تعرف أهله)، (اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال)0
وإن كان هذا المبدأ من قواعد الشريعة، ومبادئ التوحيد، فسوف تظل المبادئ والأفكار الصحيحة هى الأساس الذى يقاس عليه الناس، والأصل الذى يرجع إليه، والقاعدة التى يبنى عليها، وسوف يظل الرجال –مهما بلغوا- على طرفى خط الاستقامة ابتعاداً وقرباً، زيادة أو نقصاً، فلا يجرى منهم الكلام، ولا يتوقع منهم التمام، إلا المثل الأعلى المتمثل بالمصطفى  وعلى كل داعية أن ينظر إلى الأمام، ويضع المنهج الربانى نصب عينيه، ولا يلتفت للعبيد، ولا لأخطاء العبيد، ولا لمحاسن العبيد، ما دار القياس الصحيح أمامه موجوداً ، والمثل الأعظم رائداً 0
إفراط المحبة 00 تفريط
ومع الألفة المطلوبة، فإن المبالغة فى المحبة إفراط لا ينسجم مع قواعد العدل، بل قد يدعو لتجاوز العدل والإنصاف، ثم التعصب والانحياز، فكما أن الشريعة قد نهت عن التفريط فى الذم، فقد نهت عن الإفراط فى المدح والشريعة تنهى عن التطرف فى كل أمر، وإن أمر الله تعالى عدل وقسط بين الإفراط والتفريط، وما ضاعت الشريعة، أو ظهرت البدع إلا بالتقصير فى بعض المسائل أو الغلو فى بعضها الآخر 0
ومع القول بحسن الأخوة، وبضرورة الألفة، فإن الإفراط معاكس للعدل الذى أمرت به الشريعة، وما العدل إلا التوازن، لأن الإفراط فى المحبة داع إلى التقصير فى حق الغير، أو أنه مظهر من مظاهر التزلف والتكلف، وكل زائد عن الحد يغلب انقلابه إلى الضد 0
(وينبغى أن يتوقى الإفراط فى محبته، فإنه الإفراط داع إلى التقصير، ولئن تكون الحال بينهما نامية، أولى من أن تكون متناهية000)( )0
والإفراط فى المحبة قد يعنى أحياناً إعجاباً حقيقياً، وليست من التكلف، ولكن هذا الأمر خاطئ أيضاً فليس هنالك شخص بهذه القدسية، ولكل شخص أخطاء، وقد تكون خفية، ولكنها إذا ظهرت وبانت فإن أول ضحايا الإعجاب هو المعجب نفسه لما يصيبه من خيبة الأمل0
العدل : ميزان الشريعة
والخلاصة : أن ميزان الشريعة هو العدل فى كل الأمور، فبالعدل قامت السموات والأرض، ولأجل العدل أنزلت الشرائع ليقوم الناس بالقسط، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، أو من الحكمة إلى العبث، أو من المصلحة إلى المفسدة، فهى ليست من شريعة الله، وإن أدخلت بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله فى أرضه، وحكمته الدالة عليه، ولذلك كان من العدل النظر إلى ما يملكه الإنسان من الخير والشر، والبر والفجور، والحسنات والسيئات، وأن لا يبخس الناس أشياءهم لأن الله يأمر بالعدل والإحسان، وكل مؤمن لا يخلو من الخير الكثير.. بل يجب أن يتعدى هذا الميزان لأهل البدع والأهواء، ما داموا موحدين من أهل القبلة، فيجب أن يمدحوا بما هم عليه من الشر، وانظر إلى قول إمام الجرح والتعديل الذهبى، لما لاحظ أن الغلاة فى كل مذهب :
( قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحمية، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة كثرة المحاسن00)( )0
فإذا كان العدل والإنصاف يقتضى النظر حتى إلى محاسن أهل البدع، مع إنكار بدعتهم، والبراء إلى الله تعالى مما هم فيه، لأن الأصل إنكار المنكر والاعتراف بالخير، وما الولاء لأهل الخير والبراء من أهل الشر لا بقدر ما عندهم من الخير والشر، وأصحاب المعروف، ولا يكون قليل الشر تبريراً لنسيان كثير الخير0
وتواصوا بالحق
وميزان العدل قد لا يتحقق إلا بالتواصى بالحق فى الجماعة المسلمة، حيث يوصى كل داعية أخاه بالمعروف، وينبهه إلى الخير، ويأمره باجتناب النواهى، والمؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، ولابد من أن يأخذ التواصى بالحق مظهر الحوار البناء، والنقاش المثمر، والنقد الموضوعى لجميع الأعمال الشخصية منها أو الجماعية، وبالتالى يظل الصف نظيفاً باستمرار، وتتعرض الجماعة للإصلاح الدائم، وتجلب القافلة البركة للمسافرين فيها، إذ ستكون أخطاؤهم فى حد أدنى مما لو كانوا خارجها، ولهذا كان حرص الحكماء دوماً على أخوة الطريق التى تنبه على الخير، فهذا عبد الملك بن مروان مع فقهه، وسعة ملكه يقول: (كل لذات الدنيا قد بلغت، فلم يبق إلا أخ يسقط عنى مؤونة التحفظ)( )0
ورويت عنه أيضاً : (وقد قضيت الوطر من كل شىء إلا من محادثة الإخوان فى الليالى الزهر، على التلال العفر)( )0
والحوار –فوق أنه مفيد ومثمر للعمل الدعوى – فهو مما يحتاجه الداعية، تماماً كحاجة المسافر لحديث رفيق السفر، لقطع الملل، ودفع الضجر، وتهوين البعد، لأن الداعية هو الآخر بحاجة إلى من يدفع عنه كلل النفس، ومتاعب العمل، ونصب البدن، ومن جميل ما قيل قول سليمان بن عبد الملك :
( قد ركبنا الفاره .. ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شىء أحوج منى إلى جليس يضع عنى مؤونة التحفظ، ويحدثنى بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب 00)0
(00 وهذا أيضاً حق وصواب، لأن النفس تمال، كما أن البدن يكل، وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح، وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، وكذلك لابد للنفس أن تتطلب الروح عند تكاثف الملل الداعى إلى الحرج00)( )0
ومن مقتضى الحوار فى الجماعة المؤمنة النقد البناء من أجل معالجة الأخطاء، ووضع العلاج المناسب لكل خطأ، ومعرفة العيوب ودراسة أسبابها وعللها، ثم القضاء على تلك الأسباب والعلل، فتكون النتيجة المزيد من صفاء الفرد ثم صفاء الجماعة، ورقيها وسعيها نحو الكمال0
الرد لا يقتضى الخصومة
وقد يفهم بعض الدعاة أن الرد أو النقض مقتضاه الخصومة، وأن الحوار معبر للخلاف، وهذا منهج مخالف للفطرة البشرية من جهة، ومن جهة أخرى، وهذا منهج مخالف للفطرة البشرية من جهة، ومن جهة أخرى لا تقره قواعد الشريعة، فلا يزال البشر يختلفون لاختلاف الفهوم والعقول، وتباين المعرفة والتجارب، وتنوع الأذواق والنظرات، فكان لابد من الخلاف، ولابد من اتخاذ المواقف من الآخرين فيما يظنه الشخص أمراً غير صائب، وبالتالى لابد من النقد أو الملامة، وكذلك الرد والمناظرة، وقد أجازت الشريعة ذلك، بل وندبت إليه لضرورته فى تبيان الحق، وإيضاح السبيل، ولكن هذا النقد وذلك الرد يجب أن لا يقود إلى الخصومة، ولا أن يؤدى إلى الكراهية، بل الأصل بقاء المودة والألفة، ما دامت النية لله تعالى، والمقصد تبيان الحق، والوصول إلى الخير، وقد قيل عن صحابة رسول الله  أنهم :
(كانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة، وأخوة الدين)( )0
وعلى هذا المنهج سار العلماء والمفتون، ورد بعضهم على بعض، ولعل من أجمل الأمثلة فى ذلك مراسلات الإمام الليث بن سعد مع الإمام مالك، والتى نقتبس قليلاً من بعض رسائل الليث خشية الإطالة، حيث كتب إليه رداً على كتاب منه 00 فقال :
(قد بلغنى كتابك تذكر فيه صلاح حالكم الذى يسرنى، فأدام الله ذلك لكم 00 وذكرت نظرك فى الكتب التى بعثت بها إليك، وإقامتك بها إليك، وإقامتك إياها00 وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت خيراً00 وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتانى عنك إلى ابتدائى بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندى موضوع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن رأيك فينا جميلاً 00)0
ثم ذكر له أجوبة عن بعض المسائل الشرعية ورأيه فيها، وقبول النصح فى بعضها، ثم ذكر سبب خلافه مع ربيعة، ومع ابن شهاب الزهرى 00 فقال فيهما :
( وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين، فيما أنكرت تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة فى الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة.. وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه .. فربما كتب إليه فى الشىء الواحد على فضل رأيه وعلمه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذى مضى من رأيه فى ذلك 000)( )0
كدر الجماعة … خير
والحوار بين الدعاة مهم، لأنه تلقيح للأذهان، وتجديد للآراء ، وفيه تقويم للخطأ، وإصلاح للزلل، وتعاون على المعروف، والعلم النظرى لا يصل إلى مرحلة الكمال ما لم يتزين بالعقل، فالعلم مضرة على الأحمق، والعقل لا يأتى إلا بتربية الرجال، ولقد سئل الشافعى –رحمه الله- عن العقل هل يولد به المرء ؟! 000
(فقال : لا ، ولكن يلقح من مجالسة الرجال، ومناظرة الناس )( )0
وهذا الخير قد لا يحصل عليه المرء إلا بشىء من نصب المجالسة، وتعب المدارسة، وما قد يحصل من آلام الخلطة، وكوادر الرفقة، ولكن النفع مع الجماعة – كثير رغم الكدر- ولقد قيل عن ابن عباس – رضى الله عنهما:
( قضم الملح فى الجماعة، خير من أكل الفالوذج فى فرقة)( )0
كما روى عن الإمام على –رضى الله عنه – قوله : ((كدر الجماعة خير من صفاء الفرد)). فالأجر من مخالطة الناس، ودعوتهم للمعروف مع الصبر على المكابدة والأذى، أفضل بكثير، وأكبر أجراً عندج الله تعالى من العزلة التى تورث الخطأ، وتقلل العمل، وتزين الشهوات، وبالرغم مما تورثه من صفاء ظاهر، وبعد عن المشقة، وتخلص من آفات الخلطة مع الناس، فهنيئاً لمن كان مخالطاً على سنة المرسلين0
(14) وآداب أخرى
لقد سبق الكلام عن جملة من مجموعة آداب يجب أن يتحلى بها الداعية فى قطار الدعوة، مع إخوانه من جهة، ومع أهل الفضل والخير فى مجتمعه من جهة أخرى، وخصوصاً بعد التعرف على (أشواك الطريق)، وعلى موازين النظر إلى (أخطاء العلماء)، حتى تتحقق المنهجية الإسلامية فى التعامل، فتؤدى إلى نظافة الصف المؤمن وتماسكه، وتقود إلى وحدته وصفا المدئه، مما يجعله قادراً على أداء مهماته، وتنفيذ أهدافه، ويجمع كل ذلك حسن الخلق، ولقد أمرنا رسول الله  بحسن الخلق، فإنه كان يقول : (( إن خياركم أحسنكم أخلاقاً))0
(( قال القرطبى فى (المفهم) : الأخلاق : أوصاف الإنسان التى يعامل بها غيره، وهى محمودة ومذمومة، فالمحمودة – على الإجمال – أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها، ولا تنتصف لها، وعلى التفصيل العفو، الحكم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى والرحمة، والشفقة وقضاء الحوائج، والتوادد ولين الجانب، ونحو ذلك000))( )0
وحسن الخلق – عند الداعية- يسهل عليه الأمور، ويقرب له القلوب، ويقل به الأعداء، ويكثر بالخلق الأصفياء، وتثمر الكلمة الطيبة، ويسامح عن الزلل، فلابد إذن –للداعية- من طيب الخلق، وسهولة العريكة، ولين الجانب، وطلاقة الوجه، وقلة النفرة، والتبسم دون تكلف، والمزاح دون تبذل، والكف والانقباض فى مواطنه، والمشاركة فى الألم والحزن، وغير ذلك دون إفراط وتفريط0
(فإذا كانت لمحاسن الأخلاق حدود مقدرة، ومواضع مستحقة، فإن تجاوز بها الحد صارت ملقاً، وإن عدل لها عن مواضعها صارت نفاقاً، والملق ذل والنفا لؤم، وليس ممن وسم بهما ود مبرور، ولا أثر مشكور00)( )0
وحسن الخلق بعد تقوى الله تعالى أكثر ما يدخل الناس الجنة، وقد يبلغ به المسلم درجة الساهر بالليل، والظامئ بالهواجر 0
والبر حسن الخلق
وحسن الخلق معنى جامع لكل أنواع البر لما قاله  ((البر حسن الخلق والإثم ما حاك فى نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس))( )0
فيدخل فى حسن الخلق أخذ العفو، امتثاله لقوله تعالى :
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (الأعراف : 99)
( أى خذ الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم، وقال عبد الله بن الزبير 000 أمر النبى  أن يأخذ العفو من أخلاق الناس 00)( )0
ومن حسن الخلق، أن لا يحقر المرء من المعروف شيئاً، ولو أن يفرغ من دلوه فى دلو أخيه، ويتبسم فى وجهه، ويحسن الاستماع إليه، ويبدأه بالسلام، ويبادر بالسؤال عنه وعن أهله وأولاده، ويشاركه فى الأفراح، ويحزن لحزنه، ويأخذ بلين الجانب مع المؤمنين، ويسهل انقياده فى أمور الدنيا، يحسن الاستماع كما يحسن الكلام، قليل الفطنة فى الشر، والبحث عنه، يجيد التغافل عن أخطاء الآخرين، ولا يتبع الزلات، ومنه أيضاً أن يسعى المسلم فى حاجة أخيه، وأن يشفع فى شفاعة حسنة، وألا يعين الشيطان عليه ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويسدى إليه النصح دون شماته أو تغيير، ومن حسن الخلق الذى لا غنى للداعية عنه الانبساط إلى الناس، دون إفراط أو تفريط، فالتهجم والعبوس منهى عنه، والإفراط يشغل عن ذكر الله تعالى، ويقود إلى قسوة القلب، وسقوط المهابة والوقار، والاعتدال فى الانبساط يقود إلى تطييب نفس المتحدث إليه، ومؤانسته، وإزالة الوحشة عنه، فيسهل الإنصات للمتحدث، وينشرح الصدر إليه، وتبلغ الكلمة مقصودها، وقد قال ابن مسعود رضى الله عنه: ((خالط الناس، ودينك لا تكلمنه))، وعنه بلفظ ((خالقوا الناس، وزايلوهم فى الأعمال))0
وعن عمر –رضى الله عنه- مثله، وقال: ((وانظروا ألا تكلموا دينكم))( )0
والمعروف من البر
وأول سجايا الخلق التعامل بالمعروف فى ركب الدعاة، والمعروف مع الصلة هما ركنا البر الذى يوصل إلى القلوب ألطافاً، ويقوى الأخوة محبة وانعطافاً، وبه أمر الله تعالى وقرنه بالتقوى، وتعاونوا عل ىالبر والتقوى (المائدة:2) 0
والمعروف نوعان، قولى وعملى، أما ما كان بالقول فهو طيب الكلام، وحسن البشر، والتودد دون مداهنة، والمداراة دون ملق، ورقة طبع دون نفاق، وحزم وجد دون غلظة، فيها يقرب الناس ببشر وتقريب، وتدفع الصنيعة بأيسر مؤونة، وتكتسب الأخوة بالبذل اليسير، مع التخفيف عن النفس، والتقليل من الكدر، أما الجانب العملى، فهو بذل الجهد، والمساعدة بالنفس، والمعونة فى النوائب، والسعى فى الحاجات، والإيثار فى الأوقات، وليس لهذه الأعمال حد، وليس فيها إسراف، فالأجر يزداد بها، والثواب لا ينقص بتجاوزها، ((فينبغى لمن يقدر على ابتداء المعروف أن يجعله، حذر فواته ويبادر به خيفة عجزه وليعلم أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بقدرته عليه، فكم واثق بقدرة فاتت، فأعقبت ندماً، ومعول على مكنة زالت، فأورثت خجلاً00 ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب مكره، لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمة مجبورة000))( )0
ولابد من مسارعة كل داعية إلى المعروف لأخيه، دون انتظاره من غيره، ولا يكمل المعروف لا بالإسراع به، وستره عن إذاعة يستطيل لها، وإخفائه عن إشاعة يستدل لها، وكذلك تصغيره حتى ولو كان كبيراً، وثقليله ولو كان كثيراً، من دونما امتنان به أو إدلال، وإيذاء للغير أو إذلال، وأن لا يحتقر من المعروف قليلاً، إذا كان الكثير0
((ومن شروط المعروف أن لا يحتقر منه شيئاً، وإن كان قليلاً نزراً ، إذا كان الكثير معوزاً وكنت عنه عاجزاً، فإن من حقر يسيره فمنع منه، أعجزه كثيره فامتنع عنه، وفعل قليل الخير، أفضل من تركه))( )0
ومن المعروف، رد المعروف، وإسلاف الشكر، وتعجيل الحق، وعدم ستر الإنعام، وإجحاد النعمة أو جحد الصنيعة، وقبح الرد 00 وبهذه الأخلاق والآداب، تسود الألفة، وتدوم الأخوة، وفوق ذلك كله حصول المقصود بطلب الأجر، لقوله  (( كل معروف صدقة))( )0
من أسباب التغير
وقد يتغير حسن الخلق لأسباب عارضة، منها يعذر الداعية فيه، ومنها ما لا يعذر به، فلابد من التذكير بالخلق الحسن، والوعظ الدائم بالنهى عن الخلق السيئ، وفى الوقت نفسه لابد للدعاة –فى ركب الدعوة- من النظر إلى المربين وأهل الفضل عند التغير إلى هذه العوامل، والإعذار فى بعضها، والنصح عند غيرها0
فمما يعذر فيه المرء – إذا ما تغير بعض خلقه- زيادة الهموم التى تذهب اللب، أو تشغل القلب، وليس كل النفوس تقدر على الاحتمال، ولا كل القلوب تقوى على الصبر، ومنها علو السن، وحدوث الهرم، إذ به تعجز النفس عن الاحتمال، وتضيق عن الشقاق، ومنها الأمراض التى تخرج المرء عن الاعتدال، ولا يقدر معها على الاحتمال، وإن كان بعض أقوياء النفوس، وأصحاب الهمم لا تؤثر فيهم هذه الظروف، ولا تغير من أخلاقهم هذه العوامل0
أما ما لا يعذر المرء به، ويقتضى النصيحة، ومما يربأ الداعية أن تؤثر عليه وأن تؤثر عليه وأن يبقى على سجاياه من الخلق الطيب، حدوث نعمة عليه من ولاية دينية أو دنيوية، أو التغيير إلى الغنى بعد الفقر، فإن ذلك مما تتغير أخلاق اللئيم به بطراً، وتسوء به صفاته أشراً، وكذلك قد تتغير أخلاق البعض عند ذهاب النعمة كعزل عن ولاية دينية أو دنيوية، أو تحول من الغنى إلى الفقر، فتضيق صدورهم لشدة الآسف، أو لقة الصبر، تأسفاً على فوات الاستدامة، أو أنفة من ذل الاستكانة0
والداعية المؤمن يتقلب بين خوف الله ورجائه، وينبغى له التقلب بين الشكر، والصبر، فلا يتحسر على ما فات، ولا يفرح بما هو آت، بل يصبر على الأول، ويشكر على الثانى، وفى الوقت نفسه يحسن إن أحسن الآخرون، ويتجنب الإساءة عندما يسئ الآخرون0
وإذا كان هذا هو الخلق العام، فتطبيقه على الأفاضل والأماثل من المربين وأهل الخير أولى0
الستر واجب
لقد سبقت الإشارة إلى كبار المراتب من العلماء والأمراء بالمعروف، أن لا يستثنوا من واجب أداء النصيحة لهم، دون خوف أو تملق، إضافة إلى واجب الستر على زلاتهم وهفواتهم، كما أن قواعد حسن الخلق، والمروءة تقتضى ذلك، وعلى الداعية المنصف الالتزام بذلك، وفى الوقت ذاته عليهم هم الستر على أنفسهم فيما إذا كان اجتهادهم غريباً، ولا يقر به جمهور الناس أو فيه خفاء لا تدركه إلا عقول الخواص، وعلى العالم أو القائد أن يكتم ما كان أمره غريباً، وأن يغلق باب الفتنة على نفسه، ويسد أبواب القالة عليه، أو أن يوضح سبب تصرفه، أو جواز قوله بما يدفع عنه الفتنة، أو يجلب لنفسه الغيبة، وفى اتباع هذه القاعدة جلب لمصالح عدة ودفع لمفاسدة ظاهرة، ينبغى للقائد أو غيره أن يأخذ بها0
قال النووى:
(اعلم أنه يستحب للعالم والقاضى والمفتى، والشيخ المربى وغيرهم ممن يقتدى به، ويؤخذ عنه: أن يتجنب الأفعال والأقوال والتصرفات التى ظاهرها خلاف الصواب وإن كان محقاً فيها، لأنه إذا فعل ذلك ترتب عليه مفاسد من جملتها: توهم كثير ممن يعلم ذلك عنه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال ، وأن يبقى ذلك شرعاً وأمراً معمولاً به أبداً، ومنها: وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه، وإطلاق ألسنتهم بذلك، ومنها : أن الناس يسيئون الظن به فينفرون عنه ، وينفرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتسقط رواياته وشهادته، ويبطل العمل بفتواه، ويذهب ركون النفس إلى ما يقوله من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة، فينبغى له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها؟ فإن أظهره أو ظهر ورأى المصلحة فى إظهاره ليعلم جوازه وحكم الشرع فيه، فينبغى أن يقول: هذا الذى فعلته ليس بحرام، أو إنما فعلته لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على هذا الوجه فعلته، وهو كذا وكذا، ودليله كذا وكذا 00)( )0
وفى مقالة النووى هذه من الخير الكثير الذى يجب أن يعض عليه بالنواجذ، والله المعين0
المفضول فاضلاً 0
والقول بستر النفس وستر الآخرين، عندما يكون الخطأ أو الزلل يقيناً، ولكن فى بعض الأحيان، ينظر الغير إلى الدعاة أو إلى أهل الفضل بشكل سلبى، ويكون الاعتراض بسبب بعض أقوالهم أو أفعالهم الصحيحة، ولكنها مفضولة أو مرجوحة، مع وجود الراجح والأفضل، وفى الوقت نفسه يجهلون اجتهاد صاحب الأمر فى المسألة، فمن المعلوم من قواعد الشريعة أيضاً (أن المفضول قد يصير فاضلاً لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجباً للمصلحة ودفع الضرر فلأن يصير المفضول فاضلاً لمصلحة راجحة أولى 00)( )0
(فالعمل الواحد يكون فعله مستحباً تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعلهب وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان فعله فساداً راجحاً على مصلحته00 وكذلك لو فعل الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسناً 00)( )0
ولهذا استحب الإمام أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو الأفضل عنده، ويفعل المفضول تأليفاً لقلوب المأمومين، كأن يوصل الوتر مثلاً وعنده الفصل أولى، أو يجهر بالبسملة وعنده السر أفضل، وهكذا يكون الواجب بأن يعطى الإمام ومثله العالم والقائد كل ذى حق حقه، ويوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله ولذلك وجب على الأتباع أيضاً عدم المسارعة بالإنكار لخفاء اجتهاد القائد عليهم من جهة، كما أن عليهم الرضا بالمرجوح، والقناعة بالمفضول من جهة أخرى بناء على هذا الأصل فى تأليف القلوب، والتوسعة على الناس، أو قد يكون لاجتهاد القائد مصلحة راجحة0
حدود الاعتراض
ومع تبيان واجب أداء النصيحة حيناً، والسكوت حيناً آخر لغياب معرفة حجة الاجتهاد المرجوح، فهنالك –أيضاً- حق الاعتراض، وفق حدود معينة، فمن أخطاء الصوفية اعتبارهم الاعتراض على الكبراء زلة لا تقال، بل زعم القشيرى أن التوبة من المعترض لا تقبل، لأن الاعتراض قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والمريد، وهذا فاسد يأباه الإسلام، وما سار عليه السلف، ومما يؤسف له أن الشاطبى استند على مقالتهم بالاحتجاج على عدم الاعتراض على الأكابر، والحجة بحد ذاتها تحتاج إلى الدليل، كما أنه احتج رحمه الله بما أنكره  فى رد موسى على الخضر عليهما السلام، وفى اعتراض الملائكة عليه عز وجل، وفى اعتراض اليهود على موسى –عليه السلام- واعتراض بعض الصحابة على النبى  وكل هذه الأدلة لا يسلم بها، ولا يؤخذ بها لأن الأنبياء مؤيدون بالوحى، وأنى للكبراء والعلماء والقادة ذلك مهما بلغوا من العلم والفضل0
ولكن يمكن أن يقال : إنه لا تصح المبالغة فى الاعتراض على الأكابر دوماً، ودونما حجة، والأصل التأنى معهم والسؤال عن حجتهم أولاً، والسكوت عن الاعتراض عن المسائل التى لم تفهم منهم، وعدم اللجاجة فى الاعتراض بقصد التعنت والإفحام، أو الاعتراض بجهل وتكذيب روايتهم، أو التجنى عليهم، وأشباه ذلك00 ولعل هذا هو مقصد الإمام الشاطبى –رحمه الله – ورغم سلوكه طريقاً بعيداً، فهو يقول فى خاتمة المسألة بما يشهد لصحة الاستنباط، وليس منع الاعتراض مطلقاً0
الاستفادة من المحاسن
لما كان مقصد كل عمل من المكلف وجه الله تعالى، فالأفضل فى حقه الاستفادة من محاسن كل شخص، فإن عيوبه عليه، ومحاسنه لغيره، والمكلف –أياً كان طالباً أو متعلماً أو داعية- إذا أراد الإنصاف لنفسه، فعليه الاستفادة من محاسن غيره، فالربح له والخسارة على غيره، ومن جميل القول ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – واصفاً كتابه للقارئ000 فإما شمس منازلها بسعد الأسعد، وإما خود تزف إلى ضرير مقعد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وإنزالهما فيما شئت من المنزلتين، ولابد لكل نعمة من حاسد، ولكل حق من جاحد، ومعاند، وهذا وإنما أودع من المعانى والنفائس رهن عن متأمله، ومطالعه له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وله ثمرته ومنفعته، ولصاحبه كله مشقته، مع تعرضه لطعن الطاعنين، ولاعتراض المناقشين، وهذه بضاعته المزجاة وعقله المكدود يعرض على عقول العالمي، وإلقائه نفسه وعرضه بين مخالب الحاسدين00 فلك أيها القارئ صفوه، ولمؤلفه كدره وهو الذى تجشمن غراسه وتعبه، ولك ثمره 00)( )0
فلينظر إلى قوله: إن للقارئ الصفاء وللمؤلف الكدر، وعليه عناء التعب والغراس وللقارئ الثمر، وهكذا يجب أن يكون أمر الاتباع مع أهل الفضل وأصحاب النظر، ويكون ميزاناً للتعامل بين الدعاة أنفسهم0
وفى السؤال 00 آداب
ومن آداب الطريق أيضاً، آداب الحوار بين الدعاة، وقد يظن البعض أن الآداب فى المعاملة فقط، أو فى الرفق بالأصغر، لكن أمر الآداب فى جميع الأمور، ومنها ما ينبغى حتى عند السؤال، فلو رام الداعية أن يسأل غيره فى أمور الدنيا والآخرة فعليه بآداب السؤال00
ومن آداب السؤال التلطف حتى عند السؤال عن الاسم حتى روى عن بعضهم أنه سأل محدثاً (أحب المعرفة، وأجلك عن المسألة)( )0
وسؤال الأكابر وأهل الفضل لابد منه سواء من الأقران أو ممن هم دونهم فى الفضل أو السن عن أمر مجهول، أو رفع أشكال، أو تذكر ما يخشى عليه من النسيان، أو شبه ذلك مما هو معتبر شرعاً، ويكون السؤال بلطف واحترام، وتواضع وإجلال، دون إكثار وإملال، ودون متابعة للسؤال بالأبحاث النظرية، أو التفريغ المذموم عليه، ويكره السؤال فى عشرة مواطن :
السؤال عما لا ينفع فى الدين والدينا
السؤال بعد ما يبلغ من العلم حاجته
السؤال من غير احتياج إليه فى الوقت
السؤال عن صعاب المسائل وشرارها
السؤال عن علل الأحكام التعبديـة
السؤال حتى درجة التعمق والتكلف
السؤال الظاهر فى معارضة الكتاب والسنة بالرأى
السؤال عن المتشابهات
السؤال عما شجر بين الصحابة رضى الله عنهم
سؤال التعنت والإقحام وطلب الغلبة فى الخصام( )0
وأدب الاستماع
وهناك آداب الاستماع توخذ من آداب طالب العلم مع المحدث، وقد جعل الخطيب فى كتابه الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع باباً فى منهج طالب الحديث ترجمله بأدب السماع، ويصلح أن يكون قاعدة أدبية لكل تلميذ مع شيخه، أو داعية مع مربيه، ويقاس عليها ما يصلح لجعله من أدب السماع من أهل الفضل، ويمكن اختصارها والتصرف فى عبارتها بما يصلح لهذا المقام :
• الصمت والإصغاء عند الحديث دون تشاغل عن المحدث 0
• خفض الصوت عند الاستماع إلى الشيخ أو المربى، وأن لا يعلو صوته على صوته0
• إذا طلب رفع الصوت فليكن ذلك بتلطف ومودة 0
• عدم التكرار لما فهم 0
• الإقبال بالوجه على المحدث0
• أن لا يتكلم فى المجلس مع غيره 0
وأخيراً ليعلم أن الاستماع والإنصات فن، كما أن الحديث فن، والاستنصات جائز أيضاً فقد روى البخارى عن جرير أن النبى  قال له فى حجة الوداع : (استنصت الناس 00)( )0
( قال ابن بطال : فيه أن الإنصات للعلماء لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء 000)( )0
ولقد يشاهد من مظاهر الحياة أن بعض الناس من أثقل القوم رغم ما فى لسانهم من رونق القول، وتزويق اللفظ لعدم إتقانهم فن الاستماع للآخرين، وكم من شخص يقال عنه: إنه من أحسن الناس حديثاً، وهو قليل الكلام، وما ذاك إلا لحسن استماعه للآخرين، وفتح قلبه لهم، ومشاركته لمشاعرهم0
الدين النصيحة
وجماع آداب المعاملة النصح لله ورسوله، وما يترتب على ذلك من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وما ينبغى أن يصاحب النصح من أخلاق وآداب، سواء أكانت النصيحة بين الأقران، أم بين أصحاب المراتب المختلفة، ولقد نص الحديث النبوى الصحيح على أن الدين النصيحة، فقال  : ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، لله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم))( )0
وما يخص المبحث من هذا الحديث هو معنى النصح لأئمة المسلمين، وهو اقتضاء الواجب نحوهم، فقال عن معنى هذا النصح الإمام الخطابى –رحمه الله- :
(فمن نصيحتهم بذل الطاعة لهم فى المعروف، والصلاة خلفهم وجهاد الكفار معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف، أو سوء سيرة، وتنبيههم عند الغفلة، وأن لا يغروا بالثناء عليهم، وأن يدعى بالصلاح لهم، وقد يتأول ذلك فى الأئمة الذين هم علماء الدين فى نصيحتهم قبول ما ردوه إذا انفردوا، وتقليدهم ومتابعتهم على ما رووه إذا اجتمعوا 000)( )0
وقال ابن حجر –رحمه الله- فى معنى النصح للأئمة، ومن فى طبقتهم: (( إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتى هى أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم 00)( )0
والمقصود بالأئمة كل صاحب ولاية دينية أو علمية، مما يصح قياس قادة الدعوة عليه، وأصحاب الفضل فيها، وأشراف الناس فى المجتمع، وقد أوضح النووى ذلك بقوله:
(000 وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور )( )0
وهذا جماع الأمر، وإلا ففى كل كلمة تفصيل، ولكل واجب مقال، كما أن للنصح ضوابط لابد من الأخذ بها، وهى باختصار شديد :
• أن يكون النصح على قدر الطاقة، بحيث لا يقود إلى مفسدة، أو يسبب ضرراً للناصح0
• أن لا تكون النصيحة على وجه التوبيخ أو التعيير، أو يقصد بها الاستعلاء0
• أن تكون بالسر ما أمكن، ويتجنب التشهير، أو المفاخرة فيما بعد بأداء النصيحة0
• أن لا يلجأ الناصح إلى التصريح إذا كان التلميح كافياً، والإشارة قبل العبارة 0
• أن لا يكون فى النصح رد لاعتبار شخصى، أو مظهر من مظاهر الانتقام والمناكفة0
• أن يتوخى فى النصح أجمل العبارات، وأسهل الألفاظ، وأحسنها موقعاً 0
• أن لا ينتظر الناصح قبولها، وإنما عليه أداء الواجب، دون العتاب على عدم الأخذ بها0
ولا يعوز الصادق فى نصيحته معرفة آداب النصيحة 0
وما ينطبق مع أهل الفضل، ينطبق بين الأقران وكلما ازداد الإخلاص فى النصيحة، كلما ارتفع سمو الدعاة فى مراتب الإيمان0

(15) والصبر فى الطريق
وبعد جملة الآداب- التى مر ذكرها- تأتى صفة من أهم صفات الركب السائر إلى الله تعالى، وهى صفة لازمة مع التواصى بالحق، ولابد منها، كما أنها صفة المؤمنين الذين استثناهم الله تعالى من الخسارة فى سورة العصر، ألا وهى صفة الصبر، فالصبر : إحدى دعائم الإيمان، وقد ذكر فى القرآن الكريم فى نحو تسعين موضعاً، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، وهو يعنى : (حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش)( )0
وللصبر أسماء تتجدد، والصبر على ضربين :
أحدهما : بدنى كتحمل المشاق بالبدن، وكتعاطى الأعمال الشاقة فى أعمال دينية أو دنيوية، والثانى: نفسانى، كالصبر عن مشتهيات الطبع، ومقتضيات الهوى0
(وهذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن سمى عفة، وإن كان الصبر فى قتال سمى شجاعة، وإن كان فى كظم غيظ سمى حلماً، وإن كان فى نائبة مضجرة سمى سعة صدر، وإن كان فى إخفاء أمر سمى كتمان سر، وإن كان فى فضول عيش سمى زهداً، وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة( )0
وبهذا يظهر أن أكثر أخلاق الإيمان داخله فى الصبر، وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات، ولهذا قيل: الإيمان نصفان: نصفه شكر ، ونصفه صبر، فالإنسان يشكر على السراء ويصبر على الضراء، وكلاهما اسمان من أسمائه الحسنى إذ سَمّى نفسه صبوراً، وشكوراً 0
وإذا اقتصر على ذكر الصبر، فالمقصود به ما هو على المعصية، وهو المقصود –هنا- فى مبحثنا0
خير الصبر
خيره وأفضله الصبر الجميل وهو : صبر بلا شكوى، قال يعقوب عليه السلام : ((إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله)) مع قوله : ((فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون))، (فالشكوى إلى الله لا تنافى الصبر الجميل)( )، وهناك أقوال كثيرة لخير أنواع الصبر، ولكن تسمية السلف لخيرها منبثق من الآية، رغم اختلافهم فى تبيانه0
( ولكن مهما تنوعت العبارات فإنه لاخلاف بين أهل العلم أن أظهر معانى الصبر: حبس النفس على المكروه، وأنه أصعب المنازل على العامة، وأوحشها فى طريق المحبة)( )0
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة، فهى دعوة إلى الله 00 فكل ما يلقاه فيها فهو فى سبيل الله0
وقد يأخذ الصبر مظاهر متعددة، فمن أشكاله :
(1) صبر الله : وهو الاستعانة به فى التصبر، فهو المعين على ذلك0
(2) صبر لله : فهو الباعث على الصبر، والتقرب إليه به، لا للرياء وإظهار التصبر للخلق0
(3) صبر مع الله : وهو دوران العبد مع مراد الله الدينى منه، وهو صبر الصديقين (الصبر لله غناء، والصبر بالله بقاء، والصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله جفاء)( )0
قال  : (( 00 ما يكون عندى من خير لا ادخر عنكم، وأنه من يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) وقال عمر : ((وجدنا خير عيشنا بالصبر))( )0
والصابرون أقسام :
(1) أهل التقوى والصبر، لأنهم جمعوا بين أفضل العبادات وذلك لأنه (لابد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول : هو التقوى، والثانى: هو الصبر) ولذلك كان العلماء يأخذون بهذه الأصول (المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور)( )0
(2) الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، كالذين يمتثلون لما عليهم من العبادات، ويتركون المحرمات، ولكنه إذا ابتلى بمصيبة عظم جزعه، وظهر هلعه، بل قد رأينا الكثير من هؤلاء من الدعاة والعباد0
(3) قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى : (كالفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم كاللصوص، والقطاع00 وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع الأذى التى لا يصبر عليها أكثر الناس00)( )0
وليس أدل على هذا مما يتحمله أصحاب الباطل، ورجال الأحزاب، والطغاة من الحكام من أنواع المشاق دون شكوى أو تبرم0
(4) قسم لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا، (فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، وإن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك، وحابوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلباً، وأقلهم رحمة وإحساناً وعفواً، كما قد جربه المسلمون فى كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد 000( )0
وهذا التقسيم للناس بالنسبة للصبر، سلفى المنهج لأنه مأخوذ من مجمل النصوص الشرعية، والجامعة –عند الثناء- بين الصبر والتقوى، ولهذا فقد أخذ به شيخ الإسلام رحمه الله، وقد اخترناه هنا دون غيره لضرورته للداعية المربى، وحتى يجد نفسه بين هذه الأقسام، كما يطبقها على فئات أخرى عند إجراء الجرح والتعديل0
أنواع الصبر
قيل : إن الصبر ينقسم إلى صبر عن المعصية، وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية0
ومن حيث علاقته بالهوى، فالصبر على نوعين :
(1) الصبر على ما يوافق الهوى :
قال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه : (( ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر))( )0
وبهذا يشير الصحابى الجليل إلى ضرورة الصبر على البأساء والضراء، وقد أخذ هذا المعنى من قوله تعالى: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور(9)ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور(10) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير(هود: 9: 11)0
(إن الإيمان الجاد المتمثل فى العمل الصالح، هو الذى يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر فى الشدة، كما يعصمها من البطر الفاجر فى الرخاء، وهو الذى يقيم القلب البشرى على سواء فى البأساء والنعماء، ويربطه بالله فى حاليه، فلا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء، ولا ينتفخ ويتعالى عندما تعمره النعماء 00)( )0
( وما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الأمور، فإنه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال والركون إليها، والانهماك فى ملاذها المباحة منها، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان)( )0
(2) الصبر المخالف للهوى :
أ - الصبر على الطاعات : ويحتاج المرء فيها الصبر قبل العبادة بتصحيح النية والإخلاص، والصبر على شوائب الرياء، وصبر فى نفس العبادة، بالابتعاد عن الكسل والفتور والصبر على ما بعد العبادة حيث لا يتظاهر فيها، ولا يسقط فى الرياء، ويصبر على عدم إفشائها0
ب – الصبر على المعاصى: وبها تخلص الطاعة، ويصح الدين، ويستحق الثواب (وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع، وشدة الخوف، فإن من خاف الله عز وجل وصبر على طاعته، ومن جزع من عقابه، وقف على أوامره)( )0
ج- ما لا يدخل تحت الاختيار: كالمصائب فى البدن والأموال، والصبر على ما يقتضيه ذلك من خسارة وضعف فيهما، (والصبر على ذلك أعلى المقامات لأن سنده اليقين)( )0
والصبر على هذه الأمور (يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها، فإن صبر طائعاً، وإلا احتمل هماً لازماً وصبر كارهاً آثما)، وقال الإمام على رضى الله عنه : ((إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور)0
الصبر العام
ومن أنواع الصبر التى يجب على كل مسلم أن يلتزم بها :
الصبر على الماضى: وهو (الصبر علىما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة، فإن الصبر عنها يعقب السلو منها والأسف بعد اليأس خرق)( )0
وهذا النوع من الصبر يبعد المؤمن عن تذكر الماضى، وعن الندم، وإضاعة وقته بالتحرق والأسف، وعليه باستشراق المستقبل والعمل له، وكذلك الصبر فيما يخشى حدوثه، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها، فلا يتعجل هماً ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع0
وهذا يدفع المؤمن لزيادة الهمة، وعدم وقوعه أسيراً للتشاؤم، وأن يضرم فى قلبه بريق الأمل، وروح التفاؤل، فهى الدافعة للعمل والبناء، والاستزادة من الخير0
وصبر التوقع: وهو الصبر (فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب، واستفزه تسويف المطامع، فكان أبعد لرجائه، وأعظم لبلائه وإذا كان من الرغبة وقوراً، وعند الطلب صبوراً، انجلت عنه عماية الدهش، وانجابت عنه حيرة الوله، فأصبر رشده، وعرف قصده)( )0
وأخيراً الصبر على النوازل وهو : الصبر على ما نزل من مكروه، أو حل من أمر مخوف، فبالصبر فى هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكايد الأعداء، فإن من قل صبره، عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة عمومه00) وما يدريه أن بعد العسر يسراً، وأن بعد الكرب فرجاً، وبعد الهموم سعادة، وأن الأيام دول، والأولى به تحمل ما ابتلى به حتى يفرج الله عنه0
صبر الدعاة
إن الداعية ليحتاج إلى صبر أخص من صبر المؤمن الذى لا يدعو لهذا الدين، ولا يحتمل الصبر على تكاليف هذه الدعوة، فالداعية –فوق ما يحتاجه- من أنواع الصبر المذكورة سابقاً باعتباره مؤمناً، فهو محتاج إلى أنواع أخرى من الصبر، هى من جنسه ولكنها أعلى مرتبة، وأكبر مقاماً عند الله تعالى، ولا يتصف بهذا الأنماط إلا صاحب اليقين، والمتمسك بالعروة الوثقى0
وصبر الدعاة –هو المقصود بالتذكير هنا- الالتزام بكل ما ذكر من أنواع الصبر السابقة إضافة إلى أنواع أخص، فمنها – مثلاً :
الصبر على التكاليف الدعوية :
وهو مظهر من مظاهر الصبر على عموم التكاليف، ولكن للدعوة تكاليفها الإضافية، والأخذ بأعباء الجهاد، والسعى فى مصالح الدعوة، والالتزام بطاعة الأمير، والتنازل عن الكثير من الأمور الدنيوية، التقصير فى بعض حقوق الأسرة، وغير ذلك مما ذكرت بعضه صورة آل عمران، وفيها الدعوة إلى الاحتمال، والمجاهدة ودفع الكيد، وعدم الاستماع إلى دعاة الهزيمة، واختتمت السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة، يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون  (آل عمران : 200)0
والصبر : هو زاد الطريق فى هذه الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات، والأشواك، مفروش بالدماء، والأشلاء، وبالإيذاء، والابتلاء0
والصبر على أشياء كثيرة، الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالتها من قريب، والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طبائعهم، وأثرتهم، وغرورهم والتوائهم، واستعجالهم للثمار0
والصبر على انتفاخ الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاشة الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور، والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان فى ساعات الكرب والضيق، والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره من انفعالات متنوعة، من الألم والغيظ، والحنق والضيق، وضعف الثقة أحياناً فى الخير، وقلة الرجاء، أحياناً فى الفطرة البشرية، والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط0
الصبر على المحن
ومن الصبر كذلك، الصبر على الابتلاء والفتن والمحن، وكذلك الصبر على الرغبة فى هداية الناس، والأسى على ما هم فيه من الضلال والشقوة، وهى سنة الدعوة والدعاة على مدار التاريخ0
(إن موكب الدعوة إلى الله موغل فى القدم، ضارب فى شعاب الزمن، ماض فى الطريق اللاحب، ماض فى الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام، يعترض المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين، والمبتوعين، ويصيب الأذى من الدعاة، وتسيل وتتمزق الأشلاء.. والموكب فى طريقه لا ينحنى ولا ينثنى ولا ينكص ولا يحيد والعقبة هى العاقبة، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق، إن نصر الله دائماً فى نهاية الطريق0
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين (الأنعام: 34)0
(كلمات يقولها الله سبحانه.. كلمات للذكرى، وللتسرية وللمواساة، والتأسية.. هى ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله  طريقهم واضحاً، ودورهم محدداً، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله من نهاية الطريق، إنها تعلمهم أن سنة الله فى الدعوات واحدة، كما أنها كذلك وحدة واحدة لا تتجزأ 00 دعوة تتلقاها الكثرة بالكذيب، وتتلقى أصحابها بالأذى.. وسنة تجرى بالنصر فى النهاية، ولكنها تجئ فى موعدها، لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة والأبرياء والطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب.. فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، ولا مبدل لكلماته، سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم، أم تعلقت بالأمل المرسوم00)( )0
والدعاة فى كل زمان ومكان – يدركون معنى الصبر على الفتن، لتذوقهم إياها تجارب ومرارات، بل هو قبل ذلك طريق الأنبياء والمرسلين، وكان أشدهم صبراً المصطفى - فلقد أوذى بعظيم الأذى من القول والفعل، وصبر واحتمل فى الله كل ذلك، ((00 وكانت تلك المحن والابتلاءات عين كرامته، وهىما زاده الله بها شرفاً وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات، وهذا حال ورثته من بعده، الأمثل فالأمثل، كل له نصيب من المحنة، يسوقه الله بها إلى كماله، بحسب متابعته له 00 ))( )0
إن مشقة الدعوة الحقيقية هى مشقة الصبر لحكم الله، حتى يأتى وعده فى الموعد الذى يريده بحكمته، وفى الطريق مشقات كثيرة، مشقات التكذيب والتعذيب، ومشقات الالتواء والعناد، ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه، ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو فيما تراه العيون، ثم مشقات إمساك الناس على هذا كله00 كل ذلك تصبر عليه نفس الداعية راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق، ولا ترتاب ولا تتردد فى قطع الطريق، مهما تكن مشقات الطريق .. وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق0
وهناك أنواع من الصبر تحتاج إلى جهد مضاعف عندما يواجه الدعاة نفوساً طال عليها الأمد، واستمرأت حياة الذل تحت قهر الطاغوت، ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك، يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات، ويجب أن يصبر على الانتكاس الذى يفاجئه فى هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة0
وفوق ذلك كله، على الداعية أن يصبر على الصبر الطويل، ولا يتعجل انقضاء الفتن، أو زوال المحن، فإنها مرهونة بقضاء من أوجدها (وليس فى الوجود شىء أصعب من الصبر.. وخصوصاً إذا امتد الزمان، أو وقع فى الفرج، وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها)( )، وما هذا الزاد إلا بالتوكيل على الله، وما تباينت منازل أصحاب الهمم، إلا بتياينهم بطول الصبر حتى نهاية البلاء، وانقضاء أوانه0
الصبر على الأقران
إن للداعية صبراً آخر يحتاجه فى مسيرة الدعوة، وهو الصبر على ما يظهر من إخوانه من جفوة، أوانقطاع ود، فهم بشر جميعاً، والبشر لا يصفو من المعايب0
(ولست بمستبق أخاً لا تلمه
على شعث أى الرجال المهذب)( )0
ويقول الفضيل بن عياض: ((من طلب أخاً بلا عيب، صار بلا أخ))( )0
إذ لا ينبغى أن يزهد الداعية فى أخيه لخلق أو خلقين ينكرهما فيه إذا رضى سائر أخلاقه لأن اليسير مغفور، والكمال مستحيل0
ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقال أبو الدرداء رحمه الله : معاتبة الأخ خير لك من فقده 0
وقال بعض الحكماء : طلب الإنصاف من قلة الإنصــاف0
وقال غيره : لا يزهدنك فى رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله، عيب خفى، تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله00 )( )0
وفى ذلك يحدد الرسول  المنهج العام للدعاة وأنهم أفضل من غيرهم بسبب ما يلاقونه من متاعب الخلطة فيقول : ((المسلم الذى يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من الذى لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)) أحمد والترمذى، والبخارى فى الأدب المفرد 0
ولهذا قال الجنيد رحمه الله : ((مكابد العزلة أيسر من مداراة الخلطة ))( )0
وقال الإمام البغوى: (( الاقتصار عن المظالم جائز. ولكن الصبر أجمل))( )0
وقبل ذلك كله، حدد الله عز وجل هذا النوع من الصبر مع الدعاة، وأوضح أن هذا الصبر يجب أن يقود إلى عدم تحويل الاهتمام عن الدعاة حتى طرفة عين فقال : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا 00  (الكهف : 28)0
أى يا أيها الداعية : اصبر نفسك معك هؤلاء، صاحبهم وجالسهم وعلمهم ، ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات 000 والذى يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين0
وأخيراً 00 الصبر دواء
واعلم أخى الداعية، سواء أكنت قائداً أم مربياً أم جندياً أن مجمل الدواء على أنواع الصبر، وما يستعان به عليه، لا يكون إلا بمعجون العلم والعمل، ويكون بتقوية باعث الدين، وتضعيف باعث الشهوة، بتضعيف بواعثها وقطع أسبابها، وتسلية النفس بالمباح من جنسها0
( أما تقوية باعث الدين فإنها تكون بطريقتين: أحدهما إطماعه فى فوائد المجاهدة، ومثرتها فى الدين والدنيا00
والثانى: أن يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجياً00 حتى يدرك لذة الظفر بها، فيستجرئ عليها، وتقوى همته فى مصارعتها00)( )0
وتفصيل ذلك منبث فى كتب الرقائق، ومنتشر فى صحف المواعظ، فاحرص على القراءة لاحتياجك إلى الإعانة، وحسبنا هنا أن نلتمس لك بعض طرق التسهيل للمصائب، والتخفيف للشدائد، على أن تقارن من قلبك حزماً، وتصادف من نفسك عزماً 0
(فمنها : استشعار النفس بما تعلمه من نزول الفناء، وتقضى المسار، وأن لها آجالاً منصرمة، ومدداً منقضية، إذ ليس للدنيا حال تدوم، ولا لمخلوق فيها بقاء 0
(ومنها : أن يتصور انجلاء الشدائد، وانكشاف الهموم، وأنها تتقدر بأوقات لا تنصرم قبلها، ولا تستديم بعدها، فلا تقصر بجزع، ولا تطول بصبر، وإن كل يوم يمر بها يذهب منها بشطر، ويأخذ منها بنصيب، حتى تنجلى وهو عنها غافل0
ومنها : أن يتأسى بذوى الغير، ويتسلى بأولى العبر، ويعلم أنها الأكثر عدداً، والأسرع مدداً، فيستجد من سلوة الأسى وحسن العزا، ما يخفف شجوه، ويقل هلعه0
ومنها : أن يعلم أن النعم زائرة، وأنها لا محالة زائلة، وأن السرور بها إذا – أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت – وأنها لا تفرح بإقباله فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً، فعلى قدر السرور يكون الحزن0
ومنها : أن يعلم أن سروره مقرون بمساءة غيره، وكذلك حزنه مقرون بسرور غيره، إذا كانت الدنيا تنتقل من صاحب إلى صاحب وتصل صاحباً بفراق صاحب، فتكون سروراً لمن وصلته، وحزناً لمن فارقته0
ومنها : أن يعلم أن طوارق الإنسان من دلائل فضله، ومحنه من شواهد نبله، وذلك لإحدى علتين: إما أن الكمال معوز، والنقص لازم، فإذا تواتر الفضل عليه صار النقص فيما سواه 00 وإما لأن ذا الفضل محسود، وبالأذى مقصود، فلا يسلم فى بره من معاد، واشتطاط مناوئ.. وقلما تكون محنة فاضل إلا من جهة ناقص، وبلوى عالم من جهة جاهل0
ومنها : ما يعتاضه من الارتياض بنوائب عصره، ويستفيد من الحنكة ببلاء دهره، فيصلب عوده، ويستقيم عموده، ويكمل بأدنى شدته ورخائه، ويتعظ بحالة عفوة وبلائه0
ومنا : أن يختبر أمور زمانه، ويتنبه على صلاح شأنه، فلا يغتر برخاء، ولا يطمع فى استواء، ولا يؤمل أن تبقى الدنيا على حالة، أو تخلو من تقلب واستحالة، فإن من عرف الدنيا، وخبر أحوالها، هان عليه بؤسها ونعيمها)( )0
ومنها – فوق ذلك كله – ( رجاء العوض فى الدنيا)، و00 تلمح الأجر فى الآخرة.. إلى غير ذلك من الأشياء التى يقدحها العقل والفكر، فليس فى طريق الصبر نفقة سواها، فينبغى للصابر أن يشغل نفسه، ويقطع بها ساعات ابتلائه، وقد أصبح المنزل)( )0
وأخيراً إذا بلغت جميع منازل الصبر، وصلت للتقوى، وهنا عليك بالصبر، وعندئذ نقول : (( بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى، لا تبع عزها بذل المعاصى، وصابر عطش الهوى فى هجير المشتهى، وإن أمض وأرمض، فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم وقل : فهو مقام من لو أقسم على الله لأبره)( )0
واعلم أن الله يختبر عبيده بالصبر حتى تظهر جواهرهم، كما حصل للأنبياء (وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه، ثم بعد قليل ينجو فى السفينة ويهلك أعداؤه، وهذا الخليل يلقى فى النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة، وهذا الذبيح يضجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح، وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بالفراق ثم يعود بالوصول، وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعى ثم يرقى إلى التكليم00)( )0

(16) من حق الطريق (1)
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
ما انفك قطار الدعوة –بفضل الله وحده- يسير فى طريقه المستقيم، ودربه المرسوم، رغم الأشواك والعوائق، ورغم الفتن والعلائق، ولا يزال الدعاة فيه مصممين على قطع المسار دون تردد وارتياب، وعلى هدى من ربهم وضياء. ومن الهدى معرفة حق الطريق الوارد فى الحديث الشريف : (إن النبى  قال : ((إياكم والجلوس فى الطرقات)). قالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها، فقال (( فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه))، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله؟. قال (( غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر)))( )0
فبين الحديث أن من حق الطريق – على وجه الحقيقة- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو من جملة حقوق أخرى لابد من الالتزام بها عند الجلوس فيه، ولهذا قيل : (فيجب على المسلم الأمر والنهى عن ذلك، فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية.. ولكل من الآداب المذكورة شواهد فى أحاديث أخرى.. وأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة 00)( )0
وطريق القطار – فى سفر المجاز- أو رحلة الدعاة فى القافلة، لا بد للدعاة فيها من إعطاء الطريق حقه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهو سياج الدين، وبه تحفظ الشريعة، وعليه مدار الكثير من الثواب، بل إنه من أهم مميزات هذه الأمة، ومقومات وجودها. وانعدام الأمر بالخير والنهى عن الشر، يقود إلى البلاء والفتن، حتى يدعو خيار الأمة فلا يستجاب لهم، وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يمتنع الشر من الاسترسال، وترتفع رايات السنة وتموت شعائر البدعة0
(وهو المهم الذى ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد 00)( )0
الأمر والنهى 00 دعوة
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبات على كل مسلم، وقدر استطاعته، فيكون أحياناً كبقية الفروض على البعض الذين يقدرون على ما لا يقدر غيرهم على أدائه، ويكون أحياناً فرض كفاية، كما أن الأمر والنهى من مظاهر الدعوة إلى الله، بل الدعوة ذاتها هى إما أمر بالمعروف أو نهى عن منكر، والاستدلال لوجوب أحدهما ينطبق على الآخر، سواء أكان وجوباً على الأعيان أم على الكفاية0
(وقد تبين أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف، أو نهى عن المنكر، فإن الداعى طالب مستدع مقتض لما دعى إليه، وذلك هو الأمر به، إذ الأمر هو طلب الفعل بالمأمور به، واستدعاء له، ودعاء إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر)( )0
ولا مبرر لكثرة الخلاف حول حكم الأمر والنهى، أهو على الوجوب العينى أو الكفائى، وهل تقوم به جماعة أو يقوم به فرد، وهل هو واجب على العلماء أو الحكام دون غيرهم، فإن تحقيق محل الخلاف يقود إلى نتيجة واحدة تجمع بين كل النصوص، وتدرأ التعارض بين كل الآراء، وهو أن كل مسلم مكلف، مهما كان مركزه حاكماً أو محكوماً، عالماً أو متعلماً، بل كل جماعة مسلمة مهما كان وضعها متمكنة أو غير متمكنة، أن يقوم كل فرد منها بأداء المر بالمعروف والنهى عن المنكر قدر استطاعته وإمكانه، وفى المجال الذى يمكن أن يؤديه فيه، ابتداء من أداء ذلك فى مجال الأسرة، وعلى الزوجة والأولاد، وانتهاء بالمجتمعات والشعوب، حتى يدخل المسلم فى عداد المؤمنين الذين من صفاتهم : التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر000(التوبة : 112)0
خيرية هذه الأمة
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أو الدعوة – على وجه الإجمال- من خيرية هذه الأمة، ولذلك جعلها الله تعالى من صفاتها :
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله 00 (آل عمران:110)0
وقد تميزت أمة الإسلام بذلك مما لم تسبقهم أمة أخرى إليه، بل كانت أمم الأديان السابقة تجاهد لدفع عدو عنها، أو لمقاتلة ظالم فحسب، وبهذا الأمر ستسد أمة الإسلام الأفق يوم القيامة بكثرتها، بينما يأتى النبى ومعه الرجل، ويأتى النبى ومعه الرجلان، وبه –كذلك- صار إجماع هذه الأمة حجة، لأنها لا تجتمع على ضلالة، وبه أيضاً صارت منزلة الأنبياء والمرسلين أفضل منازل الخلق لتبليغهم الرسالة عن ربهم، وصاروا من أفضل الخلق، وأزكى العالمين نفوساً، وأكملهم علوماً. ومن هذا يتبين أهمية هذا الركن من الدين، ويظهر فضل الدعاة إلىالله عز وجل، بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أمام بقية الخلق، وكيف يصيرون به خلفاء النبوة ونواب الرسل، لأن مراتب الدعاة إلى الله بعد مراتب الأنبياء 0
(فإنهم يخلفونهم على منهاجهم، وطريقتهم، من نصيحتهم للأمة، وإرشادهم الضال، وتعليمهم الجاهل، ونصرهم المظلوم، وأخذهم على يد الظالم، وأمرهم بالمعروف وفعله، ونهيهم عن المنكر وتركه، والدعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين، والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين، والجدال بالتى هى أحسن للمعاندين المعارضين، فهذه حال أتباع المرسلين، وورثة النبيين 00 )( )0
ولقد جعل الله تعالى صفة الرسول الكريم  المميزة هى الأمر والنهى، فقال تعالى : الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر (الأعراف: 157)0
تعاريف
إن رسالة الله تعالى للخلق متكاملة، وهى إما إخبار وإما إنشاء، فالإخبار يتضمن التوحيد بكل فروعه من ذكر الأسماء والصفات، ويتضمن التوحيد بكل فروعه من ذكر الأسماء والصفات، ويتضمن القصص والأمثال، وما قد يندرج فيه من الوعد والوعيد، أما الإنشاء فيتضمن الأمر والنهى أو الإباحة، وبالتالى فيكون الأمر والنهى من أصل الدين الذى أمرنا به، وبه تكمل الرسالة، فيكون المعروف كل ما أمر الله به فى كتابه، أو أمر به نبيه  ويكون المنكر كل ما نهى الله عز وجل ورسوله، وحينئذ يندرج فى المعروف إحلال كل طيب، ويندرج فى المنكر كل خبيث، ولقد قال تعالى فى وصف نبيه  : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (الأعراف : 157)0
كما يندرج فى المعروف، كل خلق طيب كالصدق والرجاء، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والتعاون على الخير، والاجتماع على أداء الطاعة، وحتى الجهاد فى سبيل الله بكافة الوسائل، ويندرج فى المنكر كل خلق ردئ، وصفة ذميمة، وما حرمه الله من الإساءة للناس، أو أكل الأموال بالباطل، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، غير ذلك0
أما الدعوة إلى الله تعالى فهى أشمل لأنها تتضمن الدعوة إلى التصديق بالأخبار، وكل ما جاءت به الرسل، إضافة إلى الطاعة فيما أمر الله به، والانتهاء عما نها الله عنه، ويكون كل من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جزءاً من الدعوة 0
فالدعوة إلى الله تتمضن الأمر بكل ما أمر الله به، والنهى عن كل ما نهى الله عنه، وهذا هو الأمر بكل معروف، والنهى عن كل منكر، والرسول  قام بهذه الدعوة، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهى الله عنه، أمر بكل معروف ونهى عن كل منكر 000 )( )0
فردية وجماعية
إن كل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب، باطناً كان أم ظاهراً، فمن الدعوة إلى الله الأمر به، وكل ما أبغضه الله ورسوله من أمور باطنية أو ظاهرية فمن الدعوة النهى عنه، لهذا كانت الدعوة واجباً تلزم المستطيع إياها0
(لا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله، ويترك ما أبغضه الله، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة00 إذا تبين ذلك، فالدعوة إلى الله واجبة على كل من اتبعه  وهم أمته يدعون إلى الله، كما دعا إلى الله 000)( )0
وبالتالى، فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تقوم به الأمة بعد الرسل الذين بلغوا الرسالة، ويكون تبليغ الدعوة إما واجباً فردياً، أو واجباً جماعياً، أى أن منها ما يكون على عين المسلم، ومنها ما يكون علىالكفاية، أى إذا قام به شخص سقط عن الباقين، ومبنى الأمر على الاستطاعة، فما كان باستطاعة المسلم القادر عليه من أمر ونهى صار لزاماً عليه الأمر به، أو النهى عنه، وما كان لا يتم إلا بجماعة صار واجباً على أفراد الأمة، أو مجموعة منها القيام به حتى يؤدى جماعة، فلا يصح القول بأن الدعوة إلى الأمر بالمعروف أو النهى عن المنكر واجب فردى على الإطلاق، كما لا يصح إطلاق القول بأنه على الأمة فى جميع الأحوال، أو أنه من اختصاص الحاكم أو المسؤول، إذ إنه :
(كل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجز عنه لم يطالب به، وأما لم يقم به غيره، وهو قادر عليه، فعليه أن يقوم به، ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا، وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة، وبحسب غيره أخرى، وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره 000 )( )0
ومن نتائج ذلك أن كل مسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بما استطاع عليه، ويترك ما هو خارج عن استطاعته، وعلى المسلم –فى الوقت نفسه- التعاون مع أى مجموعة مسلمة، أو جماعة مؤمنة للقيام بأى معروف، والنهى عن أى منكر، وهذه القاعدة تنطبق على الأمر بأسهل الأشياء، كما تنطبق على القيام بالجهاد فى سبيل الله، وإقامة شرع الله تعالى فى الأرض، أى أن هنالك أنواعاً من الأمر، وأنواعاً من النهى لا يمكن أن تقام إلا بواسطة سلطة تملك الأمر والنهى، كالعمل لإعلاء كلمة الله أو القتال فى سبيله أو تحكيم شرعه فى المجالات الأوسع، وعندئذ (فلابد من جماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، لابد من سلطة فى الأرض تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، والذى يقرر أنه لابد من سلطة هو مدلول النص القرآنى ذاته، فهناك ((نهى)) عن المنكر. وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذى سلطان، فإن ((الأمر والنهى)) لا يقوم بهما إلا ذو سلطان00 هذا هو تصور الإسلام للمسألة.. إنه لابد من سلطة تأمر وتنهى.. سلطة تقوم على الدعوة إلىالخير، والنهى عن الشر00)( )0

مراتب المعروف، ومراتب المنكر :
وليعلم الداعية الذى يريد القيام بواجب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، أن يدرك أن كلاً منهما مراتب، وليسا على درجة واحدة، والأجر على قدر النية أو المشقة، وقد يمكن له القيام بالجميع، ولكن قدرة الإنسان، وطبيعة التكليف، وما يرتبط به الإنسان من أمور عبادية، أو مشاغل معاشية، وكذلك طبيعة الناس، وظروف الحياة تؤدى كلها إلى ازدحام المعروفات، أو تجمع المنكرات، مما يقود بالضرورة إلى معرفة مراتبها، حتى يقدم أعرف المعروفين، أو ينكر أنكر المنكرين، ويقدم الأمر بالواجب قبل الأمر بالمستحب، وينهى عن الحرام قبل نهيه عن المكروره، وما كانت نتائجه جماعية فالأمر به أو النهى عنه أفضل مما كانت آثاره فردية، وهكذا رغم أن الأمر بالمعروف يؤدى كما يؤدى النهى عن المنكر من جهة النوع مطلقاً 0
(وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وفى الفاعل والواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بالمعروف فوات معروف أكبر منه، أوحصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهى عن المنكر، حصول ما هو أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه000)( )0
ومبنى مراتب تغيير المنكر على الحديث المشهور: (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان وتارة باليد، فأما القلب فيجب فى كل حال، إذ لا ضرر فى فعله، ومن لم يفعل فليس بمؤمن، كما قال النبى  .. وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء، فقال : الذى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، وهذا هو المفتون الموصوف فى حديث حذيفة بن اليمان 00)( )0
وهذه المراتب الثلاث لا تعتمد فقط على قدرة الآمر والناهى، وإنما تعتمد أيضاً على الظروف الملابسة للأمر والنهى من ناحية الزمان والمكان، وما يغلب على الظن الراجح من استجابة المأمور لذلك، وفى معرفة أحواله، واحتمال استجابته، وكذلك فى عدم تفويت معروف أهم، أو منكر أشد، وكذلك لا يتم الأمر والنهى عند تفويت مصالح أرجح، أو جلب المفاسد الكبرى0
(وقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن (النحل: 125) جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكى الذى لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذى عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهى الأمر والنهى المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند يجادل بالتى هى أحسن00( )0
فيوضح هذا النص، أن المراتب قد لا تكون بحسب القدرة فقط، بل إنما على مراتب الخلق. وفى بعض الأحيان، ينزل إلى مرتبة أدنى لطبيعة المنكر ذاته، فقد يتحول الناهى من اليد إلى اللسان، لأن نوع المنكر ليس مما يغير باليد، والتغيير باليد مشروط بالقدرة، وعند تجاوز الحد المطلوب، وأن لا يقود إلى مفسدة أكبر، والامتناع عن الاستمرار فيه بمجرد اندفاع المنكر، والآحاد من الناس لا يحق لهم شهر السلاح مهما اشتد المنكر، أما إذا وصل المنكر إلى درجة كبيرة، ولا يزال إلا بأعوان يشهرون السلاح، فلا يزال إلا بسلطة تحمل الحق وتدعو إليه، فيكون لها الإذن الشرعى بذلك0
إن بعض ما يتغير باليد أو بالقوة قد يعجز عنه الفرد فتقوم به جماعة، وقد يعجز عنه المحكوم فيقوم به الحاكم، وقد لا يندفع إلا بالتمكين فى الأرض فينبغى العمل من أجل ذلك، فيسقط إثم التخلف عن إزالة المنكر بمجرد السعى لإقامة التمكين لدين الله تعالى فى الأرض0
القاعدة الذهبية
وجماع الأمر فى معرفة المراتب، وإتيان بعضها دون البعض، أو ترك البعض دون الآخر بل حتى السكوت أحياناً عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، هى قاعدة جلب المصلحة الشرعية، إذ إن مبنى الشريعة على جلب المصالح، ودفع المفاسد، والشريعة حكمة كلها، وكل ما خرج بالعمل من المصلحة إلى المفسدة، فهو من الفساد الذى نهى عنه الشارع، والله تعالى لا يحب الفساد، والمصلحة لا تقرر بفائدة الفرد من العمل، وإنما تتحدد المصلحة بميزان الشريعة، وهذا كله ضمن قاعدة شرعية مهمة (وجماع ذلك داخل فى القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهى – وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة –فينظر فى المعارض له0 فإن كان الذى يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته00)( )0
ولابد من أن يطبق كل داعية هذه القاعدة، عن كل أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، سواءً أكان بمفرده، أم ضمن ركب من المؤمنين، فقد يكون الأمر بالمعروف يصلح لمكان وبيئة دون صلاحه فى مكان آخر، وقد يؤتى النهى عن المنكر ثماره فى زمان ومكان، وقد يؤدى إلى فساد عند تغيير الزمان أو المكان، أما إذا اجتمع معروف ومنكر فيقال:
(إذ كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوها جميعاً أو تتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهى حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعى فى زوال طاعته وطاعة رسوله  وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر، وسعياً فى معصية الله ورسوله 000)( )0
ووفق القاعدة الذهبية من الموازنة بين المصالح والمفاسد، وما ينتج عنها من قواعد فرعية فى تقديم أعرف المعروفين، وإنكار أنكر المنكرين، والأخذ بأهون الضررين، وأشباه ذلك تتحقق الغاية التى شرع من أجلها الأمر والنهى0
وقواعد متفرعة
ومن القواعد المتفرعة الأخرى، تقديم المصالح القطعية على الظنية، وتقديم مصالح الجماعة المؤمنة على المصالح الفردية، ودفع المخاطر الواقعة مقدم على دفع المخاطر المحتملة، كما أن حفظ مقاصد الدين مقدم على حفظ مقاصد الدنيا، والضروريات مقدمة على الحاجيات والتحسينات، وغير ذلك مما سيشرح فى مبحث آخر إن شاء الله، ويكتفى هنا بذكر قاعدة أخرى فى تنوع المصلحة ذاتها حسب الظروف، فيقال :
(المصلحة فى ذلك تتنوع، فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال، وتارة تكون المصلحة المهادنة، وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة، وهذا يشبه ذلك 00)( )0
بل، وقد تكون المصلحة أحياناً فى المفاصلة السلبية، إذ يحارب أهل البدع أو المنافقون بالعزلة عنهم، كنوع من إقامة الحواجز النفسية التى تمنع التأثر بهم، وقد أدى تجهم بعض الشعوب الإسلامية فى وجوه المستعمرين إلى تفويت الفرص عليهم فى إذابة الشباب المسلم فى تيار التغريب، ومنع أجيالاً من الفتيان من الانسياب معهم، أو الذوبان فيهم، ولعل هذا المعنى ما أشار إليه ابن مسعود بقوله: ((جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا فى وجوههم، فاكفهروا 00))( )0
فيلاحظ الداعية كيف تتم المصلحة أحياناً بالسكوت والانتظار، دون التعجل والتهور0
شروط إزالة المنكر
ولابد عند النهى عن المنكر، وبناء على قاعدة تحقق المصلحة، لا بد من التحقق بشروطه حتى لا يجلب المفسدة الكبرى، أو يفوت المصلحة الفضلى :
الأول : كونه منكراً، والمنكر أعم من المعصية، فلا يختص النهى بالكبائر، بل ينهى حتى عن الصغائر، إذا كان الأمر ممكناً0
الثانى : أن يكون موجوداً فى الحال، فلا تجوز الإساءة للمسلم بالظن0
الثالث : أن يكون ظاهراً دون تجسس عليه، إذ نهى الشارع عن تتبع زلات المسلمين، والتجسس معصية أشد0
الرابع: أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد، فلا إنكار على من عمل عملاً باجتهاد يعتقد أنه من الصواب، ولا تنكر الآراء المختلف فيها بحجة شرعية0
الخامس: أن يعلم صاحب المنكر فى البدء أن هذا منكر، فلا ينهى من كان كافراً، إذ لابد من دعوته للإيمان أولاً، فالكفر أكبر من كل منكر 0
السادس : أن يتم وفق مراتبه، فيكون البدء بالنهى بالوعظ والنصح والتخويف، ثم العنيف بالقول الغليظ، ثم زيادة الإنكار حسب القدرة والإمكان، حتى الوصول إلى التغيير باليد بشروطه المذكورة سابقاً 0
شبهة 000 وردها
قد يحتج البعض بالقعود عن الأمر والنهى، بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم (المائدة : 105)0
وما علم أن هذا الاحتجاج باطل، نعم فالمضرة لا تأتى على الفرد من ضلال الآخرين فى الآخرة فى الثواب والعقاب، ولا يحمل المسلم وزر غيره، ولكن المسلم فى الوقت نفسه مكلف بأداء الواجب، كما أن المسؤولية فى الحياة الدنيا جماعية، فالآيات القرآنية جاءت جميعها تخاطب الجماعة المؤمنة، وركب المؤمنين، لأن العلاقات الإنسانية مترابطة، والإنسان اجتماعى بالطبع، وتقصير بعض أفراد المجتمع قد يؤدى بكل المجتمع إلى الهلاك، وقد نهى الله تعالى حتى عن مجالسة أهل الباطل، والمشاركة فى لهوهم، دفعاً لمفسدة التشيجع أو التأثر بهم، فكان المؤمن محاسباً على أداء واجبه تجاه المجتمع بالأمر والنهى0
وهناك من يحتج بالخوف من السقوط فى المحنة أو الفتنة، وما علم أن ترك الأمر والنهى، بحد ذاته فتنة، كما ذكر القرآن الكريم فى فتنة نساء بنى الأصفر، والأصل خوفه من أداء الجهاد، وسقوطه فى النفاق، ويقاس على الحدث عدم الاعتذار عن أداء الواجب 0
ولما كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله من الابتلاء، والمحن ما يعرض با المرء للفتنة، صار فى الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال تعالى عن المنافقين : ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا  (التوبة : 49)0
إن هذه الشبهات ونظائرها من مداخل الشيطان، وترك الواجب بحجة وتبرير باطلين إنما هو سقوط فى إثم أشد، لأن الأمر أصل من الأصول لا ينفك عن جبلة الإنسان، فكل بشر لابد له من أمر ونهى، حتى لو كان وحده لأمر نفسه ونهاها، لأن النفس بطبيعتها أمارة، فقد قال تعالى : إن النفس لأمارة بالسوء (يوسف : 53) فاقتضى أن يحولها المسلم إلى أمارة بالخير، منتهية عن المنكر، مع ملاحظة أكبر المعروفات، والبدء بإنكار أشد المنكرات، ومما يؤسف له أن مثل هذا التبرير يقع فيه أهل الدين، فى كل زمان ومكان، خدعة من الشيطان وتغريراً بهم0
(وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهى، وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هى العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا فى الفتنة التى هى أعظم مما زعموا أنهم فروا منه، وإنما عليهم القيام بالواجبات، وترك المحظور 000)( )0
أصناف الناس
وبعض الناس قد يقع عليهم العذاب أيضاً –رغم صلاحهم- إذا تركوا واجب الأمر والنهى، لأن الله تعالى أوضح أن الناس – فى هذا المجال – ثلاثة أنواع : دعاة صالحون، وصالحون بلا دعوة، وأهل المنكر، فقال واصفاً إياهم : وإذ قالت أمة منهم لهم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (الأعراف : 164)0
فبين أن جماعة مصلحة تحاول أن تصلح معذرة إلى ربها، وجماعة تنكر الدعوة لأهل المنكر، لاعتقادها أنه لا نتيجة ترجى من دعوة الضالين المنحرفين، ثم يقول الله تعالى، فى الآية التالية :  فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون  (الأعراف : 165)، أى أن الله تعالى أنجى الدعاة من الصالحين، وأهلك أهل المنكر، وسكت عن الصنف الثالث إما تهويناً لأمرهم، أو لأنهم قد مسهم شىء من العذاب البئيس فى الحياة الدنيا، والنص القرآنى –بذاته- يجعل الأمر مخوفاً، وواعظاً فترك أمر الدعوة إلى الله تعالى، وعدم مشاركة الدعاة فى أداء واجبهم، مهما كانت التبريرات، قد يصيب هؤلاء بشىء من غضب الله تعالى0
أيها المسلم : احذر العقاب
ومما قد يناله المتقاعسون عن أداء الواجب بالأمر والنهى، قد يعم الأمة كلها، ويعاقب الله تعالى الناس بترك هذا الواجب، حتى ليدعو الصالحون فلا يستجاب لهم، وقد تستحق الأمة اللعنة بسب ذلك، كما لعن بنو إسرائيل، فكما أن لأمة الإسلام الخيرية بين الأمم بسبب هذا الأمر، فقد يحل بها العذاب عند تركه، وقد تقع عليهم من الرزايا والبلايا ما لا يمكن دفعه، بل وثبت – من استقراء التاريخ- أن القتل والدماء والمآسى تحل بالمسلمين- عند تركهم لأمر الدعوة – أضعافاً مضاعفة مما قد يحل بهم عند أداء واجب الجهاد والدعوة، ومما ورد فى هذا ما سألته زينب لرسول الله  فى جزء من حديث 0
(أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (( نعم ، إذا كثر الخبث))( )0 وقد أردف الإمام البخارى هذا الحديث، بأحاديث الفتن، وما ذكر فى أنها تدخل كمواقع القطر، تشبيهاً لها بالمطر0
(وحسن التشبيه بالمطر لإرادة التعميم، لأنه إذا وقع فى أرض معينة، عمها ولو فى بعض جهاتها، قال ابن بطال: أنذر النبى  فى الحديث زينب بقرب قيام الساعة، كى يتوبوا قبل أن تهجم عليه 00)( )0
وليس أكثر سبباً فى وجود الفتن من ترك واجب الدعوة إلى الله تعالى0 ومن العقاب الذى قد يحل بسبب ذلك أيضاً زيادة الخلاف والشقاق بين الأمة، أو بين الجماعة المسلمة ذاتها، أو يتودع من الأمة وتهون على ربها إذا خشيت أن تقول للظالم: يا ظالم، أو يضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ويجتلدون بأسيافهم، أو قد يرث الدنيا شرارهم، فيكون السيف بيد الجبان، والمال بيد البخيل، ولقد حذر أبو بكر الصديق الأمة من الفهم الخاطئ للآية عليكم أنفسكم (المائدة : 105)0 فقال : ((إنى سمعت رسول الله  يقول : إن الناس إذا رأوا منكراً، فلم يغيروه، يوشك أن يعمهم الله بعذابه00)) أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهم، بل وفوق ذلك كله، قد يعم الأمة العذاب، ويهلك الناس، ثم يبعث الناس على قدر نياتهم، وقد يحصل للأمة نظير ما حصل للأمم الأخرى التى حصل لها عذاب الاستئصال، الذى رفع عن هذه الأمة ببركة دعاء نبينا  ولكن نظيره وشبيهه كعذاب الذلة والخور، وعذاب المهانة والاستذلال، قد يحصل بشكل أو آخر، فهل يشمر المسلمون للانضمام إلى قافلة الدعوة، وقطار الدعوة، حت يسهل الوصول للهدف، وتتم المسيرة دون الوقوع فى عذاب الله تعالى !!0 وفق الله الجميع لكل خير، والله غالب على أمره 0

(17) من حق الطريق (2)
لقد سبق الحديث فى الفصل السابق عن الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وخصائصه، ووجوبه ومراتبه، وبعض قواعده، وشروط إزالة المنكر، وعواقب ترك الأمر والنهى، وفى هذا الفصل سيكون الحديث عن شروطهما، وما يتعلق ببعض هذه الشروط0
شروط ثلاثة عامة
يمكن تعداد شروط كثيرة لمن يتصدى للأمر بالمعروف، أو النهى عن المنكر، ولكن كثرة الاشتراط يعطل هذا العمل، فوق أنها لا مبرر لاشتراطها دون حجة شرعية واضحة، إلا إنه يمكن القول أن هناك شروطاً ثلاثة على وجه العموم، وثلاثة على وجه الخصوص00
أما العامة منها فالواقع أنها تنطبق على كل عمل تكليفى، وذكر بعض العلماء لها –فى هذا المجال- من باب التذكير والوعظ فحسب، أما تخصيصها بعمل آخر فلا يصح، وهى :
النية وكل من (القدرة أو الورع ونظائرهما) والاستطاعة 0
فالنية أصل كل عمل وفعل، ولا يتقبل العمل إلا بالنية الصادقة، لأن الأعمال بالنيات، وكل عمل مشروع، أو بر وخير، فلابد له من نية وحركة، والحركة بهذه الأعمال لا يجزى المرء بها إلا بنية صادقة، وهى التى يتقبلها الله ويثيب عليها 0
أما الورع فهو درجة عالية يسبب اشتراطه تعطيل مصالح كثيرة، فوق أنه نسبى يتغير من شخص إلى آخر، وحسب المواقف والظروف، ولقد يحاسب الإنسان عند قوله ما لا يعمل إذا أدى ذلك رياء أو سمعة، ولكن تعطيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بحجة عدم توفر الورع ليس شرطاً فى أداء مهمة الدعوة، ولكن يحرص عليه جهد الإمكان، مع ضرورة القيام بالوعظ باستمرار، إذ إن الورع يحسن النية، ويوصل القلب إلى رتبة عليا تطلب فى جميع الأعمال0
إن الكلام نفسه يمكن قوله عن اشتراط القدوة –وهى من نتائج الورع- إذ إن الآمر بالمعروف يجب أن يكون ملتزماً بما يدعو إليه محافظاً على ذلك حسب قدرته واستطاعته، فإن التزامه بما يدعو إليه يقود إلى النتائج الأفضل، ويردع غيره عن المخالفة، وتكون دعوته مقبولة، ولا تورث جرأة عليه، واستهزاء به، بينما اشتراطها للأمر والنهى بشكل أساسى فهو من لزوم ما لا يلزم0
أما الاستطاعة فهى أساس كل تكليف، إذ لا تكليف إلا بمستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والاستطاعة من شروط كل عمل صالح، بل إن الاستطاعة من قواعد الشريعة، وهى صفة تتغير من شخص إلى آخر، كما أنها تتغير وفق الظروف والأحوال والعادات، فقد يكون بعض المعروف مما يمكن الأمر به فى مكان، ولا يمكن الأمر به فى مكان آخر، ويكون بمقدور شخص ولا يقدر عليه غيره، ويمكن كذلك النهى عن منكر فى ظروف، ولا يمكن فى ظروف أخرى، ويمكن أداء كل من الأمر والنهى فى زمن، ويستحيل فى زمن آخر، وفوق ذلك كله يمكن لبعض الأوامر والنواهى أن تقوم بها جماعات ومؤسسات، ولا يمكن أن يقوم بها الأفراد 0
وهذا منهج يطبق على كل عمل، فلابد من التذكير به فى مجال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، دون تخصيص هذا العمل وحده بهذا الشرط، وإنما يذكره العلماء –قديماً وحديثاً تذكيراً به ، ووعظاً وإرشاداً0
وثلاثة خاصة
أما الشروط الثلاثة الخاصة، فهى التى لابد منها، ولها ضرورة متميزة فى مجال الأمر والنهى، وإن كانت قد تشترط فى مجالات أخرى، وتخصص فى هذا المجال لأهميتها، إذ لا يتم الأمر والنهى –على الوجه الأكمل- إلا بها، ألا وهى :
العلم، والرفق، والصبر
ولهذا قال شيخ الإسلام –رحمه الله : ((000 فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهى، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً فى هذه الأحوال00 وهذا كما جاء فى الأثر عن بعض السلف 00 لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه 00)( )0
فالعلم أولاً أمر لابد منه، إذ كيف يمكن الأمر بشىء لا يعلم عنه أنه معروف، أو ينهى عن أمر لا يعلم أنه منكر، وكذلك فإن العلم قبل العمل، والعلم شجرة ثمرتها العمل، والعلم إمام العمل، وقد قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- : ((من عبد الله بغير علم كان يفسد أكثر مما يصلح))0
(00 وهذا ظاهر، فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً، وضلالاً واتباعاً للهوى 00 وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام، فلابد من العلم بالمعروف والمنكر، والتمييز بينهما ولابد من العلم بحال المأمور وحال المنهى، ومن الصلاح أن يأتى بالأمر والنهى على الصراط المستقيم، هو أقرب الطرق، إلى حصول المقصود00)( )0

إذن، فلابد من العلم كشرط من شروط الأمر والنهى، ومقتضى أن العلم مقدمة لكل عمل، ولكن ينبغى عدم المبالغة فى شرط العلم حتى لا تفوت المصالح، فلا يشترط المقدار الكبير من العلم الذى لا يملكه إلا النخبة من البشر، فالكمال فى الناس قليل، وإنما المقصود –هنا- بعض العلم، وهو المعرفة بالمأمور به، وحدوده وضوابطه، ومعرفة المنكر المنهى عنه وحدوده وبدائله، مما يؤدى إلى حصول المقصود، وعدم تجاوز حد الشرع فى ذلك، فتتحقق المصلحة، دون أن تجلب معها مفسدة، أو تفوت مصلحة أخرى، ولذلك كان من خصائص العلم المطلوب للأعمال التكليفية أنه قابل للتبعيض، أى أن كل عمل يتقدمه جزء من العلم يختص به، ويجعله وفق الشريعة ويتحقق به مقتضى صواب العمل0
زينة الرفق
وثانى هذه الشروط: الرفق الذى لابد منه قبل الأمر والنهى، وبعدهما، بل هو زينة العمل الصالح، والله تعالى يعطى على الرفق، ما لا يعطى على العنف وهو الطريق إلى القلوب. ولقد قال النبى  : (( إن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه، ولا ينزع من شىء إلا شانه))( )0
وكذلك قال عليه السلام: (( من حرم الرفق حرم الخير، أو من يحرم الرفق يحرم الخير))( )0
(00 وفى هذه الأحاديث فضل الرفق والحث حرم الخلق، وذم العنف، والرفق سبب كل الخير.. وقال القاضى: معناه يتأتى به من الأغراض ويسهل من المطالب ما لا يأتى بغيره 000)( )0
وهل هناك أفضل من غرض الدعوة إلى الله تعالى، ومطلب الأمر بالمعروف، فلابد من الرفق الذى يتوصل به إليه، فالعلم وحده لا يكفى فى أداء الأمر والنهى، لأن الغضب إذا هاج فلا يكفى العلم فى قمعه، والغضب من فيح جهنم ولابد من الرفق الذى يؤدى إلى هدوء الطبع حتى تتمكن النفس من الاستجابة0
(ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون؛ إذ وعظه واعظ، وعنف له فى القول، فقال : يا رجل ارفق000 فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر منى، وأمره بالرفق، فقال تعالى: فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى000)( ) (طه : 44)0
ومن مظاهر الرفق التمهيد للأمر بالحسنى، واجتناب الألفاظ القاسية، والعبارات الجافة، والمناداة بأحب الأسماء، والابتعاد عن التعبير والتبكيت، ومحاولة صرف الإنكار إلى غير معين إن أمكن، والابتداء بالتلميح دون التصريح، ومحاولة توجيه العتاب إلى النفس، والتلطف فى الخطاب، ومراعاة حسن الأسلوب حسب ثقافة الأفراد وأذواقهم، ومكانتهم، واختيار أفضل الطرق إلى القلوب باختيار الأوقات والأماكن المناسبة، وعدم ازدراء عقول الناس أو تسفيه آرائهم، وأباه ذلك مما لا يخفى،والتذكير بالله تعالى أولاً وأخيراً، وبثوابه وعقابه، فإن كل ذلك مما تؤلف به النفوس الناشزة، وترد به القلوب النافرة، ويدنى من سماع القول الصالح، ويقرب إلى جماعة المؤمنين. ومد يد العون، والانبساط فى الوجه، والمداراة والتشجيع عند الاقتراب نحو الخير، وإظهار المودة والليونة، والعفو عند المقدرة، والاستغفار للمؤمنين، والدعاء لهم، ولقد قال الله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران: 159) ( )0
ومن الرفق 00 التلطف
ومن الرفق المطلوب، التلطف بكل الوسائل للوصول إلى المقصود، دون تنازل ومماراة، ودون ملق أو مداهنة، ويمهد للأمر المستغرب، وتراعى أحوال المخاطبين، فيبتعد الداعية عن الوعظ المباشر، ولا يكشف الأستار، ومن التلطف فى الوعظ تقديمه فى السر، واختيار الوقت المناسب، والنصح بالقليل قبل الكثير، والتنبيه غير المباشر، وذكر أقوال الوعاظ وهم يخاطبون نفوسهم وبذلك يصلح الناس، ويقع الوعظ موقعه، وما أجمل قول أبى الوفاء بن عقيل، وأثر موعظته فى غيره، وهو يخاطب نفسه :
(00 يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر00 ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء، وهى أيام العمرحتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر.. أف لنفسى وقد سطرت عدة مجلدات فى فنون العلم وما عبق بها فضيلة؛ إن نوظرت شمخت، وإن نصحت تعجرفت.. وإن انكسر لها غرض تضجرت، فإن أمدت بالنعم اشتغلت عن المنعم 00 وغداً يقال : مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفونى حق معرفتى ما دفنونى، والله لأنادين على نفسى نداء0
وهكذا يكون الوعظ العام بالإشارة، أو بنقد الذات، دون ذكر الأسماء، ودون الهمز واللمز، أما خصوصية الوعظ –التى لابد منها فتقدم دون تبكيت فى السر أو إيذاء 0
ومع الكبار أولى
وإذا كان الرفق مطلوباً مع الناس، فاستعماله مع الرؤساء والحكام، وأهل الفضل أولى، إذا كان يقود إلى أداء المهمة، ويحقق الاستجابة (فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبى  يخاطب رؤساء العشائر والقبائل، وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون : هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (النازعات : 18،19) فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض لا مخرج الأمر، وقال : إلى أن تزكى (النازعات : 18) ولم يقل : (( إلى أن أزكيك)) فنسب الفعل إليه هو ، وذكر لفظ التزكى دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: وأهديك إلى ربك (النازعات : 19) أكون كالدليل بين يديك الذى يسير أمامك، وقال : إلى ربك استدعاء لإيمانه بربه الذى خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيراً ويافعاً وكبيراً)( )0
فما أحرى الدعاة أن يأخذوا بالاقتداء بسنن الأنبياء والمرسلين0
فما أحرى الدعاة أن يأخذوا بالاقتداء بسنن الأنبياء والمرسلين0
والصبر 00 أخيراً
وأخيراً يأتى آخر الشروط، وهو الصبر الذى جعله الله تعالى رديفاً للقيام بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقريناً لا ينفك عنهما، فقال تعالى حاكياً ما قاله لقمان لابنه : يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (لقمان : 17)0
حيث أمر الله تعالى رسله وأنبياءه أئمة الداعين إلى الخيرن الآمرين بالمعروف وأتباعهم من المؤمنين بالصبر، كما وصف أهل الإيمان والعمل بالتواصى بكل من الحق والصبر كما ورد فى سورة العصر، لأن من لا يحلم ويصبر، إما أن يحصل له الأذى فيشق عليه، أو أن يغضب ويخرج عن الخلق السوى، فيفسد أكثر مما يصلح، وليس أدل على الحاجة للصبر مما ذكره الله تعالى حيث جعله قريناً لتبليغ الرسالة، فقال فى سورة المدثر –وهى من أوائل السور المنزلة- مذكراً رسوله الأمين -  : ولربك فاصبر 00 (المدثر : 7)
( 000 فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر)( )0
ولما كان الصبر مصاحباً للأمر والنهى، وضرورياً لهما فلابد منه لكل من الرعاة والرعية، ومن أمراء الخير وأتباعهم، لأن قافلة الدعاة لابد لها من الصبر المتبادل بينهما، والتواصى بين الدعاة على الصبر والتصبر فى الدعوة، والصبر على ما يصابون به فى ذات الله، لأن الأمر والنهى لا يتم إلا بالصبر، والمصابرة على ذلك بذاتها جهاد، حتى تتم مصلحة الأمر والنهى (وهذا عام فى ولاة الأمور وفى الرعية، إذا أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا فى ذات الله، كما يصبر المجاهدون على ما يصابون فى أنفسهم وأموالهم، فالصبر على الأذى فى العرض أولى وأولى، وذلك لأن مصلحة الأمر والنهى لا تتم إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب00)( )0
صبر 00 وتصبر
وليست هذه الخصائص بالشىء السهل، ولا بالعمل اليسير، بل تحتاج إلى عزم وتصميم، وإرادة وثبات، وإيمان وثقة، لأن هذا طريق الدعوة، وواجب الدعاة (والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر –من ثم- تكليف ليس بالهين ولا باليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وغلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم، وفيهم الجبار الغاشم، وفيهم الحاكم المتسلط، وفيهم الهابط الذى يكره الصعود، وفيهم المسترخى الذى يكره الاشتداد، وفيهم المنحل الذى يكره الجد، وفيهم الظالم الذى يكره العدل، وفيهم المنحرف الذى يكره الاستقامة، وفيهم من ينكرون المعروف ويعرفون المنكر، ولا تفلح الأمة، ولا تفلح البشرية، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً 000)( )0
وفى الوقت نفسه، فالداعية –المسافر فى طريق الدعوة- يحتاج فوق ذلك إلى أنماط أخرى من الصبر، إذ لابد من الصبر على التكاليف الشرعية، وعلى ترك المطامح والمطامع، والصبر على الملالة والعجلة، والصبر على الجهالة وسوء التصور، وعلى انحراف التصورات، والالتواء، وكل ذلك الصبر خلال القيام بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر00 وقد يتعرض من خلال هذا العمل إلى مواجهة الباطل، أو وقاحة الطغيان، وإلى غلبة الشهوة وتصعير الغرور، ويحتاج –فوق ذلك كله- إلى صبر يعينه على قلة الناصر، وضعف المعين، ومشقة الطريق، والصبر على مرارة الأمر بالمعروف، بينما يتلهى الناس بالرغائب، وعلى مرارة النهى عن المنكر بينما ينشغل الناس بالشهوات، ويحتاج إلى الصبر كذلك حتى يستمر فى عمله، فقد يشعر الداعية –أحياناً- بالحاجة إلى الميل إلى الترك بحجة عدم توفر هذه الصفات، فيقال له :
(00 وليعلم أن اشتراط هذه الخصال فى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، مما يوجب الصعوبة على كثير مما يضره الأمر بدون هذه الخصال، أو أقل، فإن ترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهى الله عنه فى الأمر معصية، فالمتنقل من معصية إلى معصية كالمستجير من الرمضاء من النار00)( )0
فيصبح الداعية بحاجة إلى المزيد من الصبر الذى يواجه به الانفعالات المتنوعة، من الألم والحسرة على الضائعين، والحنق والضيق من المكابرين، وضعف الثقة أحياناً فى الخير، وقلة الرجاء من الاستجابة، بل وحتى القنوط أحياناً، فيحتاج إلى المزيد من الصبر حتى يضبط النفس فى ساعة القدرة والغلبة حتى لا تقع النفس فى حمأة الغرور، ويشد العزم فى ساعة الانتصار حتى لا تقع فى دواعى الانتقام، ويقوى الإيمان حتى يصبر على الابتلاء والشدة والمحن، ويصبر على هداية الناس والأسى عليهم مما هم فيه، كل ذلك هو من صبر السائرين فى قطار الدعوة اللاحب، إذ لابد منه كى يسير فى خطها المستقيم، وسيره الحثيث، ثابت الخطى، لا تعيقه العوائق، ولا تمسكه العلائق، ولا تقطع سيره الجواذب، ولا تحد من سرعته الأشواك، وإن نصر الله تعالى فى نهاية الطريق0
(والصبر على هذا كله –وعلى مثله- مما يصادف السالك فى هذا الطريق الطويل00 لا تصوره الكلمات، فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقى لهذه المعاناة، إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق، وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات00) ( )0
ولكن نهاية مشقة الطريق، ووعورة المسالك، وآلام الدرب المرير، إذا ما كانت مع الصبر الجميل فهى فضل من الله ورضوان0
إضافة إلى ما يقذفه فى قلب العبد من التلذذ بالبلوى، والاستبشار بوعد الله تعالى، وقوة عبودية البلاء، والتقلب بين الخوف والرجاء، والحصول على أجل مقامات الإيمان، بل هو من أسباب الحصول على الكمال، وتقوية العبد على العزيمة والثبات، فيهون البذل والصبر فى سبيل الدعوة، وإقامة حكم الله، فيكن الداعية من الذين صفتهم (همهم إقامة دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه، وأن تكون الدعوة له وحده، فيكون هو المعبود لا غيره، ورسوله المطاع لا سواه، فلله سبحانه من الحكم فى ابتلائه أنبياءه ورسله، وعباده المؤمنين ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته، وهل وصل من وسل إلى المقامات المحمودة، والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء)( )0
وقد يزف الله البشرى لعباده فى الحياة الدنيا بما يحبون :وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (الصف: 13)0

والصبر قرين التقوى
ولما كان الصبر بهذه المنزلة العالية، صار قريناً للتقوى أيضاً، فكان كلاهما من عزائم الأمور، ولأن بكل من الصبر والتقوى يمكن مجابهة المحن، وإيذاء الكفار وغيرهم عند القيام بمهمة الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر كما أصبح الصبر والتقوى من صفات المؤمنين (والمؤمنون كانوا يدعون إلى الإيمان بالله، وما أمر به من المعروف، وينهون عما نهى الله عنه من المنكر، فيؤذيهم المشركون وأهخل الكتاب، وقد أخبرهم بذلك قبل وقوعه، وقال لهم: وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (آل عمران : 186)0
وقد قال يوسف –عليه السلام- : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (يوسف:90) 00 فالتقوى تتضمن طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ والصبر يتناول الصبر على المصائب التى منها أذى المأمور المنهى للآمر الناهى 00)( )0
أى يستنبط من الآيات أن من الناس من يملك التقوى بلا صبر، وهم عوام المسلمين الذين يؤدون الواجبات ولا يصبرون على جهد الدعوة إلى الله، وهناك أناس لهم صبر بلا تقوى، وهم الطغاة والحكام، أو اللصوص وقطاع الطرق، ممن لهم القدرة على التحمل، والصبر على المكاره، وتحمل الشدائد مما هو ملاحظ فى الحياة، ولكن لأغراض دنيئة، ومقاصد فاسدة، ومن الناس الذين هم بلا تقوى ولا صبر، ولكن المطلوب من الدعاة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر التحلى بكل من الصبر والتقوى00 ولهذا فقد أمر الله تعالى الأنبياء- ومن بعدهم الدعاة فى كل زمان ومكان – بالصبر والتقوى فى أى مرحلة من مراحل العمل، سواء أكان فى مرحلة التمكين فى الأرض أو قبلها، أو كان المنكر فى مرحلة الإنكار بالقلب أو التغيير باليد، بينما شبيه الصبر –وهو العفو والصفح- فقد جعل إلى غاية معلومة وهو إلى (أن يأتى الله بأمره) حيث يكون التمكين، ويكون لولى الأمر سلطة فى الإلزام بالمعروف، أو النهى عن المنكر بكل الوسائل الرادعة، وهنا تفريغ لطيف، يلزم لركاب قطار الدعوة الالتفات إليه، ولذلك قيل :
(وأما الصبر فإنه مأمور به مطلقاً، فلا ينسخ، أما العفو والصفح فإنه جعل إلى غاية، وهو: ((أن يأتى الله بأمره)) فلما أتى بأمره بتمكين الرسول ونصره –صار قادراً على الجهاد لأولئك، وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر –صار يجب عليه العمل باليد فى ذلك ما كان عاجزاً عنه)( )0
فرق مهم
هنالك فرق بين العمل لأداء فرضية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر –حيث الالتزام بحقيقة التوحيد الملزم بالتغيير، ومفارقة المنكر، حتى ولو بالقلب- وبين العمل لإنزال العقوبة بالحد والتعزيز على تارك المعروف، أو فاعل المنكر، فالعمل الأول من واجب كل فرد حسب قدرته واستطاعته، وحسب قدرة وإمكانية كل جماعة أو هيئة تعمل للإسلام، دون اختصاص أحد أو سلطة به، بينما العمل الثانى من اختصاص سلطة تنفيذية لها الحق فى تنفيذ ما شرع الله تعالى، بعدما يتحقق لها التمكين فى الأرض0 ولكن هذا لا يمنع الآمر الناهى –فى الحالة الأولى- أن يدفع عن نفسه- بما تيسر له- إذا تعرض من المأمور المنهى لبعض الأذى، كما يدفع الإنسان عن نفسه أذى الصائل، وله كذلك حق الصبر والحلم، أو العفو والاحتمال، على أن يكون العفو مع القدرة والقيام لما يجب مع نصر الحق، لا مع إهمال حق الله وحق العباد 0
أى –باختصار ليس المقصود بالأمر والنهى، إقامة الحجة على الناس، وإنما دعوتهم للخير ونهيهم عن الشر، امتثالاً لأمر الله تعالى، وكل شخص محاسب أمامه فى ذلك، وما واجب الدعاة إلا لتطبيق قوله تعالى :ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين(النحل:125)0
وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً (الإسراء:53)0
لا تيأس فى الطريق
وأخيراً، مع مشقة الأمر والنهى، والجهد المبذل فى الصبر والتصبر، فعلى الداعية أن يستمر فى طريقه، ولا يثبطه كثرة الهالكين، وأن يبقى مع ركب الدعاة ولا يهمه براعة الخائضين، ولا تخدعه قوة الباطل فالحق أبقى، ولئن كانت جولة الباطل ساعة فصولة الحق إلى قيام الساعة، بل يقال للدعاة فى كل زمان ومكان: ((إنه لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود، فإذا كانت المرة المائةلم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة، وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف00 ولو صبروا هذه المرة وحاولوا، ولم يقنطوا لتفتحت لهم أوصاد القلوب00 إن طريق الدعوة ليس هيناً ليناً، فهناك ركام من الباطل والضلال، والتقاليد والعادات يجثم على القلوب، ولابد من لمس جميع المراكز الحساسة، ومن محاولة العثور على العصب الموصل00 وإحدى هذه اللمسات ستصادف مع المثابرة والرجاء، ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشرى تحويلاً تاماً فى لحظة متى أصابت اللمسة موضعها00)( )0
بل، وما يدرى الداعية لعل كلمة تؤت ثمارها حالاً، ولكنها تؤتى ولو بعد حين، وقد يدخر الله الانتفاع بكلمته ولو بعد سنين، وقد تبلغ عنه الكلمة الطيبة فتنقل من شخص إلى آخر، فتلاقى قلباً واعياً، أو تصادف أذناً صاغية، فينتفع من كلمته خلائق لا يعلمهم ويكتب له الأجر فى ميزان حسناته.. وهكذا هو شأن الدعوة، فهى كلمة طيبة كبذرة طيبة، قد تدرك الأرض الطيبة، فتنبت وتتضاعف، وتؤتى أكلها بإذن الله00
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء(24) تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون(إبراهيم : 24،25)0
فما على الداعية إذن إلا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يفوت فرصة تفلت من يديه دون أداء هذه المهمة، فى السفر والحضر، وفى البيت والعمل، وفى النزهة والشارع، وعند الأهل والأقارب، ومع الضيوف والأصدقاء، لعل الله تعالى يوفقه للكلمة الطيبة، التى تنتشر فى الآفاق، فيكتب الله له أجرها، وأجر من عمل بها، وتتضاعف الحسنات حتى قيام الساعة، فيفرح بعمله يوم القيامة، وقد رأى العمل اليسير، يضاعفه له رب العزة، والله على كل شىء قدير 0

(18) تنبيهات وإرشادات
ومن سنة البشر فى حياتهم، أن الطرق لا يمكن أن تسلك إلا بعلامات للاهتداء، وإشارات للمسير، توضح المراحل، وتدفع المخاطر، وتسهل اجتياز العقبات، وتيسر قطع الفلوات، وقد تكون هذه العلامات سمعية أو بصرية، كما أنها قد تكون للتوضيحخ والإرشاد، أو للتنبيه والاعتراض، وهكذا فإن الداعية فى قطار الدعوة يحتاج إلى التوعية والتنبيه للقلب السائر فى طريق الآخرة بمواعظ هى إشارات ساطعة فى دربه الطويل، وتنبيهات تقيه شر المنعطفات0
(السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين قوة علمية، وقوة عملية فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواطن العطب، وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى به فى ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد، والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك، وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً، أعلام الطريق، وأدلتها المنصوبة عليها، فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين، أعلام الطريق ومعاطبها0
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، إن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه، إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر الغابر والوهاد والطرق الناكبة عنها، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح00)( )0
وهذا الفصل يوضح بعض الإشارات والتنبيهات للداعية المسافر فى قطار الدعوة، مما قد يحصل لقلب السالك إلى الله تعالى لعل فيها التبصير فى الطريق، ومعرفة خطوات السير0
فرص متساوية
لقد اختص الله عز وجل عباده برحمته الواسعة، وامتن عليهم بالرسالة، وبالعقل مناط التكليف، ثم بعد ذلك يأجرهم على العمل الصالح، ومن رحمته أن يبتلى عباده بالخير والشر فتنة، ويعطى لكل عباده فرصاً متساوية ليتحقق عدله فى العباد ثم يكون الحساب على العمل، وهو المتفضل أولاً وآخراً ونفس وما سواها(7)فألهمها فجورها وتقواها(8) قد أفلح من زكاها(9) وقد خاب من دساها(الشمس : 7: 10)0
وهذه الفرص قد لا تكون متشابهة فى ظاهرها، فبعضها من بلاء النعمة فيقتضى الشكر، وبعضها من بلاء النقمة فيقتضى الصبر، والمؤمن بين الصبر والشكر وهما نصف الإيمان، ليتقلب المرء بينهما، ورغم ما يبدو من ظاهر اختلاف ما يتعرض له العباد، فإن الله جلت قدرته يعلم ما يخفى للمؤمن من الخير، ولو كشف الحجب لكل مؤمن لما اختار المؤمن إلا ما هو عليه، وما على المؤمن إلا الصير على الشر وسؤالب الله العافية، والشكر على الخير أن لا يقع تحت طائلة الغرور فيمتنع عن الاستزادة من الخير، وأن يستصغر عمله ليطب المزيد، وأن لا يقع تحت طائلة التشاؤم فيقعد به الشيطان عن طلب المعالى0
تعجيل العقوبة
ومن رحمة الله بعبادة المؤمنين تعجيل العقوبة بالمعصية حتى تكون تنبيهاً للمؤمن عما بدر منه، فيصيبه بالغم أو الهم عند المعصية، بل إن وقوعه فى المعصية مرة أخرى عقوبة من الله عن المعصية الأولى، وقد تكون العقوبة على أمر من الدنيا، كما قال الفضيل بن عياض –رحمه الله- : ((فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة فى مطعمه، فأظلم سره، وحرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة 000 إلى غير ذلك، مما يعرفه أهل محاسبة النفوس))0
ولهذا نرى أن الزانى لا يلتذ بنكاح الزنا، والسارق لا يلتذ بالمال المسروق، ولابد للداعية من استحضار هذا المعنى دوماً، بل حتى ولو التذَّ بها لذة حسية مؤقتة فسرعان ما يجد بعدها هماً أو انقباضاً فى النفس يكون أضعافاً مضاعفة عن اللذة، كما أنها قد تطرد عنه خيراً أكبر، فقد تفوت معاصى النظر أو الزنا بركة الحصول على زوجة ترضيه، ومعاصى تبذير المال أو الشح به تفوت بركة الاستثمار أو إرباء الصدقات، والبخل بالأوقات فى سبيل الله يدفع بركة الاستفادة من الوقت حتى فى السعى الدنيوى، بينما يحصل العكس إذ قد تؤدى الصدقات والحسنات والطاعات إلى انفتاح البركات فى نظائرها مما لا يراه المؤمن ظاهراً 0
لذة طاعة
وكما أن للمعصية عقوبة، فإن للطاعة لذة لا يدركها إلا أصحاب الطاعات، وتأتى اللذة أيضاً من الصبر على الشهوات، وعلى ترك المعاصى، فإن الله تعالى قد يمنح جزاء الصبر بالتعويض، وقد يؤخر الأجر ذخيرة لنبعده، وقد يكون هذا التعويض ظاهراً وقد يكون مختفياً يعود للمؤمن بشكل آخر، فقد يبذل المرء شيئاً من المال فلا يجد التعويض، ولكن الله سبحانه وتعالى قد عوضه بصحة زوجته وأولاده، وغمرهم بسعادة لا يدركون كنهها، وقد يبخل المرء بالمال القليل، ولكنه يضطر لدفع الأضعاف المضاعفة لأجل دفع الأمراض، أو التخلص من المنغصات، ومثلها ما قد يحصل للمؤمن عموماً (وللدعاة خصوصاً) من أن التضحية بالوقت والجهد للدعوة تعقب فى نفس الداعية لذة، وسعادة فى القلب، ومحبة فى نفوس الخلق، بل وقد تورث الطاعة ما هو فوق ذلك من قوة فى البدن، ونضارة فى الوجه، ومحبة فى نفوس الخلق، فيأنس المؤمن بالجلسة البسيطة، ويلتذ بالنكتة البريئة، ويسعد بالجلسة الهادئة، بل ويشعر بمنتهى السعادة بالأخوة والجماعة. مما لا يأنس به أصحاب الملايين فى لهوهم وحفلاتهم!!0
وكذلك قد يدفع البذل بالمال أو الوقت المرض والبلاء عن الأولاد والزوجة والنفس، وقد يحصل العكس أحياناً فقد يملك المرء كل شىء، ولا يدرى لماذا لا يشعر بالارتياح، ولا يحس بالسعادة.. فكم من غنى يملك الملايين ولا يستطيع التلذذ بوجبة طعام لإصابته بأحد الأمراض، وكم من غنى لا يستشعر لذة الهدوء والاستقرار خوفاً من السرقة أو الاغتيال، وهكذا نرى أن الله عز وجل جعل مقابل كل لذة ظاهرة نقصاً يعادلها، ومقابل كل كدح ظاهر للمؤمن لذة يستشعرها، واللذة الآتية مع الطاعة لا تعادلها لذة، رحمة من الله تعالى لعباده المؤمنين، وهى لذة لا تظهر إلا لأصحابها، ومسكين من حرم منها. (والحلاوة التى يجدها المؤمن فى قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذى يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التى تناله أعلى من كل لذة، كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقولهك إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: ((إن ليمر بالقلب أوقات يهتز بها طرباً بأنسه بالله وحبه له. وقال آخر: مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. وقال آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)( )0
ولا نظن داعية لم يجرب مثل هذه المشاعر، ويمر بلذة الطاعة، ومشقة المعصية، ولكن المهم أن يستشعر الداعية ذلك ويتذكر ويحكم على الكثير من خلال القليل، ويبادر إلى الخير باستمرار، ويتذكر مثل هذه المعانى، وأن لا ينسيه الشيطان ذلك0
إن على الداعية أن يعتبر بذلك باستمرار، إذ إن الله تعالى ينبه المؤمن بطرق مختلفة قد تكون على سمعه كالأجراس، أو على عينه كالأضواء، بل قل كالبوارق اللامعة تلمع لقلب المؤمن إذ قيل: إن ((البرق: باكورة تلمع للعبد، فتدعوه إلى الدخول فى هذه الطريق)) بل هى أنوار تقذف فى قلب العبد تدعوه إلى دخول طريق الصالحين0
البرق الأول : التيار المباشر
منها الموعظة المباشرة، وعلى المؤمن أن يتقن فن الاستماع إليها، ولا يتكبر عليها، ولا ينظر لها بمقياس قائلها، فإن من تحيطه النيران، أو تهاجمه الذئاب يشكر من ينبهه على الخطر، ولا ينظر إلى شكله أو شخصه، وكذلك الموعظة فيها الخير الكثير، والإسراع فى طلب الخير، والبعد عن المعاصى فما ضر المستمع أن لا ينظر إلى صاحب الموعظة عليه، فإن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وقلب المؤمن بحاجة إلى استمرار إزالة الرين عنه حتى يبقى دائماً على صفائه، ولا ينفك قلب المؤمن من تراكم السيئات عليه فلا تزول إلا بالحسنات، ولا تزاد الحسنات إلا بكثيرة تنبيه المواعظ، ومثل النكت على القلوب كمثل ترسب المعادن على الألواح، فلا تزال إلا بتيار المواعظ المستمر، والقلوب درجات متفاوتة فى تأثرها بالمواعظ، والسعيد من ازدادت حساسيته، وسارع بالاستجابة لها 0
البرق الثانى : لا سلكى القلوب
ومنها : الموعظة العامة، فقد يوعظ المؤمن فى حالة لم يتلبس حينها بذنب أو معصية، ولكن المؤمن ينتبه، ويأخذ عموم الموعظة لينتفع بها فى وقتها حيث تخزن فى ذاكرته، ونضرب لذلك مثلاً فنقول: إن المؤمن قد يتصرف فى أمر – وهو متواضع فيه- فيوعظ فى نفس الوقت بتجنب الغرور، فتخفى هذه الموعظة على بعض المؤمنين، وقد يدلس عليه الشيطان على أساس أنه لم يكن مغروراً فى عين المسألة التى وعظ بها، فتمر الموعظة دون استفادة، ولكن المؤمن الكيس الفطن يدرك أنه بحاجة إلى هذه الموعظة، وما هى إلا هبة من الله تعالى، وإن جاءت –فيما يظهر- فى غير مناسبتها، وإنه قد يكون متلبساً بصفة تحتاج لهذه الموعظة، ومجيئها فى غير مناسبتها، وإنه قد يكون متلبساً بصفة تحتاج لهذه الموعظة، ومجيئها فى غير مناسبتها، وإنه قد تكون فيها حكمة خافية علينا، فهى إما امتحان لعبده المؤمن كيف يستجيب للموعظة، أو أنها رحمة به حتى يؤجر مرتين أحدهما لسماع الموعظة الأخرى بسبب صبره على سماعها دونما حاجة آنية، أو أنها عقوبة معجلة لما يصاحبها من ألم ومعاناة أجل ذلك العيب، وهكذا يقاس على هذا المثال نظائره، فقد يوعظ المرء بالبذل والعطاء حتى أثناء بذله وعطائه، وقد يوعظ المرء بالصعبر وهو فى أشد حالاته من الصبر، ولقد ورد عن السلف الصالح أنهم يفرحون حتى بأشد حالات الإساءة لهم، حتى من التنبيه الخفى على معاصيهم وذنوبهم، وقد كان أحدهم إذا شاتمه أحد أو خاصمه يقول : (( إن كنت من أهل جهنم فأنا أسوأ من ذلك، وإن كنت من أهل الجنة ما يضيرنى ما تقول)). وإنما ينتفع المرء بالعظة عندما يشعر بشدة الافتقار إليها ويعمى عن عيب الواعظ، ويتذكر الوعد والوعيد0
البرق الثالث : إشارة الحر
ومنها : ما قد يأخذه المؤمن المرهف الحس من الإشارة البعيدة، دون النظر إلى الألفاظ أو الاهتمام بها، كما حصل للسرى السقطى، وهو يسمع قول الحادى :
أبكى وما يدريك ما يبكينى
أبكى حذاراً أن تفارقينى
فكان من البكاء خوفاً من الإعراض عن الله والإبعاد، ولم يلتفت إلى تذكير أو تأنيث0
وتأثر بعده الجنيد – رحمه الله – رغم بعد الإشارة، بل وإن مقصد الألفاظ غير ذلك (وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذى تقوله العامه 00)0
وهذا هو الحس المرهف الذى يجب أن يكون للمؤمن، يفتعل الموعظة لنفسه من إشارة بعيدة فتؤثر فى قلبه حتى أزجال الشعراء، وأقوال الحكماء، ويحول المعانى البعيدة إلى معان قريبة تؤدى دورها فى ترقيق قلبه وتصفيه كدره، والابتعاد عن المعصية، والتلبيس بالطاعة، ومثل الإشارات البعيدة ما يراه من تصاريف القدر، وأخبار الناس، وحكايات البشر، إضافة إلى حقائق الكون، وسنن الحياة، ومشاهدات السنن، فى عوالم الحيوان أو النبات المتعددة0

البرق الرابع : عبرة العثرة
ومنها : عبرة العثرة، حيث تكون العثرة أو يكون الخطأ سبباً للتنبيه، فإن من زلق بمطر، أو عثر بشىء فإنه يلتفت إلى ما عثر به، فينظر إليه بالفطرة حتى يحذر من الوقوع فى الآثام أو الذنوب التى عثر بها، وخصوصاً وقد شعر بلذة الطاعة، وندم المعصية، بل وعليه أن يخاطب نفسه عند العثرة، أو حتى عندما يتذكر شريط العثرات فى حياته :
( يا من عثر مراراً هل أبصرت ما الذى أعثرك فاحترزت من مثله، أو قبحت لنفسك –مع حزمها- تلك الواقعة، فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته: كيف عثر مثلى مع احترازه بمثل ما رأى؟ فالعجب لك كيف عثرت بمثل الذنب؟ كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه، وترى بعين فكرك مآله؟ كيف آثرت فانياً على باق؟.. آه لك، لقد اشتريت بما بعث أحمال ندم لا يقلها ظهر،وتنكيس رأس بعيد الرفع، ودموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع00)( )0
ومما يقاس على ذلك ما قد يحصل للمؤمنين (أو الداعية) من شحه ببعض لمال، فإذا به يصرف مالاً كثيراً فيما بعد ذلك مرغماً، أو يضن بوقته على الدعوة والإسلام، وإذا بالأوقات الكثيرة تضيع منه سدى، ولا يباكر الله تعالى فى وقته، وقد يتعاج زعن عبادة من أجل شىء طارئ، وإذا بالعجز يصيبه من بركة الوقت، أو عافية الصحة 000 وكل ذلك مما يدركه كل مؤمن لمعاناته إياه مما لا بد أن يمر فيه برحمه الله، ولكن أصحاب البصائر هم الذين يظل هذا المعنى عالقاً فى نفوسهم، والسعيد من وفقه الله تعالى0
البرق الخامس : البصر بالعيوب
إن من فضل الله على خلقه المؤمنين، ما ينقدح فى قلب المؤمن من معرفته بنفسه إن ترك الغرور أو كلما زادت معرفته انكشفت له أسرار النفس، وكلما تقدم فى الطاعة كلما أبرزت له المعايب، ومن كانت له بصيرة لم تخف عليه عيوبه، ولكن الجاهل فقط هو الذى يرى القذى فى عين إخوانه ولا يرى الجذع فى عينه، وهذا الذى ينبه الله تعالى المؤمن على عيوبه بما يرزقه إياه من شيخ مرب يبصره بعيوبه، وطرق علاجه، وهذا هو الرزق الجميل كما يرزق الله تعالى مريض الجسد بالطبيب الحاذق، وقد يرزقه تعالى القرين الصادق الصدوق فيكون كالرقيب على النفس يبصره المعايب بالنصيحة دون التعيير، واصدق دون الملامة، وبالخفاء دون التشهير، وإن حرم المؤمن الشيخ أو المربى، ومن الصديق أو القرين، فلا ينزعج من معرفة ذنوبه من خلال نقد الآخرين –ولو كان نقدهم تشهيراً أو تعبيراً- بل حتى ولو كان النقد من الأعداء والحاسدين، فربما امتزج الباطل مع الحق، والكذب مع الصدق فيعرف عيوبه من ألسنة أعدائه، وعين السخط تبدى المساويا، وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر أو قريب حاسد، أكثر من انتفاعه بصديق مداهن، وانكشاف عيوب النفس أشبه بهدية جاءت من الآخرين، وما على الإنسان أن يؤجر إذا استفاد من ذلك بينما يأثم الآخرون000
وقد ذكر أحدهم لأبى بكر الصديق أنه سيقول فيه قولاً يدخل معه قبره فقال له –رضى الله عنه- : يدخل –والله- قبرك لا قبرى، وكان عمر بن الخطاب –رضى الله عنه : رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا0
والبصر بالعيوب قد يكون من التفكر والتذكر، وكلاهما من منازل السائرين إلى الله، فيكون المؤمن بعدها منتفعاً حيث ينقدح فى نفسه قادح الخوف والرجاء، فيتحرك ويعمل طالباً الخلاص من الخوف، وراجياً رحمة ربه، ثم يزداد بفضل الله بصيرة بقوة الاستحضار0
البرق السادس : المرايا العاكسة
إن العاقل الذى يبصر عيوب الآخرين، لابد وأن ينعكس ذلك فى أن ينظر لنفسه، فيكره ما يكرهه فى الآخرين، ويبغض لنفسه التلبس بما يعيب الباقين، وهكذا، يستفيد من الخلطة فيجتنب ما يراه مذموماً، وكما ينظر إلى من هو دونه فى المال فيحمد الله على الرزق، فعلى المرء النظر إلى من هو دونه فى الخلق ليحمد الله على العافية، من مساوئ الغير، ولعل ذلك من معانى قوله  : (( إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه فى المال والخلق، فلينظر من هو أسفل منه ممن فضل عليه)( )0
وكذلك على المرء أيضاً فى المسائل الدينية والأخلاق أن ينظر إلى من هو فوقه أيضاً للاقتداء به، فيحصل له الخير فى النظر إلى الأعلى والأدنى0
(هذا الحديث جامع لمعانى الخير، لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طابت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبداً فى زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدين إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه، فإذا تفكر فى ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك فى معاده 00)( )0
والمؤمن يستفيد عند النظر إلى غيره، فتكبر منه منزلة المراتب ويشعر أن الله رقيب عليه ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على سرائره، والتبالى يكون المؤمن واعظاً لقلبه، مراقباً لنفسه، فيحرص عليها بالعلم، ويحرسها بالعمل0
البرق السابع: عاجل بشرى المؤمن
وقد يمن الله تعالى على بعض عباده بالرؤيا الصادقة وهى من الله تعالى، والأغلب من رؤيا الصالح الصدق؛ لقوله  : ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ))( )0
وكما ورد فى صحيح المسلم: ((وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً))
وقال أبو بكر بن العربى : ((رؤيا المؤمن الصالح هى التى تنسب إلى أجزاء النبوة، ومعنى صلاحها استقامتها وانتظامها))0
وقال القرطبى : ((المسلم الصادق الصالح هو الذى يناسب حاله الأنبياء فاكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب، وأما الكافر والفاسق والمخلط فلا 000))0
(إن الرؤيا خبر صادق من الله لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة نبأ صادق من الله فشابهت الرؤيا النبوة فى صدق الخبر 00)( )0
وهكذا قد ينبه المسلم على خيره وفضله، أبو بعض عيوبه ومساوئه بواسطة الرؤيا الصادقة فتدفعه لمزيد من الخير، أو تقوده لدرء النقص0
البرق الثامن : نداء الموت
ومن الأجراس رؤية الذاهبين إلى القبور، وشواهدهم الشاخصة على الأحجار والصخور، حيث يتذكر الإنسان القبر والبلى، ويعتبر بمصارع الغير، ولا يغتر بالصحة، وينسى دنو السقم، أو يفرح بالعافية والشباب، وينسى قريب الألم، وإن الموت قادم لا محالة، ومهما طال العمر فالنزول إلى القبر لابد منه، ولا مفر من ضيقه وظلمته0
(من تفكر فى عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر، ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن00 أعجب العجاب، سرورك بغرورك، وسهوك فى لهوك، عما قد خبئ لك 000)( )0
وأى موعظة وتنبيه أبلغ من رؤية ديار الأقران، وأحوال الإخوان، ورحلة النعوش، وقبور المحبوبين، وكثرة المحمولين، ويعلم الإنسان أنه على طريقهم، سيكون عبرة لغيره كما اعتبر بهم0
البرق التاسع: دبيب البلى
أما إذا دبت الأوجاع، وجاءت الأسقام فهى الإشارة الأوضح، والتنبيه الأدق فوق كون هذه الأمراض والأسقام كفارة للمؤمن، ويجازى فيها على الصبر00
قال رسول الله  : ((من يرد الله به خيراً يصب منه))( )0
وأحاديث هذا الباب كثيرة جداً وفيها دليل على الخير الذى يصيب الإنسان المؤمن بسبب البلاء 0
(وفى هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن، لأن الآدمى لا ينفك غالباً من ألم بسبب مرض أو هم، أو نحو ذلك مما ذكر، وإن الأمراض والأوجاع والآلام –بدنية كانت أو قلبية – تكفر ذنوب من تقع 000)( )0
وقد يقع المؤمن فى الأمن الخادع، وما يدرى أن السنين تسير، والليالى تمر، ويحسب أن العمر فى زيادة، ما علم أنه فى نقصان، ويحسب أنه لا يزال فى ريعان الصبا، وعز الشباب ما دام فى صحة وعافية، وما يشعر أن البلى يدب إليه، والأعمار محدودة، فما أن ينتابه مرض حتى تظهر معه بقية الأوجاع، ويبرز ما اختبأ من الأسقام دفعة واحدة، وعندئذ يكون الندم على تفويت الأيام والليالى، وعلى إضاعة الصحة قبل السقم0

البرق الأخير: كفى بالشيب واعظاً
ودبيب الشيب جرس دائم، ومن تجاوز الأربعين خطه المشيب، ولا يغرنه ما يغرر به نفسه من صبغ وتجميل، فما يحسبه زيادة عمر ما هو إلا نقصان، وقد تعالى، أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير (فاطر:37)0
واختلف فى المراد من التعمير فقيل: أربعون سنة، وقيل ستون سنة، لقوله  : (( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة ))( )0
وكلاهما حق، فالأربعون بداية التنبيه، وكلما بلغ الزيادة فى العمر، زادت شدة التنبيه حتى تبلغ ذروتها فى الستين، إذ هو معدل الإنسان، وما يدرى فقد يسقط فى أية لحظة، وينهار تحت أى مرض، فيسأل عن عمره فيما أفناه!!، وكيف ضيع الأوقات، وأهمل الأيام، وإن خدع الإنسان نفسه أو غيره بالسواد أو الخضاب، فهيهات هيهات أن تغيب الآجال عن بارئها0
الربح الأخير
وهكذا تعمل الأجراس فى القلب اليقظ الحساس، فتختلف عنده الموازين، وتتغير عنده المقاييس، فيبادر إلى لذات العمل الجاد، ويترك اللذائذ الزائفة، وينظر إلى السعادة واللذة بمقاييسها الشرعية، فهذا هو صهيب –رضى الله عنه- يترك ماله ويعتبر ذلك ربحاً، فيقول له المصطفى  : ((ربح البيع يا أبا يحي، ربح الربح يا أبا يحي))0
وهذا هو الإمام على كرم الله وجهه، يحدد أحب الأشياء إليه : إنها : ((الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف))0 وسيف الله المسلول لا يرى سعادته فى أمر من أمور الدنيا، بل يقول عن نفسه: ((ولأنى فى كتيبة من المهاجرين والأنصار، فى ليلة شديدة البرد، أترقب منها الهجوم على العدو أحب من أن تزف إلى عروس))0
فإنه انتقل بنفسه من العمل الدنيوى إلى الأخروى، قاده قلبه ببركة المعرفة والعلم إلى العمل بالفاضل وترك المفضول، وأن يدرك الأولويا، وأن لا يدلس عليه الشيطان، فيلهيه بالنوافل ليترك الواجبات، أو يقنعه بالعزلة ولذة الاستكانة تاركاً ألم الدعوة إلى الله تعالى ومرارة طريق الأنبياء فى مجابهة الخلق، أو أن يبرر أداء واجباته تجاه بيته وأولاده تاركاً مصاعب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر 00
والقلب المتيقظ : الذى يعرف أن أساس العمل الصالح علم صائب، واقتضاء العلم الخاص عمل مثمر، وإن الأعمال الصالحة يزداد أجرها بأثرها على العباد، وإن منها ما تتضاعف حسناته حتى قيام الساعة00
الأنس بالله
وأخيراً 00 فالعاقل من يلازم باب مولاه، ويتعلق بالله عز وجل إن عصى وإن طاع، وليكن أنسه بالله عز وجل، إن رأى الضرر والمعصية فيسأل الله إصلاح قلبه، وعلاج مرضه، وإن رأى الطاعة سأل الله تعالى التوفيق، وسأله حسن النية، ثم يسأله القبول0
ويجب أن لا يأنس إلا بالله تعالى فى كل الأوقات والأحوال: ((وقد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شىء إلا عن اللجاج والسؤال، وفى الخبرا إن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك – أى وقف حيالهم فى الحرب – هاله أمرهم فقال : أين محمد بن واسع؟ فقيل: هو فى أقصى الميمنة جانح على سية قوس يومى بأصبعه نحو السماء فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردةت أحب إلى من مائة ألف سيف شهير، وسنان طرير فلما فتح عليهم، قال له : ما كنت تصنع؟ ، قل : آخذ لك بمجامع الطرق 00)( )0
والأنس بالله هو القائد إلى سرور المؤمن الذى يذهب بخوف الانقطاع عن ركب الدعاة والمحبين، ويمحو حزن ظلام الجهل بالله والغى والعمى، كما أنه يزيل حزن وحشة التفرق والبعد عن مرضاة الله تعالى، وما يجر ذلك من ألم الوحشة، ونكد التشتت0
وهذا الأنس هو الناتج عن سماع الله تعالى له وإجابته، والإعطاء على حسب المراد وأكثر مما يزيل وحشية البعد، ومرارة الحياة ثم يظهر على العباد بالفرح والسرور بسماع إجابة صاحب الفضل00
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون  (يونس : 58)0
وبعد أن يدرك الداعية هذه الأنوار، ويميز بين العوائق والأخطار، ويدرك طريقه المستقيم، وخطه الواضح، يبين له ابن القيم رحمه الله فيقول : ((وبقى الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه، ويشمر مسافراً فى الطريق قاطعاً منازلها، منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر بالقرب من المنزل، فهان عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير، ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقى، وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فهو يقول : يا نفس أبشرى، فقد قرب المنزل، ودنا التلاقى، فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصول000)( )0
فيا سعادة من استفاد من البروق والأنوار، واستلهم من الإشارات والتنبيهات، فعرف الطريق، وأبصر المسار، وكان نعم المسافر فى قافلة المؤمنين0

(19) جسر على الطريق
فى طريق المسافرين فى قطار الدعوة جسر، لابد من تجاوزه ، وعبوره، إذ إن هذا شأن السالكين إلى الله تعالى، فى كل زمان ومكان، بل وإنه من شأن الأنبياء والمرسلين، ذلكم الجسر هو الابتلاء والمحن، التى تصيب الداعية فى دينه ودنياه، حتى يخرج من الدنيا، وقد صقله الابتلاء، وأظهرت معدنه المحنة، وليس التشبيه للمحنة بالجسر على الطريق، بالشىء الجديد، فلنستمع إلى ابن القيم، رحمه الله –وهو يقول : ((وإن تأملت حكمته سبحانه وتعالى فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجل الغايات، وأكمل النهايات التى لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله، كالجسر الذى لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج فى حقهم، والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة، ومنة عظيمة، تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان 000)( )0
سنة الله خالدة
إن من سنة الله فى الكون، أن المنافع لا تجنى إلا بشىء من المتاعب، حتى يتفاضل البشر فى الكسب، وتكون النتائج حسب مقدار الأعمال، فيبذل الخلق الجهد حيث تتحقق عمارة الأرض، وهو الهدف الذى أراده الله تعالى للخلائق، بل جعل العمل أحد مظاهر العبادة، يتخذ عند أهل التكليف صوراً، كما يتخذ مظهر التسبيح والإلهام عند بقية المخلوقات، ولذلك يشاهد وفق هذه القاعدة الكونية، أن الطعام والشراب، والصيد والسكن لا يتحقق لبنى آدم إلا بالجهد والنصب، وفى الوقت نفسه فهى مسخرة له، وليس تناولها بالأمر المستحيل، وكذلك الوصول للآخرة؛ لا يتم إلا بنصب العمل لها، ومشقة السعى لأجلها، وأوضح الله تعالى لنا مظهراً آخر فالجنة لا يعبر إليها إلا بتجاوز الصراط0
وبناء على هذه السنة التى أرادها الله لعباده، فإن الأجر الجزيل ومثوبة العمل يتوج بالمحنة التى تصيب المسلم، وبالأذى الذى يقابل به، سواء من قبل الخلق، أو ما يعانيه من مرض أو أذى فى نفسه وماله وولده0
وهذه المحن هى التى تخرج المؤمن من الدنيا نقياً، وقد دلت على ذلك الكثير من الآثار، بل حتى نزعات الموت، وآلام النزع مكفرات لذنوب المرء 0
المحنة 000 تمييز
(00 لكن بما اقتضته حكمته، ومضت به سننه، من الابتلاء والامتحان، الذى يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعى إلى الإيمان والعقوبة لذوى السيئات والطغيان، قال الله تعالى :  آلم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون(2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين(3) أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (العنكبوت : 1: 4)0
فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب، وأن مدعى الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب، وأخبر فى كتابه أن الصدق فى الإيمان لا يكون إلا بالجهاد فى سبيله، فقال تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا (الحجرات : 14) إلى قوله : أولئك هم الصادقون( ) ). (الحجرات:15)
ولقد أجمع علماء الأمة، وأطنبوا فى شرح آيات سورة العنكبوت، بينوا أن الفتنة والمحنة فى الأهل والمال والدين، أو إصابة المسلم بالبأساء والضراء هما الفيصل بين المؤمن وغير المؤمن، وبهما يتميز الصادق من الكاذب، بل ورد فى النصوص أن البلاء على قدر الإيمان، وكلما زاد إيمان المؤمن زيد له فى البلاء حتى يخرجه نقياً0 وأنواع المحن والفتن التى قد تصيب النفس والمال والدين، هى البأساء والضراء والزلزال فقد قال تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب(البقرة : 214)0
سنة الأنبياء
ولكن نتيجة المحن هو حسن الخاتمة فى الدنيا والآخرة، وهكذا جرت سنة الله على الأنبياء والمرسلين، وهم أكرم الخلق، وأعز البشر عند الله تعالى، وهكذا أرادهم الله تعالى بحكمته وتقديره أن يكونوا قدوة لأتباعهم0
(فتأمل حال أبينا آدم  وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية، ورفعة المنزلة000
وتأمل حال أبينا الثانى نوح  وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض بدعوته0
ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم  إمام الحنفاء 000 وتأمل ما آلت إليه محنته وصبره، وبذله نفسه لله000 إلى أن اتخذه الله خليلاً00
ثم تأمل حال الكليم موسى  وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلمه الله تكليما، وقربه منه 00
ثم تأمل حال المسيح  وصبره على قومه، واحتماله فى الله ما تحمله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه 000)( )0
وخاتم المرسلين 00 أمثلهم
وكان لابد أن تكون سيرة خاتم المرسلين مشحونة بالمحن، أسوة ببقية الأنبياء، فكان حظه أكثر منهم، وأشدهم بلاء فى الله تعالى، ففى جوانب حياته الشخصية ابتلى بفقد أولاده صغاراً، وطلقت بنتاه رقية وأم كلثوم من ابنى أبى لهب، وماتت ابنته رقية، وقبلها ابنها فى حياته، وفقد ابنته أم كلثوم ونزل فى قبرها كما فقد زينب فى حياته أيضاً، كما عاش حياة اليتم والفقر والحاجة، وعانى من الأمراض والعلل، وتلقى كل ذلك بقلب رضى، وحاله فى مجال دعوة الخلق، ليس بأقل من ذلك0
(فإذا جئت إلى النبى  وتأملت سيرته مع قومه، وصبره فى الله واحتماله ما لم يحتمله نبى قبله، وتلون الأحوال عليه من سلم وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب، والافتراء عليه والبهتان، وهو مع كل ذلك صابر على أمر الله، بل يدعو إلى الله0 فلم يؤذ نبى ما أوذى، ولم يحتمل فى الله ما احتمله، ولم يعط نبى ما أعطيه، فرفع الله له ذكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاها 000)( )0
وهكذا جرت سنة الله على أكرم خلقه، فاختبره الله تعالى بنصفى الإيمان الصبر والشكر، حيث صبر على البلاء، وشكر عند الرخاء، فاستحق المكانة العليا، والمنزلة الرفيعة، فكانت بذلك أمته خير الأمم، وأتباعه أكثر الأتباع، ولواؤه يوم القيامة أعظم الألوية0
وأمته من بعده
ومضى أتباعه من الصحابة على المنهج نفسه، ونزلت فيهم أوائل سورة العنكبوت، (قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوماً مؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام00 فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين، قال مجاهد وغيره، فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة، أن هذه هى سيرة الله فى عباده اختباراً للمؤمنين وفتنة0
قال ابن عطية: وهذه الآية –وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما فى معناه من الأقوال، فهى باقية فى أمة محمد  موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أ، الفتنة من الله تعالى باقية فى ثغور المسلمين، ونكاية العدو، وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضاً كل موضع، ففيه ذلك بالأمراض، وأنواع المحن 000)( )0
وبعد الصحابة تلقى التابعون المحن، وإن صارت بمظاهر أخرى، وأشكال متعددة، منها ما هو شخصى، ومنها ما هو جماعى، وتوالت أجيال المسلمين على المنهج نفسه، ويسلكون الطريق نفسه0
ابن تيمية على الطريق
ومن النماذج التى على الطريق ما لاقاه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- من سجن وتعذيب، ومع هذا فهو يشعر بلذة المحنة، فيقول فى رسالة لإخوانه :
((ونحن ولله الحمد والشكر- فى نعم عظيمة تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم، فإنى كنت حريصاً على خروج شىء منها، لتقفوا عليه 00
والأوراق التى فيها جواباتكم وصلت، وأنا طيب، وعيناى طيبتان أطيب ما كانتا، ونحن فى نعم عظيمة، لا تحصى ولا تعد، والحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه 00))( )0
فانظر أخى الداعية إلى شعور المسلم الصادق، حيث يكون همه حتى فى المحنة، ما يقدمه للإسلام والمسلمين، ويكون فرحه بالنتاج الدعوى، وتقدم العمل الإسلامى أكثر من أى أمر آخر، وما أحوج الدعاة فى قطار الدعوة إلى التأمل فى رسالة شيخ الإسلام كيف يشعر –وهو فى السجن- بنعمة الله بخروج التعليمات منه، والكتب والرسائل إلى إخوانه ليطلعوا على ما فيها 0
من خصائص المحن
للمحن خصائص ومميزات تحولها إلى طاعة وعبادة، فكما أن المسلم يجب أن لا ينفك عن عبادة ما، من صلاة أو سعى فى معاش، فلابد أن يكون شعوره بالابتلاء هكذا، يدوم معه فى حركاته وسكناته، حتى يستصحب نية الصبر على البلاء0
(00 فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه أن يتحرك بحركة اختيارية فى غير مرضاته، وإذا فعل فعلاً مما أبيح له بموجب طبيعته وشهوته، تاب منه، كما يتوب من الذنوب، ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده، حتى تنقلب مباحاته كلها طاعات فيحتسب نومه وفطره، وراحته، كما يحتسب قومته، وصومه واجتهاده، وهو دوماً بين سراء يشكر الله عليها، وضراء يصبر عليها، فهو ستائر إلى الله دوماً فى نومه ويقظته 000)( )0
ولابد من ملاحظة نوعى المحنة، فمنها ما هو من الضراء التى ينبغى الصبر عليها، ومنها ما هو فى السراء التى تقتضى الشكر عليها والمؤمن متقلب بين الخوف والرجاء، وإن وجد ضراء صبر، وإن وجد سراء شكر0
وخصيصة أخرى
ومع كون السراء من أنواع الابتلاء، إلا أن على المؤمن أن لا يشعر أن ذلك حتماً على الله، أو نتيجة عمله، بل هو محض توفيق وعطاء من الكريم المتفضل عليه، إذ إن (00 قوله تعالى : ولئن أذقناه رحمة منا (فصلت:50): عافية ورخاء وغنى، من بعد ضراء مسته (فصلت :50) : ضر وسقم وشدة وفقر ، ليقولن هذا لى (فصلت:50)، أى : هذا شىء أستحقه على الله لرضاه بعملى، فيرى النعمة حتماً. واجباً على الله تعالى، ولم يعلم أنه ابتلاء بالنعمة والمحنة، ليتبين شكره، وصبره 000)( )0
وهكذا أجمع سلف الأمة، على أن من اعتقد فى وجوب النعم على الله فقد وقع استدراج الشيطان له، فالنعمة من الله محض عطاء من الخالق، والله تعالى يبتلى عباده حسب درجاتهم، ومنزلتهم بأنواع من النعم والنقم، ليختبر الشكر والصبر فيهم، ثم يتفضل بالعواقب عليهم، ثم يمنح الأجر والثواب كيف شاء، ومتى شاء، بفضله وتقديره0
ليس الشديد بالصرعة
ومن خصائص المحن، أن المؤمن – والداعية خصوصاً- يجب عليه الصبر، وقد يجتمع فى الوقت نفسه، صبران؛ صبر على النعمة وصبر على النقمة، فيكون المؤمن بينهما بين منزلتى الشكر والصبر، وينال من خيريهما، (ولقد سبق الحديث عن الصبر)0
كما قد يقترن أو يجتمع مع صبر المصيبة صبر آخر، هو الامتناع عن الاستجابة لمداخل الشيطان الأخرى، فقد يصبر المؤمن على أمر، ولكنه يغضب ويقع فى ذنوب أخرى، فاقتضى التنبيه على هذا الأمر، بضرورة الصبر على الغضب: (وهذا الجمع بين صبر المصيبة، وصبر الغضب، نظير الجمع بين صبر النعمة وصبر المصيبة كما فى قوله تعالى : ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناه منه إنه ليئوس كفور(9) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور (10) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير (هود : 9: 11)000)( )0
لا نحرص على المحن
والمتابعب لسنة المصطفى  وهديه يجب أن لا يحرص على المحنة طمعاً فى الحصول على ثوابها، بل والمؤمن لا ينبغى له تمنى المكروه، بل يحرص على حصول العافية، والعاقبة أحب إلى المؤمن من الابتلاء –وهكذا تمنى الصادق المصدوق – ولكن عليه بالصبر إذ1 ما ابتلى بشىء ما ، وهذا هو المنهج الصواب الذى سار عليه السلف، ولا عبرة بجهل البعض الذين يقرأون قوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (الأنعام : 42)0
ويستدلون بها فى تأديب أنفسهم بتفريق أموالهم، وحمل أنفسهم على الجوع والعرى، طمعاً فى حصول الأجر، قال الإمام القرطبى معقباً على فهم هؤلاء لهذه الآية : (000 هذه جهالة ممن فعلها، وجعل هذه الآية أصلاً لها، فهذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده أن يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا، ونكافئها قياساً عليها، فإنها المطية التى نبلغ بها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة، وفى التنزيل يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً (المؤمنون : 51) وقال : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (البقرة :267)00 فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين، وكان رسول الله  وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب، ويتجملون بها، وكذلك التابعون بعدهم وهلم جرا 000 ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان فى امتنان الله تعالى بالزروع والجنات،و وجميع الثمار والنبات 00 إلى غير ذلك مما امتن به كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إلى فيه الفضل؛ لكان أولى به رسول الله  وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء 000)( )0
وفى كلام القرطبى ما يكفى للنظر إلى الكثير من الأدلة من القرآن الكريم والسنة فيما امتن الله به على البشر، وما كان عليه الصحابة والسلف، وقبلهم الأنبياء والمرسلون، ما يكفى للرد على جهالة المتصوفة وأشباههم، وفى الوقت نفسه يستلهم الدعاة الدرس بعدم التمنى للمحن، بل ومحاولة دفعها بالأسباب0
علاج المحن
أما على وجه الإجمال، فإن استجابة المؤمن لمحنة البلاء تكون بالصبر، ومقتضى محنة النعمة والشكر، وكل منهما مقرون بعبادات وأذكار، ومعاملات واعتبار فالشكر يقرن بالشعور بالتواضع، وعدم الاستكانة لاستدراج الشيطان، وذكر محاسن الآخرين، والوجل من تعجيل العذاب، وعدم الأمن من مكر الله، والخوف من عدم تقبل الطاعة، وسؤال الله تعالى المزيد من فضله، والصبر يقرن كذلك بعدم اليأس أو الجزع، أو إيذاء الغير، وكذلك الاستزادة من الصلاة والصيام، فبها جميعاً يتكامل الجزاء من الله (ولهذا يقرن الله بين الصلاة والصيام تارة، وبينهما وبين الصبر تارة، ولابد من الثلاثة : الصلاة والزكاة والصبر، لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك فى صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم لاسيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فالحاجة إلى ذلك تكون اشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بنى آدم لا تقوم مصلحة دينهم، ولادنياهم إلا به)( )0
كما لابد من اقتران السماحة بالصبر، وعدم استعلاء الممتحن على غيره، أو شعوره بأنه أكثر جهاداً، وأصلب عوداً، فيبذل نفسه أو ماله من جهة، ويستدرجه الشيطان ليقع فى غرور العبادة من جهة أخرى، وهى فتنة أشد، وضررها على المؤمن أكبر، ولابد للداعية –على وجه الخصوص- مع ضرورة إدراكه لمعانى الخير فى المحن، أن يتصورها باستمرار أنها جزاء سوء عمله، وتكفير لذنوبه، لا على أنها، اختبار من الله به عليه، ليحول الامتحان والبلاء إلى تفاخر وغرور، أو يسجل محنته على أنها مكسب للوجاهة والظهور0
ثبات الغرباء
ومما يجب أن يرتبط بالصبرن ثبات الدعاة إلى الله تعالى على المنهج، وعلى طريق الدعوة، إلى الله دون ملل أو ضجر، ودونما توان أو فتور ، فصاحب الكسب السريع، والنية المشوبة يتعب سريعاً، لا يستمر على مشاق الطريق، وهكذا، طبيعة الرسل والأنبياء، والدعاة والمصلحين فى كل زمان ومكان، وانظر إلى ما كتبه الإمام الشاطبى لإخوانه فى هذا الموضوع : (000 وأما سائر ما كتبتم به فى الكتاب، من طوارق عرضت، وامتحانات تواترت، واعتراضات أوردت، فحاصله راجع إلى ضرب واحد، وهو أن طالب الحق فى زماننا غريب، والقائل به مهتضم الجانب، وهذا لم يزل موجوداً فيما بعد زمان التابعين إلى اليوم، فلنا فى سلفنا الصالح أسوة، غير أنه يجب علينا أن نتأدب بما أدب الله به نبيه  ، وذلك أن نبث الحق إذا تعين علينا، وليس علينا أن نأخذ بمجامع الخلق إليه، إذ ليس ذلك إلينا، بل الله وحده هو الهادى والمضل، وقد قال ربنا سبحانه : إنما أنت نذير والله على كل شىء وكيل (هود: 12)00)( )0
أى أن الثبات على المنهج يقتضى الثبات على الإيمان، والاستمرار فى الدعوة إلى دون التفات للوراء، أو نظر للخلف، أو اهتمام بقلة الأنصار، ووحشة الطريق0
وعوامل أخرى 00
وهنالك مجموعة من العوامل، هى من مقتضيات الإيمان أيضاً، لكنها تزيد من قوة تحمل المحن سواء أكانت الفردية منها أو الجماعية، والدينية منها والدنيوية، وتمنح المؤمن المصابر رباطة الجأش، وقوة اليقين، للاستعانة بها فى زيادة الصبر، وشدة التحمل وكل منها يتبعض، ويزيد وينقص، كما هو الإيمان نفسه، وما على الداعية السائر إلى الله إلا التفكير فى كل عامل، ومحاولة العمل على زيادته فى نفسه، واستجلابه لذاته0 ولقد قال ابن القيم: (( أما الصبر فى المحن على أذى الظالمين، وعند النوازل والبلاء، فإن العبد يستجلبه، ويستعين عليه بلاثة أشياء :
ملاحظة حسن الجزاء : وعلى حسب ملاحظته، والوثوق به، ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض، وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها، لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها0
والقصد : أن ملاحظة حسن العاقبة، تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك، وغير اختيارك0
والثانى : انتظار الفرج: أى راحته ونسيمه، ولذته، فإن انتظاره ومطالعته، وترقبه يخفف حمل المشقة، ولاسيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج، فإنه يجد فى حشو البلاء من روح الفرج، ونسيمه وراحته، ما هو من خفى الألطاف0
والثالث : تهوين البلية بأمرين: أحدهما: أن يعد نعم الله، وأياديه عنده00 الثانى: تذكر سوالف النعم، التى أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضى، وتعداد أيادى المنن، يتعلق بالحال000( )0
بل إن هذه العوامل فوق أنها تخفف المحن، فهى بذاتها مكسب للمؤمن، ومن فضل الله تعالى فى تسليط المحن على المؤمنين، لما فيها من خير عميم يتضمن معانى من العبادة متنوعة 0
الشجاعة والسماحة : شرطان
لقد سبق الحديث عن ضرورة السماحة مع الصبر، إذ إن السماحة تدفع خطوة أخرى نحو كسب القلوب، ورفع الغل منها، فالصبر يمنع النفس من الغلبة والاعتداء، ولكنه قد لا يمنع من المشاعر المكبوتة من الكره والغل أو الحسد والمعاندة، بينما وجود السماحة يدفع إلى دفع معايب النفس، وأمراض القلب، وتجعله صافياً، تهيؤه لقبول النصح والإرشاد، والاستماع إلى نداء الخير، فإذا انضمت الشجاعة للسماحة، كان المؤمن مندفعاً إلى عمل الخير بشكل أشد، إذ يملك الإيجابية فى التعبير، ومجابهة المحن، وتجاوز الشدائد، إلى المزيد من البذل والعمل والتضحية، فكان تمثل الداعية عند المحن بالشجاعة والسماحة أمراً جوهرياً (فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموماً، وخصوصاً فى أوقات المحن والفتن الشديدة، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم، ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم، ويحتاجون أيضاً إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم، وكل من هذين الآمرين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيراً على من يسره الله عليه 000)( )0
ويلاحظ أن ارتباط الصبر والشجاعة والسماحة، مع مقتضى الإيمان، وكلما قويت المحن واشتدت، صار لزاماً اللجوء إلى عوامل تقوية الإيمان، لتقوية مقتضياته، وما ينتج عنه0
ورؤية المشاهد الأحد عشر
كما أن جميع أدوية المحن والبلاء رؤية المشاهد الأحد عشر :
أولها مشهد القدر الذى فيه يتيقن الداعية أن أمر البلاء مكتوب عليه، ولا مفر منه 0
ومشهد الصبر الذى سلف الحديث فيه 0
ومشهد العفو عن الآخرين رجاء عفو الله 0
ومشهد الرضا بما قسمه الله تعالى طمعاً فى ثوابه 0
ثم مشهد الإحسان : وهو أن تقابل إساءة المسئ إليك بالإحسان إليه 0
ثم برد القلب: وهو من مظاهر يقين المؤمن، ثم الأمن الذى هو شعبة عنه 0
ثم الجهاد : وهو من خير المشاهد حين يعلم الداعية فضل الجهاد فى سبيل الله وثوابه0
ثم بعد ذلك كله رؤية مشهد النعمة، وما تقتضيه المحن من إنعام الله عليه، وحسن العاقبة0
وعاشر المشاهد (الأسوة) فللداعية أسوة بالأنبياء والمرسلين، وأئمة الهدى، والصلاح، فهو لا ينفك عن قافلة الدعاة، وركب المصلحين0
ثم تختتم المشاهد كلها، بأصلها وأسها :
(المشهد الحادى عشر: مشهد (التوحيد) وهو أجل المشاهد وأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله، والإخلاص له، ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به00 واطمأن إليه، وسكن إليه، واشتاق إلى لقائه00 فإنه لا يبقى فى قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة، فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة000
ولا تتم هذه المشاهد إلا بتحسين خلقك مع الحق تعالى، بأن تعلم أن كل ما يأتى منك يوجب عذراً، وأن كل ما يأتى من الحق سبحانه يوجب شكراً 000)( )0
لا يمكن حتى يبتلى !
والتمكين لا بد من أن يسبق بالمحن، حتى يتبين الصادق من الكاذب، وإذا كان البشر فى حياتهم الدنيا لا يتحققون من دراسة طالب، أو تدريب مدرب إلا بالامتحان والاختبار، فلله المثل الأعلى، فإن أحداً لن يعجز الله تعالى، فهذه سنته فى الخلق0
(سأل رجل الشافعى فقال : يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال الشافعى: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم، وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة)( )0
والتمكين هو أحد أهداف الطريق، إذا كان الطريق درب الآخرة، بل هو أكبر الأهداف فى الحياة الدنيا، وهو أجل مقامات السائرين إلى الله، وهو النعمة من الله تعالى، فى استخلاف الذين يمن عليهم بفضله، وينصرهم إذ ينصرونه، والورع الحقيقى يكون بالعمل للتمكين، وليس بمظاهر العبادة، التى لا تقود لذلك، ولقد بحث عبد القاهر بن عبد العزيز – وكان رجلاً صالحاً ورعاً- فى مسائل الورع، فسأل الشافعى أيها أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين، فأجابه بالجواب السابق، ثم قال له : ((ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه ملكاً، والتمكين أفضل الدرجات، قال الله تعالى : وآتيناه أهله ومثلهم معهم000 00 (الأنبياء : 84) ثم علق الغزالى قائلاً : (( فهذا الكلام من الشافعى – رحمه الله – يدل على تبحره فى أسرار القرآن، واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبياء والأولياء، وكل ذلك من علوم الآخرة000))( )0
فانظر إلى إدراك أهل التصوف الحقيقى لمعنى التمكين، وأنه من مقامات السائرين، لا القاعدين، وأن العمل له، والعلم فيه من علوم الآخرة، بل واعتبره دليلاً على التبحر فى أسرار الدين، بينما أقعد تصوف البدع والجهالات أهله عن السير 0
وأخيراً 00 كن على الدرب
وبعد أن عرفت أيها المسافر معنا فى قطار الدعوة، وما أدركت بنافذ البصيرة،والعقل الراجح، ما هى المحن وما مقتضاها، وما أعد الله تعالى للدعاة، فإن هذا سيمنحك الصبر من جهة، والتفاؤل بالمستقبل المضىء من جهة أخرى، فإياك وأن تلتفت إلى الوراء، وانظر بعينيك إلى الأمام، ولا تهتم بكثرة الهالكين، وكلما زدت تأملاً فى هذه المعانى كلما زدت يقيناً بأنك راكب فى القطار الصادق، وسائر مع القافلة الميمونة، وفوق ذلك، لك أسوة بمن سبقك من العاملين المخلصين، ولك بعد ذلك – بإذنه تعالى ثواب المؤمنين السائرين000
(وهذا حال ورثته  من بعده الأمثل فالأمثل، كل له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له، ومن لا نصيب له من ذلك، فحظه من الدنيا حظ من خلق لها، وخلقت له، وجعل خلاقه ونصيبه فيها، فهو يأكل منها رغداً ويتمتع فيها، حتى يناله نصيب من الكتاب، يمتحن أولياء الله، وهو فى دعة وخفض عيش، ويخافون وهو آمن، ويحزنون وهو فى أهله مسرور، له شأن ولهم شأن، وهو فى واد وهم فى واد، همه ما يقيم به جاهد، ويسلم به ماله، وتسمع به كلمته، لمزم من ذلك ما لزم، ورضى من رضى، وسخط من سخط00) فانظر –أخى الداعية- وقارن بين الصورتين، فانصب إذا أرتاح الناس، واتعب إذا سكن الناس، ولا تغرنك الدعة وحسن العيش، عند غيرك وأنت فى الضيق والزهد، ولا تبتئس عند الخوف والناس آمنون، فإنما الأعمال بالخواتيم، وما عند الله خير وأبقى، وكن من الذين يبتغون رضا الخالق، ((وهمهم إقامة دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه، وأن تكون الدعوة له وحده، فيكون هو المعبود لا غيره، ورسوله المطاع لا سواه، فلله سبحانه وتعالى من الحكم فى ابتلائه أنبياءه ورسله، وعباده المؤمنين، ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته00))0
وما قصد ابن القيم فى حديثه عن الدعوة لله وحده، إلا أن يصيح من أعماقه (الله غايتنا) وعن طاعة رسوله إلا أن يهتف (الرسول زعيمنا) وأن يكون التخلص من الابتلاء، والصبر على المحن بشعار (الجهاد سبيلنا) ثم تكون السعادة بالوصول إلى المقام المحمود، بتجاوز جسر المحنة – بعون من الله تعالى- ((وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة، والنهايات الفاضلة، إلا على جسر المحنة والابتلاء0
كذا المعالى إذا ما رمت تدركها
فاعبر إليها على جسر من التعب
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين))( )0
(20) استراحة المسافر
برقية من عمر
وبعد أن تجاوزنا الجسر الذى فى مسيرة قطار الدعوة، بإذنه تعالى، وبالاستفادة من الإشارات والتنبيهات، نكون بحمد الله تعالى، قد قطعنا مرحلة من مراحل السير المبارك، وبهذه المناسبة فقد وصلتنا رسالة عبر حدود الزمان، من أحد رواد القافلة المباركة، والذى ما نخاله إلا وقد حط رحاله فى الجنة بمغفرة الله تعالى، ذلكم الرجل هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضى عنه، فلنستمع إليه وهو يكتب لأخ له فى الله عز وجل، يخاطبه –بعد أن قطع مثلنا- مرحلة من مراحل السفر، ويذكره بالورود على الله فيقول له :
(( يا أخى : إنك قد قطعت عظيم السفر، وبقى أقله، فاذكر يا أخى المصادر والموارد، فقد أوحى إلى نبيك  فى القرآن، أنك من أهل الورود، ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج، وإياك وأن تغرك الدنيا، فإن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، يا أخى : إن أجلك قد دنا، فكن وصى نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك00))( )0
فافهم –أخى المسافر- هذه الإشارة، وأبشر بقطع بعض مفاوز الطريق، وهلم معنا – فى هذا الفصل لأخذ قسط من الراحة وذلك بتأصيل اللهو المباح، ومعرفة شرعية المزاح0
الراشد المربى
رغم هذا التذكير بالآخرة من عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقد كان يعرف أن المسافر إلى الله تعالى، لابد له من قسط الاستجمام، ليستعين به على إتمام المسير، وإكما الشوط، لتتم النفرة، ويتنشط البدن، فقد كان مع ما فيه من الشدة على نفسه، يضع منهجاً تربوياً لإخوانه، حيث يخلط لهم الحلو مع المر، ويحدد لهم بعض وقفات على الطريق، ولذا فهو يقول :
((والله، إنى لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق، فأخاف أن ينفروا عنها، فأصبر، حتى تجئ الحلوة من الدنيا، فأخرجها معها، فإذا نفروا لهذه، سكنوا لهذه 00))( )0
وليس هذا الأمر تكلفاً من الخليفة الراشد، بل هو منهج الصحابة –رضى الله عنهم- فى التربية، وما منهم من أحد إلا وعبر عن حقيقة هذا المذهب التربوى، فى أن يأخذ الداعية من الراحة فيما لا يكون حراماً،، ليستعين به على العمل والأداء، حسب ما تقتضيه الفطرة البشرية، وهذا أبو الدرداء رضى الله عنه –يقول : ((إنى استجم ببعض الباطل، ليكون أنشط لى فى الحق))( )0
درس أبى الدرداء
ومن المعلوم أن استعمال أبى الدرداء رضى الله عنه – لفظ الباطل كوجه مقابل للحق، هو من أساليب اللغة فى البلاغة والفصاحة، والمقصود به المباح الذى لا ينافى الشرع وضوابطه، ولكن له صورة الباطل عند الجهال، وأهل التكلف، ولقد أورد العبارة الإمام البغوى فى الموضع الذى أشرنا إليه، وأوردها أيضاً شيخ الإسلام، مع شرح وتعليل، فقال :
(وكان أبو الدرداء –رضى الله عنه- يقول : ((إنى لأستجم نفسى بالشىء من الباطل، لأستعين به على الحق)) والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات فى الأصل لتمام مصلحة الخلق، فإنهم بذلك يجتلبون ما ينفعهم000 وحرم من الشهوات ما يضر تناوله، وذم من اقتصر عليها، فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق، فهذا من الأعمال الصالحة00)( )0
وما كان ينبغى الإطالة فى شرح هذه المعانى، لولا أن غلب على بعض دعاة العصر شىء من التكلف والمبالغة، وإفراط دعاة آخرين من جهة أخرى، وذلك لتأثر الطرف الأول ببعض بدع الصوفية، وانسياق الطرف الآخر خلف استرخاء المدنية، وانتشار اللهو، مما يقتضى التنبيه على التأصيل0
مشكاة النبوة
وما فهم الصحابة هذا الدرس، إلا من مشكاة النبوة، حيث أوصى الرسول  بالرفق بالنفس، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، وكان عليه السلام يدعو إلى الرفق فى كل أمر من أمور الحياة، وما الاستجمام للنفس إلا من الرفق بها، حتى ليكون الرفق من مظاهر كل أعمال الإنسان فى الحياة، حتى ليربط الرفق بصفات الخالق الرحيم الرفيق بخلقه، كما قال الرفيق بأمته  : (( 000 إن الله يحب الرفق فى الأمر كله 00))( )0
وفى رواية مسلم : ((000 إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف))0
والرفق ((00 هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف 00 والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده 00))( )0
فلننظر – أيها الداعية إلى معانى الرفق من الله تعالى ، ومن رسوله ، فإنها ترشد إلى غاية الرحمة وإلى اللين بالقول والفعل مع النفس وإنها من لين النفس حتى بالقول والفعل، ومع النفس ذاتها، كما هى مع بقية الخلق، وما الانبساط، والمزاح وما يتبع ذلك من لين القول، والتبسم، وانشراح الصدر، إلا مظهر من مظاهر هذا الرفق، كان لابد من النظر إليه، والأخذ به، حتى لا يقع المرء فى الحرج، وينفى عن نفسه المشقة0
الانبساط 00 هدى الرسالة
ولعل أشهر ما ورد عنه  فى مزاحه ما أورده البخارى فى باب (الانبساط إلى الناس) ومسلم حديث: ((يا أبا عمير ما فعل النغير)) كمزاح مع غلام صغير إيناساً له، وانبساطاً لأهله، وقد مزح الصحابة –رضوان الله عليهم- مع المصطفى  وكان من أشهرهم نعيمان بن عمرو بن رفاعة، المشهور بقصصه ودعاباته، وهو صحابى جليل:
(شهد بدراً، وكان من قدماء الصحابة وكبرائهم، وكانت فيه دعابة زائدة وله أخبار ظريفة فى دعاباته.. وكان نعيمان مضحكاً مزاحاً 00)( )0
وعلى منهج الصحابة سار السلف ، فى جعل المزاح استراحة المحارب، فلا تكاد تجد كتاباً يخلو من ملح وطرائف لشيخ التابعين الإمام الشعبى – رحمه الله – وكذلك :
(كان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه00 وقيل : كان ابن سيرين كثير الضحك بالنهار، كثير البكاء بالليل)( )0
علماء الأمة على المذهب
وإيراد ما ورد عن التابعين وسلف الأمة يطول، وجميعهم على هذا المذهب فى جواز المزاح، وفق ضوابطه الشرعية، بل واستحبابه فى بعض المواطن، ولا يزال ركب العلماء والفقهاء على هذا المنهج، دون نظر لأهل التكلف ولا أهل السفاف من الأمور ولعل من المناسب ذكر ما قيل فى تراجم بعض العلماء، فقد قيل عن صالح بن عمرو بن حبيب مثلاً ، وهو محدث الشرق، ومن أقران الإمام البخارى، روى عنه مسلم وغيره،((.. الإمام الحافظ الكبير الحجة، محدث الشرق.. حدث عنه مسلم خارج الصحيح.. وكان ثقة حافظاً غازياً .. ذا مزاح ودعابة مشهوراً بذلك))( )0
وفى كتب الطبقات والتراجم الشىء الكثير، يكفى ما أورد منها 0
ولكن 00 احذر الإفراط
ومع هذا التأصيل للمزاح، يصبح لزاماً لكل مسألة من مسائل الحياة أن تحفظ وفق ضوابطها، دون إفراط أو تفريط، حيث إن التوازن هو العدل الذى جاءت به الشريعة، وفى الضوابط منع الإسفاف والإفراط فيه، والذين ينافى المروءة، ويخالف منهج الإسلام فى جدية العمل والتفكير، وقد يقود إلى حقد وإحن0
فهذا عمر بن عبد العزيز نفسه، يكتب إلى عدى بن أرطأه :
(أن أنه من قبلك عن المزاح، فإنه يذهب المروءة، ويوغر الصدر 00)( )0
وحول عبارة أخرى له أن ((اتقوا المزاح، فإنه حمقة تورث ضغينــة))0
قال الماوردى محللاً لها وشارحاً، وموضحاً علة الأمر وسببه :
(أن للمزاح إزاحة عن الحقوق، ومخرجاً إلى القطيعة والعقوق، يصم المازح، ويؤذى الممازح، فوصمة المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجرى عليه الغوغاء والسفهاء، وأما أذية الممازح، فلأنه معقوق بقول كريه، وفعل ممض، إن أمسك عنه أحزن قلبه، وإن قابل عليه جانب أدبه، فحق على العاقل أن يتقيه، وينزه نفسه عن وصمة مساويه00)( )0
الميزان الثابت
ولاشك أن الإفراط قائد إلى أمور تنافى مقاصد الشريعة، ومراتب المروءة، وتتعارض مع المقامات السامية، كما أنها قد تكون حسنة بذاتها ولكنها تقود إلى مفسدة، ولذلك فمع هذه البداية فى نقد المزاح، فإن منهج الإسلام الوسطية، ولقد قال الإمام على – رضى الله عنه- فى توضيح هذا الميزان وتثبيته :
(( خير هذه الأمة النمط الأوسط، يرجع إليهم الغالى، ويلحق بهم التالى ))( )0
ومن هنا صار المزاح سنة، وفق ضوابطه وحدوده، دون إفراط أو تفريط، حتى لا يخرج عن أحد حديه، ويظل التوازن بحاجة إلىمن يتقن أداءه حتى قيل لسفيان بن عيينه : المزاح هجنة؟
(قال : بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه، ويضعه مواضعه )( )0
فكان لابد من العلم الموصل إلى معرفة الموازين والضوابط التى تضع المزاح فى وضعه المناسب، وتحقق ثمرته، وتقود الداعية إلى إتقان تنفيذه، وحسن تأتيه ومما قيل فى موازين النهى :
(المنهى عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه، لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر فى مهمات الدين، ويؤول كثيراً إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد، وسقوط المهابة والوقار، والذى يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب)( )00
والتبسم 00 صدقة
ومما يرتبط بالمزاح أيضاً – كمظهر من مظاهر استراحة المسافر – الضحك والتبسم، وقد يرافقه غالباً، أو يكون نتيجة له، ونهى عما كان منه عن استهزاء أو سخرية، أو استخفاف أو تهكم، ولكن المباح منه ما قد يكون عن تعجب أو إعجاب، ويكون مستحباً ما كان من ملاطفة، وتحبب، أو إدخال السرور على قلب آخر، وهكذا كان خلق المصطفى  كما روى جرير بن عبد الله – رضى الله عنه – (( ما حجبنى النبى  منذ أسلمت ولا رآنى إلا تبسم فى وجهى ))( )0
وما قاله عبد الله بن حارث: ((ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله  ))( )0
والتوازن 00 مرة أخرى
وتنطبق قاعدة التوازن فى التبسم أيضاً، كما على المزاح، فما كان الرسول  يستجمع ضاحكاً حتى ترى لهواته، وإنما كان يبتسم، وكان أقصى ضحكه أن تبدو نواجذه، ولم يكن يتكلفه أو يتصنع التجهم، وإنما الأمر على سجيته، والأمر يختلف باختلاف الأشخاص، وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يعيش بين الصحابة وفيهم المتجهم الحازم، وفيهم صاحب الدعابة الذى يستلقى على قفاه، ولم ينكر على أحد منهم، ولكنه –نفسه- كان وسطاً لأنه وسط فى خصائصه بين العباد، والأصل هو فى إنكار الضحك المتكلف فى القهقهة، أو الضحك فى مواطن الجد، أو الإفراط فيه0
(وقد سئل ابن عمر – رضى الله عنهما- هل كان أصحاب رسول الله  يضحكون؟ قال: نعم والإيمان فى قلوبهم مثل الجبل، وقال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهباناً00( )0
وهكذا ظل الصحابة أوفياء للمنهج النبوى، دون أن يؤثر المزاح على جدية العمل، أو على تطبيق السنن، أو على تفويت المصالح، على أقدار متفاوتة فيما بينهم حسب اختلاف الطبائع الفطرية، والعادات المكتسبة، وطبيعة المجلس والظروف العامة والخاصة0
((00 الذى يظهر من مجموع الأحاديث أنه  كان فى معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، والإفراط فيه، لأنه يذهب الوقار)( )0
إذ إنه  هو المثل الأعظم، وهو فى قمة التوازن النفسى، فهو كما وصف نفسه (الضحوك القتال) كما أنه (نبى المرحمة ونبى الملحمة) فكان قدوة لأمته حتى فى مثل هذه الأمور0
ضوابط وكوابح
ومن ذلك كان لابد للداعية فى قطار الدعوة، من ضوابط يحكم بها مزاحه، كى تكون استراحته شرعية، تؤدى دورها الصحيح ومجمل ضوابط المزاح، وما يتفرع منه :
* أن لا يكون إلا حقاً وأن لا يفتعل المزاح افتعالاً، أو يمزح بكذبة أو كذبية، أو يدلس فيه، فعن أبى هريرة قال : ((قالوا يا رسول الله : إنك تداعبنا، قال : لا أقول إلا حقاً ))( )0
* أن لا يداوم المرء عليه، بحيث يكون صفة لازمة، لأن الجد من سمات العاملين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة، لاستمرار النفس فى أداء واجبها، وأن لا يشغل عن ذكر الله تعالى، والتفكر فى مهمات الدين، وأمور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر 0
(قال الغزالى: من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة)( )0
ويؤخذ من ذلك أن اتخاذ مهنة إضحاك الناس نوع من السفاهات!!
أن لا يكون المزاح إلا مع الأقران، لأن المزاح مع الأعلى يؤذيه، ومع الأقل يؤدى إلى الجرأة على المازح، وكذلك ينبغى البعد عن ممازحة الأعداء، لما يقود إلى مفسدة تؤذى الداعلية فى دينه ودنياه، قال الماوردى :
((وليحذر أن يسترسل فى ممازحة عدو، فيجعل له طريقاً إلى إعلان المساوئ هزلاً وهو مجد، ويفسح له فى التشفى مزحاً وهو محق، وقد قال بعض الحكماء: إذا مازحت عدوك، ظهرت له عيوبك))( )0
* أن لا يشتمل المزاح على مساوئ الأخلاق، ومعايب الكلام وآفات اللسان مما ينكره الشرع، أو يمجه الطبع، أو يلفظه الذوق، كاستعمال الألفاظ النابية، أو الخروج عن مقتضى العرف، أو مخالفة غالب العادات، أو أن يخالطه شىء من الغيبة أو القدح أو الاستهزاء، أو أن يكون مما يسقط الوقار، والهيبة، ولعل القاعدة الجامعة، ما حددها الإمام النووى بقوله :
(المزاح المنهى عنه هو الذى فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، والفكر فى مهمات الدين، ويؤول فى كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذى كان رسول الله  يفعله فإنه  إنما كان يفعله فى نادر من الأحوال لمصلحة، وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منع منه قطعاً، بل هو سنة مستحبة إذا كان بهذه الصفة00 فاعتمد ما نقلناه عن العلماء، وحققناه.. فإنه مما يعظم الاحتياج إليه، وبالله التوفيق0)( )0
ما عدمنا خيراً
والمزاح الهادف، مع التبسم المتوازن، إذ إن له عند حدوده ممن يحسنه دلالات وأسباب، تقدر بقدرها إذا توافرت –بالطبع- مظاهر الإيمان، وقرائن السلوك0
فهو مظهر من مظاهر صفاء القلب، وبعد النفس عن التكلف والتقعر، وخلوها من الغلظة ولقد قال الرسول  : (( ينظر إليكم الرب قنطين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب، فقال له أبو رزين العقيلى: يا رسول الله أو يضحك الرب ؟! قال : نعم قال : لن نعدم من رب يضحك خيراً 00))( )0
فانظر –أخى المسافر- كيف ربط الأعرابى بين ضحك الخالق، والخير المحصل منه، مع ضرورة الانتباه –أيها القارئ- إلى ضرورة إدراك معنى الحديث، ونفى التشبيه عن الخالق، فلله تعالى المثل الأعلى، وإنما يؤخذ منه ما أدركه الأعرابى، فقال مقالته وحول ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- معلقاً على استنباط الأعرابى: ((فجعل الأعرابى العاقل – بصحة فطرته- ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذى لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل فى اليوم الشديد العذاب: إنه (يوماً عبوساً قمطريراً)0
(والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يمز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشىء من النقص فالله منزه عن ذلك)( )0
* وهو كذلك يلحق المرء بأحرار الناس البعيدين عن التكلف، وصنعه الرياء، وادعاء الوقار، والتصنع المذموم، بل وفيه الاقتداء بسلف الأمة، وهم أطهر الناس قلوباً 0
(وكتب بعض الكتاب إلى صديق له.. ونحن نحمد الله إليك، فإن عقدة الإسلام فى قلوبنا صحيحة.. ولقد اجتهد قوم أن يدخلوا قلوبنا من مرض قلوبهم، وأن يلبسوا يقيننا بشكهم.. ولنا بعد مذهب فى الدعابة جميل، لا يشوبه أذى، ولا قذى يخرج إلى الأنس من العبوس، وإلى الاسترسال من القطوب، ويلحقنا بأحرار الناس وأشرافهم، الذين ارتفعوا عن لبسة الرياء والتصنع)( )0
* وفيه إيناس للمصاحبين، وطرد الوحشة، وتأليف القلوب، ومظهر من مظاهر الأخوة والوفاء، وفى هذا يقول سعيد بن العاص لابنه :
((اقتصد فى مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين00))0
فانظر –أيها الداعية- إلى هذا الميزان الدقيق، بل لقد اعتبر بعض الفقهاء، المزاح وفق ضوابطه، وفى أوقاته من المروءة، والتقصير فيه من خوارم المروءة وشددوا فى ذلك فى السفر، وفى هذا يقول ربيعة الرأى : إن المروءة ست خصال: ثلاثة فى الحضر، وثلاثة فى السفر0
(والتى فى السفر، فبذل الزاد، وحسن الخلق وكثرة المزاح من غير معصية)( )0
وفيه طرد السأم والهم، والابتعاد عن مشاغل الدنيا، وترويح للنفس إذ لابد للمصدور أن ينفث، وللمهموم أن يزفر، ولابد للدنيا من مواقف، تتجدد فيها الطاقة، وتبعث فيها الهمة، لأن القلوب إذا كلت عميت، بل إن ذلك قد يكون مظهراً من مظاهر الرجولة فى البيت، ومع الزوجة والأولاد، إذا كان دون سرف أو جنوح، لا كما يظن البعض أن الرجولة بالتكلف والتصنع، واسمع قول بعض الصحابة: ((قال عمر: إنه ليعجبنى أن يكون الرجل فى أهله مثل الصبى، ثم إذا بغى منه، وجد رجلاً 00
وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس فى بيته، فإذا خرج كان رجلاً من الرجال)( ) 0
ولذلك فليس من خلق الداعية التبسم والمزاح خارج البيت، وتصنع الغلظة والجفوة فى بيته، ولا يخفى أن عكس الأمر من التكلف المذموم أيضاً0
وفى الوقت 00 زيادة حسن
وأجمل ما قد يكون المزاح بعد صلاة الفجر، ودليله ما رواه سماك بن حرب قال : ((قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبى  ؟ قال : نعم، كثيراً ما كان لايقوم من مصلاه الذى يصلى فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فيضحكون ويبتسم ))( )0
وفى رواية النسائى وأحمد زيادة ((ويتناشدون الشعر))0
وفى الأوقات أيضاً بعد صلاة العشاء، أى السمر فيه، والسمر يعنى الحديث قبل النوم، وأورد البخارى حديثين ذكرهما فى (باب السمر فى العلم) واستنبط منهما جواز السمر فى العلم، والقياس على ذلك فى المؤانسة مع الأهل، وفى هذا يقول ابن حجر :
((فالجواب أنه يلحق به، والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى، لأنه إذا شرع فى المباح ففى المستحب من طريق الأولى 00))( )0
ويقال : إذا كانت المؤانسة تصح من الأهل، فهى تصح مع الإخوان والخلان، ويزيد استحبابها إذا كانت لمصلحة الدعوة فى بذلك النصح، وتقريب القلوب، وزيادة المودة، وإزالة الكدر، وإيجاد أجواء الحب والتعارف، وقد نستريح مرة أخرى بعد قطع مرحلة أخرى من الطريق، فى واحة أخرى، حيث يكون الحديث فى تأصيل المباح من اللهو واللعب، أو من المسابقة والمناضلة، أو فى المسامرة والحديث0

(21) من وعثاء الطريق (1)
لقد استعاذ رسول الله  من وعثاء السفر، الذى لابد منه لكل سفر فى الدنيا، إذ لا يخلو السفر من مشقة معنوية أو بدنية، ولا ينقضى السفر بدونها، ويحتاج المسافر فيه إلى مكابدة ومشقة، تتحول فيما بعد إلىلذة ومنفعة، بل ومما يشاهد أن الأسفار ذات المشقة هى التى تبقى لذتها فى النفس، وتغمر الإنسان السعادة عندما يتذكرها، ويجعلها المادة المسلية لذكرياته، لأن الإنسان قد طبع بجبلته على حب السلامة وإيثار الفوز والنجاة، فإذا ما تحقق له هذا الأمر بعد كد ونصب، فإنه يشعر بمزيد من اللذة بالفوز والفلاح، وأن ما ينطبق على سفر الدنيا، ينطبق على سفر الآخرة، وبالأخص للداعية المسافر فى قطار الدعوة، إذ لا مفر له من مجابهة الكثير من وعثاء سفره الدعوى، والناتج عن بعض الفتن فى حياة الدعاة 00 وهو ما سوف يتحدث عن بعضه فى هذا الفصل0
معنى الفتنة
والفتنة لفظ أطلق فى القرآن الكريم بمعنى الامتحان إذا كان اللفظ عاماً، وقد يطلق على الامتحان الذى مؤداه الفتنة بمعناها الخاص، وهو الانحراف، أو السقوط، بل والكفر حيناً، كما فى قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (البقرة : 193). وقوله : ألا فى الفتنة سقطوا(التوبة: 49)0
كما أنه قد يطلق على الامتحان الذى لا يؤدى إلى فتنة السقوط أو الانحراف، بل على نوع من الاختبار الذى يتميز صاحبه بعده، بالثبات والرسوخ، وسواء أكان بالثبات على العقيدة والمحجة البضاء دون زيغ أو زلل، أم بالثبات على الدعوة والمنهج، دونما تغيير أو فتور، أم بالثبات مع ركب المؤمنين على الطريق والسنن دون ضرار أو انشقاق؛ وكل أنواع الثبات هذه ما هى إلا من مظاهر قوة الإيمان، وصدق اليقين، ونفاسة المعدن، وأصالة التفكير، ولقد أثنى الله تعالى على عباده الذين نجوا من الفتنة، ومن بها على رسله، فقال جل جلاله لموسى –عليه السلام- : وفتناك فتوناً(طه : 40)0
وكذلك قد تطلق الفتنة على الأمرين معاًن كما قال موسى مخاطباً ربه تعالى : إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء (الأعراف : 155). ويقصد بها البلاء والامتحان، الذى يضل الله بعدله من وقع فيها، ويهدى برحمته من نجا منها0
وهذا الاشتراك فى المعانى، لأن الأصل اللغوى مشترك يعنى الاختبار للشىء، كما قال الراغب الأصفهانى: (أصل الفتنة : إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته، ويستعمل فى إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب، كقوله : ذوقوا فتنتكم (الذاريات : 14) وعلى ما يحصل من العذاب كقوله تعالى : ألا فى الفتنة سقطوا (التوبة : 49) وعلى الاختبار كقوله : وفتناك فتوناً (طه : 40) وفيما يقع للإنسان من شدة ورخاء)( )0
فى الفتنة 000 تمييز
ومن النوع الأخير (( حيث المعنيين العام والخاص)) أوائل سورة العنكبوت التى يتوضح منها أن الفتنة هى الفيصل بين صاحب اليقين، والمتلبس بشىء من النفاق، أو هى المميز بين الصادق والكاذب، فقال من هو أعلم بخلقه: آلم(1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون(2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (العنكبوت : 1 : 3) 0
ولقد أوضح أصدق القائلين، كيف تميز الفتنة بين الحقيقة والتدليس، وذلك لأن (الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفى أن يقول الناس ((آمنا)). وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب)( )0
وبذلك يرتبط المعنى القرآنى بالمعنى اللغوى، وتعطى اللغة ظلالها وإيحاءاتها، والله تعالى، أعز وأحكم من أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، ويوذيهم بالفتنة، وإنما هو الإعداد الحقيقى لتحمل الأمانة الثقيلة، والصياغة التامة لإنجاز المتطلبات، إذ لابد من إقامة منهج الله فى الأرض، ودعوة الخلق للهداية، من صياغة نفسية وعملية، تتمكن النفس بها من الصبر على الآلام، وتحمل مشقة الطريق، والاستعلاء على الشهوات0
تخطى الفتن 00 طريق الأنبياء
والفتنة لابد منها، حتى يكون الجزاء من جنس العمل، وتكون مقدار النتائج، على مقدار الجهد، ولا يعرف الإيمان ومقداره، ولا اليقين وشدته، إلا بالفتنة وتجاوزها0
(فالعبد فى هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوى المزين، وقرنائه وما يراه ويشاهده، مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين، وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلاً فى دار أخرى غير هذه الدار التى خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلف بأن يترك شهواته الحاضرة الشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به)( )0
ولهذا كان طريق الجنة صعباً، وطريق الدعوة بالفتن أصعب، وأشد الدعاة ابتلاء بالفتن الأنبياء، والمرسلون، فكان لابد للداعية فى قطار الدعوة التأمل فى فسوة الطريق ووعثاء السفر، ويخاطب عندما يحب الراحة والدعة :
(اين أنت والطريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمى فى النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن خس، ولبث فى السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحي، وقاس الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد  تزهو أنت باللهو واللعب 0
فيا دارها بالحزن إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال )( )0
وما هذا المزار إلا الجنة التى دونها أهوال الفتن، ومرارة الصبر
فتنة بعض ببعض
والفتنة –مع هذا- تعم جميع الخلق، ولا مفر للإنسان منها، ولكن شتان بين من يسقط فيها، وبين من يتجاوز العقبة، وشتان بين من ينجو ليكسب الأجر، وبين من تكون وزراً عليه، وجميع الخلق كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه، ومن الناس من يكدح ليلاقى العذاب فيكون كدح الدنيا كالجنة عنده، وبين من يكدح ليتضاءل كل كده وكدحه أمام ثواب الله تعالى ورضوانه، والخلق لابد أن يمتحن بعضهم ببعض، ولقد كتب الله ذلك على خلقه : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة (الفرقان : 20)، فيفوز أصحاب الفلاح، ويبوء الآخرون بالنار، وبينهما منازل ومدارج0
(وهذا عام فى جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم، وتحمل المشاق فى تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم وينصرونهم، ويصدقونهم، أم يكفرون بهم، ويردون عليهم، ويقاتلونهم؟0
وامتحن العلماء بالجهال هل يعلمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم، ولوازم ذلك؟ 0 وامتحن الجهال بالعلماء هل يطيعونهم ويهتدون بهم؟00
وامتحن الرجل بامرأته، وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، والمؤمنون بالكفار، والكفار بالمؤمنين، وامتحن الآمرون بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورون بهم 00)( )0
فانظر –أيها المسافر- إلى فتنة البلاء فى الأمر بالمعروف والمحنة فيه، من تحمل المشقة والبلاء، والصبر على الأذى وتحمل التكاليف، فهل أنت صابر على هذه الطريق، ومتحمل لوعثاء هذا السفر، حتى تفوز بالوصول إلى الهدف، أم أنك تستوعر هذا الطريق، فتظل مع القاعدين0
فتنة الناس
وإذا كان لابد من معرفة الفتنة ليتقى منها، كما فعل حذيفة بن اليمان، حيث كان يسأله  عن الشر، بينما كان الناس يسألونه عن الخير، صار لزاماً فى عصر الفتن وملامحها، أن يتعرف دعاة اليوم عليها، ليتقوا بعضها، ويتجاوزوا عقباتها، فكل امرئ متلبس بها، لهذا قال عبد الله بن مسعود –رضى الله عنه- : ((لا يقولن أحدكم : اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لأن الله تعالى يقول : أنما أموالكم وأولادكم فتنة (الأنفال : 28) فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن))( )0
ومن ضرورات التعرف عليها، معرفة أنواعها، ولعل أشدها صعوبة فتنة الناس، سواء بطلب المنفعة منهم، أم درء المفسدة عنهم، بل والأشد من ذلك طلب ثواب متوقع، أو انتظار الناس جميعاً فى الفتنة بسببها للمفاضلة بينهم، لأنها تفرق بين الصادق والكاذب، والمستقيم والمتذبذب، والخبيث والطيب، والمؤمن والمنافق، وجميعهم متعرض لها، متأثر بها00 وجماع الفتنة بأمر الناس قوله تعالى :  00 وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً (الفرقان : 20) . قال القرطبى فى تفسيرها، مما يوضح أنواع الفتن بالناس:
( أى أن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد الله أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم فى جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغنى فتنة للفقير الصابر فتنة للغنى، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه، ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق 00 والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار فى عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل، ألا ترى إلى قولهم: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (الزخرف : 31) 0
فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى، والصبر أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر 00)( )0
وهكذا ابتلى الصحابة بالكفار، وكان إيمانهم فتنة للكفار أيضاً، وافتتن المشركون بفقراء المهاجرين، كما ابتلى الفقراء بما يحصل للأغنياء، وكان الصبر من المؤمنين رحمة لهم، وجزع الكفار فتنة وبلاء، وكان فى الصبر النجاة من فتنة أشد، وفى عدمه الوقوع فى الفتنة الأكبر 0
فتنة الشبهات
وحقلا الفتن مجالان، فتنة الشبهات، وهى أعظمهما، والأخرى فتنة الشهوات، وقد وقع النصارى فى الأولى، كما وقع اليهود فى الثانية، ولا تزال أمة محمد  على الطريق المستقيم، ولكن المسلم قد يقع فى شىء من هذه، أو شىء من تلك، وقد يزيد الانحراف حسب ضعف الإيمان، وما انفك كل مؤمن يقع فى شىء من الزيغ بالشبهات أو يميمل نحو الشهوات، ولكن من المؤمنين من يظل قريباً من خط الاستقامة، ومنهم من يبتعد حتى يقع فى المحظور فيكون فيه شبه من النصارى، ومنهم يقع بشهواته فى شبه من اليهود، حتى يصل بعضهم – والعياذ بالله- إلى أن يقع معهم، ولا يبالى الله به أمات يهودياً أو نصرانياً، ولذا كان من فضل الله تعالى على الأمة، أن يطلب المسلم- على الأقل فى كل يوم سبع عشرة مرة- بتلاوته للفاتحة- من ربه أن يهديه الصراط المستقيم، ويجنبه فتن الشهوات بتجاوز صراط المغضوب عليهم – وهم اليهود- وفتن الشبهات بتجاوز صراط الضالين –النصارى- وأن يبقى على الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (الفاتحة)0
سبب الشبهات 00 قلة العلم
وفتنة الشبهات تنتج عن قلة العلم، ولا سيما عند اقتران ذلك بفساد القصد، واتباع الهوى، وعندئذ تكون البلية العظمى، والمصيبة الكبرى، حيث يضل الهوى عن سبيل الله، ومال هذه الفتنة إلى البدعة والشطط، بل وتقود إلى الكفر والنفاق ولهذا فلا يزال يشاهد ويرصد قديماص وحديثاً أن المرتدين والخارجين عن الدين، غالباً ما يكونون من أهل البدع، أو من بيئة كثرت فيها البدعة، وعم فيها الجهل، ولا تزول هذه الفتن عن المسلم، إلا باتباع القرآن والسنة، والبحث عن دليل الشرع، وتحكيم الشرع فى كل أمر من أمور الحياة، صغيرها وكبيرها، فى العقيدة والشريعة، وفى الإيمان والسلوك، وفى العمل والأداء، وفى نطاق الفرد أو الجماعة، والهدى دائر على اتباع النص، وما خرج عنه فهو ضلال، (وهذه الفتنة تنشأ تارة عن فهم فاسد، وتارة عن نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفى على الرجل، فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهو متبع، فهى من عمى فى البصيرة، وفساد فى الإرادة)( )0
وفى إطار الجماعة المؤمنة، تقود قلة العلم إلى بعض الشبهات، والتى تسبب انحرافاً ليس بالضرورة أن يكون انحرافاً فى الفكر والعقيدة، وإنما شططاً فى الأسلوب والعمل، قد يؤدى إلى فتنة الخلاف، أو فتنة التأخر عن المقصود، أو تقديم المهم على الأهم، أو ما قد يسببه قلة العلم من اختلاف فى الصف، أو قصور فى الفهم، أو اختلاط فى الإدراك مما يعطل المسيرة، ويعوق البناء0
وليس من المبالغة بمكان، أن يكون سبب معظم أسباب الخلافات فى العمل الإسلامى المعاصر، وتباين سل عمل الجماعات الإسلامية، مرده إلى عدم الرجوع إلى النصوص الشرعية، واتباع المنهج السليم بالعودة إلى منابع الشريعة الغراء، وبالتالى التحاكم إلى الله ورسوله، واتباع الطريق الصائب، والمحجة البضاء، والسبيل القويم0
إن درء الفتن، ووحدة الصف، ونبذ الخلافات لا تتم جميعها إلا بالعودة الرشيدة إلى نصوص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، ثم مناهج السلف، واختيار أقرب أقوال علماء الأمة إلى دلالة النصوص ومقتضاها0
فتنــة الغرائــب
ومما يتفرع من هذه الفتنة، ويدخل فى نطاقها، الثقافة النظرية، أو التثقيف ببعض غرائب المسائل، وهذه المسألة أصل فى فتنة التحريف والتأويل، وقد تقود إلى التشكيك ثم الابتداع، ولذلك نهى الشرع عنها، وهدد عمر – رضى الله عنه- بالدرة من تتبعها، وعاقب كذلك على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وسار أئمة السلف على ذلك، ونصوصهم كثيرة، منها ما قاله أبو بكر الأنبارى مثلاً 0
( 00 وقد كان الأئمة من السلف، يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف والمشكلات فى القرآن، لأن السائل إن كان يبغى بسؤاله تخليد البدعة، وإثارة الفتنة، فهو حقيق بالنكير، وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين فى ذلك الوقت سبيلاً إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل فى تحريف القرآن عن مناهج التنزيل، وحقائق التأويل00)( )0
ويؤخذ بالمقياس النسبى –من نصوص السلف- عدم ابتغاء غرائب المسائل فى العمل الدعوى، أو التركيز على الثقافة النظرية، أو تتبع الشبهات والشكوك، فهى فى مسائل الدين تقود إلى تحريف مناهج التنزيل، أو حقائق التأويل، كما أنها فى مسائل الدعوة تقود إلى الانحراف عن مناهج العمل، أو ثوابت الحركة0
استباق النضج
ومنها، ما يقع –على جميع المستويات- تبعاً للجهل بالأولويات، كالمسارعة إلى الإفتاء والتعالم، أو ادعاء المعرفة، أو مناقشة الأمور بين غير الأكفاء، أو إشراك من هم دون الوعى بموضوع المناقشة، مما قد يقود إلى الفتن، كما هو معروف ومشاهد فى حياة الدعاة، ولقد سبق إلى فهم هذه الحقيقة الحياتية كل من عبقرى الأمة، وترجمان القرآن، فلقد روى ابن عباس هذه الرواية صحيحة السند قال :
(00 قدم على عمر بن الخطاب –رضى الله عنه- رجل، فجعل عمر يسأل الرجل عن الناس، فقال : يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقال ابن عباس: 00 والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا فى القرآن هذه المسارعة، قال : فزجرنى عمر ، وقال : مه، فانطلقت إلى منزلى كئيباً حزيناً، فبينا أنا كذلك، إذ أتانى رجل فقال : أجب أمير المؤمنين، فخرجت فإذا هو بالباب ينتظرنى، فأخذ بيدى فخلا بى، وقال : ما الذى كرهت مما قبال الرجل آنفاً؟ فقلت : يا أمير المؤمنين : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، قال لله أبوك، والله، إن كنت لأكتمها الناس، حتى جئت بها 00)( )0
فاسمع –أيها الداعية – هذا النص الثمين، كيف أدرك عمر وابن عباس – رضى الله عنهما- أن المسارعة فى المناقشة فى القرآن الكريم تقود إلى الخلاف، ثم القتال، ولا يزال القرآن طرياً فى قلوب الصحابة، وهو الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، فكيف بما هو دون ذلك من مسائل الاجتهاد، كمناهج العمل، أو فروع الفقه0
ولعل من أكبر فتن العاملين للإسلام هذه الأيام، المسارعة إلى مناقشة أمور تقصم ظهور الرجال، قبل بلوغ العلم الكافى، ولا المعرفة الكافية، وترى من هم من أول الطريق، ولما يبصروا بعد مواقع الأقدام من الطريق يناقشون اختلاف الفقهاء، وأحاديث الآحاد، وحكم خلافة المرأة، ويقيمون الأحكام على الجماعات والمواقف والرجال، وهم لا يزالون فى أول الطريق فكراً، وفى بداية الشوط عملاً، وما مثلهم، إلا كراكب أدرك القطار بالكاد، وينبغى له أن لا يفوته السفر، فهو معلق بآخره ومع هذا فهو يريد الاستفصال عن هندسة القطار وآلاته، ويبحث عن طبيعته ومميزاته، كما يسأل عن ركابه ومشكلاتهم، وعن حوارهم ومسائلهم وهو لما يركب بعد 000
مراتب قبل الأوان
ومن الفتن التى أساسها العلم الناقص –فى ركب المسافرين- إلحاح البعض بطلب المراتب العالية من الآخرين، وسلوكه وإياهم غير طريق الوعظ الدقيق، والذى غالباً ما يأتى بالنتائج الإيجابية، وإنما بسلوك طريق الأخذ بالشدة، وبالتعنيف والتبكيت، بل ويريد بعض هؤلاء من الآخرين النسج على منوالهم فى الأخذ بالأحوط، وينسى أن الله تعالى خلق الناس مراتب، كما أن مظاهر العبادات تتنوع، والطاعات تتباين، وتدرأ مثل هذه الفتن، باتباع الطريق الصحيح، بل لقد اعتبر الشاطبى أن مثل هذا السلوك الخاطئ يجرى مجرى البدع، فقال : (( قد يكون أصل العلم مشروعاً، ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع، ولكن على غير الوجه الذى فرغنا من ذكره، وبيانه : أن العمل يكون مندوباً إليه –مثلا- فيعمل به العامل فى خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجرى مجراه إذا دام عليه فى خاصيته غير مظهر له دائماً، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن والرواتب، والفرائض واللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه، وأصل ندب رسول الله  لإخفاء النوافل والعمل بها فى البيوت 00)( )0
ومن هنا يتبين ضرورة أخذ المربى للدعاة بالحسنى، وتكليفهم بما يطيقون، وتشجيع الأفراد كل فى مجال همته ونشاطه، دون أن يمنع ذلك من تصعيد الهمم، وإذكاء النشاط بالوعظ والإرشاد، والمداراة والتشجيع، وأن يأخذ من يشاء بالعزائم فى خاصية نفسه دون إلزام للآخرين بالمراتب العالية0
علم لا يستضاء به
ومن فتن العلم، حمله دون وعى، أو النطق به دون عقل، فصاحبه كمن يحمل مصباحاً أو مشعلاً دون أن يستضىء به، لأن العلم الذى فيه نجاة للعبد، هو ذلك العلم الذى يؤدى إلى خير القلوب فيحيلها إلى الربانية، أو على الأقل النجاة من العذاب، أما إذا أدى إلى ترديده دون وعى، أو بفهم خاطئ فنتيجته الريبة والشك، أو السقوط فى متاهة الزلل، أو الوقوع فى التأويل الفاسد، وكفى بهذا العلم فتنة لصاحبه، ولغيره، ولا تزال القلوب فى استقبال العلم، أوعية مختلفة، فعن على – رضى الله عنه- قوله : ((إن هذه القلوب أو عية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة؛ فعالم ربانى، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق00 أف لحامل حق لا بصيرة فيه، ينقدح الشك فى قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدرى أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدرى حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به 000)( )0
والتبرير فتنة
ومن أشد فتن العلم، قدرة المتعلم على التبرير، حيث تعلل المتعالم الذى لم يخالط علمه بشاشة القلب، بترك الكثير من المأمورات، أو إتيان بعض الأعمال المفضولة، ويجد لها من الأسانيد الشىء الكثير، ويحاول تصيد الرخص، أو أقوال الفقهاء الضعيفة، وقد لا يكون هذا التبرير أمام الناس، ولكنه ليقنع نفسه بالأمر، فيوقعه الشيطان فى الزلل، أو يمنعه من بلوغ المراتب العالية وبالتالى يسقط فى حبائل الشيطان من ثغرة العلم، وهو لا يدرى00
(ولما كان فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة، صار فى الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأن يطلب السلامة من الفتنة، كما قال تعالى فى المنافقين: ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا (التوبة: 49)( )0
إذ تدل هذه الآية على أحد مظاهر التبرير، وهو ترك الجهاد لطلب السلامة من الفتنة، ومنا علم صاحب التبرير أن ترك الجهاد أو الواجب بحد ذاته فتنة، وسبب نزول الآية قول الجد بن قيس لرسول الله  أن يأذن له بترك الغزو خوفاً من فتنة نساء بنى الأصفر، وفى الواقع رغم أنه من المنافقين، إلا أن فتنة التبرير قد يقع فيها كل صاحب علم بأسلوبه الخاص، ولو بمراتب متفاوتة، قد توقع فى بعض مظاهر نفاق العمل، مما يستدعى الحذر الشديد لصاحب العلم من أن يؤتى من ثغرة لا ينتبه إليها، ويكون فيها هلاكه، بحيث لا ينتفع من عمله0
ولا يزال كثير من علماء الأمة الذين جمعوا بين علم الشريعة، وتزكية القلب، فحصلوا على ثمرة العلم، ينبهون على هذا المعنى،ن ومنهم شيخ الإسلام حيث يقول : (( وهذا حال كثير من المتدينين يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهى وجهاد، يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هى العليا لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا فى الفتنة التى هى أعظم مما زعموا أنهم فروا منه، إنما الواجب عليهم القيام بالواجب، وترك المحظور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفسوهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعاً، أو تركهما جميعاً، مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال، وشهوات الغى، فإنه إن فعل ما وجب عليه من أمر ونهىن وجهاد وإمارة، ونحو ذلك فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات00)( )0
فانتبه، وحذار، أيها الداعية من أن يستزلك الشيطان بترك العمل بحجة التواضع، أو ترك مسؤولية – إذا وجبت عليك- بحجة الزهد، أو ترك الدعوة بحجة الحذر ، أو ترك الأمر بالمعروف بتبريرات العقلانية، أو ترك الاختلاط مع الناس على أساس عدم وجود النية الكاملة0
فى العلم … فضل ورحمة
إن علاج فتنة الشبهات لا يتم إلا بالعلم، فهو الذى يجعل القلب محلاً لقبول الهداية، والعلم يجلب آلة الهدوى، كما أنه يقود إلى دفع المؤمن لعمل الخير، فتجتمع من العلم الأمور الثلاثة التى تؤدى إلى الهداية التى تمنع هذه الفتنة، وإذا ما ذهبت الشبهات من القلب، فسوف تتصل الرحمة بالهدى، فيكون فى العلم من القرآن والسنة المزيد من الهدى والرحمة، وهكذا حتى تتحقق كل من الرحمة العاجلة والآجلة، والعاجلة ما يعطيهم الله من محبة الخير ومحبة الاستزادة منه، وتذوق طعم الإيمان وحلاوته، وما يقود الخير إلى الفرح والسرور، وأما الآجلة فما أعده الله للمؤمنين العاملين 0
(00 وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن، وهما اتباع الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التى يرحم الله بها من يشاء من عباده، فإن الأمن والعافية والسرور، ولذة القلب ونعيمه وبهجته، وطمأنينته؛ مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح، والسعادة0 والخوف والهم والغم، والبلاء، والألم والقلق، مع الضلال والحيرة، ومثل هذا بمسافرين، أحدهما اهتدى لطريق مقصده، فصار آمناً مطمئناً، والآخر قد ضل الطريق، فلم يدر أين يتوجه؟ كما قال تعالى : قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذى استهوته الشياطين فى الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى (الأنعام:71))( )0
إذن، فالمسافر فى قطار الدعوة لابد له من معرفة الطريق، الذى يعرف مقصده، ولا يمكن أن يسير فيه آمناً مطمئناً حتى يتجاوز الفتن، ولعله – وإيانا- بفضل من الله ورحمته، نتجاوز إن شاء الله فتنة الشبهات، ثم نلحقها بتجاوز فتنة الشهوات0

(22) من وعثاء الطريق (2)
لقد سبق الحديث عن أحد جانبى الوعثاء، بذكر فتنة الشبهات، وهى وإن كانت أهم الفتنتين، وأخطر المحنتين، ولكنها على الأعم الأغلب، تقل وسط الدعاة، أو تخف حدتها فى غالب الأحوال، أو لا تطل برأسها إلا فى أوقات المحن والشدائد، بينما الفتنة الأخرى، والمتعلقة بالشهوات هى الغالبة فى أوساط الدعاة، ومنها ينفذ الشيطان، وفى أجوائها تنحر الهمم وتهبط الأرواح، ومن نتائجها يحصل الفتور ويتعطل العمل، فكان لزاماً الحديث عنها، حتى يتمكن من اتقائها، والعمل على صداها، وبالتالى ترتفع الهمم، وتقل المتاعب، فيمكن قطع طريق السفر بهمة ونجاح0
مصدر الفتنة 000
إن فتنة الشهوات تتعلق بالهوى، ومنصدرها النفس وإبليس والدنيا، وهى أول فتنة أبينا آدم عليه السلام، حيث استجاب لنداء شهوته بإغراء إبليس، فاستجاب لشهوة البدن وأكل من الشجرة، ولا تزال ذريته –وفق مشيئة الله- يقعون فى الشهوات، ولا ينجون منها إلا بتوفيق من الله وعون، سواء أكانت الشهوات بدنية أم نفسية0
ولما كان ابن آدم مخلوقاً من الحمإ المسنون ففيه إذن من صفات الطين، ومن صفات النار ، وشهواته مدارها على هذين القسمين، فمنها ما هو متعلق بمادة الطين حيث الركون إلى مادة الأرض، وشهوات الطين، فيلهث وراء شهوات الجسد الترابية، كشهوة النساء، وشهوة المال، وحب التملك، وقد تدفع هذه الشهوات إلى الفاحشة كالزنا أو السرقة، أو ما هو من مقدماتها0
أما الشهوات النارية فتتعلق بحظوظ النفس كالغضب، أو التكبر على الخلق، أو طلب الاستعلاء، أو حب الرئاسة والوجاهة، وما يرتبط بكل ذلك ويتداخل معها، كفتنة الغربة، والخوف على الأهل والأولاد، وفتنة إعجاب المرء بنفسه، وفتنة التكاثر بأى عرض من أعراض الدنيا، خفى عن الناس أو ظهر 0
اجتماع الفتنتين 000
وقد تجتمع الفتنتان معاً فى قلب العبد، أو يشتمل قلبه على شىء من هنا، وشىء من هناك، كما قد ينفرد العبد بإحداهما، وإذا كانت فتنة الشبهات لها النصيب الأوفر فى انحراف النصارى الضالين، فلليهود السهم الأكبر من فتنة الشهوات الذى أدى إلى ضلالهم وغضب الله عليهم، بما جحدوا به النعم، وعبادتهم لعجل الذهب، وما استحلوه من المحارم حرصاً على دنيا زائلة؛ أو حباً فى متاع فانٍ، ووصفهم رب العزة بأنهم أحرص الناس على حياة، واختار الله تعالى أمة الإسلام خير الأمم لأن تكون الوسط بين الإفراط والتفريط، وإنها على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وليس بصراط النصارى الضالين، ولا اليهود المغضوب عليهم0
وقد جمع سبحانه وتعالى بين الفتنتين تحذيراً لأمة محمد  فقال : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (التوبة: 69) 0
فأوضح أن الخلاق وهو النصيب المقدر، كان من شهوات الدنيا، ثم أردفها تعالى بالخوض فى الباطل وهة فتنة الشبهات، والأولى تقود إلى البدع، والانحراف، والزيغ، وإلقاء الشبهات الفاسدة، والتأويلات الشاذة، ثم قد تقود إلى الشرك أو الكفر، ولهذا يلاحظ أن أكثر الملحدين أو الكفار كان منشؤهم من فتنة فى الشبهة حيث الجهل بالشرع، أو القول بتأويل فاسد تبعاً لغرض فاسد أو هوى متبع، وقد سقط فى هذه الفتنة ناس من أهل القبلة كالروافض والخوارج والمعتزلة، وكثر الخارج فيهم من الملة، لأن الشبهة قد تقود إلى الكفر أو الشرك، كما سقط فى الفتنة الثانية أناس آخرون، فوقعوا فى المحارم، كالزنا وشرب الخمر، وترك العمل، والتساهل بالذنوب، وجرت على مناهجهم أقوام من ذرارى المسلمين، لا يزالون حتى اليوم0
ولما ضرب الله تعالى للمسلمين مثل اليهود والنصارى ليحذرهم أن أمة محمد  قد تقع فى بعض هذه الفتن، وبدرجات متفاوتة، تبتعد أو تقترب من الخط المستقيم، فإذن على المسلم أن لا يغتر ويحذر من التشبه بالأمم التى حادت عن الصراط المستقيم0
الإمامة بتركهما 00
وإذا كانت فتنة الشبهات مردها إلى فهم فاسد، ونقل كاذب، وغرض يتبع الهوى، فمصدرها العام الجهل بما يقود إلى تقديم الرأى على الشرع، فلا تدفع إلا بالعلم واليقين، أما الفتنة الأخرى فأصلها تقديم الهوى على العقل، والرغبة على الإدراك، فلا تدفع الفتنتان إلا بالصبر المقرون باليقين0
(ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (السجدة :24) فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين، وجمع بينهما أيضاً فى قوله : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (العصر :3) فتواصوا بالحق الذى يدفع الشبهات، وبالصبر الذى يكف عن الشهوات، وجمع بينهما فى قوله : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدى والأبصار (ص:45) فالأيدى : القوى والعزائم فى ذات الله، والأبصار : البصائر فى أمر الله، وعبارات السلف تدور على ذلك 000)( )0
فالداعية – فى قطار الدعوة- لن يكون إماماً يهتدى به فى المجتمع، ولا قادراً على التغيير، ولا يحصل على التمكين فى الأرض، والقيام بواجبات الاستخلاف، إلا بالسيطرة على الفتنتين بقوة الصبر، وعمق اليقين0
فتنة القوارير 00
ولعل أهم الفتن فى مجال الشهوات، ما ذكره الرسول  فى أن أول فتنة بنى إسرائيل هى النساء، وما يتعلق بذلك من شهوة الجسد، وفتنة العشق، للصور والأجساد أياً كانت، إذ قد تقود تلك الشهوة إلى الزنا أو نظائره، وكذلك فدون هذه الفاحشة مقدمات وممهدات، حذر الإسلام منها بنصوصه الكثيرة، والدعاة – فى قطار الدعوة- ليسوا بمنأى عن ذلك، وهم بشر، وخصوصاً فى زمن زادت فيها مظاهر الفتنة، وتعاظمت فيها. طرق الغواية، ولقد قال الله تعالى :  زين للناس حب الشهوات من النساء (آل عمران : 14)0
مما يدل على أن شهوات النساء مزينة للناس، ومغوية لهم 0
وقوله تعالى – من النساء- بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن، ((ما تركت بعدى فتنة أشد على الرجال من النساء))( )0
(ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء، ويقال : فى النساء فتنتان؛ وفى الأولاد فتنة واحدة، فأما اللتان فى النساء؛ فأحدهما : أن تؤدى إلى قطع الرحم، لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأولاد، والثانية : يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام، وأما البنون فإن الفتنة واحدة، وهو ما ابتلى بجمع المال لأجلهم 00)( )0
فحرى بالداعية إذن أن يصون نفسه حتى عن ممهدات الوقوع فى الفاحشة، ولقد أمر تعالى بالكف حتى عن الاقتراب، فقال : ولا تقربوا الزنى (الإسراء : 32) ويجب أن لا يعرض الإنسان نفسه للفتنة تحت أى تبرير كان، ومهما كان واثقاً من نفسه، لأن الله – وهو أعلم بخلقه- يعلم ضعف الإنسان، ولابد من أن يلجأ الداعية، بأسرع وقت- إلى الزواج ليعف نفسه، أو يلجأ إلى الصوم فإنه وجاء، أى وقاية له من المنكر0
وسواس المخدة 00
ورغم أن المعنى السابق مفهوم، إلا أن ما يرتبط به من معان، قد لا يكون واضحاً للدعاة، ومنها ما قديتعلق به الداعية، من حب زوجته، وهو حلال مطلوب، إلا أن هذا الحب والتعلق قد يصد عن المعروف، أو إعانة جماعة المسلمين، بحجة الخوف على الأهل، أو حرصاً على البقاء بجانب الزوجة، وإيثاراً لشهوات الدنيا على عمل الآخرة، ناهيك عن أن يقود البعض إلى قطع صلة الرحم، أو إيذاء الوالدين، أو ترك الإنفاق والبذل0
وهذه المظاهر من أشد الفتن، لأنها تأتى بأسلوب خفى، وعند اقتراب الرجل من المرأة0
(يقال : إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء من إبليس إياها00 وأن أول كلامه معها لأنها وسواس المخدة، وهى أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال : ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبا (حبك الشىء يعمى ويصم)00)( )0
فانظر – أيها القارئ- إلى تعبير القرطبى- عن هذه الفتنة- بوسواس المخدة – لإدراكه أن الوسواس فى مثل هذه المواضع، تصل إلى الرجل بسهولة، وقد تصمه آنذاك عن سماع الخير، أو تعميه عن رؤية المعروف، ولقد شوهد من التجارب كم من داعية ترك الكثير من الخير يسبب زوجته، أو تجاوز المعروف بسبب كثرة السماع منها، بل لعل أدنى ما يكون من وسواس المخدة، تقليل احترام الزوج لإخوانه من الدعاة بكثر النقد، أو تشويه السمعة بترديد الإشاعة، أو إشاعة أخبار السوء تلذذاً بالحديث، أو غيبة الناس سعياً لقضاء الوقت؛ وهكذا بمثل هذا تزداد الأمور سوءاً، ويضيع الأجر، وتضيع فرص، إضافة إلى ما تقع المرأة نفسها فيه من الوزر 0
يصر عن ذا اللب 0
إن على المسلم – والداعية خصوصاً- مهما شعر بقوة شخصيته، أو رجاحة عقله، الحذر من فتنة النساء، سواء بالابتعاد عن دواعى الفتنة، أو مقدمات الرذيلة، مهما كان التبرير، ولقد حذر العلماء من تقرب الرجال من النساء حتى ولو بحجة تعليمها للقرآن، فعن جماعة من العلماء والزهاد، ومنهم ميمون بن مهران، الذى يقول : ((ثلاث لا تبلون نفسك بهن؛ لا تدخل على السلطان، وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تضغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدرى ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة، ولو قلت : أعلمها كتاب الله))( )0
والابتعاد عن الأقارب غير المحارم مهما كانت الأعراف والعادات، وكذلك التنبه الدقيق للفتنة التى تأتى عن طريق الزوجة حتى لو كانت صالحة ، وأن يتعاون الداعية وإياها بعرض كل حديث أو تصرف على قواعد الشريعة، والسبب فى كل ذلك ضعف الإنسان أمام النساء، وهى حقيقة أثبتها خالق الإنسان، فقال تعالى : وخلق الإنسان ضعيفاً (النساء : 28) أى : وخلق الله الإنسان ضعيفاً، أى لا يصبر على النساء00 ونحوه عن عبادة بن الصامت – رضى الله عنه- قال : ألا ترونى لا أقوم إلا رفداً، ولا آكل إلا ما لوق لى00 ما يسرنى أنى خلوت بامرأة لا تحل لى، وأن لى ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتينى الشيطان)( )0
وما أحكم قول الشاعر :
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
والمال 000 فتنة
ولعل الفتنة الثانية التى حذر منها الرسول  فتنة المال التى تؤدى إلى الزهو والاعتزاز، وبالتالى تقود إلى نسيان المنعم، وما ينبغى له من الحمد والشكر، وكم دلت التجارب على مشاهدة بعض العاملين الدائبين فى سن الشباب، وما تكاد أيديهم تصل إلى المال، أو إلى شىء من الثراء، أو انفتاح باب من أبواب الرزق، حتى يقع ذلك العامل صريعاً للفتنة، وتشاهده يلهث وراء جمع المال، تاركاً الأولى والأهم، وكان تنبيه المصطفى  لذلك بأسلوب عملى، وصورة مؤثرة، فلقد مر وأصحابه يوماص بشاة ميتة، فقال لهم: (( أرأيتم هذه هانت على أهلها؟ قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله، فقال : للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها)) ( )0
وفى صورة أخرى يرويها أبو سعيد الخدرى، رضى الله عنه قال :
قال رسول الله  : ((إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطاً، أو يلم إلا آكلة الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوة من أخذه بحقه ووضعه فى حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان الذى يأكل ولا يشبع))( )0
والمتأمل فى الواقع أو فى التاريخ –إن كان ذا لب- يشاهد تساوى الناس فى الكفن بعد الموت، وكم ترك الأموال أصحابها، ورحل أهل الغنى عن الدنيا، كما رحل أهل الفقر0
وفى نقصه فتنة 00
ولهذا تعوذ رسول الله  من شر فتنة الغنى، بعد حصوله، وإن كان فى الفقر فتنة أيضاً فينبغى التعوذ منهما جميعاً، وإن كان فتنة الغنى أشد شراً فى زماننا هذا وأغلب، قال الكرمانى فى شرح الحديث الذى يدعو به الرسول  : ((اللهم إنى أعوذ بك من شر فتنة الفقر))0
(صرح فى فتنة الغنى بذكر الشر إشارة إلى أن مضرته أكثر من مضرة غيره، أو تغليظاً على أصحابه حتى لا يغتروا فيغفلوا عن مفاسده، أو إيماء إلى أن صورته لا يكون فيها خير، بخلاف صورة الفقر، فإنها قد تكون خيراً)0
وعلق ابن حجر على الاستنباط الأخير قائلاً :
(( كل هذا غفلة عن الواقع، فإن الذى ظهر لى أن لفظ ((شر)) فى الأصل ثابتة فى الموضعين، وإنما اختصرها بعض الرواة.. والتقييد فى الغنى والفقر بالشر لابد منه، لأن كلاً منهما فيه خير باعتبار، فالتقييد فى الاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير، سواءً قل أم كثر 000)( )0
ولذا، يلاحظ أن صاحب الحاجة قد يبتلى بشىء من الفتنة فيلهث وراء الدنيا طالباً المزيد، أو يظل ساخطاً على ما هو فيه، أو قد يمد عينيه إلى ما متع به غيره، فيقع فى إثم الحسد، وتقتل قلبه الغيرة، وقد تتطور إلى مشاعر حقد ظاهرة، أو كراهية دفينة، تنعكس على تصرفات توقعه فى الآثام، أو تؤدى به إلى المهالك0

لكل من اسمه نصيب 000
ولعل الداعية يعتبر حتى بأسماء المال، ولكل شىء نصيب من اسمه، فاسمع ما قيل فيه؛ وفى الدرهم والدينار، وظلال المشاكلة اللفظية فيها :
(فالذهب مأخوذة من الذهاب، والفضة مأخوذة من انفض الشىء، تفرق، ومنه فضضت القوم فانفضوا، أى فرقتهم فتفرقوا، وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما، وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد فى الوجود، ومن أحسن ما قيل فى هذا المعنى قول بعضهم :
النار آخر دينار نطقت به
والهم آخر هذا الدرهم الجارى
والمرء بينهما إن كان ذا ورع
معذب القلب بين الهم والنار ( )0
وليعلم، أن المال وسيلة، فمدحه وذمه خاضع للهدف والغاية، ففوائده الدينية الإنفاق منه على النفس والعيال، فى عبادة أو للاستعانة به على عبادة، كالحج والجهاد، والإنفاق فى سبيل الله تعالى، ومنها ما يصرف للناس كالصدقة التى تطفئ غضب الرب، والمروءة بما يصرف بها فى الضيافة والهدية والإعانة، وكذلك وقاية العرض، والمكافأة، والاستعانة بالمال لاستخدامه فى توفير الجهد والوقت والمكان لصرفها فيما هو أجدى وأنفع، وكذلك من قوائد المال ما يتحقق به النفع العام مما هو أجر مدخر ينفع بعد انقضاء الأجل، وما يتوصل به إلى كثرة الإخوان، وكسب القلوب، واستحصال المحبة0
أما آفات المال ومضاره، ما يجر به إلى معصية، أو الوقوع بسببه فى فتنة السراء، أو المبالغة فى التنعيم بالمباحات مما يجر إلى الحسد والكبر، أو العجب والرياء، وكذلك ما قد يجره المال إلى الالتهاء بإصلاحه عن الاشتغال بذكر الله، أو الدعوة إلى سبيله، وما قد يجر ذلك من خوف وحزن وغم وهم لقلب المؤمن، أو إلى المصاعب التى لابد منها لحفظه، والسعيد من استطاع أن يوازن بين الفوائد والآفات0
فتنة الأولاد 00
لقد حبب الله الأولاد للإنسان، فجعل النكاح من سنة الأنبياء والمرسلين، بل وجعلهم سبباً للثواب، إذا ما أدى الوالد الواجب، وتعليم الدين نحو أبنائه، ولكن قد يتحول الأولاد إلى فتنة، كما يتحول المال كذلك، وتقع فيهما الفتنة بالمعنى الخاص، وكذلك :
(تطلق الفتنة على أعم من ذلك كقوله تعالى : أنما أموالكم وأولادكم فتنة (الأنفال :28). قال مقاتل : أى بلاء وشغل عن الآخرة، قال ابن عباس: فلا تطيعوهم فى معصية الله.. وقال الزجاج : أعلمهم الله –عز وجل- أن الأموال والأولاد مما يفتنون به، وهذا عام فى جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، لأنه ربما عصى الله بسببه، وتناول الحرام لأجله، ووقع فى العظائم إلا من عصمه الله تعالى 00)( )0
ولقد ورد أن الرسول  كان يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران0
(فنزل النبى  إليهما فأخذهما، فوضعهما فى حجره على المنبر، وقال : صدق الله أنما أموالكم وأولادكم فتنة (الأنفال :28) رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما)( )0
ودل الحديث على ضرورة التحذير من الانجراف وراء العاطفة الجارفة، وإثارة اليقظة فى النفوس المؤمنة من تسلسل المشاعر، وضغط المؤثرات، من الانتقال من حد العاطفة الشرعى، ومستواها الإيمانى الذى يدل على الرحمة المستوى المفرط الذى تنتقل فيه الوشائج إلى ترك العمل، والفرار من الجهاد، أو الاعتذار بالأولاد عن ترك ما هو أرجح0
وقد تكون الفتنة بالأحباء بما قد يخشى عليهم من إصابتهم من الأذى بسببه، وهو لا يملك لذلك دافعاً، وللدعاة قدوة بما فعله سعد بن أبى وقاص، بأمه عندما قاطعت الأكل والشرب فقال لها: ((يا أماه لو كانت لكل مائة نفس فخرجت نفساً نفساص ما تركت دينى))، وهكذا يجب أن ينتصر الإيمان فى قلوب الدعاة على فتنة القرابة والرحم، مع استبقاء البر والإحسان، لأن فى الالتزام بما أراد الله النجاة والأمان0
كذلك، ليحذر العاملون إلى الله تعالى، منع الأولاد والأهل من العمل فى سبيل الله، كما فعل البعض بمن أسلم من مكة، وأبوا أن يدعوهم، ثم فاتهم القطار، ولا حظوا بعد فتح مكة، وأبوا أن يدعوهم، ثم فاتهم القطار، ولا حظوا بعد فتح مكة، أن الناس قد فقهوا فى الدين، فالأولاد ونظائرهم قد يكونون ملهاة عن ذكر الله، أو سبباً للتقصير فى تبعات الإيمان، ولكنها ضريبة الإيمان، ونتيجة اليقين حتى تتحقق التضحية فى سبيل الله، ويكون التجرد الكامل لله – عز وجل- ومثل هذه الفتن لابد منها، وهى متفاوتة مختلفة، وحصيلتها الأجر الجزيل، والعاقبة الطيبة، والله المتكفل بالعباد0
فتنة العلم 00
ومن أشد الفتن، فتنة العلم وهى مرتع خصب فى مجال العامة، وعند غيره من العلماء والخطباء أشد وأعتى، فوسائل الدعوة من خطابة وكتابة وتعليم وحوار، يمكن أن تكون عند قلة التقوى، أو غياب الورع من أوسع مداخل الشيطان لأنها تجلب الشهرة، وتلفت الأنظار، وتشيع الرغبات، وقد اعتبر المصطفى  الخيلاء آفة العلم، وحذر من أن يجارى بالعلم العلماء، أو يمارى به السفهاء، وينبغى احتراس الدعاة الشديد من الوقوع فى آفاته، وليتذكر المرء دوماً أن ما أعطى من موهبة إنما هى من الله وحده، وهو القادر على سلبها، وأن كل قول أو فعل لا يقبل –حتى لو كان صائباً- ما لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى. ومن المواعظ فى ذلك ما كان من بشر الحافى كان يقول :
(أنا اشتهى أن أحدث، ولو ذهبت عنى شهوة الحديث لحديث، وقال هو وغيره، إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت، فإذا لم تشته فحدث، وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة، ومنصب الإرشاد أعظم لذة من كل تنعم فى الدنيا، فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا، ولذلك قال الثورى: فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد، وكيف لا تخاف فتنته وقد قيل لسيد المرسلين  ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً00 (الإسراء :74)( )0
ومن نتائج فتنة العلم أو قل من مظاهرها أن يكون الكلام أحب من الاستماع، لأن فى الكلام تنميق وزيادة يحتمل على صاحبه الخطأ، وفى العلم حب صاحبه للاحتفاظ به، وكراهية أن يكون مثله عند غيره، والعلم قد يجعل صاحبه بمنزلة السلطان يغضب إذا رد عليه، ويحزن إذا انتقد فى مسألة، من فتن العلم أيضاً أن العالم قد يختص بعلمه بعض الناس دون بعض لغرض أو هوى، كما أنه قد يقود إلى التكلف المذموم، أو الإفتاء بالباطل، إضافة إلى اتخاذه للذكر بين الناس، والاستشهار به، أو ما قد يؤدى بصاحبه إلى الزهو والعجب، وغير ذلك0
ولكن السعيد من اتخذ العلم طريقاً إلى الآخرة، فزكى به باطنه كما تزكى به ظاهره، فإن من سيماء العلم السكينة والوقار، والحلم والتواضع، والخشية والخشوع، والزهد وحسن الخلق، إضافة إلى حسن النية، وربانية التعليم0
فتنة المنطق 00
ومن مظاهر غرور العلم وكأحد نتائجه، فتنة المنطق، والإعجاب بحلاوة الحديث، ورقص القلب عند سماع الإعجاب، فينبغى أن يحذر الداعية من السقوط فى العجب على ما فى أحاديث الدعوة من أجر، وليكن من نفسه على حذر 0
(00 عن أبى عبد الله الحرشى، قال : سمعت بعض العلماء ممن قدم على عمر بن عبد العزيز يقول : الصامت على علم، كالمتكلم على علم، فقال عمر : إنى لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً، وذلك لأن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال : يا أمير المؤمنين، وكيف بفتنة المنطق؟ فبكى عمر بن عبد العزيز بكاءً شديداً 000( )0
ولا نقول كما يقول بعض المتزهدة، أو بعض مبتدعة الصوفية، بالامتناع عن الكلام خوف المباهاة، أو ترك الدعوة إلى الله –عز وجل- بحجة خوف الرياء، وإنما الحديث واجب، وإخلاص النية لله واجب آخر، فلا ينبغى ترك أحدهما، والمتحدث بإخلاص أفضل بكثير من الصامت لإخلاص، ويتفرع عن فتنة المنطق، حب المبادرة بالجواب، أو السرعة فيه، حتى يقال عن المتحدث، ما أسرع فهمه، أو ما أغزر علمه، فهى فتنة أخرى قد يوقع الشيطان فيها العالم ليقوده إلى الإعجاب بنفسه، أو السقوط فى الزلل0
(قال عيسى بن مسكين: قلت لسحنون: تأتيك المسائل مشهورة مفهومة، فتأبى الجواب فيها؟ فقال: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من شدة المال وقال: كان بعض من مضى يريد أن يتكلم الكلمة، ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير، فيحسبها ولا يتكلم بها مخافة المباهاة، وكان يتكلم لله ويصمت، فإذا أعجبه الصمت تكلم، وإذا أعجبه الكلام صمت)( )0
فتنة العقل 000
ومنا كذلك فتنة مشابهة قد تصيب الصامت، ولهذا فليس كل صمت تقوى، ولا كل سلبية ورع، وقد يمتلك بعض الدعاة، عقلاً راجحاً، أو فكراً ثاقباً، أو إبداعاً متميزاً، ويزينه بطلاوة الحديث، أو بطء الفكرة، ورزانة الأسلوب، ولا تكاد تسمع شيئاً منه من لحن القول، أو قرينة الرياء ، ولكنها الفتنة المكنونة فى الأعماق، تشهد لوجودها الرواية التالية :
(قال عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حيوة : يا رجاء 00 إن لى عقلاً أخاف أن يعذبنى الله عليه)( )0
إذ خشى عمر الزاهد من عقله الكبير، إذ قد يوقعه فى تبريرات ومزالق، أو يقوده اعتماده عليه إلى أن ينسى الاعتماد على الواحد القهار، فيركن صاحب العقل فى أعماله الفكرية أو الاقتصادية أو السياسية، بل حتى الدعوية إلى محض عقله، ويعتمد فيها على مجرد تفكيره، فيفوت على نفسه اللجوء إلى الركن الوثيق، والحصن الحصين، فتسوء النية، ويفسد القصد. ويقع فى المهلكة0
ومما لا شك فيه أن العقل مناط التكليف، وبالعقل تدرك المنجيات، وتتقى المهلكات، وكفى بالعقل فخراً أن به يعرف العلم، وينفذ العمل، ولكن الفتة فيه، ما قد يستعمله العبد فى المعاصى بدل الطاعات، وفى العجب بدل التواضع، وفى التبرير بدل الاعتراف والاستجابة للمعروف0
وآفات العقل – وما قد يرادفه من مصطلحات كالذكاء، والموهبة أو الفطنة والكفاية- كثيرة، إذ لم يخالطه التقوى والورع، فمنها نسيان الذنوب أو إهمالها، أو استعظام الأعمال واستكبارها، ومنها المقدرة على التبجح وإظهار المحاسن، أو الموهبة فى كتم المساوئ والعيوب، ومنها تبرير الأفكار الخاطئة أو المواقف المشينة، وتخطئة الأفكار الصحيحة أو المواقف السليمة، وما قد يجر ذلك من عجب بالنفس، واستعلاء على الغير، وبالتالى الصمم عن سماع النصيحة، أو العمى عن رؤية الحق، وبدلاً من أن يصبح العقل هادياً ومرشداً ومعيناً للمعروف، يتحول إلى عائق عن الخير، صاد عن المعروف، موقع لصاحبه فى المهالك0
الغرور 00 مصدر الفتن
وجماع فتن العلم والعقل وما يتفرع عنها الغرور بالنفس، وما على الداعية إلا أن يتذكر فضل الله عليه، ويتفكر فى قدرة الله عليه، وما هو صائر إليه، وأن النعم تزول، والفضل من الله أولاً وآخراً، وكذلك :
(فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه، ويتفكر فى خلقه من حين كونه ماءً دافقاً إلى كونه خلقاً سوياً، يعان بالأغذية، ويربى بالرفق، ويحفظ باللين، حتى يكتسب القوى ويبلغ الأشد، وإذا هو قد قال: أنا، وأنا000، ونسى حين أتى عليه حين من لدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وسيعود مقبوراً، فيا ويحه إن كان محسوراً، قال الله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين(12)ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين (المؤمنون : 12،13)00
فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوف بالعذاب إن قصر، مرتجياً بالثواب إن ائتمر.. ولا يتكبر على أحد من عباد الله، فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار، صائر إلى جنة –إن طاع- أو إلى نار0
وقال ابن العربى : وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء فى الأبيات الحكمية :
كيف يزهو من رجيعة أبد الدهر ضجيعــه
فهو منه وإليــــه وأخـــوه ورضيعه
وهو يدعــوه إلى الحـــش بصغــــر فيطيعــه ( )
فلا اقتحم العقبة 00
والمسافر، بعد ذلك كله، لا يمكن له السير فى قطار الدعوة، إلا بتجاوز عقبة الفتن بشبهاتها وشهواتها، وتجاوز هذه العقبة هى التى توصله إلى الآخرة، فيقابل العقبة الأخرى التى ما هى إلا صدى لهذه العقبة، فإن تجاوز عقبة الدنيا سهلت عليه عقبة الأخرى، وإن كان العكس صعب عليه تجاوز عقبة الآخرة، فهنيئاً لمن تجاوز الطريق، حتى يتمكن من اقتحام العقبة، وقد قيل فى العقبة : إنها : (خلاصه من هول العرض، وقال قتادة وكعب : هى نار دون الجسر، وقال الحسن: هى والله عقبة شديدة : مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، وعدوه الشيطان 00)( )0
وما هذه المصادر إلا مصادر فتنة الشهوات، فليحذر منها، ولقد ذكر القرطبى بعد إيراده للأقوال السابقة قول بعضهم :
إنى بليت بأربع يرميننى
بالنبل قد نصبوا على شراكا
إبليس، والدنيا، ونفسى، والهوى
من أين أرجو بينهن فكاكا
يا رب ساعدنى بعفو إننى
أصبحت لا أرجو لهن سواكا

(23) آفات وحزونات ( )
لقد سبق الحديث عن فتنتى الشبهات والشهوات، فى فصلى (وعثاء الطريق) ولكتاهما فردية قد يؤديان بدورهما، ومع أسباب أخرى إلى الفتن الجماعية، أو المحن العامة، التى تعرقل السير، وتسبب الحزونات، وتعيق التقدم 00 ويمثل التخلص منها داخل ركب الدعاة، أحد مظاهر الهداية 00 قال ابن القيم – رحمه الله :
(ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق، والهداية فيها، وأوقات السير من غيره، وزاد المسير، آفات الطريق، ولهذا قال ابن عباس فى قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً (المائدة : 48)، قال : سبيلاً وسنة، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، فالسبيل: الطريق، وهى المنهاج. والسنة: الشرعة، وهى تفاصيل الطريق، وحزوناته، وكيفية المسير فيه، وأوقات المسير، وعلى هذا، فالمقدم فى الآية للمؤخر فى التفسير، وفى لفظ آخر: سنة وسبيلا، فيكون المقدم للمقدم، والمؤخر للمؤخر 00)( )0
فجعل من الهداية فى الطريق، من زاد المسير، التخلص من آفات الطريق، ومعرفة تفاصيله، وحزوناته، وكيفية المسير فيه، فكان لابد من الحديث عن فتن الجماعة المسلمة، ومعرفة أسبابها، ومظاهرها، ثم التعرف على كيفية التخلص منها 0
الفتن 00 مراتب
قد تطلق الفتنة – فى النصوص الشرعية- على ما يحصل به الافتتان، وقد تطلق أحياناً على الاختبار والابتلاء الذى لا يفتن صاحبه، بل يخرج من البلاء ذهباً صافياً، كما قال تعالى لنبيه موسى –عليه السلام- : وفتناك فتوناً (طه :40)، أما النوع الأول فهى من المعاصى، التى تتفاوت مراتبها، فمنها مثلا فتنة الشرك والكفر كقوله تعالى :وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (البقرة : 193)، ومنها ما هو من ا لنفاق، كقوله تعالى :إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء  (الأعراف : 155) 0
وكما أن المعاصى صغائر وكبائر، فكذلك الفتن، ولعل الكبائر منها تلك التى تؤثر على ضروريات الدين الكلية، أى تؤثر على الدين والنفس والعقل والمال، كفتنة الانشقاق على الجماعة المؤمنة، والاختلاف على الأمراء، وكشف ثغور المسلمين، والتجسس عليهم، فإن مثل هذه الأمور فتن عظيمة، لأنها تقود إلى رزايا فى الدين والجماعة، كما حصل فى فتنة عثمان –رضى الله عنه- وهى أول فتنة فى الإسلام، والله المستعان0
باب لا يغلق 00
ولهذا كان مقتل عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – مفتاح هذه الفتن، ومقتله بداية فتن الجماعة، المؤمنة- وهو موضوع حديث الفصل – لتبيان عظم هذه الفتنة، لما ورد فى صحيح البخارى، حيث يقول حذيفة بن اليمان –رضى الله عنه :
(بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال : أيكم يحفظ قول النبى  فى الفتنة، قال : فتنة الرجل فى أهله، وماله وولده، وجاره يكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، قال : ليس عن هذا أسألك، ولكن التى تموج كموج البحر، فقال : ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقا، قال عمر، أيكسر أم يفتح، قال : لا بل يكسر، قال عمر : إذن لا يغلق أبداً، قلت : أجل. قلنا لحذيفة أكان عمر يعلم الباب؟ قال : نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أنى حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال : من الباب؟ قال : عمر )( )0
فبذهاب القيادة المؤمنة الملهمة، وما جرى للمسلمين، وهم خير الخلق من الفتن، كان وقوع الناس بعد ذلك فيها أمراً مقدوراً، ولا مفر منه، ولقوله تعالى : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (هود : 118،119)0
وبالطبع لا يعنى ذلك الرضا بالفتن، أو البحث عنها، وإنما يقتضى توقيها، والحذر منها 0
للفتنة رجال 000
والفتن، هى التى تميز بين أناس وأناس، فإن لكل من الحق والباطل رجالاً، فكما أن الحق يحمله رجال، وينافحون عنه، فكذلك الفتن لها رجال يحملونها، ويدعون الناس لها، ويتحملون كبرها، وبين حملة الحق والصابرين عليه، ودعاة الفتن جمهور يتنازعهم الخير والشر، ومن هنا ينبغى الحذر من دعاة الفتن، ومن يتأثر بهم من الرعاع، وضعاف النفوس، وأتباع الهوى، يقول الإمام على – كرم الله وجهه :
((إن هذه القلوب أوعية فخيرها، أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم ربانى ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتابع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق 00 أف لحامل حتى لا بصيرة له، ينقدح الشك فى قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدرى أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، شغوف بما لا يدرى حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به 000))( )0
أى أن أهل الفتن، قد يلهجون بما لا يعرفون، وينطقون بما لا يفهمون، يشكون فيما وثق به الأبرار، ويخطئون ما استقام عند جملة الأخيار، لهم شغف بالغرائب، وتمسك بالعوارض، ولكن السعيد من كان مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر 0
من خصائص الفتن 000
إن للفتن خصائص كثيرة تميزها عن مشاكل الحوادث العرضية، أو حزونات العمل الاعتيادية، وتفرقها عن الخلافات الطبيعية بين البشر، ولعل أهم هذه الخصائص التى على ركب مسافرى قطار الدعوة التنبه لها، هو اختفاؤها فى البداية، ثم نموها بسرعة، حتى تدمر الدعوة، دون الانتباه لها، فهى إذن لا تبرز للعيان مرة واحدة، بل تبدأ بنجوى الاثنين والثلاثة، كما تبدأ بادعاء النصح والإرشاد، وتتخذ مظهر الورع والحرص على الدعوة، ثم تتقد مع الأيام، وتنمو مع الأهواء، وتزداد مع غفلة القادة، فتطورها كالمرض الباطن الذى لا يشعر به فى آحاد قافلة الإبل، وإذا به يمتد إلى البقية، فيعطل السير، ولذا كان لابد من الحزم، وتربية الدعاة على عدم النجوى، أو تأسيس الجيوب، ولقد سبق إلى إدراك هذا المعنى الإمام الراشد، كما روى عند سلف دعاة لبنان الإمام الأوزاعى، فقال : ((قال عمر بن عبد العزيز : إذا رأيت قوماً يتناجون فى دينهم بشىء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة))( )0
فلينظر كيف تتأسس الضلالة، وأنها بداية من التناجى فى الدين، إذ النجوى، تقود إلى النقاش الجانبى بعيداً عن أجواء العلم المثمر، وفى منأى عن الجماعة المؤمنة، فتتحول الهمسة إلى كلمة، والكلمة إلى مناقشة، المناقشة إلى خلاف، ويلتف الضعاف وأصحاب الهوى حول داعية الفتنة الأول فى البداية، ثم ينخدع معهم أصحاب الفطر السليمة، لتلبس الحق بالباطل، واختلاط قليل الخير بكثير الشر، ولقد قال المحدث الكبير ابن عيينة عن خلف الحوشب: ((كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس :
الحرب أول ما تكون فتية
يسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت، وشب ضرامها
ولت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها، وتغيرت
مكروهة للشم والتقبيل
والمراد من التمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه، وسمعوه حال الفتنة، فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها، حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولاً 000)( )0
همة فى الشر 000
ومن ظواهر الفتن ثانياً نشاط أصحابها، فتكاد لا ترى لصاحب الهمة الفاترة، أو الضعف المعروف، أثناء أوقات العافية، أو فى مراحل العمل الجاد، تكاد لا ترى له نشاطاً، ولا تعرف عنه جداً، فإذا ما حصلت الفتن، أو كان الخلاف، رأيته وأصحابه ينشطون، وحول الحرص على الدعوة يتحدثون، وفى التخطيط ومعرفة العمل هم يلهجون، ولا غرابة فى ذلك، فإن غريزة الإنسان السبعية، وجهله وهواه يدفعونه بسبب الشهوة الغالبة، إلى المزيد من الحماسة، وإلى الإكثار من النشاط بإغراء الشيطان، ولقد تنبه بعض المفسرين لهذا المعنى، من آية البقرة : وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (البقرة :205)0
فنظروا إلى ما توحيه كلمة السعى من النشاط والمشى السريع، والعمل الدؤوب فقالوا: (والسعى فى الأرض: المشى بسرعة، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة، والتضريب بين الناس، والله أعلم)( )0
ولقد تنبه الإمام على – كرم الله وجه – لهذا المعنى، وأوضحه بعبارة صريحة، إذ لاحظ أن أهل الفتن خاملون فى الجماعة، ولكنهم يبرزون فى الفتن، فأجاب أحدهم، كما روى الهيثمى فى مجمع الزوائد، عن الطبرانى –عندما قال له معترضاً على نصحه، ودعوته للخير ووحدة الجماعة :
(إنك –والله – ما نهيتنا، بل أمرتنا وذمرتنا، فلما كان منها ما تكره، برأت نفسك، ونحلتنا ذنبك، فقال على –رضى الله عنه- : ما أنت وهذا الكلام قبحك الله، لقد كانت الجماعة، فكنت فيها خاملاً، فلما ظهرت الفتنة، نجمت فيها نجوم قرن الماعز)( )0
ولا يزال الدعاة –فى كل زمان ومكان- يشاهدون هذا الصنف من الناس، ولكن الجماعة تظل أقوى، ومسير أهل الحق أبقى0
قليل الحق بكثير الباطل 000
وإن من أهم خصائص الفتن كذلك، أن أهلها عيابون طعانون، يلبسون قليل الحق بكثير الباطل، ويكتمون الكثير من المحاسن، ولا تنجو رواياتهم من التدليس، ويسيئون تفسير المواقف، ويتأولون الألفاظ، ويفسرون البسمة بالتهكم، والزهد بالبخل، والشجاعة بالتهور، ولهذه المظاهر سلف من أول فتنة فى الإسلام، حيث وصفها الخليفة الراشد عثمان –رضى الله عنه- كما فى رواية الطبرى :
(أما بعد، فإن لكل شىء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة، عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون، ويسرون لكم ما تكرهون، ويقولون لكم ويقولون، أمثال النعام، يتبعون أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصاً، ولا يردون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب00)0
يا الله، ما أصدق هذا الكلام، فكيف يذهب أهل الفتن وأصحاب الانشقاق، إلى الموارد البعيدة، ويشربون عكر الموارد، فلا يكشفون إلا مساوئ الأتقياء، وينبشون ما كان مدفوناً، حتى يتحول النقد إلى الأشخاص، بل الأسرة0
من أسباب الفتن 00
وللفتن أسباب وعلل، كما أن لها عوامل وظروفاً، تساعد على انتشارها، وتعاون على نموها، ولا يمكن علاج الفتن، أو منعها، إلا بمعرفة أسبابها، وأول هذه الأسباب الطعن فى الأمراء، لأن الرضا عنهم غاية لا تدرك، فالكمال معوز، ومعظم الناس بعيدون عن الإنصاف، ولهذا كان :
(00 شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم، ورب ملوم لا ذنب له، ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة، إذ كان رضا جملتها، وموافقة جماعتها، من المعجز الذى لا يدرك، والممتنع الذى لا يملك، ولكل حصته من العدل، ومنزلته من الحكم)( )0
وهذه قاعدة مطردة فى الجماعات والدعوات، وحتى لو أنصف معظم الأتباع، فسوف تبقى قلة لا ترضى، وتظل طائفة، لا ترى إلا المساوئ، مما يقتضى أن يكون للأمير أو الداعية قلب واسع، وصدر رحب، وقدرة على تحمل الأعباء، وجلد على سماع النقد، وقد قيل فيمن يحصل على ولاية :
تولاها وليس له عدو
وفارقها وليس له صديق
أى قد يأتى شخص وكل الناس يحبونه، وإذا به بعدها وكل الناس يبغضونه، ولذلك قال سفيان الثورى –رحمه الله : (( أحب أن يكون صاحب العلم فى كفاية، فإن الآفات إليه أسرع، والألسن إليه أسرع))( )0
وكما ينبغى ذلك لصاحب العلم، فمن تأمر على آخرين أولى بذلك، وما شوهد فى التاريخ القريب أو البعيد، أن عالماً سلم من الألسنة، أو أميراً نجا من الملامة، ولكن لكل مخلص أجره واجتهاده، ويزداد الأجر بازدياد الصبر، وطريق الدعوة إلى الله تعالى الصبر على أذى الخلق0
ولذلك أمثلة كثيرة، نختار منها ما ذكره النباهى موضحاً هذا الفقه الدعوى :
(000 وليس عوامل التأخير والتقديم، بمستنكر دخولها على كل والٍ فى الحديث والقديم، فقد عزل عمر – رضى الله عنه- زياد بن أبى سفيان دون بأس، وقال له : كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس، وعزل أيضاً شر حبيل بن حسنة، فقال له : أعن سخطة عزلتنى، قال : لا، ولا لكن وجدت من هو مثلك فى الصلاح، وأقوى منك على العمل، قال يا أمير المؤمنين، إن عزلك عيب، فأخبر الناس بعذرى، ففعل عمر ذلك 00)( )0
الإنكار العلنى 00 منكر
ومن أسباب الفتن، الإنكار العلنى على الأمير، فيتلقف الآخرون الأخطاء، ويزيدون عليها، فتكون المفسدة أكبر، ويقود النهى عن المنكر إلى ما هو أنكر، والنصح فى السر هو الأولى، لأنه دليل الصدق، وحب الخير، وبه يفرق بين النصح فى السر هو الأولى، لأنه دليل الصدق، وحب الخير، وبه يفرق بين النصح والتعبير، وهذا أسامة بن زيد، حب رسول الله  قيل له فى فتنة عثمان –رضى الله عنه - :
(ألا تكلم هذا؟ قال : كلمته دون أن أفتح باباً أكون أول من فتحه، وما أنا بالذى أقول لرجل –بعد أن يكون أميراً على رجلين –أنت خير، بعدما سمعت من رسول الله  000 الحديث ) 0
فقيل فى شرح كلمة أسامة بن زيد :
(قد كلمته سراً دون أن أفتح باباً، أى باب الإنكار على الأئمة، علانية، خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحداً، ولو كان أميراً بل ينصح له فى السر جهده 000)( )0
ولقد أدرك الصحابى الجليل –رضى الله عنه- كيف أن النصح فى العلن، وإظهار الأخطاء والعيوب، أو البحث عن الزلات، يفتح باباً إلى الفتن، وينشر أشرعة للشر، والستر لا يعنى المداهنة فى الحق، ولا يتضمن معنى السكوت عن الأمر بالمعروف، بل إنه معروف مقيد بمصلحة، ومعروف يجر إلى معروف0
والأمر من أسبابها 00
وكما أن للأمراء حق، فعليهم واجب، ومنهم تكون بعض أسباب الفتن أيضاً، مما يقتضى محاسبة الأمير لنفسه، وتنبيه الآخرين له، وأن تكون له بطانة الخير، التى تشجعه على المعروف، وتنهاه عن الشر 0
(لما استخلف عمر بن عبد العزيز قال: انظروا رجلين من أفضل من تجدون فجئ برجلين فكان إذا جلس مجلس الإمارة أمر، فألقى لهما وسادة قبالته، فقال لهما: إنه مجلس الإمارة أمر، فألقى لهما وسادة قبالته، فقال لهما: إنه مجلس شر وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إلى، فإن رأيتما منى شيئاً لا يوافق الحق، فخوفانى، وذكرانى بالله عز وجل 00)( )0
فكانت اللوائح والإرشادات، والقواعد والنظم، أمر لابد منه، لكل عمل جماعى، ليضبط تصرفات الأمير، ويحكم قواعد التصرف، لتتحقق المصلحة العامة، وتمنع التصرفات الفردية، ويستفاد من الرأى والشورى إلى أقصى الحدود، وبذلك تدرأ الفتن، ويفتح الباب لأصحاب الرأى والمشورة، وفى الوقت نفسه، الذى تحدد فيه تصرفات الأمير وضوابطها، وإتاحة المجال أمام المحاسبة الشرعية، والنقد الملتزم بالآداب، فلابد من تربية الدعاة، على حسن الأدب، وجمال التصرف، وأن لا يكون الهدف من النقد إبراز الذات، ومن النصح إظهار الحرص، ويستشهد لأمثال هؤلاء، ما ادعاه أحدهم أمام المنصور من الوعظ والتذكير، ودلت القرائن على غير ذلك، فقال له المنصور :
(مرحباً مرحباً، لقد ذكرت جليلاً، وخوفت عظيماً، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له : اتق الله ، أخذته العزة بالإثم 00 وأنت يا قائلها، فاحلف بالله، ما الله أردت بها، وإنما أردت أن يقال : قام فقال : فعوقب فصبر، فأهون بها من قائلها، واهتبلها لله، ويلك إنى غفرتها، وإياكم يا معشر الناس وأمثالها 00))( )0
وهكذا يتصرف بعض أهل الفتن، فينصحون حتى يقال عنهم نصحوا وأدوا الواجب، ويتقدون حتى يقال: إن عندهم خبرة، ويتكلمون حتى يقال: إن عندهم علماً، ولكن مثل هذه التصرفات لا يبارك الله فيها، وهى محبطة للعمل، ومآلها سراب0
ترئيس الجاهل 000 فتنة
ومن أسباب الفتن، قلة العلم بالشرع أو بالواقع، فيتصرف الدعاة بجهل، فتزداد أهمية العلم مع مراتب المسؤولية، وفى الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما :
(سمعت النبى  يقول : إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال، يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون)0
(وفى الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة، وقد يتمسك به من لا يجيز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلاً عفيفاً)( )0
ويقاس على ذلك، كل مسؤولية مهمة فى ركب الدعوة، إذ ينبغى للمسؤول عنها أن يكون عالماً بها، شرعاً وواقعاً، حتى تصح العبادة بالنية الصادقة، ويسلم العمل من الخطأ، وحتى لا تحدث القالة والتلاوم، ويشتد الجدل والتخاصم، حتى تتهيأ مبررات الفتن0
نفرة القلوب
وقد يكون يلى أمراً، أو يتصدر لمهمة، له القدر الكافى من العلم، وعنده الموهبة الجيدة فى التخطيط، ولكنه لا يملك القلب الرحيم الذى يشد إليه الأتباع، ولا النفس الصافية التى تقرب إليها الأرواح، فينفض عنه الناس وتكون إمارته مدعاة للفتنة، لما تجره من الخلاف عليه، وافتراق القلوب عنه، ومن الأمثلة فى ذلك الإمام الجليل ابن حزم، فهو مع علمه الواسع، لم ينتشر مذهبه بين الناس، فقال فيه أبو مروان ابن حيان، بمعد أن مدحه مدحاً رائعاً :
(وكان يحمل علمه هذا، ويجادل عنه من خالفه عن استرسال فى طباعه، ومذل بأسراره، واستناداً إلى العهد الذى أخذه الله على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريض، ولا بتدريج، بل يصك به من عارضه صك الجندل، وينشقه انشاق الخردل، فتنفر عنه القلوب، وتوقع به الندوب، حتى استهدف لفقهاء وقته، فتمالؤوا عليه، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهو عوامهم عن الدنو منه00)( )0
فانظر – أيها الداعية – كيف شنع على علمه، وحذر من فتنته، وهو العالم النحرير، فكان لابد للأمير من عدم الفظاظة، وقد قال تعالى عن نبيه  : ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك (آل عمران :159)0
الاستغفار 00 أس العلاج
وأول طرق علاج الفتنة الاستغفار، فيه تنفى الفتن، وبه يطرد الانشقاق، واستغفار القيادات يطرد الفتن عن الأتباع، وخصوصاً الاختلاف، فإن الخطط والأفكار والعقول واللوائح، والوعظ والتذكير، كلها تطيش عند بعض هذه الفتن فى الجماعة المؤمنة،ن فكان لابد للجوء إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار، وانظر إلى فقه الصحابى الجليل فى هذا المضمار حيث استنبط هذا المعنى من قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض (الأنعام : 65)0
كما ثبت فى الصحيح عن جابر عن النبى  أنه لما أنزل قوله : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم (الأنعام : 65) قال : أعوذ بوجهكم أو من تحت أرجلكم (الأنعام : 65) قال : أعوذ بوجهك، فلما نزلت  أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض (الأنعام:65) قال : (هاتان أهون)( )0
وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب، والعمل الصالح 0
الطاعة بالمعروف 000
وأهم شىء بعد الاستغفار، طاعة الأمراء بالمعروف، وبعد الالتزام بالشورى، وطاعة الله تعالى، وحختى على افتراض الخطأ والزلل، فلابد من الالتزام من باب سد الذريعة، وجلباً لمصلحة أكبر، ودفعاً لمفسدة أشد، ولقد بين الرسول  ذلك فقال فى الحديث الصحيح: ((00 إنكم سترون بعدى أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم00)) وقيل فى شرح ما يؤدى إليهم: أى بذل المال الواجب فى الزكاة، والنفس فى الخروج إلى الجهاد عند التعيين ونحو ذلك )( )0
والطاعة للأمراء مظهر من مظاهر العبادة، كما أن الطاعة هى لأجل الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وليست لذات الأشخاص، إلا أن يرى الداعية من أميره كفراً بواحاً، أو معصية صريحة، ما دام الخلاف فى أمور اجتهادية، ولا يمكن أى أمير أن يقوم بكل الحقوق، فينبغى الرضا بالغالب منه، ومن أقوال الإمام معاوية –رضى الله عنه- مخاطباً الناس فى الفتنة :
(00 فإن لم تجدونى أقوم بحقكم كله، فارضوا ببعضه، فإنها ليست بقاببة قوبها، وإن السبل إن جاء يبرى، وإن قل أغنى، إياكم والفتنة، فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال00))( )00
وما أدقها من عبارة توضح نتائج الفتنة، ومن عاشها عرف كدرها، ومن عاناها ذاق مرارتها0
الركون لأهل التقوى
ثم يركن الداعية المتردد، أو الذى يسيطر عليه ظلال الفتنة، بعد الاستغفار والطاعة، إلى من يثق به فى دينه وتقواه، فهم الذين يعصمهم الله عند الفتن إذ قد يفتتن العالم الفاجر بكثرة علمه، والدين الجاهل يغتر بعبادته، ولكن العالم الزاهد والفطن الورع، هو المتغلب على الهوى باليقين، وعلى الجهل بالعلم فيكون فى حصن من الفتنة بمنأى عن الخصومة 00 وفى ذلك حديث فى ذهاب أبى المنهال مع أبيه –اثناء فتنة عثمان- إلى أبى برزة الأسلمى، فقال لهم فى جزء من حديث طويل: ((إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذى علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام، وبمحمد  حتى بلغ بكم ما ترون 00 الحديث ))0
وقيل عن بعض ما يستنبط منه :
(وفيه استشارة أهل العلم والدين عند نزول الفتن، وبذلك العالم النصيحة لمن يستشيره، وفيه الاكتفاء فى إنكار المنكر بالقول، ولو فى غيبة من ينكر عليه، ليتعظ من يسمعه، فيحذر فى الوقوع فيه ( )0
ومن العلاج العلم والعمل 000
ومنها العلم الشرعى، الذى يمنع الدعاة من الفتن، ويصدهم عن استماع النجوى، ويكسبهم المناعة ضد الخلاف والمماراة، ويمنحهم الثقة بالأخوة والمنهج0 ثم العلم بوقائع التاريخ، ومعلومات عن الواقع، وأثر الخلاف فى الأمم والجماعات، وتأثيرها على الأفراد والدعوات، وكيف صارت نتائج أهل الفتنة فى كل ملة، ومصير الانشقاق فى كل نحلة، ثم بعد العلم الانشغال بالعمل الصائب، والشغل الدؤوب، ولقد أدرك أحد أمراء عثمان –رضى الله عنه- بعد الفتنة، كيف يؤدى البطر والخلاف إلى الفتن، فأخذ قاعدة العمل من قول عبقرى الأمة عمر –رضى الله عنه : ((إنما مثل العرب، مثل جمل آنف أتبع قائده لينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة، لأحملنكم على الطريق))0
فكان هذا الأمير طباً فى ولايته على الكوفة حيث تشتعل الفتنة فيها، فقيل عنه كما فى رواية الطبرى:
(فقد حزم أهلها، وساسهم صارمة، ووجههم إلى الغزو والجهاد، وفتح البلاد ليشغلهم عن اللهو والفساد، والخوض فى أحاديث الإدارة والأمراء، ونقد الولاة والعمال، وكان هذا رأيه فى تسكين الفتنة العامة حينما استشار عثمان أمراءه بالموسم فى أمر الناس)0
أى إن انشغال الداعية بالعلم الصائب، ومن ثم بالعمل الخالص، وعدم الخوض فيما يجهل، مما يدرأ عنه الفتنة0
والجهاد 00 يدرأ الفتن
ويتوج العمل كله بالجهاد فى سبيل الله، ودعوة الناس إلى التوحيد، والإسلام دين واقعى متحرك، يريد أن يربى أتباعه على مفاهيم الخير، من خلال الحركة والممارسة، فيبدأ بالتربية من مجاهدة النفس والهوى، ثم مجاهدة الشيطان والمنافقين، ثم مجاهدة أهل البدع والضلال، فهو فى ديمومة من العمل، واستمرار من العطاء، تمنعه من أن يشغل نفسه بالفتن، ولقد ذكر الله تعالى أن عدم اشتغال المؤمنين بالجهاد، يسبب ابتلاءهم بالفتن، التى تجعل البأس بينهم شديداً 0
(وقوله تعالى : إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوما غيركم (التوبة:39) قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيدى العباد، فإذا ترك الناس الجهاد فى سبيل الله فقد يبتليهم بأن بينهم يوقع العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد فى سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا فى سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض00)( )0
فالخلاف والتشيع والتحزب، وإذاقة البعض بأس بعض، إنما يكون نتيجة لترك الجهاد، أو لأمر الدعوة، والعكس صحيح، فالفتنة تكون بعيدة عمن انشغل بالجهاد، ولهذا يكون العاملون المخلصون فى أمر دعوى جاد، من أبعد الناس عن ظلام الفتن، وليس أدل على هذا المعنى من قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (العنكبوت :69)0
ولقد أدرك السلف هذا المعنى، وروى عن أكثر من شخص منهم وأحدهم سفيان بن عيينة، حيث يقول لبعد الله بن المبارك :
(إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين، وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول : لنهدينهم00)( )0
ويستفاد من ذلك أن الارتباط –وقت الفتن والاضطراب –يجب أن يكون مع العاملين والمجاهدين، وليس مع القاعدين المنظرين، فإن الرأى الصائب معهم، وهداية السبيل فى طريقهم0
وأخيراً 00
فعلى الداعية، إذاً، أن لا ينشغل بالفتن، ولا يضيع الأوقات فى النجوى وأن لا يخالف أميراً ما دام بالمعروف، ولا ينقض بيعته، وعليه بسلوك الجادة والرنو إلى الأمام، والعيش بأشواق الآخرة، وأن لا يحيد عن القافلة، أو ينشغل بالنوم، فيفوته مقصد السفر، وأن يتنبه فى ظلام الفتن جيداً، فإذا لم يميز الحق من الباطل، فعليه أن لا يتطلع لغيره مركزه، ويقنع أن يكون فى أواخر الركب، حتى يتفقده أمير القافلة، أو يكلفه قائد القطار، وهذا أخوك ابن القيم، يقول لك أيها الداعية المسافر :
(إنما يقطع السفر، ويصل المسافر بلزوم الجادة، وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق، ونام الليل كله فمتى يصل مقصده؟)
(يا من انحرف عن جادتهم، كن فى أواخر الركب، ونم إذا نمت على الطريق، فالأمير يراعى الساقة)( )0

(24) وللنساء نصيب
لا يقتصر قطار الدعوة على حمل الرجال فقط، وإنما للنساء نصيب فيه، ولما كانت أمور التكليف الشرعية عامة، فكل ما ورد من أمر دعوى، أو تربية حركة، أو نصيحة وعظية –إنما يراد به الرجل والمرأة على حد سواء، وعلى هذا المنهج سار الفقهاء والمحدثون والوعاظ، على مدار العصور الإسلامية، فى فهم النصوص أو الاستنباط من الأساليب، إذ إن غالب أحكام الشريعة عامة، إلا ما ورد فيه التخصيص للحكم بالرجل أو بالمرأة لعلة خاصة، أو لسبب معين، وانطلاقاً من بعض هذه الخصوصيات، ومراعاة لبعض الأعراف القائمة، وأخذاً بمبدأ المصلحة، ورداً لبعض المفاهيم الخاطئة، كان لابد من توضيح بعض المسائل المتعلقة بركوب المرأة لقطار الدعوة، وانضمامها لقافلة الدعاة، وملازمة السير من أجل الوصول إلى الأهداف المنشودة 0
المشاكلة فى الحقوق والواجبات 000
إن جميع التكاليف الشرعية وردت فى النصوص عامة تخص الذكر والأنثى، إذ إن مناط التكليف هو الإسلام، والإسلام يدين به الذكر والأنثى، إلا إذا وردت بعض القرائن، أو الأساليب التى تصرف الحكم التكليفى لجنس معين، كلفظ النساء والمرضعات التى لا يفهم منها إلا أنها للنساء، أو كلمة الرجال التى تنصرف إلى الذكور فقط، وكلاهما لا يراد لسبب معين، أو لعلة خاصة، تأكيداً لمعنى المشاركة، وتحقيقاً لمبدأ المشابهة فى التكليف، والمساواة فى الثواب والعقاب، كقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً (الأحزاب : 36)0
وكقوله تعالى : من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل: 97) 0
وغيرها من النصوص فى القرآن الكريم أو الحديث، التى تدل على التساوى فى الحقوق والواجبات، على مقدار الطاقة، والاستعداد، والكفاية، ولذلك فهما متكافئان فى حقوق الحياة، وأخلاق العشرة، وعصمة الدم، وكذلك فى اكتساب المال، وتعلم العلم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإصلاح المجتمع، وينبنى على ذلك كله، وجوب مشاركة المرأة فى العمل الدعوى، والانضمام لقافلة الخير، وإعانة الدعاة، وتدعيم المسيرة، وحفظ القافلة، من الموانع والعوائق، وأن تتجاوز الداعية مع الرجل العقبات والحزونات، وتبذل كل جهدها للعمل فى التمكين لدين الله فى الأرض0
المساواة الحقيقة 000
وحقيقة أخرى لابد منها، أن تحقق المساواة بين الجنسين لا يعنى بالضرورة التشابه الظاهرى، ولا التشاكل السطحى، لارتباط كل من الحق والواجب بالاستعداد والفطرة، فقد يكون التشابه الظاهرى يمثل قمة الظلم، والتشاكل السطحى يؤدى إلى أوج الاعتداء، ولذلك كانت كل من الحقوق أو الواجبات لكل من الرجل والمرأة يتمم أحدهما الآخر، وبينهما تجانس وتوافق حتى تتحقق فى النهاية العدالة فى الحياة، والإنصاف فى العطاء، وبها يمكن إعمار الأرض، وتحقيق السعادة، ويمكن بها تحقيق مقاصد الشريعة فى حفظ النسل والنفس والدين، وتتحقق من ثم العبودية كاملة لله، وذلك بتنفيذ شرعه فى الأرض0
وعلى سبيل المثال ، فحق المرأة فى المهر، يقابله حق واجب الطاعة للرجل فى المعروف ومثله حق الرجل فى إبقاء العصمة يقابله واجبه فى النفقة، وواجب المرأة فى تربية الأولاد يقابل بوجوب إنفاق الرجل على أهله0
وقد تتغير كل من الحقوق والواجبات، وتتخذ أولويات معينة، أو يكون لها مراتب محددة، حسب القابلية والاستعداد، وحسب الظروف والمصالح، فالجهاد والعمل الدعوى قد يكون فرضاً أو مستحباً بالنسبة للرجل، ولكنه قطعاً أقل مرتبة بالنسبة للمرأة، على الرغم من أنه قد يكون من همم بعض النساء – فى عمل ما – ما تغلب به الكثير من الرجال، ومثل ذلك أن للرجال مسؤولية فى تربية الأولاد، ولكنها أقل رتبة من مسؤولية المرأة، ويقاس على ذلك أيضاً أن واجب الرجل فى المشاركة السياسية، والنظر إلى أحوال المسلمين أكبر من واجب المرأة، ولكن ذلك يواجه بزيادة واجب حضانة المرأة الأطفال ورعايتهم 0
وبمثل هذه الموازنات، تتحقق معادلة الحياة، وتستقر أوضاع المجتمعات، إذ تتكامل فيها الأدوار، ويمكن للبشرية فيها السير على هدى السماء، وعلى منهاج الأنبياء، فلا يكون عندها انحراف، ولا تقع البشرية بسببها فى الفصام النكد 0
والدعوة – كأحد مظاهر العمل الإنسانى المشروع –واجب على كل مسلم ومسلمة، ولكنه يتفاوت بمقدار الأداء والعطاء، ويتفاوت بمقدار الحقوق والواجبات، فبعض الأمور الدعوية، والتكاليف الحركية، يكون وجوبها على الرجل أو ندبها أكثر من المرأة، وبعضها يكون على المرأة أكثر من الرجل، كما أن هنالك من الأمور ما لا يمكن أن يقوم به الرجل، والبعض الآخر بعكس ذلك، ومن مجموع الأعمال يتكامل العمل الدعوى، وتنجح المسيرة الدعوية، وتحقق الأهداف فى أعلى مستويات النجاح0
دور المرأة الاجتماعى 000
وفوق حقيقة تشابه المرأة مع الرجل فى التكاليف الدعوية، فإن الضرورة تزداد إلى مشاركتها فى قافلة الدعوة فى الزمن المعاصر، للتردى الحاصل فى مجتمعاتنا الإسلامية، ولقوة الباطل وعنفوانه من جهة، وكذلك لتشابك المؤثرات الاجتماعية مع بعضها من جهة أخرى، فقد أصبح النساء يمثلن أكثر من نصف أعداد المجتمع، وأصبح للمرأة دور فى جميع التغييرات الحضارية والعقيدية والفكرية، سواء أرضى بذلك المسلمون أم لا، فالتغييرات أصبحت تتم فى إطار جماهيرى، وتأخر المرأة المسلمة، أو الإحجام عن المساهمات المشروعة يجعل التيار الجاهلى، أو تيار المعاصى يكون أكبر فى التأثير من التيار الإسلامى، وخصوصاً أن جميع الأحزاب الأرضية، والتجمعات المنحرفة، تدفع بالمرأة فى جميع أنشطتها وفعالياتها، بل وتستغل أحياناً العواطف والمؤثرات النفسية، كالتباكى على حقوق المرأة، أو الدفاع عنها، فى إذكاء الروح الجاهلية، أو تشجيع أهل المنكر على الاندفاع فى محاربة الفضيلة، ولقد تنبه الفقهاء لهذا المعنى، فعلى الرغم من أن الأصل الشرعى ترك قتل النساء لأن العلة فى الحكم محاولة كسبهن للدين، ولعدم مشاركتهن فى القتال، ولكن هذه العلة تنتفى إذا ما شاركن فى حرب الإسلام، والكيد للمسلمين، فاقتضى الأمر تفويت الفرصة على أهل الباطل باستغلال النساء، ويكتفى بنقل نص لأحد الأئمة حيث قال :
(00 بل فى قتلهن مصالح منها : منعهن من إمداد الرجال بالأموال، وبالحث على القتال بإنشاد الأشعار المحركة لطباعهم، فإنه إذا حدثت الحرب بين العرب، أبرزت النساء باعثات على الحرب، متناشدات بالأشعار، وذلك من أعظم الفتن، وترى الواحد منهم يقتل نفسه، ويرد الأمان قائلاً : إن نساء الحى لا يتحدثن عنى بالجزع فى القتال، وطلب الأمان، ففى قتلهم – على هذا الوجه- مصالح عظيمة، وهل يقاتل أكثر الناس إلا ذباً عن النساء؟)
فإذا كانت أمثال هذه الفتاوى فى نقض أصل لانتفاء علة الحكم، فما أشد الحاجة اليوم، وقد استشرى الباطل بالنساء، وكثر المنكر باستغلالهن، إلى ضرورة مسارعة المرأة المسلمة لأداء دورها فى محاربة هذا المنكر، ورد ذلك الباطل، وتفويت الفرصة على الأعداء باستغلال المرأة، وإثبات المرأة المسلمة لدورها فى المجتمع والحياة، ومنع وقوع أخواتهن بين براثن الجاهلية والفساد0
المرأة 000 وهمسات الخير
ومما يعضد دور المسلمة فى العمل الإسلامى، ما يمكن لها أن تؤديه فى البيئات العائلية، والمجتمعات الخاصة، حتى ولو كان خبراً مفيداً، أو موعظة جيدة، أو دعوة إلى الخير عن طريق النساء، ولله فى خلقه شؤون، ولعل هذا الاستنباط مظهر من حكمة زواج الرسول  الكثير من النساء، واختصاصه بهن، مع تنوع صفاتهن وخصائصهن وشمائلهن، وقد أمرهن الله تعالى بوجوب تبليغ ما يجرى فى بيوتهن للنساء، بل أمر الأمة بقبول خبرهن، بل خبر الواحدة منهن فى الدين، فقال تعالى : واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة (الأحزاب : 34)0
(أمر الله أزواج رسوله بأن يخبرن بما أنزل الله من القرآن فى بيوتهن، وما يرين من أفعال النبى  وأقواله فيهن، حتى يبلغ ذلك إلى الناس، فيعملوا بما فيه، ويقتدوا به، وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء فى الدين)( )0
وإذا كلف نساء المصطفى  بنقل أخبار البيوت للناس، فما أحرى بنساء اليوم نقل ما ينفع من بيوتهن إلى الآخرين، كنقل خبر سار، أو المسارعة بدفع مضرة بينة، أو الانتفاع من فرصة متاحة، أو جلب تبرع مفيد، وغنى عن القول، التأكيد على حرمة نقل ما يقود إلى مفسدة، أو يتنافى مع الأحكام الشرعية، أو يتعلق بالأسرار الخاصة، وإنما المقصود إسالة الخير من البيوت وإليها، مما لا يمكن نقله إلا بواسطة النساء، أو لا يؤتى ثماره إلا من خلالهن0
وخلف الدعاة 000 داعيات
ومما يزيد المصلحة فى ضرورة العمل الدعوى وسط النساء، أن للمرأة دوراً كبيراً فى دفع الرجل للعمل الإسلامى، أو فى منعها له منه، وليس المقصود بهذا زوجها فحسب، بل إنها قد تدفع أخاها أو أباها، ناهيك عن دفعها لأولادها، أو طلابها، وللمرأة أثر كبير فى دفع إخوتها للخير، ومنعهم عن الشر، وخصوصاً الأصغر منها سناً، حيث قد تكون بمكانة الأم لهم، إذا ما غيرت بالعطف أو الحنان عليهم، فكم من داعية ارتفع إلى المعالى بدفع أخته أو أمه لذلك، والحوادث كثيرة فى صفحات التاريخ أو فى تجاربنا المعاصرة، فانظر إلى تأثير بنات المحدث الثقة عاصم بن على بن عاصم، أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، ومن أقران شعبة، وكيف صبر فى محنة الإمام أحمد وتقوى على الثبات عندما كتبن إليه بناته بتثبيته على الحق0
( يا أبانا: إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل، فضربه على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق الله، ولا تجبه، فو الله لئن يأتينا نعيك، أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت)( )0
وليس تاريخنا المعاصر، بحوادثه أقل من ذلك، فلقد كان للنساء العاملات دفع لمسيرة الحركة، وخصوصاً فى مصر، حيث كان لتثبيتهن وسط أجواء المحن والمعتقلات دور بارز مشهود، وفى حوادث حماة حيث دفعت الأمهات أبناءها للاستشهاد فى سبيل الله، وآخرهن مثلاً زوجة الشهيد عبد الله عزام – رحمه الله- وما كان لها من ثبات وصبر وشجاعة، حيث رفضت العزية فى زوجها وولدها، وأظهرت لمن جئن لها شريطاً فيه إحدى محاضرات الشهيد للاستماع إليها، ومنعتهن من البكاء والنحيب0
وما أشبه اليوم بالبارحة 000
ومن أمثلة السلف التى اقتدت بها هذه الداعية المسلمة، التابعية الجليلة معاذة بنت عبد الله، زوجة التابعى الجليل، السيد القدوة صلة بن أشيم الذى استشهد هو وولده فى معركة واحدة، وقد قال له رجل :
(يا أبا الصهباء، رأيت أنى أعطيت شهدة وأعطيت شهدتين،ن فقال تستشهد، وأنا وابنى، فلما كان يوم يزيد بن زياد، لقيتهم الترك بسجستان 62هـ ، فانهزموا، وقال صلة: يا بنى ارجع إلى أمك، قال : يا أبه تريد الخير لنفسك وتأمرنى بالرجوع، قال : فتقدم، فتقدم حتى أصيب، فرمى صلة عن جسده، وكان رامياً حتى تفرقوا عنه، وأقبل حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل00)( )0
أما قصة زوجته فهى كالتالى :
(اجتمع النساء عندها، فقالت: مرحباً بكن إن كنتن جئتن للهناء، وإن كنتن لغير ذلك فارجعن00 وكانت تقول : والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربى بالوسائل، لعله يجمع بينى وبين أبى الشعثاء وابنه، فى الجنة 000)( )0
فانظرى –أختى الداعية- كيف كان دور بنات عاصم فى تثبيته على الحق، وكيف كان فعل زوجة صلة مع زوجها وولدها، فلا تبخسى جهدك مع والدك وولدك، ولا تسأمى أو تتواضعى فى أن تقومى بالنصح فى كل مجال، وأن تبلغى الدعوة لكل رجل، وإياك واستضعاف النفس، فإن الكلمة الصادقة، والنية الخالصة، تصل إلى كل القلوب لا يحجزها حاجز، ولا يصدها عائق0
دورهن فى الإبداع الدعوى
ومن مثيلات زوجات الصحابة، اللاتى سجلن سبقاً فى الإبداع الدعوى التى شاركت فى جهاد العدو وطالبت زوجة حبيب بن مسلمة، بحقها فى المرافقة، ولم تكن تلك المرافقة دنيوية، أو مرافقة لسياحة، وإنما فى العمل الجهادى، حيث أراد الصحابى الجليل الدخول إلى سرادق الموريان الرومى، وتبييت العدو على حين غرة، وكان شجاعاً شهماً0
(فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك، فقالت له: فأين موعدى معك؟ –تعنى أين اجتمع بك غداً- فقال لها : موعدك سرادق الموريان أو الجنة. ثم نهض إليهم فى ذلك الليل بمن معه من المسلمين، فقتل من أشرف له، وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها السرادق)( )0
وهذه قصة من آلاف القصص، فى دور المسلمة فى الإبداع الدعوى، وفى مقدرتها على إيجاد السبل الجديدة، والأفكار المستجدة، فى إطار العمل النسائى الدعوى، من أجل دفع مسيرة العمل الإسلامى0
والدور الكبير
أما دور المرأة فى تنشئة الجيل، وبناء الأسرة المسلمة، فهو أمر أشهر من أن يذكر، فالمرأة هى مدرسة التربية والبناء، والولد يتربى على أمه أكثر مما يتربى على والده، فى المراحل الأولى، بل إن مهمة المرأة الأولى فى الحياة هى لإنجاز هذا الهدف التربوى العظيم، بل إن الدور الجهادى ابتداء يكون بتربية الأم، حيث تربية على العزة والكرامة، وتفدعه إلى طريق الدعوة والجهاد، ونكتفى بمثالين من الجيل الأول 000
(فعن عبد الله بن زيد قال : جرحت يوماً جرحاً فى عضدى اليسرى (يوم أحد)00 وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول اعصب جرحك، فتقبل أمى إلى، ومعها عصائب فى حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحى، والنبى واقف ينظر إلى، قالت انهض يا بنى فضارب القوم، فجعل النبى  يقول : من يطيق ما تطبيقين يا أم عمارة)( )0
(وقال ابن إسحق: وحدثنى أبو ليلى00 أن عائشة أم المؤمنين، كانت فى حصن بنى حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة 000 وكانت أم سعد بن معاذ معها فى الحصن، فقال عائشة، وذلك قبل أن يفرض علينا الحجاب، فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منه ذراعه كلها، وفى يده حربته يرقد بها، ويقول :
ابث قليلاً يشهد الهجيا جمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
قال : فقالت أمه : إلحق أى بنى، فقد والله أخرجت، قالت عائشة، فقلت لها : يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى، قالت : وخفت عليه حيث أصاب السهم منه )( )0
وقصص أم عمارة كثيرة، موطنها كتب السيرة، نتركها للقارئة الداعية، لتبحث عنها، وتعيش فى أجواء السيرة، وتأخذ منها العبرة، وتستلهم منها التجارب، بحسها الأنثوى، وإدراكها الفطرى0
الإسناد الجهادى 00
أما مشاركة المرأة فى الجهاد –علم الرغم من أنه ليس بالواجب عليها- فحوادثه كثيرة من الصدر الأول فروى البخارى عن أنس أنه قال :
(لقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان تنقزان القرب عن متونهما، تفرغان الماء فى أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه فى أفواه القوم )0
وعن أم عطية قالت : غزوت مع رسول الله  سبع غزوات فكنت أصنع لهم طعامهم وأخلفهم فى رحالهم، وأدواى الجرحى، وأقوم على المرضى)( )0
فكيف بالعمل الدعوى، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وهو أقل خطورة من ذلك، ولا بأس بعرض بعض الأعمال الجهادية، فمنها هجرة أم كلثوم بنت أحد زعماء الكفار عقبة بن أبى معيط، حيث قبلت هجرتها، ولم ترد حسب هدنة الحديبية، فقال لرسل الله  :
(أتردنى يا رسول الله إلى الكفار، يفتنونى عن دينى، ولا صبر لى ، وحال النساء كما علمت 00)( )0
وقصة أم عمارة مشهورة، وشجاعتها بينة، فلقد شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحداً والحديبية، ويوم حنين، ويوم اليمامة، وفعلت الأفاعيل0
(قالت أم عمارة: رأيتنى وقد انكشف الناس عن رسول  فما بقى إلا فى نفر ما يتمون عشرة، وأنا وابناى وزوجى بين يديه، نذب عنه والناس يمرون به منهزمين، ورآنى لا ترس معى، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال لصاحب الترس: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أتترس به عن رسول الله  فيقبل رجل على فرس فضربنى، وتترست له، فلم يصنع سيفه شيئاً، وولى، فأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبى  يصيح: يا أم عمارة، أمامك، فقالت: فعاوننى عليه حتى أوردته شعوب (أى المنية) 00)( )0
ومثلها أسماء بنت يزيد بن السكن حيث (قتلت بعمود خبائها يوم اليرموك تسعة من الروم، وكانت ليلة المعركة ليلة عرسها)0
وأم سليم صاحبة القصة المشهورة مع زوجها أبى طلحة عندما مات لهما ولد، ثم بورك لها فى نسلها (حيث صار لولدها سبعة بنين كلهم قد ختم القرآن، قد اتخذت خنجراً يوم حنين وشهدت أحداً)( )0
ويؤخذ من مجمل هذه القصص من الصحابيات، وأمثالها من أجيال أخرى، ما للمرأة من إسناد لكل عمل يقوم به الرجال، ولعل هذا الدور من أهم مجالات العمل فى عالمنا المعاصر 0
زمام المبادرة 000
وفى المجال الدعوى الرحب تبرز قصص أخرى، ففى مجال الهجرة إلى الله تعالى، واختلاط ذلك بروح المبادرة ما عملته أم حرام حيث ركبت البحر، وهى من بيئة لا تعرف ركوب البحر، ومن ذلك قصة أسماء بنت عميس التى نقلت بعض الأفكار من بيئة الحبشة إلى بيئة الحجاز، واستفادت من تجاربها، ووظيفتها لخدمة المجتمع الإسلامى00
(قال الشعبى: أول من أشار بنعش المرأة –يعنى المكبة- أسماء رأت النصارى يصنعونه بالحبشة)( )0
وأم سليم استغلت رغبة أبى طلحة عندما جاء يخطبها، فدعته إلى الله – عز وجل- وناقشته بحوار هادئ، تدل على ذلك الرواية التالية :
(أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت أن أم سليم قالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذى تعبد، إنما هو شجرة تنبت من الأرض نجرها حبشى بنى فلان؟ قالت : فهل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأزوجك نفسى لا أريد منك صداقاً غيره، قال لها : دعينى حتى أنظر، قالت : فذهب فنظر، ثم جاء فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قالت : يا أنس قم فزوج أبا طلحة)( )0
فما أحرى داعية اليوم، باستغلال مودة أهلها بدعوتهم للخير، أو تعلق زملائها فى العمل بها، أو طالبتها إذا كانت مدرسة، أن تأخذ بأيديهم إلى المعروف وتحبيب نفسها للخلق –فى الوقت نفسه- دعوة بذاتها، والله الموفق للخير 0
دور الداعية الإعلامى 000
وفى الإطار الإعلامى كان تحفيز النساء كثيراً، ويستعملن لإثارة النخوة، والتحريض على أداء المعروف، ورد الاعتداء ولقد كان سلف نساء هذه الأمة من الصحابيات والتابعيات فى معركة اليرموك، أحد عوامل النجاح، فلقد (مر عليهن أبو سفيان وقال لهن : من رايتنه فاراً فاضربنه بهذه الأحجار والعصى حتى يرجع00 وقد قاتل نساء المسلمين فى هذا اليوم، وقتلن خلقاً كثيراً من الروم وكن يضربن من انهزم من المسلمين، ويقلن : أين تذهبون وتدعوننا للعلوج 00)( ) وفى إطار الأهازيج والأناشيد :
(كانت خولة بنت ثعلبة تحرض المجاهدين فى معركة اليرموك ، وتقول :
يا هارباً من نسوة تقيات
فمن قليل ما ترى سبيات
ولا حصيات ولا رضيات ( )0
ولا يزال هذا الدور مفتوحاً أمام الداعيات، نحيل اكتشاف أبعاده لذكائهن وحدسهن0
مبلغات العلم 0000
وفى إطار تبليغ العلم الشرعى، فليس هنالك أبلغ من فقيهة الأمة، وسيدة نساء العالمين، وعالمة الصحابة، حبيبة المصطفى  الصديقة بنت الصديق، رضى الله عنهما وأرضاهما، المبرأة النقية الطاهرة فى الدنيا والآخرة، فلقد نقل عنها الكثير من أمور الدين، حتى يقال : إن ما نقل عنها ثلث الدين، وكذلك بقية أمهات المؤمنين اللائى أمرن بتبليغ الدعوة إلى الناس 0
(فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن فى بيوتهن، وما يريد من أفعال النبى عليه الصلاة والسلام ويسمعن منه أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس، فيعلموا ويقتدوا، وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء فى الدين 000)( )0
ويؤخذ من النص كيف تعتبر المرأة كإحدى وسائل تبليغ الدين، وبالتالى الدعوة بمضمونها الواسع، حتى ولو كانت واحدة، فإن أخبارهن تقبل.. ولم يقتصر تبليغ العلم على أمهات المؤمنين، فهنالك العشرات من الصحابيات، كأم الدرداء وحفصة بنت سيرين أم الهذيل التى قرأت القرآن وهى بنت ثنتى عشرة سنة، وبقيت تدرسه حتى بلغت سناً كبيرة، وتوفيت بعد المائة، ومن التابعيات تلميذة أم المؤمنين عائشة عمرة بنت بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وجدها من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة قال عنها عالم عصره ابن شهاب الزهرى: (فأتيتها فوجدتها بحراً لا ينزف)( )0
أى أن العلم الشرعى لا يقتصر على الرجال، فللنساء دورهن فى القراء والمطالعة، وتعلم شرع الله تعالى، ثم فى التعليم والتدريس، وإلقاء المحاضرات والمواعظ، فهن أبلغ فى أداء المهمة، وأعلم بنفسيات الرجال، كما أن للداعيات دوراً فى قطار الدعوة فى التأليف والتدوين، وقد آن الأوان أن لا يظل النساء فى اعتمادهن على خطب ودروس الرجال، بل أن يجدن طريقهن، لتوسعة دائرة الاستماع للخير، والتفاعل الأشد مع جماهير النساء0
سلف الانتفاضة 000
ولا يخفى ما تفعله نساء الانتفاضة اليوم، من أدوار بطولية فى الدعوة والجهاد، ولنساء الانتفاضة سلف فى جداتهن من نساء نابلس فلقد امتدحهن الإمام القرطبى من بين نساء قرى العالم الإسلامى( )0
ثم نقل نصاً عن شيخه ابن العربى، ننقله هنا هدية للداعيات فى الأرض المحتملة :
(ولقد دخلت نيفاً على ألف قرية من برية، فما رأيت نساءً أصون عيالاً، ولا أعف نساءً نابلس التى رمى فيها الخليل –عليه السلام- بالنار، فإننى أقمت أشهراً، فما رأيت امرأة فى طريق نهاراً إلا يوم يوم الجمعة، وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عينى على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى ترى نساؤها متبرجات بزينة وعطلة، متفرقات فى كل فتنة وعضلة(أى داهية) وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه 000)( )0
فيا له من نص رائع، يهدى لنساء نابلس اليوم بشكل خاص، وإلى أخواننا فى ربوع فلسطين بشكل عام، كيف كانت عبادة النساء آنذاك بحيث استدعت إعجاب ابن العربى، وهو القادم من الأندلس، وثبتها بعده القرطبى فى تفسيره، وكيف ميزا بينهن وبين المتفرقات فى الفتنة، وبين عفتهن واستشهادهن وضياع الأخريات فى التبرج والزينة، مما يقود إلى النظر اليوم للتفرقة بين من ينصرون قضية فلسطين بالدم والآلام، وبين من ينصرونها- أو قل يخذلونها – بالرقص والأنغام0
عداوة القرين 00
والمرأة بفرطتها إن لم تدفع الرجل للخير، صارت عوناً له فى الشر، والمسألة تقاس بأضدادها، فكم من داعية تأخر بسبب زوجته، وكم من شاب ضاع بسبب تربية أمه، فحياة المسلم إما تقدم أو تأخر، والوقوف – بحد ذاته – تأخر، لقوله تعالى : لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (المدثر:37)0
فيؤخذ منها أن المرأة إذا لم تدفع الرجل إلى التقدم بالخير وللخير، فإنه على تأخر، وإن زعم هو، أو ادعت هى، أنهما على خير ما داما بعيدين عن الشر والمعاصى، فدعوة الناس للخير أمر لابد منه، وواجب على كل مسلم ومسلمة، كل على حسب استطاعته، كما أن قوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم (التغابن:14)0
يؤكد المعنى فى أن الزوجات، إن لم يدفعن للخير، فإنهن سيصبحن عوناً للشر، ما لم يعين أحدهما الآخر على فعل الخير0
(كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، وعموم قوله تعالى : من أزواجكم يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما فى كل آية : والله أعلم)( )0
فليعلم، أن عمل المرأة فى المجال الإسلامى، حتى على فرض عدم دفعه للخير، فهو مانع للشر 0
والمرأة الملهمة 00 أم الخطط 00
ومع تخصيص المرأة بالدعوة النسائية، وبالأعمال الخاصة، فلا يستغنى عن رأيها حتى فى أمهات الخطط الدعوية، وليس أدل على ما فعله النبى  فى الحديبية حينما اقترحت عليه أم سلمة أن يقوم ويذبح الهدى حتى يقتدى به، وأخذ الرسول  بقولها، ومن هنا استدل العلماء على جواز قتل المرأة القاتلة حتى ولو كانت مشاركتها بالرأى، وما أروع هذا الفهم، فكم من امرأة فى عصرنا، يشكل عقلها خطراً على الإسلام والمسلمين أكثر من أسلحة الرجال، وقد قال إلكيا الهراسى فى قوله تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم (البقرة : 191) 0
(عام فى الرجال والنساء والصبيان، وهم يقتلون إذا كانت المصلحة فى قتلهم –على ما عرف من مذهب الشافعى رحمه الله فيه : وإذا كانت المرأة مقاتلة بالمال والرأى والتدبير، وكانت فى عز فى قرومها، فيجب قتلها، وإذا كانت المصلحة فى استرقاقها، فنفع الاسترقاق أوفى على قتلها، فلا يجوز قتلها)( )0
فانظر – أيها الداعية – إلى العلة التى لأجلها قال الفقهاء بقتل الكوافر، ألا وهى الرأى والتدبير، أليس الأحرى أن يكون للمرأة المسلمة رأى وتدبير فيما ينفع المسلمين؟
وأليس الأجدى بهن أن ينزلن إلى ميدان بناء المجتمع الإسلامى، وإلى أداء الدور المنوط بهن فى بناء الجيل، وتربية الرجال؟ أو ليس الأنفع والأفضل للدنيا والآخرة الانصراف إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ وفى كل هذا دفع عن وقوع المرأة فى مفسدة الانصراف إلى اللهو الفاسد، وإضاعة الأوقات التى أرادها الله تعالى للإنتاج والعطاء وليس لصرفها أمام شاشة التلفاز والنظر إلى سفهاء القوم، وصغار الأحلام، وتزجية الوقت بالترهات من الأقوال والأفعال0
بعض أولياء بعض 000
وخلاصة الأمر، أنه لابد من مشاركة النساء فى ركب الدعوة، فنداء السماء للجميع، وجماع الأوامر السماوية ما ورد فى آية آل عمران، ومما قيل فى سبب نزولها :
(000 روى الحاكم أبو عبد الله فى صحيحه عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله : ألا أسمع الله ذكر النساء فى الهجرة بشىء؟ فأنزل الله تعالى فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى0000 (آل عمران : 195) الآية ( )0
وقوله بعضكم من بعض (آل عمران : 195) : أى : دينكم واحد، وقيل : بعضكم من بعض فى الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك، وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم فى الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم فى الطاعة، نظيرها قوله عز وجل : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (التوبة :71)000)( )0
أى أن الجميع يربطهم الموالاة إلى الله، ويقتضى ذلك أن تكون المعاداة فى الله، فالأخوة فى الدين هى التى توجب المحبة بين المؤمنين، وعدم الدين يقتضى عدم الموالاة فى الدنيا، ويؤخذ من شرح الآية أيضاً، التساوى فى الواجبات والتكاليف، والتشابه فى الحقوق والمكاسب، مما يجعل النساء والرجال فى الدعوة، جماعة واحدة00
وإن للنساء المتناظر والمشابه حتى فى الهجرة، والإيذاء فى سبيل الله، حتى الاستشهاد فى سبيله، ثم تكون النتيجة، الفوز والفلاح، كما قال تعالى :
فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب  (آل عمران : 195)0

(25) التعليم الربانى
قد سبقت الإشارة إلى دور العلم فى صحة العمل، وبيان منهج الدعوة، وتأصيل المنهج والحركة، وهو لازم لمسيرة الدعاة، ومستلزم لصحة السير على الطريق، وبعد قطع هذه المفازة فى الطريق، لابد من العودة إليه، كنهج تربوى لابد للدعاة منه، إذ لا يخلو قطار الدعوة من تعلم وتعليم، يخضع فيها اللاحق لتربية السابق، ويعلم المتقدم منه المتأخر، ويستسقى المتعلم من دلاء العالم، والركب إما عالم أو متعلم، ولابد لعملية التعليم من منهج ربانى يعطى التربية لناشئة الدعوة وليس فقط الوصول إلى وجهة القطار فحسب، وإنما أن يكون مسيره على النهج الربانى الذى أراده الله تعالى، وعلى سنة نبيه  0
الربانية أصل 00000
وأساس ربانية التعليم فى قطار الدعوة، ما رواه البخارى عن ابن عباس فى قوله : (كونوا ربانيين حكماء فقهاء، ويقال: الربانى الذى يربى بصغار العلم قبل كباره)
فالأصل فى التعليم الدعوى، الربانية فالدعوة إذاً تربية وتعليم، ولا يراد العلم لذاته، أو ليبارى به العلماء، أو يجارى به السفهاء، بل لتصحيح النية وسلامة القصد، والنهوض بالنفس والتسامى بها، والبحث عن أصل المسارات الموصلة إلى الله تعالى، واختيار أفضل السبل الموصلة إلى الآخرة0
ولعل أول مبادئ الربانية، التعليم بصغار العلم قبل كباره 0
وقد سبق الإسلام –بهذا الإدراك الواعى- أحد أهم مسائل وأسس التربية المعاصرة. ألا ترى أن المناهج فى المراحل الدراسية المتعددة يسبق بعضها بعضاً، والمساقات الجامعية ينبنى بعضها على بعض، ولا يسبق تدريس بعض الأجزاء أجزاء أخرى، فكل فن ترتبط أجزاؤه وفق نسق منطقى، والعلم بشمموليته تتسق فنونه بعضها ببعض، لا يتقدم المبهم الدقيق على الواضح السهل، ولا نتيجة على مقدمة، ولا الأهم على المهم، ولا يتقدم صعب على سهل، وغير ذلك؛ وقد أوضح ابن حجر شمولية معنى صغار العلم وكباره فقال :
((والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها ))
وقيل : يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده))( )0
العلم بعيار العقل 000
ومن قواعد التربية، إعطاء الداعية العلم، على قدر فهمه وإدراكه، كى لا يقع فى المفسدة، أو يتأول الأحكام على غير ما وصفت له، أو يتحدث فى غير مواقعها، ولقد امتنع الرسول  من هدم الكعبة مخافة تسارع الناس للتأويل، وهم لا يزالون حديثى عهد بجاهلية، ولقد استنبط البخارى فى هذا الحديث القاعدة التربوية فقال :
((باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس، فيقعوا فى أشد منه ))0
فصار لزاماً أخذ الأهم قبل المهم، وتعلم المبادئ الأساسية مثل الخوض فى الخلافيات، وسلوك طريق الاستقامة، دون البحث عن مظاهر الكرامة، يضاف إلى ذلك مقصد عدم التنفير من العلم أو التخبط فيه 0
ولهذا المعنى أشار الغزالى، واعتبره من وظائف المربى والمعلم، فحدد ذلك بقوله : ((00 أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله، فينفره، أو يخبط عليه عقله.. ولذلك قيل : كل لكل عبد بمعيار عقله، وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه ونتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار)( )0
إذ إن طالب العلم إذا أخذ علماً لا يستوعبه، أو دون مداركة له، أو أن حدود تجاربه الحياتية وطبيعته النفسية لا تستطيع إدراكه يؤدى به إلى عدم توازنه، بل وإلى انحرافه، ولذلك كانت الفلسفة والمناظرات الكلامية أو بعض أمور المنطق قادت ببعض طلبة العلم إلى الشطط، بل إلى الانحراف، وذلك عندما لم يتم بناؤهم الفكرى ولم يستكملوا علم الشرع كما حصل لابن سينا وابن رشد، واضطر بعض العلماء إلى تحريم بعض العلوم، على عموم الناس، كدراسة الفلسفة، أو المنطق، إذ إن معرفة الجاهلية دون الإلمام بالعلم الشرعى الكافى، قد يقود إلى زيغ وضلال0
زيادة المنطق 00 مفسدة 00
ومن قواعد التربية التعليمية للدعاة، عدم الإكثار من الأحاديث دون مبرر، إذ قد يقع الداعية فى الترف الفكرى، والمباحث النظرية، دون تحويلها إلى عمل مثمر، فوق أنه قد يجلب الملل للمستمع، فإن زيادة المنطق على العقل خداع، وزيادة العقل على المنطق تخلف، وقد يسكت الداعية الملهم عن بعض العلم لحكمة، ويمنع بعضه لمصلحة، وكثيرة الحديث قد تورد الخطأ والنسيان، وقلته تجلب الانتباه والتركيز ومن كثر كلامه، كثر سقطه، ولقد قال رسول الله  كما فى صحيح مسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))00
وقد علق الإمام النووى على ذلك بقوله عن هذا الحديث والآثار التى فى الباب :
((ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان، فإنه يسمع فى العامة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن 00))
وكذلك : ((فإنه إذا حدث بكل ما سمع كثر الخطأ فى روايته، فترك الاعتماد عليه والأخذ عنه 00)( )0
الأصول قبل الفروع 00
ومن أهم مبادئ ربانية التعليم الدعوى، تعلم أصول الشريعة قبل فروعها، فالعقيدة فى معرفة البارى وأسمائه وصفاته، والإيمان بأنبيائه ورسله، وما يبنى على ذلك من التصديق بما ورد فى الكتاب والسنة، قبل القناعات بالفروع، أو البحث عن البراهين، ودراسة فروع الشريعة، وإلا فالعمل يصيبه الإحباط، فالعلم قبل العمل، والفقه وفروع الشريعة تبع للقيدة الصحيحة، وقد ضاع قوم بحثوا عن الصغير، وأضاعوا الكبير، كما ضل قوم كانوا من أعلم الناس بما لم يكن وأجهلهم بما كان، فعلى الدعاة ألا يلتمسوا الفروع إلا بعد إتقان الأصول، ولا يتعلموا المسائل والغرائب، قبل إدراك الأسس والقواعد، وكما تصح القاعدة فى الفهم النظرى تصح فى السلوك، فلا ينبغى عمل الأسهل الذى يتناسق مع الهوى، دون الأهم المخالف له، وفى هذا يقول ابن الجوزى – رحمه الله: ((رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش النجاسة ولا يتحاشون عن غيبة، ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت فى أشياء عدها من حفظ فروع وتضييع أصول.. فالله الله فى تضييع الأصول، ومن إهمال سرح الهوى فإنه ن أهملت ماشيته نفشت فى زروع التقى 00))( )0
وللتمييز بين قاعدتى (الأصول قبل الفروع) وما سلف ذكره من أحوال استثنائية فى أنه فى الفن الواحد، وعند تساوى أصوله وفروعه بالفهم، حيث قد تكون الفروعم قبل الأصول يمكن الاستشهاد بقاعدة شرعية يمكن استقراؤها فى الكثير من الشرائع والفرائض والتوجيهات القرآنية، ذكرها الأستاذ الشهيد سيد قطب –عند الحديث عن التدرج فى تحريم الخمر – بقوله :
(( عندما يتعلق الأمر والنهى بقاعدة من قواعد التصور الإيمانى، أى بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضى فيها قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى 00 ولكن عندما يتعلق الأمر والنهى بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعى معقد، فإن الإسلام يتريث به، ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعية التى تيسر التنفيذ والطاعة0
فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك، أمضى أمره منذ اللحظة الأولى، فى ضربة حازمة جازمة، لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولالقاء فى منتصف الطريق، لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان، ولا يقال إسلام 00)( )0
وتطبيقاً لهذ1 المبدأ فإن تعلم العقيدة قبل الفقه لابد منه، وأصول الشريعة كالقرآن والحديث، قبل فروع الخلاف والتوسع الفقهى، كما أن القاعدة تنطبق فى الفن الواحد، فقراءة القرآن وتلاوته قبل معرفة تفسيره، وتفسيره العام قبل الغوص بدقائقه، والغوص بدقائقه النافعة قبل الخوض بالمتشابهات، أما فى الحديث فمعرفة الصحيح قبل الحسن، والحسن قبل الخوض بمعرفة الضعيف ومعرفة متون الأحاديث الصحيحة والاطلاع على شروح البخارى ومسلم أولى من الانشغال بطرق الجرح والتعديل، وتخريج الأسانيد، وتعلم الفرائض فى الفقة أولى من دراسة السنن، وأبواب الصلاة والزكاة مقدمة على معرفة الوكالة والشركة0
ويتبقى على الداعية معرفة أن ما تسلم به العقيدة، وتصح به العبادة، وقواعد الدعوة إلى الله تعالى أولى من الانشغال بترهات العلوم وسفاسف الأقوال0
القطعى مقدم على الظنى 0000
والعلم وإن كان مشرع الأبواب، والحكمة ضالة المؤمن، وهو أحق بها أنى وجدها، إلا أن علوم الشرع هى الأهم والأجدى، ففقه الكتاب والسنة، قبل الفكر والتأمل، وقواعد الشريعة والالتزام بها، قبل الأخذ بنظرية المصالح، والقطعى قبل الظنى، وعلم الشريعة كله من كبار العلم 0
وماعدا علوم الشرع فهى من صغاره، فما كان من الكتاب والسنة والإجماع فهو علم مقطوع به أنه من الحخق، وهو الذى عليه الثواب والعقاب، وهو ما أراد الله تبليغه لعباده، وأرسل لأجل هذا التبليغ رسوله به، وأنزل كتابه، وفى مقابل ذلك علوم مختلفة، مما فى أيدى أهل الكتاب، وما روى عن الأوائل من المتفلسفة ونحوهم، وما يلقى فى قلبو المسلمين يقظة ومناماً، وما دلت عليه الأقيسة العقلية، وما قاله أكابر هذه الأمة علماؤها وامراؤها، وكذلك تتضمن الأقيسة العقلية الشرعية، وما ينقدح فى عقول البشر كل ذلك فيه الحق والباطل، فلا يرد كله ولا يقبل كله، بل يقبل منه ما وافق الحق، ويرد منه ما فيه من الباطل0
وبهذا الميزان تصبح كل هذه العمل من صغار العلم مقارنة بعلوم الشريعة القطعية التى يجب تقديمها0
(وذلك أن الحق الذى لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله وذلك فى حقنا، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع، وأما ما لم تجئ به الرسل عن الله، أو جاءت به ولكن ليس لنا طريق موصلة إلى العلم به، ففيه الحق والباطل، فلهذا كانت الحجة الواجبة الاتباع: للكتاب والسنةن والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع لا يجوز تركه بحال 000)( )0
النهى عن الأغلوطات 00
ومن معانى الربانية أن الواضح من المسائل مقدم على الغامض منها؛ وهذا معنى قول ابن حجر أن المراد (بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها)، إذ إن من المعلوم أن فى كل علم جوانب واضحة فهمها وفيه ما قد يصعب فهمه، أو يحيطه شىء من الغموض، فيكون الواضح أولى بالتعلم من غيره 0
والأصل فى المفتى والكاتب والداعية والخطيب إبلاغ العلم لأهله على هذا المنوال، وقد قال ابن القيم عن المفتى – مثلاً – مما يقاس عليه غيره من أهل التربية والتعليم (لا يجوز للمفتى الترويج وتخيير السائل، وإلقاءه فى الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال، متضمناً لفصل الخطاب، كافياً فى حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره( )0
وقد ورد فى النصوص نهى الرسول  عن الأغلوطات، وهى الألغاز الملتوية، وهذا الدليل، وإن لم يكن مباشراً إلا أن الإمام الأوزاعى – رحمه الله- أخذ هذا المعنى المراد من الحديث 00 فقال مفسراً : (يعنى صعاب المسائل)( )0
وكما أن الأمر ينطبق على المعانى، فهو أيضاً ينطبق على الألفاظ فاختيار الواضح منها أولى من اختيار الغامض، والبلاغة الحقة فى اختيار المفهوم، وترك المعقد، فالبيان فى بعض ما قيل عنه :
(أن يكون الإسم يحيط بمعناك، ويحكى عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذى لابد منه أن يكون سليماً من التكلف بعيداً من الصنعة، بريئاً من التعقد، غنياً من التأويل)( )0
ويتفرع عن هذه القاعدة، كراهية التقعر والتكلف فى الكلام، وكراهية البعد عن السهل المفهوم فى الحديث، واختيار الأنسب من الجمل والكلمات، والأقرب للمدارك والأفهام، وكذلك لابد من المرونة فى الأخذ والعطاء، وعدم إظهار المعرفة، ولو كانت أكثر من الآخرين، والاعتراف بالخطأ والزلل عند التنبيه عليه، وعزو العلم إلى أهله، ولقد قال الحسن البصرى: ((إذا ترك العالم قول لا أدرى، فقد أصيبت مقاتله ))0
التدرج من التربية 000
إن العلوم جميعها، مرتبة ترتيباً ضرورياً، كما أن أجزاء العلم مرتبة على بعضها، فلا ينبغى دراسة العلم إلا بالتدرج فيه، والتراكم صفة من صفات المعرفة، والذهن مخلوق لإدراك العلم بالتدريج، واستيعابه مرحلة بعد أخرى، ولما كان العمر يضيق عن استجماع علم بأكمله، فقد يكتفى بأهم القواعد والفنون، فى العلم الواحد، ويرجع إلى ما يحتاج إليه، بالنظر فى الكتب، أو فى سؤال غيره، والأصل أن يعرف المتعلم موارد العلوم ومصادرها، ومآخذ الفنون ومناهجها، وأن يستلهم وصية الغزالى: ((أن لا يخوض فى فن من فنون العلم دفعة، بل يراعى الترتيب، ويبدأ بالأهم، فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالباً، فالحزم أن يأخذ من كل شىء أحسنه)( )0
والتدرج فى العلم مظهر من مظاهر التيسير، والتبشير وقد قال رسول الله  : ((يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا))( )0
وقال ابن حجر معقباً :
(.. وكذلك تعليم العلم يجب أن يكون بالتدريج، لأن الشىء إذا كان باتداؤه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالباً الازدياد، بخلاف ضده)( )0
فالداعية المربى، عليه عالماً ومتعلماً، أن يدرك أن أخذ المعلومات أو اعطاءها، يكون بتدرج وحسب أهميتها، شرعاً ومصلحة، أو من أهميتها المرحلية، أو حسب ظروف الواقع والعادة والزمان والمكان، إذا تساوت شرعاً،ن ولابد من غرس النظرات الشرعية، والموازين الإسلامية، دون إضاعة العمر بفن واحد، أو صناعة علوم مهمة، بالاستكثار فى علم واحد 0
ويستشهد هنا، بنقد ابن الجوزى ليحي بن معين، وهو أعلم الناس بالجرح والتعديل، ولكنه كانت تغيب عنه مسائل الفقه البسيطة، ولم يصل إلى ما وصل إليه أقرانه، كالإمام أحمد وغيره ممن أخذوه العلم من أطرافه، فيقول:
(اعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال فى كل علم إلى منتهاه، غير أن العمر قصير، والعلم كثير00 فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم00 ولما تشاغل يحي بن معين فاته من الفقه الكثير00 ومن أقبح الأشياء أن تجرى حادثة يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فلا يعرف حكم الله عز وجل فيها)( )0
المتفق قبل المفترق
ومن مفاهيم الربانية فى التعليم، ضمن قطار الدعوة، أن يبدأ التعليم بما اتفق عليه من العلم، كما أن على المتعلم أن لا يطلب من أول الأمر ما اختلف فيه، وغاية العلم – إذا صحت النية – العبادة والبحث عن صحة العمل، إضافة إلى ما يقود العلم المتفق عليه من قوة فى اليقين، وصفاء فى القلب، والاختلاف يقود إلى عكس ذلك، كما أنه للمتعلم مفسدة، وإضاعة لأصل مقاصد التعليم، كما وأنه يربك عملية التفكير، إضافة إلى ما قد يؤدى إلى إضاعة الدين وحفظ الشريعة، لما فى الأمر من ضياع فى متاهة الجدل ولذلك قيل :
( أن يحترز الخائض فى العلم فى مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، سواءً كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو علوم الأخرة، فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه، ويفتر رأيه، ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع00)( )0
وما ينطبق فى الفقه، ينطبق فى العمل التربوى أيضاً، وقد أورد ابن القيم هذا المعنى تمييزاً بين المتكلم أو السالك :
(فترى المتكلم يبحث فى الزمان والمكان والجواهر والأعراض والأكوان 00 والسالك إلى الله قد يجاوزها إلى جمع القلب على ربه المكون وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته 00 فالمتكلم متفرق مشتغل فى معرفة حقيقة الزمان والمكان، والعارف قد شح بالزمان والمكان أن يذهب ضائعاً فى غير السير إلى رب الزمان والمكان)( )0
وعلى المربى والقائد مراعاة ذلك أيضاً، (وأن لا يسمح للدعاة القفز فى سلم المعرفة والتشاغل بعلم خفى قبل الفراغ من الجلى 00)( )0
والداعية المربى، ينبغى عليه التركيز ، على مواضيع الإثارة ومسائل الغربة، أو ما يجلب الرئاسة والشهرة، أو أن يتتببع شوارد المسائل ، وغرائب القضايا، فقد لا يصيب المتحدث أو المستمع من الخير شيئاً0
التخصيص بالعلم سنة 000
ومن معانى الربانية فى التعليم جواز تخصيص قومن بنوع من العلم، وذلك لاختلاف المفاهيم والمدارك، والتجارب والمدارك، والتجارب والممارسات مما قد يؤدى إلى الفهم الخاطئ أحياناً من قبل بعضهم عند استماعهم أو قراءتهم لعلم دون مداركهم، أو أن يقود إلى تأويل واه، أو تفسير باطل، بل قد يؤدى إلى تحميل الكلام أكثر مما يحتمله، والبناء على الألفاظ أكثر مما تطيق، وفى حالات أخرى قد يكون ظاهر الحديث أو المقال يقوى على بدعة، أو يقود إلى معصية بينما ظاهره فى الأصل غير مراد، ولذلك ورد عن الرسول  جملة أحاديث يستنبط منها هذا المعنى 000 ومنها قوله لمعاذ :
(من لقى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة 0 قال : ألا أبشر الناس؟ لا إنى أخاف أن يتكلوا )( )0
ومن المسالك الوعرة فى تصعيب الألفاظ، وإضاعة المعانى، ما قد يلجأ إليه البعض من استعمال المجاز المبالغ فيه، والرموز الشاذة المعقدة، وجميع أنواع المواضعة الاصطلاحية، والمواضعة ضربان، أحدهما : عامة وهى ما تواضع عليه العلماء فى كل علم فيما جعلوه ألقاباً لمعان لا يستغنى المتعلم عنها، ولا يقف على معنى الكلام إلا بها والثانية: خاصة وهذا هو الذى لا ينبغى استعماله من قبل الداعية، لعدم فائدته من جهة، ومظهر من التخليط بانية من جهة أخرى لأنه :
(إنما يختص غالباً بأحد شيئين: إما بمذهب شنيع يخفيه معتقده، ويجعل الرمز سبباً لتطلع النفوس إليه، واحتمال التأويل فيه سبباً لدفع التهمة عنه، وإما لما يدعى أربابه أنه علم معوز، وأن إدراكه بديع معجز 00)(2)0
وكلا الأمرين مما يترفع عنه الداعية، ناهيك عن المربى أو القائد، وحتى لو احتاج إليها لسبب ثانوى فيربأ بنفسه عنها، سداً للذرائع، وابتعاداً عن قالة السوء ولكن مع هذا (000 ربما استعمال الرمز من الكلام فيما يراد تضخيمه من المعانى وتعظيمه من الألفاظ، ليكون أحلى فى القلوب موقعاً، وأجل فى النفوس موضعاً، فيصبر بالرمز سائراً ، وفى الصحف مخلداً 00)( )0
وعندئذ لا بأس باستعماله ما دام مفهوماً، ويقع قلب السامع موقعاً جميلاً، ما دام لا يقود إلى مفسدة، على شرط عدم المبالغة والإكثار منه، أو التكلف للإتيان فيه، وأن يكون السامعون ممن تدرك عقولهم مثل هذه الرموز، ومع هذا فالنقد هنا ينصب على الخطيب أو الكاتب إذا تكلف الأمر والصعوبة، وكان يمكن له التبسيط والتسهيل، إذ يشعر السامع أنه يبتغى من وراء ذلك شهوة القول، وحب السمعة، دون الحرص على تبليغ المعنى، مع ملاحظة أن بعض المعانى، لابد من تبليغها ببعض القول، الذى يصعب فهمه، فعلى القارئ أيضاً أو المستمع، من كد الذهن، وإعادة النظر، وكثرة السؤال حتى ينفتح له ما انغلق عليه، ويتوضح له ما استغلق عنه 00
وفى التعليم 00 أذواق 00
من الربانية استعمال الأساليب الجميلة الحلوة، المؤدية للمعنى، وعدم استعمال العبارات الخشنة الجارحة والتى لها نفس الأداء، لأن الرفق ما كان فى شىء إلا زانه، والعبارات الجميلة دليل على شفافية المسلم، وحسن انتقائه، وقد قال المصطفى  :
(لا يقولن أحدكم خبثت نفسى، ولكن ليقل لقست نفسى) ( )0
(يؤخذ من الحديث استحباب مجانية الألفاظ القبيحة والأسماء، والعدول إلى ما لا قبح فيه00 وإن كان المعنى يتأدى بكل منهما 00)( )0
وللتعبير أثر فى إبراز الحق وكم من حق يخرجه إلى الباطل سوء التعبير، وما أحسن القائل :
تقول : هذا جناء النحل تمدحه
وإن تشأ قلت : ذا قىء الزنابير
مدحاً وذماً، وما جاوزت وصفهما
والحق قد يعتريه سوء تعبيــر( )0
المزيج السلسبيل 00
ومن الربانية فى التعليم مزج كل علم بالرقائق كى تتحقق السكينة الإيمانية، ولا يسيطر العقل وحده على القلب، والفكر على الروح، فتتحول المعانى الإيمانية إلى فلسفة عقيمة، وتضيع المقاصد الأصلية لعملية التعليم التربوى، إذ إن أصل المقاصد فى التعليم ربط المخلوق بربه، وتذكيره بالآخرة، وجعله يشمر بساعد الجد للعبادة والعمل، وإلا فدراسة العلم دون هذه النية مضيعة للوقت، والتهاء بالشهوات وقد قيل :
(رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفى فى صلاح القلب إلا أن يمزج بالرقائق والنظر فى سير السلف الصالحين، فأما مجرد العلم بالحلال فليس له كبير عمل فى رقة القلب، وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين، لأنهم تناولوا مقصود النقل وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها0
وما أخبرتك بهذه إلا بعد معالجة وذوق00 فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف الزهاد فى الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك 00)( )0
ولما كان علمية العلم والتعليم القرب من الله تعالى، وليس طلب الدنيا بها، ففى هذا المعنى صلاح للمعلم والمتعلم، إذ فيه يتذكر المتعلم أن مآل العلم القرب إلى الله، وإن قصد القراءة والاستماع تحلية الباطن، وأن لا يكون التعليم الدعوى، غايته المباهاة بين الأقران، أو التفاخر فى النوادى والمجالس، أو تطلب به المراكز والمنافسات، فالتعليم الدعوى لابد له من حسن النية، وسلامة القصد، فهو حديث القلوب للقلوب، وكل حديث او استماع مرتبط بالنية والصحة وعليها مدار الثواب والعقاب 0

(26) النفق المظلم
قد يصادف القطار فى طريقه نفقاً مظلماً، وطريقاً شائكاً متعرجاً، لا يستطيع الراكب فيه أن ينقذ نفسه، أو ينجو بإخوانه، مهما كان وضعهم داخل المركبة مستقراً، والتوافق بينهم تاماً، والخطط فى أذهانهم معدة والحماسة بين جنباتهم وافرة، ما لم تكن أضواء القطار ذاته كاشفة، ومسالك الطريق معروفة، كى لا يضيع السائر مساره، أو يتناثر أشلاء تحت وقع الكارثة، أو يسرف فى التفاؤل عندما يبصر نوراً فى آخر النفق، وقد يكون مجرد أنوار قطار يسير بالاتجاه المعاكس0
إن مثل هذا النفق، كفتن الخلاف بين المسلمين، إذ بينما يسير الدعاة فى ركبهم الميمون، والطريق سالكة، والناس يركبون وإياهم الواحد تلو الآخر، وصولاً للمحطة التالية، إذ يصطدم المسلمون فيما بينهم، ويبقى بعضهم على بعض، فتلتف الظلمات، وتنطفئ الأنوار، ويضطر ركب الدعاة إلى ركوب الظلمة، ودخول النفق، إذ لابد لهم منه، وهم مضطرون لذلك باعتبارها من جماعة المسلمين، فإذا لم تكن البصائر على يقين، والأبصار على وضوح، فالكارثة ستقع لا محالة، والقطار سيتحطم ولا ريب، وأنواع القطار الكاشفة، المتمثلة فى فقه الفتن هى التى تفدع الكارثة، وتوضح مسالك الطريق0
هدى السماء يضىء النفق
إن الدعاة بتجاوزهم المحن الداخلية، وكلاً من فتن الشبهات والشهوات سيظلون بحاجة إلى تجاوز فتن الخلاف بين المسلمين، وإبصار جوانب الحق والباطل عند كل فئة، والإعانة فى رد المظالم، والمعاونة فى نصرة المظلوم، وعدم تجاوز مبادئ الشريعة، أو رد الاعتداء بما هو أنكى، وتأصيل المشاكل من منطلق مبادئ الإسلام، والحذر الشديد من اختلاط الرايات، أو الإفراط فى النقد والتقويم، أو الإسراف فى التعامل والممارسات، أو الدخول فى الأسباب دون النتائج، أو الاهتمام بالنتائج دون دراسة الأسباب، واللهث كعوام المسلمين وراء العواطف تارة، أو خلف الشعارات البراقة تارة أخرى، بل ينبغى أن يكون الداعية ثابتاً على المنهج، مستقيماً على الطريق يبصر بنور الله، ويستهدى بنور الله، ويسير على هدى الله، يبحث عن الحلول فى الإسلام لا فى الإعلام، ويقيس المواقف على أساس المعايير الإسلامية، وليس الإقليمية، ويريد المخرج بدعاء الأنبياء، لا بصرخات الأدعياء0
الاستبداد 00 أصل الفتن
إن من أسباب التفرق، والوقوع فى الفتن، الاستبداد وترك الشورى، وتحكم الأفراد فى مصائر الأمة، وهذا المبدأ الذى يجب أن يستلهم من أحداث الفتن ولا ينسى، وأن يعمل الدعاة على تركيز مفاهيم الشورى والحوار، وإلا فالأزمات لن تنتهى بانتهاء الظلمة، إذ إن الطاغية يخلفه آخر، والمستبد قد يرث المستبد، وتدفع ضريبتها الشعوب، كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أو محاولة منع أهله منه، هو الذى يسلط الله به من لا يرحم، ويهلك بسببه الحرث والنسل، كما ورد فى الحديث الشريف، ويهلك كذلك من عاون الظلمة، أو سكت عنهم وقد قال  : ((إذا أنزل الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم ))( )0
(ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار، ومن الظلمة، لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم، ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضى فهو منهم، ويؤيد أمره  الإسراع فى الخروج من ديار ثمرد؛ وأما بعثهم على أعمالهم ، فحكم عدل لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها فى الآخرة، وأما فى الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيراً لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسل فى الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم، ولم ينكر عليهم، فكان ذلك جزاءً لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يبعث كل منهمن فيجازى بعمله، وفى الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهى، فكيف بمن داهن00، فكيف بمن رضى00، فكيف بمن عاون00، نسأل الله السلامة)( )0
من الفتن 000 الركون إلى الكفار
وبمقابل الركون إلى الظلم وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الركون إلى الكفار والمشركين، وهم أهل التحريش والفتن وقد نبه الله تعالى عن ذلك بقوله : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (آل عمران :100)0
وسبب نزول هذه الآية مما يوضح المعنى، فقد ذكر أهل التفسير أن يهودياً أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج، فتآمر بين هذا وذاك، حتى وصل التحريش، فنبه القرآن الكريم إلى أن أسباب التحريش دوماً هم اليهود والنصارى، فينبغى عدم الركون إليهم، وليست حادثة عبد الله بن سبأ، وتفريقهم فى أول فتنة بمجهولة0
ومن فتنهم، إدخال الشبهات وإثارة المؤامرات، حتى يقع المسلمون فى سفك الدماء، وتقطيع الأرحام، كما ذكر تعالى فى سورة البقرة (205) وسمى التولى عن دينه بالالتجاء إلى الكفار فساداً فى الدين، لأنه يقود إليه0
(وإنما سمى هذا المعنى فساداً إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتنسفك الدماء، قال تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الأرض وتقطعوا أرحامكم (محمد : 22) فأخبر أنهم إن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد فى الأرض، وقطع الأرحام، وذلك من حيث قلنا وهو كثير فى القرآن، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب، لأنه تعالى قال : ويهلك الحرث والنسلوالمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة)( )0
الترف من الفتن 000
ومن الفتن، وما قد تجره من الاعتماد على المشركين، وعدم رد الاعتداء، الترف ونشر المفاسد والملاهى، وعدم التدريب على الشجاعة والمروءة، حفاظاً على مصالح ذاتية، أو رغبات أنانية، فيأتى البلاء فيما بعد، جزاء على ذلك، وتزداد الفتن ضراوة عندما يهرب الإنسان من المحنة بالغناء، ومن المصائب بالخمور، ومن البلاء بالمعصية، وطريق الخروج من البلاء أن يكون بالعودة إلى الله، والتخلص من ذل المعصية بأنس الطاعة، ومن أزمة المحنة بمدارج التوبة، وتكرار الفتنة نتيجة لعدم التنبه للطاعة 0
أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (التوبة : 126)
ومن هنا ينبغى على الدعاة تنبيه الناشئة على الأخذ بمظاهر القوة، وترك الترف، والاعتماد على الآخري، حتى ولو كانوا سواقاً أو خدماً، والتدريب على المهارات والكفايات، والبذل والوفاء والتضحية، وعدم الركون إلى الدنيا، والتربية على بغض الملاهى والمنكرات، والأخذ بالجد والعزائم من الأمور، ولنا قدوة من عمر بن عبد العزيز وهو يقول لمؤدب ولده سهل :
((000 فحدثهم بالجفاء فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة –أى الفارغة- فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلةن الضحك فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهى التى بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن00)( )0
احذر الأدعياء
وفى الفتن يدعى مثيروها أنهم الأقرب إلى الدين، والأحرص على الشريعة، فتضيع الرايات، وتلتبس الأمور، وفى الفتنة الكبرى –حيث يظهر المسيح الدجال- ينخدع به من لم يكن على بصيرة، ويخالفه من كان من أهل الدين، حتى ولو كان أمياً، وحتى لو رأى على يديه الخوارق، ودون هذه الفتنة ما يحصل بين جماعات من المسلمين، تدعى قيادتها وزعامتها الإسلام، وكل يدعى لنفسه التقوى والورع، وهنا ينبغى للداعية المسافر أن لا يصدق بالأقنعة، ولا يلهث وراء الشعارات، فالمسلم الصادق من كان مسلماص قبل الفتنة، ودلت على إيمانه القرائن قبل المصلحة، وقد حذر المصطفى  وعلم أن فى الفتن يظهر الأدعياء، الذين يدعون أنهم من سلالة النبوة وكل منافق يغطى ما يبطنه من الشر بالدين، أو ما يحميه من مصلحته بالتقوى، فتتقنع الجاهلية بالشريعة، وتختفى المصالح بستار الحرص على المسلمين، فذكر وصف فتنة الأحلاس، ثم وصف فتنة السراء، فقال عنها :
((دخنها من تحت قدمى رجل من أهل بيتى، يزعم أنه منى، وليس منى وإنما أوليائى المتقون))( )0
وقد تعقب هذه الفتنة فتن أخرى، منها الدهيماء، ثم يختلط الناس حتى ينقسمون إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فكيف ينجو الداعية من أن يقع فى معسكر النفاق وهو لا يشعر00؟
وعليه أن يعرف الرجال بالدين، وليس الدين بالرجال، ويعرض كل مدع على الإسلام، هل سلوكه وتصرفاته صحيحة بمقياس الإسلام، وهل كان قبل الفتنة مسلماً يطبق شرع الله، وهل ما يفعله حالياً يتناسق مع الشريعة، دون الاعتماد على الشعارات، أو الأخذ بالادعاءات، ولا يغرنك –أيها الداعية- من يقابل الآخر، فقد يصطلم الظالم بالظالم، وقد يحارب الكافر بالكافر، أو يجتلد الفاسق، فلا يغرنك –أيها الداعية- من يحارب الأدعياء، ولكن انظر إليهم أنفسهم تعرف الحقيقة0
لا تكن من العوام
ولا يزال العوام فى كل زمان ومكان، يلهثون وراء كل ناعق، ويصدقون كل إشاعة، ويتناقلون كل خبر، يحركهم أهل الفتن، ويقودهم أهل الأهواء، وتستبد بهم الألسنة، وتستأثر بهم المقالات، فهم وقود الفتن، ومحركو الاضطرابات، وإذا كان الأمر فى سابق الزمان، فكيف والإعلام اليوم يسمعه الناس فى بيتوتهم، ينتقل الصوت مع رحلاتهم، والأخبار تبصرها العيون فى الخدور، ومع الأصوات والمشاهد، فن يتقنه أبالسة الإنس، ويحسنه شياطين الخلق، ومن هنا فعلى الداعية أن يرى بعين البصيرة، لا ينحرف مع ركب الغوغاء، ولا يتأثر كما يتأثر العوام، وإلا سقط فى الفتن، كما يسقط الآخرون، بل ويصير من وقودها0
وفى هذا الأمر يحذرنا الرسول  من التشبه بالعوام عند الفتن، فيقول : ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حختى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر 00))( )0
وفى حديث مشابه رواه أحمد وابن ماجة، كيف يعمل العوام عند الفتن، ويتأثرون بما يسمعون يوقرأون، مما يتغربل فيه الناس، ويشتبكون، فيقول  : (( كيف بكم وبزمان تغربل فيه غربلة، ثم تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا هكذا – وشبك بين أصابعه- قالوا : كيف بنا رسول الله00؟، قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم))0
فانظر أيها الداعية، ولا تكن كعوام المسلمين، بل ابحث عن الخاصة، وتناقش معها فى وجه نظر الحق، واروِ الأحاديث بموضوعية، ولا تصدق كل إشاعة، فكل أهل الباطل يزين باطله، ويؤثر دنياه، ويعجب برأيه، ثم بعد ذلك عليك بالمعروف وخذ به وعض عليه بالنواجذ، واعرف المنكر فاتركه، وبهذا تتميز عن العوام، وتستحق أن تكون فى القطار الذى يتجاوز نفق الفتنة 0
واحذر الغوفاء
ويبرز بين العوام، عند كل فتنة طائفة من الغوغاء، ينتصرون لمعسكرهم الباطل، ويلهجون بالإشاعات، وينشدون الحق بالتعصب، لا يميزون بين حق وباطل، وتختلط عندهم الأولويات، يتصرفون كالأوباش، همهم الاعتداء على الناس، يعممون الأحكام على الخلق، ويحملون الأخطاء على المجتمعات، وهكذا ديدنهم منذ فتنة عثمان، حيث جاء سفلة أهل العراق واتهموا أهل الحجاز، وجاء غوغاء أهل مصر يحملون الفتنة، ثم كان هؤلاء الغوغاء وقود الفتن بين المسلمين، ينتهكون الحرمات ويسلبون الأموال، ويروعون الآمنين، فيقابلهم من الطرف الآخر غوغاء آخرون، يظلمون الناس بالأقوال والأفعال، ويتهمون الجميع بذنوب البعض، ويظلمون الناس دون وجه حق، ويأخذون الناس الريبة، وظلت الأمور هكذا كقاعدة فى كل زمان ومكان، فكان سفلة الناس وغوغاؤهم هم الذين اعتنقوا الشعوبية، وهم الذين ذبحوا المسلمين فى ثورة الزنج، وغيرها حتى صرح بهذه الظاهرة ابن قتيبة وغيره، وقال أحد المفكرين معلقاً : -
(ولم أر فى هذه الشعوبية أرسخ عداوة، ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والحشوة، وأوباش النبط، وأبناء أكرة القرى)( )0
وقال الفقيه المعاصر لفتنة خلق القرآن محمد بن أسلم محذراً منهم : (احذروا الغوغاء، فإنهم قتلة الأنبياء00)( )0
فكيف فى عالم اليوم، وبيد الغوغاء مفاتيح الإعلام، وأقلام الصحافة، فأخطاء النظام يتحملها الشعب، وعيوب الظلمة لا تظهر إلا فى الأوقات التى يريدون، ولا يعرضون إلا أحد جانبى الحقائق ناهيك عن الأكاذيب، والمبالغات، ومن هنا ينبغى لمسافرى قطار الدعوة التأنى والتمحيص، والتثبت فى الرواية، وأخذ الأخبار بموازين العقل والموضوعية، وتجنب الإثارة وأخبار القصاص، وعدم التعميم إذ إن فى كل قوم أهل خير وصلاحن وأهل فسق وفجور، وأهل الإسلام هكذا حتى روى عن سليم بن عامر أنه قال حكمته الخالدة :
(استقبلت الإسلام من أوله، فلم أزل أرى فى الناس صالحاً وطالحاً)( )0
وذم عمر بن الخطاب مرة بنى تميم –معمماً لحكمه- فاستأذن الأحنف بن قيس وقال : (إنك ذكرت بنى تميم، فعممتهم بالذم، وإنما هم من الناس، فيهم الصالح والطالح، قال : صدقت)( )0
تداعى الأمم
والفتن تجر إلى مجاراة الأهواء، والوقوع فى المفاسد، حتى يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويصبح تحرير الأرض بالأغانى، والهروب من المحن بالخمور، والتخلص من القلق بالآثام، ولقد وصف ذلك المصطفى  : ((00 وإنه سيخرج من أمتى أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ))( )0
أى أن الأهواء، وحب العروش والدنيا، يتجارى بصاحبه كما يتجارى الكلب عندما يصيب إنساناً، فهو ينظر إلى اليمين وإلى الشمال، ويتقلب على هذا الجانب وعلى ذلك، ويتمسك بكل غاشم أو ظالم أو كافر، ويتعلق بأى حل أو سبب، ولا يبالى بعد ذلك بمن سيموت أو يقتل، وكم من دماء سوف تسفك، وكم من فتن ستصيب الأمة0
وهكذا حصل لبعض ملوك الأندلس، حيث اعتدى بعضهم على بعض، واستعدى بعضهم النصارى على المسلمين، فتداعت عليهم أمم النصارى من القوط والإفرنج وأشباههما، فضاعت البلاد، وذهبت الأندلس، وانتكست رايات التوحيد، ولا تزال السنة جارية فى الخلق، يخبرنا بها الصادق المصدوق0
((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحنن يومئذ00؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن، وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا، وكراهية الموت ))( )0
فلينظر كيف تقود الفتن إلى تداعى الأمم، بالرغم من كثرة المسلمين، ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، لغلبة المهانة عليهم، وسيطرة الوهن على قلوبهم، فيقع المسلم فى الفتنة الأعظم، والمحنة الأشد، ولا مفر للداعية من هذه الأزمة، إلا بمبادرة الطاعات، والأخذ بالعزائم، والدعاء كدعاء الغريق، وأداء الصلوات فى المساجد، وقراءة القرآن مع الأذكار، حتى يصفو القلب وتدرك الحقائق، ويتميز له الحق من الباطل، والصدق من النفاق، ولا تختلط عليه الرايات، ويعين على الباطل وهو لا يشعر، ويحارب الحق وهو لا يدرى، ويبرر الدنيا بالآخرة0
((بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمى كافراً، ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا ))( )0

الحصار الاقتصادى
وكما أن المعاصى تقود إلى الفتن، فشدتها تحصل بانتهاك حرمة الله وحرمة رسولهن فتقود إلى تغليظ قلوب أهل الذمة على المسلمين، فيمسكون ما فى أيديهم من طعام أو دواء، ويحرمون منه الأبرياء من المسلمين، وما يقع لبعض المسلمين فى عصر، يقع لغيرهم فى عصر آخر، وما يقع لهم فى مكان سيقع عليهم فى مكان آخر، إذ لم يكن للمسلمين عرق ينبض، ولا لقلوبهم نبض يدق، ولا تتمعر وجوههم فى سبيل الله، ولا يشعرون بصرخة طفل، أو آهة مريض، قفهذا هو الانتهاك للحرمة، يأخذ حظه من الإثم من كان سبباً فيها، كما يأخذ نصيبه من الذنب من سكت عن المنكر، والأمر ليس بحديث الأمانى، ولا تطفل الجهال، وإنما صدر من مشكاة النبوة، فهذا  يقول : ((منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر من أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم 000)( )0
فانظر أيها الداعية إلى ما يفسر هذا فى نهاية الحديث من رواية البخارى، حيث يقول أبو هريرة محذراً : (كيف أنتم إذا لم تجبوا ديناراً ولا درهماً00؟ فقيل : وكيف ترى ذلك كائناً000؟ قال : أى والذى نفسى بيده عن قول الصادق المصدوق، قيل : عم ذاك؟ قال : تهتك حرمة الله وذمة رسوله، فيشد الله على قلوب أهل الذمة فيمنعون ما فى أيديهم 00)0
فليحذر كل داعية مؤمن، من انتهاك حرمة الله أو حرمة رسوله، من الاعتداء والظلم، أو رد الظلم بالكفر، أو رد الضرر الأخف بالأشد ، أو تجاوز الحق برد الضرر، فكله من الانتهاك الذى قد يقود إلى الحرمان حتى من الطعام والشراب، ولا يراعى أهل الكفر فينا إلا ولا ذمة0
فى الشريعة وقاية وعلاج
ومن درء الفتن نفى الشبهات، وتأصيل القواعد الشرعية، وإرجاع المواقف إلى النصوص الشرعية، ولا يحكم على المواقف من أقوال أهلها، أو الاكتفاء بسماع الأخبار، والتأثر بالإشاعات والعواطف، وإنما إرجاع جميع المواقف إلى القرآن والسنة، ومعرفة الأحكام منها، فنحكم بما حكمت به الشريعة، على أهل البغى والاعتداء، أو على الظلم والظالمين، وعلى من يوالى غير المؤمنين، وغير ذلك مما أوضحه الله سبحانه وتعالى، دون اتباع الظن أو الهوى، وتوضيح الشبهات واجب الدعاة، لتبين الحق عند كل معسكر من معسكرات المسلمين عند اختلافها0
(قال العلماء : لا تخلو الفئتان من المسلمين فى اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغى منهما جميعاً أو لا، فإن كان الأول فالواجب فى ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغى صير إلى مقاتلتهما، وأما إن كان الثانى، وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغى إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغى عليها، بالقسط والعدل، فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين، والله أعلم)( )0
ولابن حزم أبيات يستحسن الاستشهاد بها :
قالوا : تحفظ ، فإن الناس قد كثرت
أقوالهم وأقاويل الورى محن
فقلت : هل عيبهم لى ، غير أنى لا
أقول بالرأى إذ فى رأيهم فتن
وأننى مولع بالنص لست إلى
سواه أنحو ولا فى نصره أهن ( )0
توازن مطلوب
من واجب الدعاة، مراعاة الموقف والبلد فى إزالة الشبهة، وأن لا يشتط فى إيضاح ما هو معروف عند قومه وفى بلده، بل يوازن كل ذلك بوجه الحق الآخر، وتوضيح جوانب الإنصاف، ويكشف ما خفى من السلبيات، حتى يساهم فى إرجاع الحق، وفى توضيح المواقف، ومن فقه هذا التوازن ما عمله العالمان المحدثان الليث بن سعد وإسماعيل بن عياش، حيث (كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا عن ذلك ، وكان أهل حمص ينتقصون علياً، حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدثهم بفضائل على، فكفوا عن ذلك)( )0
وقال سفيان الثورى لعطاء بن مسلم :
(إذا كنت بالشام فاذكر مناقب على، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبى بكر وعمر )( )0
إياك ونصف الحقيقة
وليحذر الدعاة والمصلحون من مسألة مهمة، وهو إبراز الحق الذى مع أهواء الناس، وكتم الحق الذى يخالف أهواء الناس، فيبرز من العلم ما كانت إشارته خضراء، ويسكت عما كانت إشارته حمراء، لأن فى هذا إعانة للظلم، وتخليطاً للحق مع الباطل، وتشابكاً للرايات، فيكون الإفساد أكثر من الإصلاح، ويكون الداعية عوناً للباطل دون أن يدرى، مع ذرائع فاسدة تفتح، ومصالح راجحة تفوت، ثم بعد انكشاف الفتن، ووضوح الحقائق يفقد أهل الحق ثقة الناس بهم، إذ إن النصر لا يأتى إلا لمن ثبت على النهج المستقيم، ليحذر الداعية أشد الحذر من المداهنة، وقد قيل لأسامة بن زيد، ألا تكلم عثمان بن عفان (قال كلمته دون أن أفتح باباً أكون أول من فتحه، وما أنا بالذى أقول لرجل- بعد أن يكون أميراً على رجلين- إنك خير 000) الحديث 0
وشرح العبارة كما قال المهلب :
( 00 قال أسامة : قد كلمته سراً دون أن أفتح باباً، أى باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحداً، ولو كان أميراً، بل ينصح له فى السر جهده 00)
(وقال عياض : 00 وفيه ذم مداهنة الأمراء فى الحق، وإظهار ما يبطن خلافه كالمتملق بالباطل، فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة، والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة لا يكون فيها قدح فى الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح، وتصويب الباطل، ونحو ذلك 00)( )0
ترك المداهنة فى الحق
ونيبغى كذلك على الدعاة، فوق ترك المداهنة، تخفيف حدة طبع الناس، وإطفاء الثأئرة، وتهدئة العواطف، حتى يكون الركون للعقل، وبالتالى معرفة حكم الله فى مواقف الفتن، والتصرف وفق مقتضيات الشريعة، دون ظلم لأحد، أو اعتداء على مخلوق، ومنع الناس من الاختلاط على بعضهم، ورمى البعض للبعض بأشنع التهم، ومن كلام الخليفة الراشد بالله: ((إنا نكره الفتن إشفاقاً على الرعية، ونؤثر العدل والأمن فى البرية، ويأبى المقدور إلا تصعب الأمور، واختلاط الجمهور، فنسأل الله العون على لم شعث الناس، بإطفاء ثائرة البأس))( )0
بل من مقاصد الإصلاح فى الفتن، تسكين الدهماء، كما فى آية الحجرات (قال الزمخشرى : فإن قلت لم قرن بالإصلاح الثانى العدل دون الأول00؟
قلت : لأن المراد بالاقتتال فى أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتى شبهة، وأيتهما كانت فالذى يجب على المسلمين أن يأخذوا به فى شأنهما إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء، بإرادة الحق والمواعظ الشافية، ونفى الشبهة000)( )0
أى أن واجب الداعية، إذا لم يكن قادراً على تغيير المنكر، وإقام العدل، فعليه الوعظ والإرشاد عند الفتن، وتوضيح الظلم والاعتداء، وتبيان حكم الله فى المواقف والآراء، ورد المصائب إلى أسبابها، وربطها بمسبباتها وإصلاح ذات البين بين المسلمين، والدفاع عن كل المظلومين، حتى تسكن عواطف الأمة، وتسكن ثائرة الخلق 0

فى العزلة 000 علاج
ومنن درء الفتن عند عدم معرفة الصواب، أو اختلاط الحق بالباطل الاعتزال عن الفتنة، عندمنا لا يكون المرء قادراً على إصلاح الأمر، أو إحقاق الحق، والعزلة هنا نسبية، لا يعنى بها الذهاب إلى المغارات والكهوف، أو ترك الدعوة إلى الله، بل اجتناب شرور الفتنة 00
قال المغيرة لعمار فى الفتنة : (00 فهل لك يا أبا اليقظان أن تدخل بيتك، وتضع سيفك حتى تنجلى هذه الظلمة، ويطلع قمرها فنمشى مبصرين00؟ قال : أعوذ بالله أن أعمى بعد إذ كنت بصيراً قال: يا أبا اليقظا؛ إذا رأيت السيل فاجتنب جريته)( )0
وإلا فالأصل محاربة الباطل، والانتصار للحق، ولكن الفتن أحياناً تختلط فيها الرايات، ويمتزج فيها الحق والباطل، فيكون الموقف الشرعى، الابتعاد عن المشاركة، حتى لا يسفح الإنسان دم مسلم، ولا يشارك فى مقتل مؤمن، وفى هذا يشير المصطفى  كما قال أبو بكرة : (( إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول فى النار، قال: فقلت يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول00؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه))( )0
وفى حديث لأبى ذر أنه  قال له : (00 تلزم بيتك، قلت : فإن دخل على بيتى00؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف، فألق ثوبك على وجهك، يبوء بأثمك وإثمه))( )0
ومن حديث أهبان الغفارى يقول لعلى (رضى الله عنهما) :
إن خليلى وابن عمك عهد إلى ، إذا اختلف الناس، أن أتخذ سيفاً من خشب 00))( )0
(وفى هذا الباب متسع.. فلينظر فى أحاديث الفتن من كتب الحديث النبوى 0
والصبر الصبر
وخاتمة العلاج، وأول الدواء الصبر على المكاره والمصائب، والصبر أحد جانبى الإيمان، ولا ينفك المؤمن الطائع من بلاء يسلطه الله عليه، حتى يخرج من الدنيا نقياً من الذنوب 0
وقال القرطبى فى تفسير آيات البروج (4-7) ((قتل أصحاب الأخدود ))
(قال علماؤنا: أعلم الله- عز وجل- المؤمنين من هذه الأمة فى هذه الآية ما كان يلقاه من وحد قبلهم من الشدائد، يؤنسهم بذلك، وذكر لهم النبى  قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التى كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام فى صبره وتصلبه فى الحق، وتمسكه به ، وبذله نفسه فى حق إظهار دعوته، ودخول الناس فى الدين مع صغر سنه، وعظم صبره، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى، ورسخ الإيمان فى قلوبهم صبروا على الطرح فى النار، ولم يرجعوا عن دينهم00
قال علماؤنا: ولقد امتحن كثير من أصحاب النبى  بالقتل والصلب، والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شىء من ذلك، ويكفيك قصة عاصم وخبيب، وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق، وغير ذلك 000)( )0
وفيما ذكر تذكير، نسأل الله العافية لنا وللمسلمين حتى نخرج جميعاً من نفق الفتنة00 والله سميع الدعاء0

(27) وتزودوا
إن لكل سفر زاداً، ومن لم يتزود لسفره فهو أحمق، أو على جهل عظيم، فقد تشذ به الآراء، أو تنحرف به الأهواء، وإذا كان سفر الدنيا لا يستغنى المرء فيه عنه الزاد الذى يوصله إلى مبتغاه، والتزود للحرةل بما يوصله إلى منتهاه، فإن السفر مع الدعاة أولى إذ لابد للداعية فيه من زاد يقطع به الطريق، ويأمن به المكاره، ويرد به غائلة الفتن، ويحمى نفسه من بوائق المحن، وإذ كان الفقهاء من السلف قد قرروا أن سفر الأبدان دون التزود بالطعام لها مناف للتوكل بل هو بدع الجهلة والسفهاء، فإن التزود لسفر الأرواح أدعى أن يكون من منهاج النبوة، وأولى بالاتباع.. وقد أخذوا هذا المعنى من قوله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون (البقرة : 197)
مما يدل على تنوع الزاد، وأعلاها درجة التقوى 00
زاد المسافر
ومن أقوال الركب الميمون فى مقتضى الزاد للمسافر، ما حدث به عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- فى عبارة صريحة، فيقول :
(إن لكل سفر زاداً لا محالة، فتزودوا من الدنيا للآخرة، وكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه، ترغبون وترهبون، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، وتناقدوا لعدوكم فإنه – والله- ما بسط أمل من لا يدرى، لعله لا يصبح بعد مسائه، ولا يمسى بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغتراً، وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمن من أهوال القيامة 00)( )0
فانظر –أيها الداعية- إلى تأمل الراشد، وكيف يخشى على الداعية القديم قبل الداعية الجديد، وكيف يحذر من استطالة الأمد ومن ثم قسوة القلوب، وإن عدم التزود للسفر قد يقود للانقياد للعدو، أو اللجوء لغير الله تعالى فينتقل به المرء من حكم ظالم إلى أظلم، ومن جور إلى أشد جوراً، وانظر كذلك كيف يحذر من خطفات المنايا، وان لا يركن الداعين إلى ما يراه من أمان، أو يشعر به من اطمئنان، فإن هذا عين الاغترار، فالحصن الحصين هو الالتجاء لذى القوة المتين، ويتمم الخليفة الراشد رسالته إلى الدعاة، بما يغنى عن الشرح، وكأنه ينظر بعين الله إلى حال المسلمين اليوم، ويرشدهم إلى ما يحسن النقلة، ويجمل الرحلة بالتزود لها حتى يستوثق المسافر من النجاة (إن الدنيا ليست قدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل يخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة، فأحسن ما يحضر بكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفئ ظلال قلص فذهب، بينا ابن آدب فى الدنيا منافس00 إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلاً، وتجر حزناً طويلاً 00)( )0
أول الزاد
وأول الزاد ومتبدأه، وأساس التزود ومنتهاه، إنما هو الإخلاص، لأن كل عمل لا يراد به وجه الله باطل، وهجرة البدن ينبغى لها أن تكون لله تعالى ورسوله، وإلا فهى للدنيا أو ما يتفرع عنها، كما فى الحديث الصحيح المشهور0
وكذلك سفر الدعاة هو النوع الثانى من الهجرة، وهى الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله  وهى التى لا تقطع المفاوز إلا بها، ولا تنقضى المراحل إلا بمعيتها، وهى الفرض العينى على المسافر فى قطار الدعوة، فاستمع –أيها الداعية- إلى قول أخيك ابن القيم –رحمه الله- يناديك من زمن :
(فلما فصل عير السفر، واستوطن السمافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته، وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً، فأجال فكره فى أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، وينفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شىء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل واحد، فى كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها، وهى مطلوب الله ومراده من العباد، إذ الهجرة هجرتان:
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد 00
والهجرة الثانية : الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله –وهى المقصودة هنا- وهذه الهجرة هى الهجرة الحقيقية، وهى الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها 00)( )0

ففروا إلى الله
والإخلاص يقتضى أن يخرج الداعية كل شبهة من قلبه، فلا يؤمن حق الإيمان حتى يخرج الجاهلية منه، فلا يبرر المصلحة الخاصة أمام العامة، ولا يفوت الراجح لأجل المرجوح، ولا يدفع الضرر الأصغر بالضرر الأكبر، ولا يقدم إلا ما قدمه الله، ولا يؤخر ما أخره الله ، ويكون ميزانه على الأشخاص والمواقف والجماعات ميزان السماء، ولا يركن إلى ميزان الأهواء، فلا تكون الوطنية والإقليمية مقدمة على الإسلامية، ولا القومية والصعبية أولى من الآصرة الإيمانية، ولا أن تكون الأرض أعز من الفكرة، ولا التراب أولى من العقيدة، بل التجرد المطلق لله عز وجل، وهذا هو معنى الفرار إلى الله تعالى دون النظر إلى ما سواه 0
فالسفر لابد له من الفرار إلى الله، لأن هذا ما يتضمنه معنى الهجرة إليه 0
(وهى هجرة تتضمن (من) و(إلى)، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غير الله ورجائه، والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله، والخضوع له، والاستكانة له، إلى دعائه وسؤاله والخضوع له، والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى :ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين (الذاريات: 50)، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه)( )0
فمقتضى التوحيد يتضمن الفرار إلى الله، وهو الولاء له ولرسوله وشرعه، والبراء مما سواه 0
احذر الاستدراج
ومن مقتضى الإخلاص كذلك، أن لا تكون الدعوة مما يراد بها الدنيا، فترى حماسة الداعية ملتهبة ما دام مرتاحاً فى بلده، آمناً فى سربه، فإن أصابته فتنة، أو عمت عليه مصيبة، انقلب على وجهه، وتنكر للدعوة وأصحابها، واختلطت عليه الرايات، وتبدلت أمامه المواقف، فإن ذلك هو الانقلاب على العقبين، بل هو الخسران المبين0
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (الحج : 11)0
فالفتنة ينكشف فيها معدن الرجال، ويتميز بها الإخلاص الحقيقى عن الرياء، سواءً أكانت الفتن من النعم أم النقم، وهى علامات للإنسان يكشف بها عن طبيعة إيمانه، فينبغى للداعية إذاً أن ينظر لهذا الأمر الجلل، ليعرف مدى الإخلاص الحقيقى، ويحذر من الاستدراج، فقد يجلب له السفر مع الدعاة مغنماً، أو يمنح لارتباطه مع القافلة مركزاً، فيجعل الله له الثواب فى الدنيا، ويمنع عنه أجر الآخرة، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، بينما عمله عرضة للإحباط، لقد قال تعالى :
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (هود : 15)0
(وقيل المراد بالآية المؤمنون، أى من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب، ولم ينقص منه شيئاً فى الدنيا، وله فى الآخرة العذاب، لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال  : ((إنما الأعمال بالنيات)) فالعبد إنما يعطى على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمر متفق عليه فى الأمم بين كل ملة، وفى الخبر أنه يقال لأهل الرياء ((صمتم وصليتم00)) ثم قال : ((إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار 00)( )0
وقال ميمون بن مهران : ليس أحد يعمل حسنة إلا وفى ثوابها، فإن كان مسلماً مخلصاً وفى الدنيا والآخرة، وإن كان كافراً وفى فى الدنيا)( )0
ومن هنا على المؤمن الداعية الوجل، واستشعار الخوف من عدم قبول العمل، فقد يعجل الأجر بالثناء والمدح، أو بالشهرة والمركز، وقد يستدرج الداعية فيعوض بالعمل الدعوى، وبالوظيفة والسمعة، أو بلذة العيش ورفاهية السكن، ويحرم بعد ذلك كله من الأجر الخروى، ونظير ذلك ما قد يبتلى به عباده المؤمنين، من البلاء والفتن، ومن كوارث الإحن، فإذا ثبت على مبادئ العقيدة، واستقام على المنهج، زادت حسناته فى ميزان الله تعالى، وإذا انقلب على وجهه- والعياذ بالله- فإن فى الفتنة حصاد المنافقين، وبها يتميز معدن الإخلاص، ولاشك أن الانقلاب مراتب، والانحراف مدارج على قدر النقص فى الإيمان والضعف فى اليقين0
العلم الموروث
والزاد الثانى الذى يصحح به المسار، ويبصر به الطريق، العلم الموروث عن النبوة، والذى يكون النبراس الذى لا تختلط به الروايات، والضوء الذى يكشف تدليس الجاهليات، وليس العلم أحاديث وإشاعات العوام، ولا تدليس وأخبار الأعلام، وعن هذا يجيب ابن القيم – رحمه الله :
(فإن قلت : قد أشرت إلى سفر عظيم، وأمر جسيم فما زاد هذا السفر، وما طريقه وما مركبه00؟
قلت: زاده العلم الموروث من خاتم الأنبياء  ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين 000 فرفقاء المتخلف البطالون أكثر من أن يحصوا، فله أسوة بهم، ولن ينفعه هذا التأسى يوم الحسرة شيئاً، كما قال تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون (الزخرف :39)0
فقطع الله سبحانه وتعالى انتفاعهم وتأسى بعضهم ببعض فى العذاب، فإن مصائب الدنيا إذا عمت صارت مسلاة، وتأسى بعض المصابين ببعض، كما قالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولى
على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى ، ولكن
أسلى النفس عنهم بالتأسى
فهذا الروح الحاصل من التأسى معدوم بين المشتركين فى العذاب يوم القيامة)( )0
وما أكثر كلام الوعاظ والمتحدثين، وما أشد غثاءً الصحافة والإعلاميين، وفى زماننا ما أوسع ما تبصره العيون، وما أعرضم ما تسمعه الآذان، وليس من كل ذلك ضوء تبصر به المسالك، أو شمعة يضاء بها الطريق، فاحذر أيها الداعية من التخبط، فكل حزب بما لديهم فرحون، فإنما النجاة النجاة بحبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وعليك بمصباح النبوة إذا ازدحمت الخطوب، وأضواء الشريعة إذا ادلهمت الآراء، ونبراس الرسالة إذا تشعبت الأهواء 0
خير الزاد التقوى
فإذا اجتمع العلم الموروث مع العمل الصائب، فإن ذلك اجتماع الصواب مع الإخلاص، ويتحقق التوازن الذى يجعل المؤمن على الصراط المستقيم، ويتخلص من الانحراف مع المغضوب عليهم أو الضالين، إما بالزيغ نحو فتنة الشبهات بقلة العمل، أو نحو فتنة الشهوات بغلبة الهوى، فيتحقق بذلك حصول منزلة التقوى، والتى بها يحصل خير زاد للسائر على الطريق00 فكما أن سفر الدنيا لا يتم فضله، أو يسعد المسافر به إلا بالطعام والشراب، فكذلك سفر الآخرة، لا يتم إلا بالتزود بالتقوى، وفى هذا قيل :
(أما قوله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون (البقرة : 197) ففيه قولان: أحدهما –أن المراد : وتزودوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك: فإن خير الزاد التقوى واتقون (البقرة : 197) وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران :سفر فى الدنيا، وسفر من الدنيا، فالسفر فى الدنيا لابد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لابد فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه :
الأول : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن0
وثانيها : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم0
وثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة من شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال0
ورابعها : أن زاد الدنيا وهى كل ساعة فى الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهى كل ساعة فى الإقبال والقرب والوصول0
وخامسها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى 00( )0
فهنيئاً لمن تزود من الدنيا إلى الآخرة، ومن المحطة العاجلة إلى المحطة الآجلة، ومن ضيق المعاش إلى سعة المعاد، ومن دار الرحيل إلى دار البقاء 0
ومن الزاد لزوم الجماعة
فإذا اجتمع زاد الإخلاص والعلم، وتفاعلا فى بوتقة التقوى، صار لزاماً على الداعية التزود مع إخوانه أخذاً وعطاءً، فلا يجمل التزود إلا مع الرفقاء، ولا ينمو الفضل إلا مع الأتقياء، فكما أن بركة الطعام فى سفر الدنيا مع الجماعة، فإن نمو الأجر فى القول والعمل، لا تكون إلا مع ركب المؤمنين، وزيادة الفضل لا تربو إلا بمسيرة العاملين0
لقد حدد الإمام القرطبى معنى الجماعة بأنهم الإخوان الذين يكونون على مذهب واحد، أى فى منهج العمل والدعوة، فقال :
(والإخوان جمع أخ، وسمى أخاً لأنه لا يتوخى مذهب أخيه، أى يقصده )
وذلك بعد أن أورد نصوص الالتزام بالجماعة من السلف الصالح، فذكر ما يلى :
( وقال ابن عباس لسماك الحنفى : يا حنفى، الجماعة الجماعة فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت قول الله عز وجل : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا (آل عمران : 103) 0
فى صحيح مسلم عن أبى هريرة، قال رسول الله  : ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال))0
فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً، وذلك سبب اتفاق الكلمة، وانتظام الشتات الذى يتم به مصالح الدنيا والدين والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع، ونهى عن الافتراق الذى حصل لأهل الكتابين)( )0
ففى الجماعة –إذاً- بركة الزاد، وفى الرفقة يكون أمن الطريق 0
التنوع 00 بركة الجماعة
والسر فى بركة الجماعة00 التنوع فى العمل الصالح، تماماً كتنوع الأطعمة فى سفر الدنيا، وبالتالى يتكامل العمل فيغرف كل داعية من فضل صاحبه، أو يصحح كل مؤمن خطأ أخيه، فينال الجميع بركة الاجتماع، ويتحصل للكل فضل الالتقاء، وهذه سمة الإخوان الذين يغبطهم الصديقون والشهداء، بل هى صفة الأتقياء المؤمنين الذين تنقل أخبار مجالسهم بالملائكة السيارين، وهذا أصل التعاون على البر والتقوى0
(قال ابن خويز منداد فى أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغنى بماله، والشجاع بشجاعته فى سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد والواحدة (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، ويجب الإعراض عن المتعدى، وترك النصرة له، ورده عما هو عليه00)( )0
الدعوة مع الجماعة
ومن البركة – كما فى حديث مسلم- ما يناله المستطرق العابر عندما يجلس مع ركب المؤمنين، فينال المغفرة، لأنهم القوم الذين لا يشقى جليسهم، إذ فى مرافقة أهل الخير صلاح، وفى السفر مع الجماعة فلاح0
ولقد نقل القرطبى –رحمه الله- كلاماً لأحد وعاظ مصر عام 469هـ – حيث نوه الواعظ كيف نال كلب أهل الكهف فضل ذكره فى القرآن الكريم، فقال : (إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل وصحبتهم فذكره الله فى محكم تنزيله 00)ثم قال :
(إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء الأولياء، حتى أخبر الله تعالى بذلك فى كتابه جل وعلا، فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين، المحبين للأولياء والصالحين، بل هذا تسلية للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال 00) ثم استطرد القرطبى فى الشرح ذاكراً قول أنس بن مالك الوارد فى الصحيح :
(( فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم))
ثم قال :
وهذا الذى تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذى نفس، فلذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا غير مستأهلين، كلب أحب قوماً فذكره الله معهم 00 ، فيكف بنا وعندما عقد الإيمان، وكلمة الإسلام، وحب النبى ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء : 70)0
فما أحلى هذا الكلام، الذى يجب أن يشد عليه الداعية، فيلتزم بالركب الميمون، ولا يجعل للشيطان إليه سبيلاً، ويحاول جهده بدعوة الآخرين، ليزداد بذلك جمع المسافرين 0
دعوة لجميع الكواكب 00!!
والدعوة إلى الله يجب أن تكون لجميع الخلق، ولا ينبغى أن يزهد الداعية فى أحد من الخلق، فالدعوة للأقارب من النساء والرجال، وللصغار وللكبار، كما أنها لأهل البادية والحضر، وأصدقاء المدينة أو رفقاء السفر، والدعوة للعالم والجاهل وللقريب والغريب، كما أنها للعرب وغير العرب، بل لقد سبق العلماء بإدارك وجود كواكب أخرى، وأوجبوا دعوة الإسلام إلى أهلها إن ثبت ذلك 0
ومن طرائف ذلك، ما ننقله للقارئ عن الإمام القرطبى :
(00 فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى، اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم، لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام، لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وارداً، ولكان  بها مأموراً)( )0
فللنظر عبارته فى أنه إذا كان للدعاة وصول إلى أرض أخرى، لزمهم ذلك إذا استطاعوا تجاوز البحار، وبمثلها الوصول إلى كواكب أخرى، إذا استطاع البشر تجاوز الفضاء 0
والجهاد من الدعوة
وقمة الدعوة إلى سبيل الله، الجهاد فى سبيله، فهو سنام العمل الصالح، ورأس التزود فى سفر الآخرة، وبه النجاة من العذاب، والجهاد فى كثير من الآيات والأحاديث يرد بالمعنى العام، حيث يتضمن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإعانة المؤمنين فى السراء والضراء، والتعاون على البر والتقوى، قال تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (العنكبوت: 69)0
(00 أى جاهدوا الكفار فينا، أى فى طلب مرضاتنا، وقال السدى وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال، قال ابن عطية: فهى قبل الجهاد العرفى، وإنما هو جهاد عام فى دين الله، وطلب مرضاته 00 وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا، تقصيرنا فى العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا 00 وقال أبو سليمان الدارانى : ليس الجهاد فى الاية قتال الكفار فقط، وعظة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفيه مجاهدة النفوس فى طاعة الله 00)( )0
ويقاس على كل ذلك الوعظ والإرشاد، والكتابة والتصنيف، وتربية الأهل والأولاد على مبادئ الإسلام، وجمع التبرعات للعاملين والمجاهدين، وإعانة المظلوم والضعيف، وكشف الدعوات الباطلة، والرد على الأفكار المنحرفة وإعداد الناس لمرحلة التمكين0
جماع الأمر
أى أن أعمال الجهاد متفاوتة، ومقتضيات البر مختلفة، ولكنها جميعاً إما أمر بمعروف، أو عمل لأمر مشروع، أو إعراض عن منكر، فهو تقسيم ثالث للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بل هو تقسيم لجميع أعمال البر والمعروف، وهذا من إعجاز القرآن الكريم ، كما قال تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين(الأعراف : 199) 0
(هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة فى المأمورات والمنهيات، فقوله :خذ العفو دخل فيه صلة القاطعين، والعو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل فى قوله : وأمر بالعرف صلة الأرحام، وتقوى الله فى الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، وفى قوله وأعرض عن الجاهلين الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة 00)( )0
وفى النص من المعانى التى يمكن القياس عليها، وتغنى عن الاستطالة فيها 00
سبيل التزود
والخلاصة : أن الزاد علم وعمل، يقتضى الإخلاص لأولها والصواب لثانيها، وجماعها التقوى، ومع معرفة الزاد لابد من معرفة سبيل السفر فى القطار، ومن ثم كيفية الركوب0
(ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين :
أحدهما : أن لا يصبو فى الحق إلى لوم لائم، فإن اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه، ويجعله صريعاً فى الأرض0
والثانى : أن تهون عليه نفسه فى الله، فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال، فمتى خافت النفس تأخرت وأحجمت وأخلدت إلى الأرض، ولا يتم له هذا الأمر إلا بالصبر، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحاً رخاءً فى حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه، فبينما هو يخاف منها إذ صارت أعظم أعوانه وخدمه، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه00)( )0
فهذا هو سبيل السفر وطريقه، ومنهج التزود ومنهاجه 00
عودة على بدء
ومع معرفة السبيل، لابد من معرفة المركوب بعد التزود، وفى الأمر عود على بدء، إذ إن ذكر الإخلاص والصدق فى البداية، لابد من ذكره أيضاً فى النهاية، فالإخلاص هو المبتدأ أو المنتهى، ولابد منه فى أول العمل ومنتهاه، إذ لابد للسفر من صدق الالتجاء إلى الله، وتحقيق معنى العبودية له، بالدعاء والاستكانة والتضرع، فهو وحده ما ابتدأت به هذه الهجرة وله وحده تنتهى. قال ابن القيم فى رسالته (تحفه الأحباب) :
(وأما مركبه فيصدق اللجأ إلى الله والانقطاع إليه بكليته، وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه، والضراعة إليه وصدق التوكيل والاستعانة به، والانطراح بين يديه انطراح المكلوم المكسور الفارغ الذى لا شىء عنده، فهو يتطلع إلى قيمة ووليه أن يجبره ويلم شعثه، ويمده من فضله ويسترده، فهذا الذى يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفى عن غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها)( )0

(28) كواشف الأنفاق
فى أحد اقتباسات الإمام القرطبى ذكر قول الشاعر :
تقول ما لاح يا مسافر
يا ابنة عمى لاحنى الهواجر
ونقول :
وهكذا مسافر الدعوة، يتلوح وجهه بحر الهواجر، وينصب من عناء الطريق، ويشقى من وعثاء السفر، وتلفه ظلمة أنفاق الفتن، وتحد من سيره العوائق، وتجره لثقلة الأرض العلائق، ولكنه مع كل هذا، ينطلق فى سيره الميمون، على هدى من الله وبصيره، يستضىء بنور السماء، ويستهدى بسنة المصطفى  فلم تعد توقفه الظلمات، ولا تعيق سيره العقبات، مستعيناً وفق هدى القرآن والسنة على مجموعة من الكواشف والأضواء 0
أس الفضائل
وأولها العقل، وهو أمر زائد على مجرد إدراك المعلوم، (واعلم أن لكل فضيلة أسا، ولكل أدب ينبوعاً، وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل، الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً، وللدنيا عماداً، فأوجب التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين، قسماً وجب بالعقل فوكده الشرع، وقسماً جاز فى العقل فأوجبه الشرع، فكان العقل لهما عماداً 00)( )0
فالعقل شىء غير الوحى والمعرفة، ولكنه مناط التكليف، وبه يعرف الدين، ويفهم العلم فهو أفضل مرجو، كما أن الجهل أنكى عدو، وأن خير ما أوتى المسلم من المواهب العقل، وشر ما يحل عليه من المصائب الجهل، ولذا فإن من بين العوامل التى تميز البشر، وتفاضل بين الدعاة موهبة العقل، فوق موهبة العلم والصلاح، إذ به تتمايز الأهواء، وتتوضح به ملامح الفتن، وبه ينقذ من الوقوع فى المعاصى، وهو الحاجز عن التهور والاندفاع، أو عن النكوص والجبن، وبالعقل تعرف حقائق الأمور، وتتوضح مسالك السبل، ومن العقل ما هو غريزى كقوله تعالى :
أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون به 00 (الحج : 46) ومنها ما هو مكتسب، بل هو نتاج العقل الأول، وهو نهاية المعرفة فى إصابة الفكرة، وفى تمييز المعرفة، وهو مما ينمو إن استعمل، وينقص إذا أهمل، وذلك بكثرة الاستعمال وتنوع التجارب وممارسة الأفكار، ما لم تؤثر فيه الأهواء، أو تصده الشهوات0
تفكروا فى الخلق
ومن مقتضيات العقل التدبر والتفكر، وأخذ الأمور بمنهاجها السليم، دون تخبط أو جنوح، وبلا هوى وعاطفة، وإن التدبر هو النظر فى أواخر الأمور وعواقبها، والتفكر يفيد تكثير العلم بالعقل، واستجلاب ما ليس حاصلاً، وكذلك فى معانيهما التذكر المفيد لتكرار ما ينتج عن التدبر والتفكر، وتكراره على القلب حتى يزيد رسوخاً وتثبيتاً 0
وفى التدبر والتفكر تلقيح لألباب الرجال، وهو مفتاح خزائن العلم، ومنها تكون ثمرة العقل، ونتاج العلم، ومقود الخيرات 0
(وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه، وأنه من أفضل أعمال القلب، وأنفعها له حتى قيل : تفكر ساعة خير من عبادة سنة، فالفكر هو الذى ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافى عن دار الغرور، ومن مصييبة العمى والصم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور 00)( )0
التفكر عبادة
والتفكير والتذكر عبادة لقوله تعالى :
ويتفكرون فى خلق السموات والأرض (آل عمران : 191) ولقد حكى عن سفيان الثورى أنه تفكر يوماص فى السماء وخلقها حتى غشى عليه، وكان يبول دماً من طول حزنه وفكرته، وسئلت أم الدرداء عن أبى الدرداء فقالت : ((كان أكثر شأنه التفكر))، ويتضمن التفكر البحث فى العلوم المختلفة، وإطالة النظر فى خلق الله، كغرائب النبات ودورات الحياة فى البيئة، والتوسع فى النظر إلى وظائف أجهة الإنسان، والتفكر فى خلق الأحياء المختلفةن وعجائب الجبال والبحار والسهول والغابات، وأسرار الاستنباط البشرى من الصخور والآثار، وأشباه ذلك مما تزدحم به مكتبات اليوم السمعية والبصرية 0
ومع الأخذ بمنهج التفكر، فينبغى التنبيه على عدم المبالغة فيما يدعيه الصوفية فى أن التفكر أفضل من الصلاة، أو استغناؤهم بالتفكر عن بعض العبادة، أو إطالته إلى الحد الممجوج والمعطل عن أعمال الحياة، لأن خير الأمور أواسطها، وعلماء الأمة وسلفها كانوا على منهاج التوسط فى التفكير، وكل عبادة هى الأفضل فى وقتها، بل إن معظم العبادات لا تنفك عن شىء من التفكر 0
ولعل من نتائج التفكر، طلب العلوم المختلفة، وهى من الكواشف التالية 0
شمول وتخصص
ولابد من توظيف العلوم المختلفة لأجل الدعوة إلى الله تعالى، باعتبار أن بعضها يحقق مقاصد الشريعة، من حفظ الدين والعرض والنفس والمال، ومنها ما هو من الوسائل والأساليب، والتى يتخذ حكمها من حكم المقاصد والذى عليه مدار الأحكام كلها، فقد يكون من الواجب عندما لا يتحقق الواجب إلا به، وقد يكون من فروض الأعيان، كما يكون من فروض الكفايات، أى فيها ما ينبغى أن يفعله بعض الدعاة، وإلا وقع فى الأثم، ومنها ما يتناسب مع حجم المقصد وطبيعة الهدف0
ومن أجل هذا، كان تعلم الدعاة للعلوم الكونية أمراً مهما، لما فيه من تحقيق مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وجلب المصالح وفق السنن الكونية، ودفع المفاسد عنهم، بل إن لجميع العلوم الحسنة انعكاساً على أخلاق المرء وسلوكه (قال المزنى : سمعت الشافعى يقول : ومن تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر فى الفقه نبل مقداره ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلم الحسابب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه)( )0
فى العلم زيادة عقل
وطلب العلوم قد يتفاوت ويتوزع على مراتب الحكم التكليفى، ما بين فرض وواجب، أو مباح ومندوب، كما أن الأمر ليس بالضرورة بعمل تزيينى، وإنما قد يكون لذاته، لما فيه من مصالح العباد ، ولذلك قال الغزالى بفرضية الطب على الكفاية، وأن أهل القرية المسلمين جميعاً يقعون فى الإثم، ما لم يتصد منهم من يقوم بواجب تعلم الطب وممارسته، وكذلك ينبغى على الدعاة والمسلمين أن لا يتركوا بعض العلوم يسيطر عليها أهل الشرك والنفاق، ولهذا كان الإمام الشافعى يحذر المسلمين، ويدعوهم لتعلم الطب، حتى لا يحتكره النصارى فى بلاد المسلمين، فيا سبحان الله، ما أشبه اليوم بالأمس 00!!
قال الإمام الغزالى : (فلا عجب من قولنا أن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة.. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة، فالعمق فى دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يتسغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة فى القدر المحتاج إليه)( )0
وقد يكون التعلم لأجل المنهج كتعلم الرياضيات، إذ إنها تقود لتعلم الأقيسة، وكان السلف العلماء يتسلون بمسائل المواريث رغبة فى ذلك، وفى هذا يقول العلامة ابن خلدون فى مقدمته: (.. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلاً مزيداً، والصنائع أبداً يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمى مستفاد من تلك الملكة، فلهذا كانت الحنكة فى التجربة تفيد عقلاً، والحخضارة تفيد عقلاً… وهذه كلها قوانين علوماً فيحصل منها زيادة عقل 00)( )0
الفن العسكرى فى الشريعة
ومن علوم الدعوة النافعة، الأخذ بالعلوم العسكرية وفنون القتال، سواء أكان بالتعلم المباشر، أو بالعلوم المساندة، مما يتنوع بتغيير الزمان والمكان، والعلوم الجهادية متممة للعلوم الفكرية0
قال بان القيم: (فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثانى الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة، من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته، وشدة مؤنته وكثرة أعدائه 00) كما قال تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز (الحديد : 25) 0
فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين، كما قيل :
فما هو إلا الوحى، أو حد مرهف
تميل ظباه أخدعا كل مايل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل
وهذا دواء الداء من كل جاهل
ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة، يسمى سبيل الله فسر الصحابة-رضى الله عنهم- قوله :
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم (النساء : 59)
بالأمراء والعلماء، فإنهم المجاهدون فى سبيل الله، هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم)( )0
وقال شيخ الإسلام :
(.. ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد، كتاب يهدى به وحديد ينصره، كما قال تعالى :لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس (الحديد : 25) فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق فى العقود المالية المقبوضة، والحديد تقوم به الحدود على الكافرين والمنافقين0
ولهذا كان فى الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد، والميزان للوزراء والكتاب، وأهل الديوان، والحديد للأمراء والأجناد، والكتاب له الصلاة، والحديد له الجهاد، ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية فى الصلاة والجهاد00)( )0
والسياسة سبب التمكين
والعلم بالسياسة من مقتضى فهم الشريعة، ومن عوامل التمكين فى الأرض، وقد يظن بعض مسلمى اليوم أن هذا القول تكلف، أو أن السياسة لا علاقة لها بالدين، وما هى إلا من المصطلحات المحدثة، وما علموا أن من عربوا مصطلحات العصر أدركوا معنى الفعل (ساس) وأنه يقتضى أن تكون السياسة مفهوماً عربياً، ولقد استعمله الفقهاء وخصوه بالسياسة الشرعية، فهذا ابن تيمية يسمى رسالته (السياسة الشرعية)، وتلميذه ابن القيم يسمى رسالة أخرى (الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية)، بل واعتبر بفى كتاب آخر أن السياسة من وسائل التمكين فى الأرض، فقال متحدثاً عن فضل العلم، وما يتفرع من الفضل عن العلم بالسياسة: (000 وما حصل ليوسف –عليه السلام- من التمكين فى الأرض، والعزة والعظمة تعلمه بتعبير تلك الرؤيا، ثم علمه بوجوه استخراج أخيه من إخوته، بما يقرون به، ويحكمون هم به حتى آل الأمر إلى ما آل إليه من العز والعاقبة الحميدة، وكمال الحال التى توصل إليها بالعلم، كما أشار إليها سبحانه فى قوله :كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم (يوسف : 76)0
جاء فى تفسيرها: نرفع درجات من نشاء بالعلم، كما رفعنا درجة يوسف على إخوته بالعلم، وقال فى إبراهيم عليه السلام : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء (الأنعام : 83) فهذه رفعة بعلم الحجة، وتلك رفعة بعلم السياسة)( )0
ومن هنا يعلم ضرورة تعلم الداعية للسياسة، وفهم البواعث والأهداف والخليفات للمواقف السياسية، ومحاولة تحليلها ومعرفة أسبابها ونتائجها، ومن ثم توقع الأحداث والاحتمالات، ويخطط لذلك بوضع المناهج والبدائل، حتى يتحقق للدعوة التمكين فى الأرض0
وعلم السياسة يتضمن معانى عدة، أولها: النصح لجماعة المؤمنين، والولاء لهم، ثم البراءة من الكفار والمشركين، وكلها مظاهر للجهاد الذى من مقتضياته 0
(00 النصح لله، والإيمان به، والعمل بشريعته، وترك ما يخالفها، كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أولياً، نصح عباده ومحبة المجاهدين فى سبيله، وبذل النصيحة فى أمر الجهاد وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه00)( )0
تجنب الكتب الفاسدة
وكما ينبغى الأخذ من بعض العلوم بنصيب. فكذلك ينبغى عدم الأخذ من بعضها الآخر، كالعلوم المضرة فى الدنيا والآخرة، كعلوم الشعوذة والسحر والتنجيم، وما يجرى مجراها، ومنها كتب الفلاسفة والملاحدة، وكتب المنطق وترهات الجاهلية، وما تلقيه من الشبهات أو الشهوات، فالداعية المسافر فى قطار الدعوة، مسافر إلى ربه يجب أن لا تلهيه بنيات الطريق، فإن من ركب القطار لا ينبغى أن يفكر بعد فى لون القطار وأجرته، أو موعد انطلاقه وهوية سائقه، ولقد قال ابن القيم أن السالك إلى الله تعالى قد عرف رب الزمان والمكان، فلا ينبغى أن يبحث بعد عن معانى الزمان والمكان، بل أن ينطلق مسرعاً ليعوض ما فاته من الطريق0
ونذكر دعاة اليوم بالابتعاد عن أشباه هذه الكتب، ولا يقتدى ببعض خواص الدعاة، الذين لهم علم وتجربة تمنعهم من التأثر، أو تحجزهم عن الاضطراب، ولقد نبه الإمام الذهبى بعض تلامذته على ذلك، ومنعهم من الاقتداء ببعض العلماء، كاطلاع الإمام الغزالى على رسائل إخوان الصفا، فقال محذراً :
(00 لولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف، فالحذار الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم فى الحيرة، فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه فى الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين والله الموفق)( )0
وتعلم السلاح المضاد
كما ينبغى لبعض الدعاة التصدى للرد على الشبهات، ومعارضة المبطلين، كما انتدب بعض العلماء أنفسهم للرد على النصارى والكفار، والبعض على المبتدعة والمنحرفين، وخاضوا فى اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بأسلحتهم، ولكن دون مبالغة وإسفاف، ودونما جر لعموم المسلمين، بل إبقاء التلامذة والعموم، ومن درج من المسلمين متمسكين بالقرآن والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، وما أشبه الليلة بالبارحة، فنحن بحاجة إلى نقل ما قاله الإمام القرطبى0
(قلت: ومن نظر الآن فى اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين، فمنمزلته قريبة من النبيين، فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك المصطلحات، فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم)( )0
توازن فى الجماعة
إن الأصل فى الجهاد الدعوة والسيف، وقد تتغير أهمية كل منهما حسب الظروف والأحوال، والطاقة والاستطاعة، فالدعوة فى المراحل الابتدائية للحركة الإسلامية، وهى جهاد أهل الفسوق والعصيان، وهى الأمر الواجب عند دخول ديار الكفر بعهد أمان، والسيف هو الأصل لإزالة المنكر عند تعذر الوسائل الأخرى، وهو المرحلة المتقدمة للعمل الإسلامى، وبه يؤخذ عند الاستطاعة لجهاد الكفار وأهل الذمة، والفرض متعين لتعليم كليهما والقيام بهما ولابد للجماعة المسلمة من إرشاد أفراد منها لتعلم فنون كلا الجهادين0
(00 وكما يجب أن يكون فى عسكر الإسلام من يستعد لقوة الدين بالسلاح والعدة، فكذلك يجب أن يكون فيهم من يستقل لقوة المناظرة وتعريف الأدلة00)( )0
إذ إن الشريعة متوازنة، ولابد من حفظها بالوسائل المكافئة لها فجهاد اللسان،والقلم لتبليغ الدعوة، وجهاد السيف لحفظ الحركة 0
صناعة الحياة
ولكل ما سبق صناعة، فصناعة الفكر ما وقف منها على التدبيرات الصادرة كنتائج للآراء الصحيحة، كفن السياسة والإعلام، والإدارة والفنون، ومنها ما كانت نتائج للأفكار النظرية كما سلف فى الحديث عن العلم وربانية التعليم، أما صناعة العمل فهى التى تحتاج إلى معاطاة فى تعلمه، ومعاناة فى تصوره، وهنالك صناعات متفاوتة بينهما تجمع بين الفكر والعمل والحياة لا تنفك عن هذه جميعاً 0
والخلق متفاوتون فى إتيانهم لهذه الصناعات 0
(فلهذه أحوال التى ركبهم الله عز وجل فى ارتياد مواردهم، ووكلهم إلى نظرهم، فى طلب مكاسبهم، وفرق بين هممهم فى التماسها، ليكون ذلك سبباً لألفتهم، فسبحان من تفرد فينا بلطيف حكمته، وأظهر لفطنتنا عزائم قدرته)( )0
وما أحوج الدعاة هذه الأيام لتفهم نظرية صناعة الحياة، من أجل فهم العلاقات الحيوية بين مراتب وعلوم الحياة المتنوعة، واستثمار الحقائق الحياتية، وتعلم الطرق المنهجية فى البحث والاستقراء، حتى تسير الحياة كلها فى تيار واحد بما فيها من بشر وعلاقات وأموال وعلوم، وفق منهج الله الذى أراده فى الحياة، ومن أجل تجديد خطط الدعوة، وتجديد مسار القطار، وتقاسم الواجبات والأدوار 0
والمسافرون فى قطار الدعوة عليهم الإمساك بقيادة القطار، وزمام القافلة بالنزول إلى ساحة الحياة، بأفق حضارى شامل فى إصلاح الأدب، وأسلمة العلوم، وبناء الاقتصاد، وتحسين الذوق، وإصلاح العائلة، وإسالة المال الصالح للعمل الصالح0
الداعية المصباح
وبعد طلبك للعلوم، وصناعتك للحياة، لا تجعل قلبك أيها الداعية للشبهات والإيرادات كالإسفنجة تتشرب الماء فلا ينضح إلا ما فيها، بل كن كما قال ابن تيمية لتلميذه ابن القيم، حيث أوصاه بأن يجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بها فلا تستقر بها، إذ يراها بصفائه، ثم يدفعها بصلابته، وعلى الداعية أن يكون صاحب علم ويقين، فلا يغتر بأمر، بل يجوز النظر حتى يكتشف الحقائق، ويزداد تقرباً من الله تعالى، ولا يغتر بزيف الألفاظ، ولا أعلام الصور، مهما ترافق معه من جمال العبارة، وتحسين الصورة، وزيف الإخراج، وأن لا يكون من أهل العقول الصغيرة، وخفافيش البصائر 0
(وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالاتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ، من الحق والباطل، ولا تغتر باللفظ، كما قيل فى هذا المعنى 0
تقول هذا جناء النحل تمدحه
وإن تشأ قلت ذا قئ الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما
¬ والحق قد يعتريه سوء تعبير
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل، فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك من النفرة والميل، ثم أعط النظر حقه، ناظراً بعين الإنصاف، ولا تكن ممن ينظر فى مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظراً تاماً بكل قلبه، ثم ينظر فى مقالة خصومه وممن يسىء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق)( )0

ثم اثبت على الأمر
وتعلم الفنون وصناعة الحياة، قد تتقاذف الداعية فى أمواجها العاتية، فلا يصمد أمام الفتن والأهواء، أو لا يثبت أمام المحن والبلاء، فلابد من العودة إلى الثوابت مهما ساح فى الآفاق، والتمسك بالأصول مهما توسع فى الفروع، والاعتصام بالحبل المتين مهما تفرقت الأهواء، والالتزام بالمسلك المستقيم مهما تفرعت الشعب، والحذر من أهواء الباطل وسبل الشيطان، فإن المنقاد لها سيضيع مع التيار ((بخلاف الثابت التام فإنه لا تستفزه البداءات، ولا تزعجه وتقلقه، فإن الباطل له دهشة وروعة فى أوله، فإذا ثبت له القلب، رد على عقبيه، والله يحب من عبده الحلم والأناة، فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه، ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه، فالعجلة من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات، استقبل أمره بحزم وجزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش 000 ولهذا فى الدعاء الذى رواه الإمام أحمد والنسائى عن النبى  اللهم إنى أسألك الثبات فى الأمر، والعزيمة على الرشد، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وم أتى العبد إلا من تضييعهما أو من تضييع أحدهما، فما أتى أحد إلا من باب العجلة والطيش، واستفزاز البداءات له، أو من التهاون 00 وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانياً، أفلح كل الفلاح، والله ولى التوفيق )( )0
واستقم كما أمرت
ومن الثبات الاستقامة على المنهج لقوله تعالى : فاستقم كما أمرت (هود : 112)
وقوله  لسفيان الثقفى عندما سأله، فقال : ((قلت آمنت بالله ثم استقم))( )0
وارتباط الاستقامة – كما تشير الآية – مع الذين تابوا، تدل على أن طلبها للاستقامة على المنهج دون التواء، أو دونما تعلق برغبة الآخرين، أو طلباً للكسب السريع، أو مجاراة لأهل الأهواء، فالآية تشير بوضوح إلى طلب استمرار الدعاة على الطريق دون غلو فى الدين، أو زيادة فيه، أو التساهل مع الظلمة أو غوغاء الجماهير، أو الغلو فى التشدد ومخالفة السنن، وأن ما يحصل من انحرافات فى المنهج ما هى إلا ما بين تفريط وإفراط، إما محاولة لكسب مواقف، أو دفعاً لبعض مشقات الطريق، أو استعجالاً لمكاسب جزئية، والأصل فى منهج الدعاة، الاستقامة على ما يريده الله، وهو المتكفل بالنصر أو الغلبة أن يكتب على عباده ما يشاء، فليست النتائج من صنع البشر، وليست الاستقامة – على هذا- مع ما قد تؤديه من مخالفة بالعمل السهل على الدعاة، إذ لم يكن سهلاً حتى علىالمصطفى  فلقد أحس برهبة الاستقامة، وشدة الثبات على الطريق، كيف لا ، وهو يبين أن آية الاستقامة قد شيبته0
(00 فالاستقامة : الاعتدال والمضى على النهج دون انحراف، وهو فى حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحرى الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التى تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً 00 ومن ثم فهى شغل دائم فى كل حركة من حركات الحياة 0
وإنه لما يستحق الانتباه هنا أن النهى الذى أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة 00 وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه فى الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهى إلى الغلو والمبالغة التى تحول هذا الدين من يسر إلى عسر 00 والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير0 وهى التفاته ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء 00)( )0
ومن هنا لا ينبغى لصاحب الدعوة إلى هذا الدين، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين مما يوجه إليهم الدعوة، فى تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية، ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم0
قاعدة لابن القيم
ونختتم بقاعدة لابن القيم رحمه الله، يحدث فيها السائرين إلى الله فى هذا المجال فيقول :
(00 السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية، فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى فى ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها، فلا يضل عنها فيكشف له النور عن الأمرين أعلام الطريق ومعاطبها، وبالقوة العملية يسير حقيقة بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر المغابر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقى عليه الشطر الآخر، وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً فى الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر، كلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقى، وبرد العيش عند الوصول فيحدث لها ذلك نشاطاً وهمة فهو يقول: يا نفس أبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة فإن صبرت وواصلت السرى وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعى فى المفازة، فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين، فإن استصعبت عليه، فليذكرها ما أمامها من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء، فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها، وإن وقفت فى طريقها أدركها أعداؤها، فإنهم وراءها فى الطلب، ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت0
وليجعل حديث الأحبة حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها، ولا يوحشه انفراده فى طريق سفره، ولا يغتر بكثرة المنقطعين، فألم انقطاعه وبعاده، واصل إليهم دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم، فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم، وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم، بل هى من عوارض الطريق فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم، فيا قرة عينه إذ ذاك ويا فرحته إذ يقول : يا ليت قومى يعلمون( ) (يس : 26)0

(29) واحة المسافر
لابد للمسافر المتعب، وقلب الداعية المكدود، والنفس التى هدتها الوعثاء، لابد من واحة يستراح فيها من نصب الطريق، وروضة يحبر فيها من عناء المسار، ودوحة يلاذ بها من لأواء العوائق، وما هذه الروضة أو تلك الواحة، إلا الرقائق التى تزكى القلب، والمواعظ التى توازن الفكر، والسكينة التى يلجأ إليها المؤمن000 ويرمز لهذه المواعظ والرقائق بالواحة الإيمانية، ذات الأشجار المورقة، التى بها وعندها يستريح المسافر عندما يقطع بعض أشواط الطريق، ونرجو –أيها القارئ- أن تتمتع معنا بالتجوال فى هذه الواحة 0
أصالة الرمز وتأصيل التشبيه
وتشبيه الأفكار والمواعظ، برمزية الأشجار الباسقة، أوالحشائش المعشبة، ليس بغريب عن نصوص القرآن، ولا على مجازات الحديث، إذ فيهما الكثير والكثير من ذلك، مما يدل على وحدانية الخالق، وفردانية الصمد، بتشابه الخلق، ووحدة الحياة، إذ إن له فى كل خلق آية، تدل على أنه الواحد المتفرد، فإن ما بين خلقه من ترابط يشهد للخالق بالتوحيد، ويلهج صامتاً بالتسبيح0
ومن خلال مؤثرات الفطرة والوعى لا يزال الدعاة يستعملون مثل هذه التشبيهات بالشجر فى التعبير والتمثيل، لشهودهم الربط الجامع، واستيعابهم الإشارة لما بين معانى الإيمان وخصائص الشجر فى التكوين والخلق وفى المظهر والإنتاج، وبحسبنا هنا أن نستمع من أحدهم وهو يسقى شجراته (العشر) فى واحة (الرقائق)، مذكراً إيانا بهذه المعانى، ومرخصاً لنا باستمرار الغرس، واستلهام المزيد من حكمة الأشجار، وعبرة الغراس فقال أخوانا فى الله، الراشد ((00 فاخرج وتجول متأملاً : تجد أخلاق الإيمان قد ما زجت الخضرة، وأن لكل شجرة تعبيراً عن شىء من محاسن الخصال يمازج سجودها ويقترن بمظهر عبوديتها لله خالقها0
ومن ها هنا كانت سويعات الخلوة بين الشجر سبب ذكرى للغافلن وسبيل إنابة، ومما ينبيك عن صدق ظننا الحسن هذا بالأشجار أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثل الكلمة الخبيثة المنافية للتوحيد كشجرة خبيثة، لكنها ليست قائمة، بل اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فليس من شجر واقف إلا ويعظك بكلمة من الإيمان ))( )0
تشابه وتباين
ولئن كان الشجر والبشر كلاهما من خلق الله، يشهد خلقهما بوحدانيته، فلا يقتصر التشبيه على تكوينهما فحسب، بل ويمتد إلى صفات شتى، فمن الشجر ما يعطى ومنها ما ياخذ دون عطاء، ومنها ما هو للغذاء أو الدواء ومنها ما هو داء، ومنها ما أصله ثابت وفرعه فى السماء، ومنها ما يجتث من الأرض ما له من قرار، ومنها ما يكون جذيلاً محككاً ترتبط به النفوس، ومنها ما لا يصلح إلا للزينة، ومن الشجر ما يثبت عند العواصف، ومنها ما تعصف به الريح فتعجفه مرة واحدة، 000 وفى كل منها للداعية تأمل، وله منها استلهام، ولقلبه فيها عبرة، ويضرب الله الأمثال للناس (إبراهيم : 25)0
ولقد ضرب الله تعالى مثلاً من الأشجار سدرة المنتهى، والتى نؤمن بها دون تأويل ولا تعطيل، ولكن يؤخذ منها روعة التشبيه بالإيمان، وما الله أعلم به من دلائل ملكوته، وعجائب قدرته ((00 وقال الماوردى فى معانى القرآن له : فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذى يجمع قولاً وعملاً ونية، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها منزلة القول لظهوره))( )0
التوحيد 00 غاية النظر
والناظر فى خلق الله تعالى لا يعوزه الاستدلال فى إيجاد التشابه بين المخلوقات، بل وبين أجزائها من جذور وسيقان وورق، وما ينتابه من شعور بإبداع الخلق، وفضل الخالق، وما ينبغى على المؤمن من شكر الله تعالى، والإنكار على الجاحدين، وما يتعلم من التشابه والمناظرة ما يعينه على أمور الدنيا0
فواعجباً كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
ولله فى كل تحريكة
وتسكينة أبداً شاهد
وفى كل شىء له آية
تدل على أنه واحد
((فجدير بمن له مسحة من عقل أن يسافر فكره فى هذه النعم والآلاء، ويكرر ذكرها لعله يوقفه على المراد منها، ما هو؟ ولأى شىء خلق؟ ولماذا هيئ؟ وأى أمر طلب منه علىهذه النعم؟ كما قال تعالى : فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (الأعراف : 69) فذكر آلائه تبارك وتعالى ونعمه على عبده سبب الفلاح والسعادة، لأن ذلك لا يزيده إلا محبة الله وحمداً وشكراً وطاعة، وشهود تقصيره، بل تفريطه فى القليل مما يجب لله عليه، ولله در القائل :
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ( )
شجرة الإيمان
وأول أشجار واحة المسافر وأعظمها، بل أسها وقاعدتها شجرة الإيمان، إذ لا يصح عمل بدونه، ولابد من وجودها فى كل واحة من واحات الإيمان، وهى التى قال عنها تعالى : ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء (24) تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (إبراهيم : 24،250
حيث مثلت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، حتى قال كثير من السلف: إن الكلمة الطيبة هى (لا إله إلا الله) أساس التوحيد وقاعدته، وقيل عن الشجرة: إنها النخلة باعتبار أن أصلها ثابت كما فى حديث ابن عمر فى الصحيحين، ولا خلاف بين الحقيقة والمجاز، بل هو تأكيد لوحدة الخلق، ووحدانية الخالق، ويجوز أن يكون المعنى ((أصل الكلمة فى قلب المؤمن- وهو الإيمان- شبهه بالنخلة، وثواب الله له بالثمر00 ويجوز أن يكون المعنى: أصل النخلة ثابت فى الأرض، أى عروقها تشرب من الأرض، وتسقيها السماء من فوقها، فهى زاكية نامية 000))( )0
وكذلك المؤمن خلق من طينة الأرض، وروحه متعلقة بهدى السماء، وينتفع بمصاحبته، وبمجالسته وبمشاركته، صلب عند ريح الشدائد، لا ينعجف عند الأعاصير، يرميه الناس بالحجر، فيمنحهم الثمر، الإيمان ثابت فى قلبه وعمله وقوله، وتسبيحه مرتفع عال فى السماء، يكسب من بركة الإيمان وثوابه فى كل الأحيان كما ينال من ثمرة النخلفة فى كل الأوقات، ولقد أطال بعض العلماء فى محاولة إيجاد الشبه بين الإنسان والنخلة، ولا تكاد تخلو التشبيهات من تكلف أحياناً، ومن صحة فى معظم الأحيان، ونكتفى بإحالة القارئ إلى ما ذكره ابن القيم رحمه الله فى كتابيه (إعلام الموقعين)، وكتاب (مفتاح دار السعادة)0
شجرة العلم
والعلم قبل العمل، وهو أول مدارج السالكين بعد استقرار الإيمان فكان استناد الداعية المسافر إلى شجرة العلم من أهم المنازل، للتزود بطاقة العمل الصائب، والعلم ضرورى فى أول طريق المسافر، وأثناء السفر والانقطاع، وفى كل مرحلة من مراحل السير، وعلم الله لا ينفد، وكلما استزاد الداعية منه كلما سهل عليه الطريق، وتوضحت له المسالك، وسهل له التخلص من العلائق، وتيسير له تجاوز العوائق، والعلم لا ينفد لأنه من كلمات الله تعالى : ولو أنما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم(لقمان:27). شجرة العلم تتميز عن غيرها بثمرتها وثمرة العلم فى تشبيهات الكثير من العلماء هو العمل، فما أحوج المسافر فى قطارنا إلى الأخذ بالعلم، ثم العمل بعلمه، وحث النفس على الائتمار بما أمر به، وأن يكون ممن يستمع القول ويعمل به، وأن لا يقول ما لا يفعل، فإن إصرار النفس يغريها، وقد يحسن لها مساويها، فإن من قال ما لا يفعل فقد مكر، ومن أمر بما لا يأتمر به فقد خدع، فما أحلى شجرة العلم من شجرة، وما أنفعها فى العمل العاجل، وما أحلى ثمرتها فى الثواب الآجل0
والشجرة الثالثة
وشجرة العلم ثمرتها العمل، والعمل من مقتضيات الإيمان، ولكن ليس على الداعية ضمان الثمر، أو انتظار النتائج، فإن الله تعالى تكفل عنه بذلك، وتنحصر مهمة الداعية فى بذر الخير، وغرس المعروف، وقد ينفع الله الخلائق بكلمته، أو يهدى الله أهل الضلال بمعروفه، ورب كلمة تدخل صاحبها الجنة، فكان غرس الداعية (شجرة العمل) أمراً مطلوباً يبينه حديث المصطفى  فى مسند الإمام أحمد (إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)( )0
فلتنظر –أيها الداعية- كيف يأمل المصطفى  بغرس فسيلة قد لا ينتفع منها أحد، ومع أهوال يوم القيامة، ليركز معنى الحرص على الغراس دون النظر إلى النتيجة، وربما يموت المرء ويكتب له الأجر على كلماته وأعماله، وليس هناك أكثر فضلاً من دعوة الخلق إلى الخير، حيث يكتب للداعية أجر الآخرين دون أن ينقص من أجورهم شيئاً0
وشجرة للذوق والجمال
ولعل من معانى غرس الفسيلة أيضاً معنى التذوق والجمال، الذى ينبغى أن لا ينفك عنه الداعية، حتى ولو يكن لمكسب أو إنتاج واضح، وإن كان للذوق الرفيع وجمال الكون مظهر من مظاهر التسبيح للخالق، والنظر فى ملكوت الله عز وجل، مما من الله به علينا، ونبهنا على شجرة الذوق والجمال، بذكره للحدائق ذات البهجة، فقال عز وجل من قائل : 00 وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (النمل : 60)0
((إنه تعالى يبين أنه الذى اختص بأن خلق السموات والأرض00 وذكر أعظم النعم وهى الحدائق ذات البهجة، ونبه تعالى على أن هذا الإنبات فى الحدائق لايقدر عليه إلا الله تعالى 00 وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة 000)( )0
ومن أجل هذا منع الإسلام قطع الأشجار دون منفعة ودعا إلى التمتع بملكوت الله عز وجل، واستلهام العبرة منه0
شجرة لا شرقية ولا غربية
وبعد العمل المرتبط بالإيمان لابد من التذكير الدائم، بأن كل قول وعمل لا يقبل ما لم يرد به وجه الله عز وجل، فكان لابد من الإخلاص قبل العمل وأثناءه وبعده كى لا يصيبه النقص، أو يعتريه الإحباط، فكان للداعية من التمسك بشجرة الإخلاص فهى أساس الإيمان، وهى بريد العمل الصالح للقبول، وما شجرة الإخلاص إلا دواء القلب الناجع، وسر الصفاء المضىء، وكلما كان إخلاص الداعية لله كبيراً، كلما ازداد إشعاع الإيمان منه وانتشر، وبلغت كلماته القلوب، واخترقت مواعظه النفوس، وأحيت عباراته الهالكين، وأيقظت حماسته الغافلين، ولقد ضرب الله تعالى لنفسه مثلاً من المشكاة والمصباح فقال عن نوره: 00 يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شىء عليم (النور: 35)0
ووصف الله تعالى زينتها بأنه يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار، لأن الزيت إذا كان خالصاً صافياً ثم رؤى من بعيد يرى كأن له شعاعاً، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور، وهدى على هدى، قال يحي بن سلام: ((قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له، لموافقته له))، وهو المراد من قوله  : ((اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله000))( )0
رة المباركة تعطى الإشارة عن مفهوم 4 لذا فإن هذه الشجرة الإخلاص، وعن الفراسة والإلهام، كما أنها توحى بواسطية هذا الدين بين الغالى فيه والمتجافى عنه، وعن وسطية هذه الأمة بين الأمم كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس00 (البقرة : 143) 0
شجرة الدعوة
وشجرة سادسة اختص بها المسافر فى قطار الدعوة، ألا وهى شجرة الدعوة، كأحد أشجار العمل المثمرة، وهى أساس تميزه عن غيره من ركب المؤمنين، ومثلها رسول الله  بشجرة الأترج (ويقاس عليها نظائرها كأشجار البرتقال)، حيث شبه الداعية القارش للقرآن العامل به، فقال –كما فى الصحيحين- (( مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن كمثل الأترنجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل الفاجر الذى يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذى لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها))( )0
(( قال الطيبى: اعلم أن هذا التشبيه والتمثيل فى الحقيقة وصف لموصوف اشتمل على معقول صرف لا يبرزه عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس بالمشاهدة، ثم إن كلام من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير وهو المؤمن القارئ، ومنهم من لا نصيب له ألبته، وهو المنافق الحقيقى، ومنهم من تأثر ظاهره دون باطنه وهو المرائى أو العكس، وهو المؤمن الذى لم يقرأه، وإبراز هذه المعانى وتصويرها فى المحسوسات ما هو مذكور فى الحديث، ولم نجد ما يوافقها ويلائمها أقرب، ولا أحسن، ولات أجمع من ذلك، لأن المشبهات والمشبه بها واردة على التقسيم الحاصر00 فعلى هذا قس الأثمار المشبه بها))( )0
فالداعية – قارئ القرآن – لا يقتصر نفعة على نفسه فحسب، بل ويتعدى نفعه إلى جميع الخلق، فيكون كالثمر اللذيذ الطعم بذاته، وتتعدى رائحته الطيبة إلى الآخرين0
شجرة الأخوة
ولا تتم متطلبات الدعوة والعمل لها إلا بالأخوة التى تدعم روابط الجماعة المؤمنة، حيث رابطة العقيدة والإيمان، ورابطة الفكرة والالتزام، ورابطة العقد والانتظام، وتتفرع عن شجرة الأخوة طائفة من الخصائص ويكتفى هنا باثنتين منها، إذ يمكن استعمال رمزية الشجر حولهما، كما ذكرها القرآن الكريم0
أولها: التطوير والنمو فهى صفة لركب المؤمنين، كما ورد فى حديث هرقل المشهور أنهم يزيدون ولا ينقصون، وكذلك وصفهم الله تعالى فى صورة الفتح0
سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيماً (الفتح : 29)0
(أى وصفوا فى الكتابين به ، ومثلوا بذلك لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً، وله نمو إلى حد الكمال، فكذلك المؤمنون)( )0
فلا ييأس الداعية من ضعف الجماعة المؤمنة، ولا يبتئس من قلة المعين والنصير، فهذه هى سنة الدعوات، تماماً كما هى سنة الزروع، كما أخبر بذلك الكتاب العزيز 0
وثانيهما: الستر على زلات الإخوان، إذ ستر الله تعالى على نبيه يونس عليه السلام بعد تعرضه للبلاء الشديد بشجرة اليقطين، فكانت رمزاً للمؤمنين على ما يسترهم الله تعالى به، وعلى ما يجب على المؤمنين من ستر بعضهم لبعض، حيث قال تعالى : وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ((قال المبرد والزجاج: كل شجر لا يقوم على ساق، وإنما يمتد على الأرض فهو يقطين.. وروى الفراء أنه قيل عند ابن عباس: هو ورق القرع، فقال : ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً؟ كل ورقة اتسعت وسترت فهو يقطين))( )0
ولا معنى لأخوة الدعاة دون الأخذ بمبدأ الكف عن الأعراض والنقد والملاحاة (( فلأن عدمه ملاذ السفهاء، وانتقال أهل الغوغاء، وهو مستسهل الكلف، وإذا لم يقهر نفسه عنه برادع كاف، وزاجر صاد تلبط بمعاره، وتخبط بمضاده، وظن أنه لتجافى الناس عنه حمى يتقى ورتبة ترتقى، فهلك وأهلك))( )0
شجرة الجهاد
أما الشجرة الثامنة فهى ((شجرة الجهاد)) سنام الإسلام، وذروة الدعوة فيه، يركن إليها المسافر بعد استكمال العدة بقوة اليقين بالإيمان الراسخ، وقوة الإعداد بالأخوة والنظام، وقوة التمكين بالأيدى والأبصار، ويقتضى الاستناد بهذه الشجرة البذل للنفس والمال والوقت، فدعوة السماء لا ترتضى ((بدون مثل هذا البذل، ومنزلة الصديقين والشهداء لا يدركها إلا من استفرغ الجهد، وتخلصت نفسه من ضغوط نفسه، فلقد حفت الجنة بالمكاره، وعن هذا يخبرنا رب العزة بقوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة000 (البقرة : 261) ، (( لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين حث على الجهاد، واعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذى لا يأتى به إلا نبي، فله فى جهاده الثواب العظيم 00 وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارعه زرع فى الأرض حبة، فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعنى أخرجت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع، وشبه الصدقة بالنهر، فيعطيه الله بكل صدقة سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى : والله يضاعف لمن يشاء  (البقرة : 261) يعنى على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع ، إن كان حاذقاً فى عمله، ويكون البذر جيداً وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر فكلذلك المتصدق إذا كان صالحاً، والمال طيباً، ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر ))( )0
والتشبيه بالسنابل لا يوحى بمعنى الجهاد والتضحية فحسب، بل وبه معنى النماء والتطوير، حيث النماء بالأجر والثواب، كما أن هذا النماء وهو من فضل الله تعالى على عباده، ويتضاعف بالنية، إلا أنه يتضاعف بالأثر الحسن، فتقريب فرد إلى قطار الدعوة، أو إصلاح فاسق، يقود بذاته إلى المزيد من الخير، ورب كلمة ينتفع بها خلق كثير، فيكتب الأجر لصاحبها، بل ورب معروف يكتب لصاحبه الأجر إلى قيام الساعة، والله ذو الفضل العظيم0
شجرة الابتلاء
وشجرة الجهاد والسعى إليها محفوف بالابتلاء، والابتلاء الشجرة التاسعة، وهو طريق الدعوات، وفيه يمحص الله المصلح من المفسد، وفيه تختبر النفوس، وشجرة الابتلاء صنوان لقوله تعالى:ونبلوكم بالشر والخير فتنة (الأنبياء:35)0
فالصنو الأول منها، الابتلاء بالسراء وهو ما ابتلى به أبو البشر آدم عليه السلام، فنزل مزوداً برصيد التجربة الأولى، وظلت فى عقبه، حيث امتحنه الله تعالى وقال له : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (البقرة : 35)0
ولقد اختلف الناس كثيراً فى نوع الشجرة، وزادت الإسرائيليات هذا الاختلاف بما لا يعضده دليل، والعبرة هى معصية آدم لأكله منها، وتعرضه لفتنة الابتلاء ((قال ابن عطية: وليس فى شىء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة، فخالف هو إليها وعصى فى الأكل منها، وقال القشيرى أبو نصر: وكان الإمام والدى يرحمه الله يقول : يعلم على الجملة أنها شجرة المحنة))( )0
وصنو الشجرة الآخر، الابتلاء بالضراء وما ينبغى على المؤمن من الصبر عليه فلقد ورد فى الصحيحين التشبيه بخامة الزرع نقتبس منها نصين وردا فى البخارى (10/103) حيث قوله  : ((مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة))
(( مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكاد بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء ))
((قال المهلب: معنى الحديث أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر، ورجا فيه الخير والأجر، فإن اندفع عنه اعتدل شاكراً، والكافر لا يتفقده الله باختباره، بل يحصل التيسير فى الدنيا ليتعسر عليه الحال فى المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه فيكون موته أشد عذاباً عليه وأكثر ألماً فى خروج نفسه 0000))( )0
فإذا ما فاز المؤمن بالنجاة من الفتنتين كان فى ركب الفائزتين يوم القيامة برحمة من الله تعالى ومغفرة 0
والزهد 000 آخر الواحة
وقبل مغادرة الواحة لابد من التعرف على الشجرة العاشرة وهى شجرة الزهد، إذ يتمكن الداعية من الأخذ بالعلم، والقيام بالعمل وممارسة الجهاد، وتجاوز الفتن بالزهد فى الدنيا، والابتعاد عن ملذاتها، وقد ورد فى الحديث النبوى الشريف (( عن ابن مسعود أن رسول الله  نام على حصير فقام وقد أثر ذلك فى جسده، فقال له ابن مسعود: يا رسول الله لو أمرت أن نبسط لك ونعمل، فقال ما لى وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها00))( )0
فما أحوج الداعية إلى الركون إلى شجرة الزهد ، حتى يتمكن من متابعة السير 000

(30) استلهام المعرفة
أخى المسافر : لقد طال بنا العهد، وانقطع بنا اللقاء وما ذلك إلا بسبب فتن ظلماء وعقبات كأداء، وما كان ينبغى لنا الانقطاع، فقافلة الحياة تسير، وسنة الله تعالى ماضية، فأستأنف معك الرحلة فى حلقة أخيرة، ننهى بها المرحلة الأولى، لعلنا ندخل وإياك فى مرحلة جديدة، تقربنا إلى الله عز وجل، وتوصلنا إلى الهدف المرتجى0
من كل ألف واحد
وبعد الاقتراب من نهاية الرحلة فى قطار الدعوة، لابد من التذكير بضرورة علو الهمة، كيف لا وقد اقتربت الأهداف، وتميزت السبل، فلا بد إذن من التهيؤ للعمل، والاستعداد للأهبة، إذ كلما ازداد التعب والنصب كلما انخفضت همم السائرين، ولكن القلة الصابرة، والمجموعة المبايعة هى التى تظل سائدة على الحق مهما ازدحم ظلام الطريق، وتثبت على الاستمرار مهما اشتدت لأواء السبيل، وفى هذا يتحدث ابن القيم رحمه الله لهذه القلة، مفترضاً النسبة فيها الواحد من الألف من هؤلاء الذين يتساقطون فى الطريق، أو يتقاعون عن المسير فيقول: ((ونهض من كل ألف واحد وقالوا: والله ما مقامنا هذا فى ظل زائل تحت شجرة قد دنا قلعها، وانقطاع ثمرها، وموت أطيارها، ونترك المسابقة إلى اظل الظليل الذى لا يزول، والعيش الهنئ الذى لا ينقطع، إلا من أعجز، وهل يليق بالمسافر إذا استراح تحت ظل أن يضرب خباءه عليه ويتخذه وطناً خشية التأذى بالحر والبرد، وهل هذا إلا أسفه السفه، فالسباق السباق والبدار البدار0
حكم المنية فى البرية جارى
ما هذه الدنيا بدار قرار
اقضوا مآربكم سراعاً إنما
أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل السباق وبادروا
أن تسترد فإنهن عوارى
ودعوا الإقامة تحت ظل زائل
أنتم على سفر بهذه الدار
من يرج طيب العيش فيها إنما
يبنى الرجاء على شفير هار
والعيش كل العيش بعد فراقها
فى دار أهل السبق أكرم دار( )0
همة واقتحام
فانظر – اخى الداعية – كيف استعمل ابن القيم مجازات السفر، والتى ما انفكت تتكرر علينا عبر الأجيال، لتأكد المعانى الحقيقية لسير الدعاة، وتثبت القواعد الأساسية فىمسيرة الدعوة، ثم يؤكد على القلة الثابتة ضرورة عدم استيحاش الطريق، وتجاوز أسباب الفتور، والسمو إلى أعالى الهمم، فيقول :
(فاقتحموا حلقة السباق، ولم يستوحشوا من قلة الرفاق، وساروا فى ظهور العزائم، ولم تأخذهم فى سيرهم لومة لائم، والمتخلف فى ظل الشجرة نائم، فو الله ما كان إلا قليل حتى ذوت أغصان تلك الشجرة، وتساقطت أوراقها وانقطع ثمرها، فى حر السموم يتقلبون، وعلى ما فاتهم من العيش فى ظلها يتحسرون، أحرقها قيمها فصارت هى ومنا حولها ناراً تلظى، وأحاطت النار بمن تحتها فلم يستطع أحد منهم الخروج منها، فقالوا : أين الركب الذين استظلوا معنا تحت ظلها؟ ثم راحوا وتركوه، فقيل لهم : ارفعوا أبصاركم تروا منازلهم، فرأوهم من البعد فى قصور مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع اللذات فتضاعفت عليه الحسرات، ألا يكونوا معهم وزاد تضاعفها بأن حيل بينهم وبين ما يشتهون، وقيل : هذا جزاء المتخلفين وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون000 (النحل:118)( )0
علوم الرواد
ولما كان الحديث فى هذه الحلقة للمجموعة المنتقاة، الجماعة المختارة، فسوف يكون الحديث هنا عن وسائل الدعوة التخطيطية فى استلهام المعرفة الإنسانية، ليكون من هؤلاء الدعاة بناة الحضارة وصناع الحياة، فلابد لكل منهم بعد أن حلق فى خلوص العمل، وبنى أساسه على صواب العلم من معرفة الأمور بهمة تتراوح ما بين معرفة الواقع وإدراك الجاهلية، وحتى السياحة والوعى الحضارى مروراً باستلهام المعارف والتاريخ 0
لقد أدرك العلماء قديماً أهمية المعارف لتشابك العلاقات فى الحياة، ولكن أشكل عليهم الحد المناسب منها، أو أهملوا وضع الضوابط لها، فبالغ البعض فىوصفها وجعلها بمرتبة فروض الأعيان أو الكفاية، كما رفضها البعض الآخر على اعتبار أنها ليست من أسس الدين، والصواب أنها ليست من الواجب المحتم العام على كل أحد، وفى كل وقت كما أنها ليست من الواجب المحتم العام على كل أحد، وفى كل وقت كما أنها ليست محرمة ومكروهة وإنما تأخذ حكمها من الوجوب أو الاستحباب فى بعض الأزمان، وعلى بعض الأشخاص، بقدر خدمة تلك المعارف، أو المدارات لأهداف العقيدة، ومصالح الدين، ومقاصد الشريعة0
(وبالجملة، فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف على شىء منها كان ذلك واجباً وجوب الوسائل، ومعلوم أن ذلك التوقف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان، فليس لذلك حد مقدر، وإنما ضوابطها المصلحة، وفق الظروف والأحوال والعوائد دون تمحك وتعصب أو تعنت وتكلف( )0
معرفة الجاهلية
وأول هذه المعارف مما ينبغى لرواد الدعوة معرفته هو فهم الجاهلية وأبعادها ووسائلها، وقد يبدو للبعض أن معرفة الإسلام وحدها تكفى، بينما شعار التوحيد ذاته نفى وإثبات، حيث إثبات الألوهية لرب العزة وحده، ونفيها عن غيره، وبمقتضى ذلك فكل تصديق بأركان الإيمان يقابلها رفض للجاهلية، ولا يتم رسوخ الإيمان فى القلب حتى تخرج الجاهلية منه، لذا فإن من تمام الإيمان ومقتضى اليقين معرفة الجاهلية وأبعادها، وفهم طرق الضلالة ووسائلها، وفى هذا يقول عمرو بن الخطاب رضى الله عنه موضحاً هذه الحقيقة :
إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ فى الإسلام من لا يعرف الجاهلية، (ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهاداً لأعدائه وتكلماً بإعلامه وتحذيراً من خلافه، لكمال علمهم بضده فجاءهم الإسلام وكل خصلة منه مضادة لكل خصلة مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفة وحباً، وفيه جهاداً بمعرفتهم بضده، وذلك بمنزلة من كان فى حصر شديد، وضيق ومرض وفقر وخوف ووحشة، فقيض الله له من نقله منه إلى فضاء وسعة، وأمن وعافية، وغنى وبهجة وسرور، لأنه يزداد سروره وغبطته ومحبته بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه، وليس حال هذا كمن ولد فى الأمن والعاقبة، والغنى والسرور، فإنه لم يشعر بغيره، وربما قيضت له أسباب تخرجه عن ذلك إلى ضده وهو لا يشعر وربما ظن أن كثيراً من أسباب الهلاك والعطب تفضى به إلى السلامة والأمن والعافية، فيكون هلاكه على يدى نفسه وهو لا يشعر، وما أكثر هذا الضرب من الناس، فإذا عرف الضدين وعلم مباينة الطرفين وعرف أسباب الهلاك على التفصيل، كان أحرى أن تدون له النعمة ما لم يؤثر أسباب زوالها على علم وفى مثل هذا قال القائل :
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر وأبعدهم منه، فإذا تكلم فى الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس، والمقصود أن من بلى بالآفات صار من أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى من استنصحه من الناس ومن لم يستنصحه)( )0
فالداعية إذن بمعرفته للجاهلية، يكن من أحرص الناس على الابتعاد عنها، وأشد الناس إخلاصاً فى النجاة منها، بل والتخطيط للتخلص من مكرها0
استلهام التاريخ
ومن هذه العلوم علم التاريخ، وما يتضمنه من معرفة نشوء الدول وسقوطها، أو نشأة المدنيات وتطورها، وسنن الله تعالى فى الخلق والدول، وهو كبقية العلوم أسرف أناس بمدحه كما أسرف الآخرون بذمه، والإنصاف يقتضى العدل فى الأحكام، واعتباره من الوسائل التى تتجاذبها الأحكام الخمسة، وكل معرفة تاريخية تأخذ حكمها من حكم الهدف الذى يهدف إليه المتعلم، والغاية التى يرجوها منها المتفقه0
ولقد صنف فى فوائده جمهرة من العلماء، ولعل من أحسنها ما ذكره السخاوى فى (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) حيث أنحى باللائمة على من ذم التاريخ، وبين حكم أقسامه فى فروع الشريعة، وأشار إلى ما نحن بصدده من فوائده، حيث قال : (وكذا ما يذكر فيه من أخبار الملوك وسياستهم، وأسباب مبادئ الدول وإقبالهم، ثم سبب انقراضها، وتدبير أصحاب الجيوش والوزراء، وما يتصل بذلك من الأحوال التى يتكرر مثلها، وأشباهها أبداً فى العالم، غزير النفع، كثير الفائدة، بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب الأمور بأسرها، وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرياً غير غر ولا غمر، وما أحسن قول بعض السادة، العقل عقلان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع مسموع ما لم يكن ثم مطبوع 00))( )0
فنون الأقيسة المستقيمة
ومن المعارف البشرية مما لابد للداعية من الأخذ منها بسهم، والاستفادة منها بنصيب، تلك العلوم الطبيعية الصحيحة، والمبنية على المشاهدة والتجربة، كعلومن الفلك والفيزياء، والرياضيات أو الكيمياء، وما يتعلق بالبيئة والأحياء، وشىء من قواعد الطب وأحوال البيئة، إذ إنها – وإن كانت ظنية- إلا أنها علوم صحيحة، لا تخالف صحيح المنقول، ولا تعارض صريح المعقول ((ففى الإدمان على معرفة ذلك، تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة، والقياس المستقيم فيكون فى ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة التى هى فوق ذلك 00 وكذلك كثير من متأخرى أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة، ونحو ذلك، لأن فيه تفريحاً للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط000))( )0
وليس المقصود الإكثار منها، أو الولوج فيها، إلا لمن كانت أسلوباً لمعاشه، أو ممن يقوم عن الأمة بفرض الكفاية فيها، وإنما المطلوب منها ما عمت فائدته، وسهل تناوله، ووضحت مسائله، وتساوقت مناهجه، إذ فيها إدراك لفهم الحياة، ووسيلة لسير العلائق، فتكسب الداعية عقلاً تحليلياً، ومنهجاً استنباطياً ، يساعهد على ستعمالها فى توسيعالعقول والأذهان، وفى كسب القلوب والمشاعر، ويعين فى أمور التخطيط والتربية، ولقد أدرك هذا المعنى فقيه اليمين الإمام الشوكانى – رحمه الله- فأضافها كأحد فنون الطبقة الأولى فى المجتهدين، فقال : ((ثم لا بأس عل من رسخ قدمه فى العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هى من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفى القرائح ويزيد القلب سروراً والنفس انشراحاً، كالعلم الرياضى والطبيعى والهندسة والهيئة والطب، وبالجملة فالعلم لكل فن خير من الجهل به بكثير ولاسيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة، ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها كما قدمنا لك شعبة من التقليد وأنت بعد العلم بأى علم من العلوم حاكم عليه بما قد لديك من العلم غير محكوم عليك واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من قد ثبت قدمه فى علم الشرع من شىء، وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم فى علوم الكتاب والسنة، فإنه ربما يتزلزل وتحول ثقته، فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت، واستكثر من الفنون ما أردت، وتبحر فى الدقائق ما استطعت، وجاوب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل :
أتانا أن سهلاً ذم جهلاً
علوماً ليس يعرفهن سهل
علوماً لو دراها ما قلاها
ولكن الرضا بالجهل سهل )( )0
فتتبع أثر الفقهاء فى الأمة، وتجارب الأمم والدول، وتوعظ بضرورة مثل هذه الثقافة الشمولية 0¬
سفر العبرة
وتضاف فوق هذه العلوم مجموعة من المعارف لا يسع المجال هنا للاستطالة فيها، كتعلم فنون السياسة وتحليلها، وبعض العلوم العسكرية وفروعها، (مما سبقت الإشارة إليه فى الفصل الثامن والعشرين)، فوق تنمية المدارك، ومثلها كإدراك الحوار مع الأقران والعلماء، وملاقاة القادة والحكماء، والتفكر فى مجريات الأمور، والتأمل فى أسباب الحوادث، وفى ذلك يقول تعالى : قل سيروا فى الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين00 (الأنعام:11) قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين 000 (النمل : 69)0
إن السير فى الأرض يتضمن السياحة الدعوية ذات المقاصد الحسنة، رغم ما تركه مصطلح (السياحة) عند بعض الفقهاء من إيماء بالمقاصد السيئة ، مثل ترك التوكل على التزود، أو هجرة الأهل والأولاد، أوالانقطاع عن الأعمال الصالحة دون سبب، بينما السياحة الدعوية بذاتها دعوة إلى التفكر فى خلق الله، وطريق إلى التفقه المتكامل، لفهم الكثير من الدقائق، والاعتبار بالكثير من الحقائق ، كما قال تعلى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين (التوبة : 122)0
وفى هذا يقول الرازى :
((.. أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه فى كل زمان؟
قلنا: متى عجوز على التفقه إلا بالسفر جب عليه السفر00 فإذا أمكنه تحصيل العلم فى الوطن لم يكن السفر واجباً، إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلاً على السفر لا جزم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا فى السفر))( )0
أما الإمام القرطبى فقد سمى السياحة الدعوية بسفر العبرة فقال: ( سفر العبرة .. ويقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها ..)( )0
الوعى الحضارى
إن هذه العلوم والفنون تقود إلى درجة الوعى الحضارى، ولاذى هو من مقاصد الشريعة، إذ إن بواسطته يمكن للداعية ما يلى :
معرفة ما عند الآخرين من علم ومعرفة، وأنظمة ومعارف، تكون بمثابة الوسائل لخدمة هذا الدين، تطبيقاً لقاعدة (الحكمة ضالة المؤمن) 0
معرفة الأسباب والعوامل المؤدية إلى سقوط المدنيات أو نشوئها، وتحقق سنن الله تعالى فى ارتباط السقوط بالمعاصى، وصعود الأمم بالطاعات0
معرفة التجارب الحربية والصراعات السياسية، الجاهلية منها والدينية، وكيف تؤدى الجمعيات والمؤسسات العالمية أهدافها وتنفذ رسالتها.
معرفة التطبيقات العملية للمفاهيم التربوية، وطرق معالجة القضايا السلوكية، بالتوسع فى رؤية وسائل التعليم ومتاحف العلوم 0
معرفة نقاط الضعف والقوة، وعوامل البناء والتخريب فى المجتمعات المختلفة، ومعرفة مدى تأثير العوامل المختلفة فى ذلك 0
كل هذا ينمى قدرة الداعية على التفكير وعهلى القياس المستقيم، وربط المسببات بأسبابها، والعلل بمقدماتها، ويفهم على ظروف الواقع الظواهر وتحليلاتها، فتنمو عنده ملكة الإدارة، والمقدرة على التحليل والاستنباط، والتخلص من سذاجة التفكير، أو من سطحية الاستنتاج، وعدم الجنوح تحت تأثير سلبيات العاطفة، أو الإغراق فى مثاليات التأمل، مما يجعل العمل فى رحلة المسافر أكثر صواباً، وأشد قرباً إلى تحقيق الغايات0
المعرفة الشمولية 000 لماذا ؟
إن معرفة هذه العلوم النظرية للفنون الميدانية، ثم تشذيبها بالحوار والمناقشة، وتطويرها بالتأمل والتفكر والسياحة، بعد تصويبها بقواعد الشريعة ومبادئ العقيدة ، لمن وسائل الدعوة المهمة، يجب على الداعية الأخذ بها، بمقدار ما ترتبط بالأهداف المتعلقة بها، فهى تأخذ حكمها من حكم غاياتها، وفوق الأهمية التى سوف تتركها على النفس والسلوك وعلى العقل والإدراك، فهى –فى نفس الوقت- طريق لوسائل أخرى لابد منها فى مناهج التحليل والاستقراء، وطرق الاستنباط والاستخراج، إذ فيها وبواسطتها يمكن الترجيح بين المصالح المرسلة المختلفة، واختيار الأفضل منها، وبواسطة تكامل هذه العلوم وشمول المعرفة، يمكن استعمال الواقع فى استقراء الغايات فتفتح أبواب المصالح، وتسد الذرائع الموصلة إلى المفاسد، والمقصود طبعاً فى كل ذلك مما لم يرد فيه نص ولا يعرف بالشرع، بل هو مما يدرك بالعقل والتجارب، أو هو من الوسائل المناظرة لمصالح الدنيا وكتاب سلطان العلماء العز بن عبد السلام كله فى هذا الباب، وفيه يقول : (( أما مصالح الدارين وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفى منها شىء طلب من أدلة الشرع، وهى الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفى شىء من ذلك، طلب أدلته))( )0
وما العلم الشمولى إلا من أدوات التجارب، ووسائل طلب الدولة، وممهدات التمكين0
تحقيق المناط
ومما يحتم معرفة الفنون المختلفة، تمكن الداعية من إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع، ومعرفة تطبيق النصوص على النوازل، وهذا الفن أسماه علماء الأصول (تحقيق المناط)، إذ به تيعرف المكلف على مداخل الشيطان وحظوظ النفس، والداعية – كأى مسلم- لابد له منه ، وهو يحتاج إليه فى أمرين، وأولهما تخليص النفس من الضرر والحرج، وخلوص العمل من الشوائب، والثانى يختص بالتكليف غير المنحتم بوجه آخر :
((00 وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف فى نفسه، يحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص ، إذ النفوس ليست فى قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها فى العلوم والصنائع كذلك0
فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ كف النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه فى عمل آخر، ويكون بريئاً من ذلك فى بعض الأعمال من بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذى رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلىالحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعى فى تلقى التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقق 00))( )0
وبالتالى، فإن تعلم العلوم المختلفة لهى أداة مهمة عند الدعاة العاملينن لتحقيق مناطق الأحكام الشرعية، وإنزال النصوص منازلها الواقعية، ويتحقق أخيراً صواب العمل المبنى على العلم الصحيح0
نهاية مرحلة – وبداية أخرى
وأخيراً ، لا تظن – أخى الداعية، أنك قد وصلت إلى نهاية الطريق، وإنما هى نهاية المرحلة الأولى، وبعدها مراحل ومراحل دونها خرط القتاد، ولا يلقاها إلا أصحاب الهمم العالية، والتثقيف بها وبمراحلها ووسائلها، لها مواطنها الأخرى مما لا يتسع لها المجال هنا، وبحسبنا التذكير فحسب، وما عليك سوى العودة إلى قراءة هذه الفصول مرة أخرى والتمعن بعباراتها، والاستفادة من إشاراتها، واحرص على جماعة المؤمنين، وركب السائرين، فهم أدلاء المراحل، وهم مشاعل الطريق، وعليك بحفظ الهمة فإنها مقدمة الأشياء، واستمع إلى نصيحة أخيك فى الله ابن القيم وهو يقول :
(يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة، قد رفع لك علم فشمر إليه فقد أمكن التشمير، واجعل سيرك بين مطالعة مننه، ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول هذه منجيتى من عذاب السعير، ما المعول إلا على عفوه ومغفرته فكل أحد إليها فقير، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى فاغفر لى ، أنا المذنب المسكين، وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك، فهل رعيتها بالله حق رعايتها، وهى فى تصريفك وطوع يديك، فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح، إنه غفور شكور 0
نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها، وقال: إن أطعت فبفضلى وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضائى وأنا أغفر، إن ربنا لغفور شكور0
وأزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل، إن ربنا لغفور شكور، أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه، ويقربه لديه، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه إن ربنا لغفور شكور)( )0
وإلى لقاء المرحلة الثانية معك، فى مكان آخر، وأستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك