في مـديح التطرف
في مـديح التطرف
الفضيلة، عند بعض الفلاسفة، وسط بين رذيلتين. والحكمة، في السياسة وسط بين تطرفين. الفضيلة عند أولئك الفلاسفة حد يحد الرذيلة. والحكمة في السياسة حد يحد التطرف، ويحد منه. الحكمة في السياسة هي الاعتدال، وهذا شيء في الوسط بين تطرفين: تطرف من اليمين، وتطرف من اليسار. التطرف في السياسة يقابل الرذيلة عند الفلاسفة والأخلاقيين. وفي ظني أن السياسة في بلادنا كانت إلى يوم قريب موسومة بالتطرف، وكان كل منا حين يصف الآخر بالتطرف ينسى أو يتناسى تطرفه هو. وفي ظني أيضاً أن تطرف السلطات الحاكمة هو الذي أنتج تطرفاً مضاداً لدى المعارضة، ولا سيما السلطات التي قامت على مبدأ الاحتكار، احتكار السلطة واحتكار الثروة واحتكار القوة، واحتكار الحقيقة واحتكار الوطنية. والاحتكار والتطرف صنوان متلازمان، وهما معاً من أخص خصائص الاستبداد، ومن أبرز مقوماته. بيد أنه ليس هناك اعتدال بلا تطرف ولا تطرف بلا اعتدال، وإلا كنا خارج المنطق. وإذا كان الاعتدال صفة العقل، فإن العقل كان موجوداً لدى البشر على الدوام، ولكن البشر لم يكونوا عقلانيين على الدوام. ولذلك كان التاريخ تنويعة على هذا التناقض المقيم بين العقلاني وغير العقلاني. وإذا كان كل ما هو واقعي عقلانياً بالفعل، فإن كل ما هو عقلاني واقعي بالقوة، أي إنه قابل أن يصير واقعياً بالفعل، وذلكم هو معنى الراهنية.
التطرف سمة ملازمة للاستبداد، وسمة ملازمة للأيديولوجيات الدينية والمذهبية التي صارت عقائد سياسية للدول أو الأحزاب، وملازم أيضاً للأيديولوجيات العلمانية الحصرية، المغلقة على مسبقاتها ويقينياتها وحقائقها الناجزة والنهائية التي تسوغ الاستبداد وتغذيه، وتتغذى منه، وتضفي عليه نوعاً من "المشروعية". والمسألة عندنا، اليوم، ونحن نتلمس راهنية الإصلاح الذي بات ضرورة لا محيد عنها ولا بد منها، ليست إدانة التطرف إدانة أخلاقية واجبة فحسب، بل الكشف عن جذوره وأسبابه الواقعية والسعي إلى الحد منه، وإقامة الحد عليه. وقد أشرنا إلى أن الاحتكار هو جذر التطرف وأساسه الواقعي. ومن ثم فإن كسر الاحتكار هو الذي يحد من التطرف ويفضي إلى الاعتدال. ويمكن القول: إن السلطة الشمولية الاستبدادية هي الاحتكار وقد غدا سلطة "سياسية" مطلقة تعيد إنتاج النظام الاجتماعي على صورتها ومثالها. بل يكفي أن نقول: إن احتكار السلطة هو سلطة الاحتكار.
باحتكاره السلطة والثروة والقوة، قوة العدد والتنظيم، فضلاً عن قوة الجيش وأجهزة القمع، ولا سيما باحتكار الحقل السياسي، أنتج حزب البعث الحاكم في سورية والعراق تطرفاً مضاداً في المجتمع، تجلى في ثلاثة أشكال: أولها، تطرف في اللامبالاة والعزوف عن الشأن العام، ولا سيما بعد أن تقلص مفهوم المواطنة حتى تطابق مع مفهوم الحزبية، وراح "البعثيون" المتمتعون بالامتيازات، على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ينظرون إلى بقية أفراد الشعب على أنهم "الجماهير" العفوية والجاهلة والمتخلفة، والمشكوك بولائها ووطنيتها. وثانيها، تطرف في الخطاب السياسي، قوامه القبـول التام والتصديق التام، أو الرفض التام والتكذيب التام، ولا توسط بينهما. وثالثها، تطرف في "النقد" بلغ حد النقد بالسلاح. وقد أفضت هذه الأشكال مجتمعة إلى تهميش المجتمع وإفقار أغلبية الشعب، وإلى إلغاء دور المعارضة السياسية وشل فاعليتها، وإلى إيصال البلاد إلى حافة الانهيار، أو إلى حافة الانفجار الداخلي.
وإذ تعمقت الأزمة، في سورية، وشملت جميع مجالات الحياة، وتبين لكل ذي بصيرة أن الخروج منها لم يعد ممكناً إلا بإعادة النظر بالأسس التي قام عليها النظام السياسي منذ عام 1963، بادرت السلطة إلى الاعتراف بالأزمة الاقتصادية والفساد الإداري. وكان هذا الاعتراف، على محدوديته، انعطافاً مهما في الحياة السياسية، وأساساً لخطاب سياسي مفتوح على الاعتدال، خطاب لم يعد قائماً على القبول التام والتصديق التام، وعلى وهم أن أوضاع البلاد على خير ما يرام. وما لبث هذا التحول الطفيف، في الخطاب السياسي وفي أداء السلطة، حتى أطلق بوادر حركة ثقافية واجتماعية كانت محتجزة وملجومة بالقمع العاري، تجلت في المنتديات الثقافية وندوات الحوار، وفي البيانات والكتابات، وفي حركة لجان إحياء المجتمع المدني وغيرها من اللجان والجمعيات. وكانت السمة العامة لهذه الحركة هي الميل إلى الاعتدال، والدعوة إلى الحوار، والاعتراف بالآخر اعترافاً مبدئياً ونهائياً، والتطلع إلى المستقبل، إلى دولة تعاقدية تكون دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، تتيح فرص الانتقال الهادئ والسلمي من النظام الشمولي إلى نظام ديمقراطي ينتجه المجتمع المدني، ولا يمكن أن يكون تصميماً مسبق الصنع أو نسخة كربونية عن أي من التجارب الديمقراطية المعروفة. ولعل الطابع العلني الشفاف ونبذ العنف وسيلةً لتنظيم العلاقة بين السلطة والشعب، وبين الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية، والعمل على استئصال شأفته من العلاقات الاجتماعية والسياسية، والسعي إلى أن تكون الثقافة التي توحد حاضنة للسياسة هي أبرز مظاهر هذه الحركة وأهم مضامينها. وهي التي يمكن أن تجعل من سورية نموذجاً فريداً للانتقال التدريجي من الشمولية إلى الديمقراطية، على نحو يكسب فيه الجميع.
هذا الانتقال، من التطرف إلى الاعتدال، الذي لم ينجز بعد، ولا بد أن ينجز، هو، في حقيقة أمره، انتقال من الأيديولوجيا إلى السياسة بصفتها الشأن العام أو الشيء العام المشترك بين جميع المواطنين وجميع الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية. أو لنقل إنه انتقال من دائرة الخاص الجزئية إلى دائرة العام الكلية، ومن الذاتية الخالصة إلى الموضوعية. أي إنه انتقال إلى رحاب الوطن الفسيحة وإلى كلية المجتمع وعمومية الدولة الحاكمتين على جميع الأجزاء.
ومما يؤكد هذا الميل ويعززه، تعبيراً عن مدنية الشعب السوري ورسوخه في الحضارة، ما جاء في البيان الختامي لمجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين، المحظورة في سورية، في دورته العادية السادسة،(16 شباط 2001) من دعوة صريحة لحوار وطني شامل، لا يستثنى من دائرته أحد، ومن تقدير "لبوادر الانفتاح التي تجلت في المواقف الأخيرة لبعض النخب الفكرية والثقافية في قطرنا، على اختلاف مشاربهم، والأصوات التي ارتفعت منادية بالاستحقاقات الأولية للإصلاح السياسي والاقتصادي" ومن تأكيد "أن الإنسان المكرم والمجتمع الحر هما أول الطريق إلى الدولة الحديثة .."
وذهب البيان الختامي إلى ما هو أبعد من ذلك حين أكد مطلب الجماعة بوضع ميثاق شرف وطني تلتقي عليه جميع القوى السياسية والنخب الفكرية والثقافية، تشمل خطوطه العريضة المبادئ الآتية:
1. تقديم مصلحة الوطن العليا على كل الاعتبارات الخاصة، والاعتراف المتبادل بين جميع الفرقاء على أرض الوطن، بعيداً عن سياسات الاستئصال أو الإقصاء أو التخويف أو الاتهام .. فلكل مواطن أو فريق حقه في رؤية مستقبله وبرنامج عمل ينبع من عقيدته وإيمانه.
2. اعتماد الخيار السلمي والحوار الديمقراطي وسيلة لتحقيق الأهداف، ونبذ العنف من كل مصادره وبكل أشكاله وأساليبه.
3. العمل تحت الشمس في فضاءات الحرية والأمن والتنافس الحر الشريف، وإسقاط كل العوامل التي ألجأت العمل الوطني في مراحله السابقة إلى دهاليز السرية أو أعماق الزنازين.
4. رفع الوصاية عن شعبنا وعن قواه الحية، لتكون الدولة دولة وطنية، وتكون مؤسساتها وأجهزتها للمواطنين جميعاً وليست لفريق دون فريق .. وأن لا يفرض فريق في الوطن وصايته على آخر، وأن نتوقف جميعاً عن سياسات التصنيف المسبق، فيسمع من كل فريق رؤيته ويحاور فيها.
5. التناصر والتعاضد والتعاون بين القوى السياسية والنخب الفكرية والمدنية، لرفع سقف الحرية وبسط ظلها على الوطن بأسره، ورد أي عدوان يطال أي فرد أو فريق فيها.
في ضوء هذه المبادئ يلخص البيان رؤية الجماعة وبرنامجها المرحلي، إذ يقول: "إن الإنسان المكرم والمجتمع الحر هما أول الطريق إلى الدولة الحديثة، ولذا فإن أي حديث عن بناء دولة حديثة قادرة على خوض غمار التحديات، سيكون لغواً ما لم يمر عبر بوابة احترام الإنسان وتكريمه، والاعتراف بحقوقه الإنسانية والمدنية والسياسية، ومن ذلك حقه في المشاركة في وطنه قراراً وجهداً وثروة، ومن ثم السماح لبنى المجتمع أن تأخذ مداها في مشاركة إيجابية فعالة في صنع حاضر الوطن ومستقبله. وهذا كله لا يتأتى في ظل حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية أو القوانين الاستثنائية أو الأنظمة البوليسية .. فلم يكن الخوف أساساً لملك صالح، وإنما العدل هو الأساس وهو الدرع".
في هذه الوثيقة، وفي مشروع ميثاق الشرف الوطني للعمل السياسي في سورية، الذي سنفرد له قراءة خاصة، نحن إزاء خطاب سياسي جديد، تتقاطع مقولاته ومفاهيمه مع عدد من المقولات والمفاهيم التي تضمنها "خطاب القسم" الذي ألقاه رئيس الجمهورية العربية السورية في 17/7/2000 ومع المقولات والمفاهيم والمطالب التي جاءت في بيان الـ 99، وفي وثيقتي لجان إحياء المجتمع المدني، وفي الوثيقة السياسية التي ستصدر قريباً عن التجمع الوطني الديمقراطي، والتي تتردد بكثرة في الحوارات الجارية في سورية. العناصر الليبرالية والديمقراطية التي تتخلل نسيج هذا الخطاب الجديد تؤكد أن الجماعة (جماعة الأخوان المسلمين) في طريقها إلى الانتقال من الانغماد الأيديولوجي الطارئ على تاريخها في سورية، إلى الانفتاح السياسي الذي كان سمة من سمات الحياة السياسية السورية التي شاركت فيها الجماعة بنشاط. ولكن السؤال المطروح، لا على جماعة الأخوان المسلمين فقط، بل على جميع الأحزاب السياسية في سورية، وفي مقدمها حزب البعث الحاكم، هو: هل بوسع هذه الأحزاب إعادة تأسيس خطابها وممارستها على قاعدة معرفية وأخلاقية مشتركة تتسق وهذه العناصر الليبرالية والديمقراطية؟ والقاعدة المعرفية والأخلاقية المشتركة تتلخص في مقولة "الجهاد الأكبر"، جهاد المعرفة، وجهاد النفس الأمارة بالسوء، وهي المقولة الإسلامية التي تقابلها مقولة الديالكتيك مفهوماً فهماً صحيحاً عند العلمانيين. وهذه لا تنفي بل تؤكد تعدد الرؤى وتنوع البرامج. هذا هو رهان الحوار الثقافي الذي يتعمق وتتسع دائرته، يوماً بعد يوم، بانتظار أن يحسم الحزب الحاكم وحلفاؤه في الجبهة الوطنية التقدمية أمر المشاركة في الحوار على قاعدة الاعتراف المتبادل والحقوق المتساوية.
إن مديح التطرف، من وجهة نظر معرفية خالصة، هو مديح الاعتدال. لأن التطرف لا يضع الاعتدال ويعين حدوده فحسب، بل إنه يبين قيمته وضرورته أيضاً. مثلما يضع الشر الخير ويعين حدوده ويبين قيمته وضرورته. فليس في الحياة خير مطلق أو شر مطلق، ولا تطرف مطلق واعتدال مطلق. وبدلاً من نقد التطرف وذمه يجب نقد الظروف التي تولد الطرف وذمها.
ولاية الأمة على نفسها
نحو ميثاق شرف للعمل السياسي
التفكير بميثاق شرف للعمل السياسي يعني التفكير بإعادة بناء السياسة على قواعد أخلاقية جفتها السياسات العربية الرسمية وغير الرسمية، منذ مطالع سبعينات القرن العشرين، فغدت سياسات غير عقلانية وغير أخلاقية، بالقدر ذاته. وقد يستهجن أهل "السياسة" هذا الربط بين العقل والأخلاق، والسياسة عندهم هي "فن الممكن". وقد يقول قائل: إن السياسة علاقات موضوعية بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية، وبين المجتمع والدولة والسلطة والشعب، وبين الدول والأمم والشعوب. وهذا لا يجافي الصواب، على أن نتفق على معنى الموضوعية، وهل هي متوافقة، أم متعارضة مع الأخلاق. نعتقد أن الموضوعية، إذا نحينا موضوعية العالم الطبيعي، هي تموضع الروح الإنساني، لا في منتجات العمل البشـري المادية فحسب، بل في منتجاته الروحية وفي العلاقات والبنى والتشكيلات والتنظيمات الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك الدولة وسلطتها السياسية. ولما كان العمل البشري هو وحدة الفكر والعمل، إذ الفكر عمل بالقوة والعمل فكر بالفعل، فإن كل مستوى فكري يستـند إلى مستوى روحي، أخلاقي، فلا تعارض بين الفكر والأخلاق والسياسة سوى في أنظمة الاستبداد. والاستبداد من هذه الزاوية هو انفكاك الفكر عن الأخلاق وانفكاكهما معاً عن السياسة التي لا يبقى من مقوماتها، وهذه الحال، سوى القوة والغلبة والقهر. ولذلك قيل إن "الاستبداد استلاب ناجز للشعب". وإذا استثنينا الاستبداد "العادل" والمتنوِّر أو المستنير، لأنـه قام على نوع من تواصل بين الحاكم والمحكوم، فإن الاستبداد قد ارتبط تاريخياً بانحطاط الأخلاق وانحطاط الفكر معاً.
والأخلاق ذاتية وموضوعية، الأولى متعلقة بالوجدان والضمير الفرديين، والثانية متعلقة بالقيم الجماعية والمجتمعية وبالعلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولا انفكاك لأحد هذين المستويين عن الآخر. وربما كان العنصر الأخلاقي هو الفارق النوعي بين علاقات الإنتاج الماديـة المحكومة بمبدأ الضرورة، والعلاقات الاجتماعية المحكومة بمبدأ الحرية بوصفها وعي الضرورة وموضوعية الإرادة وإمكانية الاختيار. وهذا هو سر نمو العلاقات الاجتماعية والإنسانية وتغيرها، في ظل ثبات علاقات الإنتاج واستمرارها. ولنلاحظ هنا، استطراداً، أن توحش الرأسمالية المعاصرة ينبع من محاولتها إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والإنسانية بدلالة علاقات الإنتاج، لا العكس، على الرغم من التطور المذهل لقوى الإنتاج الذي يتجلى بصورة مباشرة في العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
وميثاق الشرف هو عقد أخلاقي على جملة من المبادئ التي تنظم علاقات القوى السياسيـة فيما بينها، وعلاقاتها بالسلطة السياسية، وأهمية عقد من هذا النوع، في هذه المرحلة، هي تأكيد حقيقة الطابع التعاقدي للمجتمع المدني (العقد الاجتماعي) وللدولة الوطنية (العقد السياسي). والتعاقد لا يكون إلا بين طرفين، على الأقل، أو عدة أطراف، وهو ما يتسـق مع واقع التعدد والاختلاف في المجتمع، إذ التعدد والاختلاف وتعارض المصالح هي موجبات التعاقد ومناط ضرورته التاريخية، وإلا سقطت المشروعية الواقعية والمنطقية والقانونية للعقد. وليس هناك مجتمع موحد ومتدامج من دون نوع من تعاقد وتوافق وتواثـق على مبادئ أساسية تنتظم بموجبها سائر حقول الحياة العامة. وإن عقـداً أخلاقياً يهدف إلى تنظيم الحقل السياسي المشترك على نحو يحقق مصالح جميع الفئات الاجتماعية والقـوى السياسية في نطاق المصلحة الوطنية العليا، لهو قرينة واقعية على أن السياسة شأن دنيوي، وفاعلية مجتمعية واجتماعية، وتعبير عياني عن مصالح واقعية، وإن تلفعت بغلالات أيديولوجية. وتلكم هي أهم المعاني التي ينطوي عليها مشروع "ميثاق الشـرف الوطـني للعمل السياسي في سورية" الذي تقدمت به جماعة الأخوان المسلمين المحظـورة في سوريـة في الثالث من شهر أيار من هذا العام 2001 . "فقد ولى الزمن الذي يدعي فيه حزب أنه الوطن، وقصارى أمر أي فريق سياسي أن يأخذ مكانه على الخريطة الوطنية، بالحجم الذي تمنحه إياه مرتسماته الواقعية، عبر صناديق اقتراع حر ونزيه". أجل، لقد انتهى الزمن الذي يدعي فيه الجزء أنه الكل، أو أنه يمثل الكل وينوب عنه؛ لأن مثل هذا الادعـاء هو أساس الاستبداد. ووفق المنطق نفسـه، فقد ولى الزمن الذي تدعي فيه جماعة أنها تمثل الدين "القويم" وتحتكر الحقيقة. وقصارى أمر أي جماعـة، مهما تكن مجتهدة ومجاهدة، أن تحتل موقعها على خريـطة المعـرفة البشـرية والإيمان الذاتي، وهما قسمة مشتركة بين البشر الذين لا تفاضل بينهم إلا بتقوى الله في جميع الأمور.
ولعل من أهم شروط العقد حرية إرادة المتعاقدين أو المتعاقدين، ولذلك أكدت الجماعة أن مبادرتها "لا تنتقص من حقوق الآخرين في أن تكون لهم رؤيتهم الكلية أو الجزئية في تطوير هذا المشروع أو تعديله .. من خلال معطيات الحوار الإيجابي البناء". ولذلك "كانت الدعوة إلى المشاركة في الحوار مفتوحة لجميع القوى السياسية والشخصيات العامة الفكريـة والثقافية، فتحت خيمة الحوار الوطني ليس لأحد أن يكون أولى بالوجود من أحد، وليـس لأحد أن يفرض الوصاية على أحد. وربما وضح الحوار مبهماً أو ردم هوة أو ضيق فرجة". وحرية الإرادة تظل منقوصة ما لم تترجم إلى وجود قانوني تتحول بموجبه من إرادة ذاتية خالصة إلى إرادة موضوعية، يعبر عنها حق جميع الأحزاب السياسية في وجود قانوني على قدم المساواة. وإن الكاتب ليعتقد أن لجماعة الأخوان المسلمين حقاً مشروعاً مساوياً لحقوق الآخرين في أن يكون لها وجود قانوني، وأن تلغى جميع القوانين الاستثنائية التي جعـلت منها جماعة محظورة يحكم على كل من ينتمي إليها بالإعدام. وإن قبول القوى السياسية الأخرى بمثل هذه القوانين يعني قبولها الضمني أن تطبق عليها أو أن تطبقها على غيرهـا. فقد آن أن يعترف كل منا اعترافاً مبدئياً ونهائياً أن حريته الفعلية هي حرية الآخـر، وإلا ستظل "السياسة" حرب الكل على الكل.
ومن شأن أي حوار أن يكون له موضوع. وموضوع الحوار الذي تدعو إلية الجماعة هو جملة من الثوابت والأهداف والأسس والالتزامات. أما الثوابت، فأولها أن "الإسلام بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء، يشكل مرجعية حضارية وهوية ذاتية لأبناء هذه الأمة". وثانيها، "أن انتماء قطرنا العربي السوري إلى منظومته العربية .. ينبغي أن يعتبر أساساً في بناء أي استراتيجية مستقبلية، وأنه من الضروري أن يعبر هذا الانتماء عن نفسـه في تجسيد واقعي فعال يوثق الروابط ويؤكد العلائق ويسير بالأمة في طريق التوحد.." "ثم إن المواجهة بين العروبة والإسلام كانت عنوان مرحلة تاريخية تصرَّمت، ولقد نشأت تلك المواجهة عن عوامل من الانفعال وسوء الفهم، وحتى الأيديولوجيا التي سادت المناخ العـام في فترات ما بعد الاستقلال". وثالثها، "الاستفادة من تجارب الأمم وخبرات الشعوب ومعـطيات العصر الذي نعيش". وفي ضوء هذه الثوابت حدد مشروع الميثاق جملة من الأهداف والأسس والالتزامات. أما الأهداف فأولها، بناء الدولة الحديثة، بما هي دولـة تعاقدية أولاً ومؤسسية ثانياً، وتداولية ثالثاً، وتعددية رابعاً، ويتركز فيها دور الجيش في الدفـاع عن الوطن أخيراً. وثاني هذه الأهداف هو مواجهة تحدي البناء العام، بناء الفرد والمجتمع ومؤسسات المجتمع المدني، وبناء روح الإنجاز وقبول التحدي ومقامة كل أشكال الاسترخاء والتواكل والأنماط الاستهلاكية المدمرة والكسلى، وثالثها هو التصدي للمشروع الصهيوني. ورابعها هو"السعي إلى تحقيق الوحدة العربية. وتحقيق هذه الهداف يفترض جملة من الأسس والالتزامات أجملها مشروع الميثاق على النحو الآتي:
1. إن المواطن الحر الموفور الكرامة هو أساس بناء الدولة الحديثة ..
2. وإن المواطنة حقوق وواجبات، ومشاركة في بناء الوطن وحمايته والارتقاء به ..
3. وإن الاختلاف بين الناس في الرؤية والاجتهاد والموقف سنة من الخلق وحقيقة من حقائق الوجود الإنساني العام.
4. وإن تعبير "الناس سواسية كأسنان المشط" تجسيد حسي لواقع المساواة بين الناس ..
5. وإن الاعتراف بالآخر الوطني (العقائدي والسياسي والفكري والثقافي) ركيزة أساسية من ركائز التفكير والحركة.
6. وإن الحوار البناء والجدل بالتي هي أحسن هما الوسيلة الأقرب والأرقى للتعامل مع الآخر وفهمه وبناء جسور التعارف والتقارب والتواصل معه ..
7. وإن أي اختلاف في الرؤى العامة والسياسات العليا والقرارات المصيرية تحكمه صناديق الاقتراع الحر والنزيه، أو مؤسسات الدولة المنبثقة عنها أو القضاء العادل المستقل .
8. التمييز المطلق بين مصطلح الدولة (أرض وشعب وسلطات وقانون) ومصطلح الحكومة (السلطة التنفيذية) والتحذير من تغوُّل السلطة التنفيذية أو الأمنية على مقدرات الدولة، إنسانها ومرافقها.
وأما الالتزامات فهي، مواجهة التحديات الخارجية المفروضة على الوطن مهما كـان مصدرها وصبغتها بروح البنيان المرصوص ..، وتقديم مصلحة الوطن العليا على المصالح الذاتية والخاصة، وممارسة الشفافية والعلانية في البرامج والسياسات والأنشطة والعلاقات، والتزام آليات العمل الديمقراطي ووسائله على أساس الحقوق المتكافئة للجميع، ونبذ العنف والحلول الأمنية لمشكلات الدولة والمجتمع، والتعاضد على حماية حقوق الإنسان والمواطن، والاقتناع بالتدرج في تحقيق الأهداف، في ظل الشعور بالمسؤولية الوطنية وتقدير ظروف الواقع ومتطلباته.
أظن أن أكثرية المواطنين السوريين، وأنا منهم، بصفتي قومياً ديمقراطياً علمانياً و اشتراكياً يقول بالماركسية الإنسانية، ويلتزم منهجها الجدلي، لا يختلفـون مع هذا المشروع لا في الجملة ولا في التفاصيل، ويرون فيه مبادرة وطنية وإنسانية ليست غريبة على المؤمنين، ويتمـنون أن تبادر جميع القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية إلى المشاركة في الحوار حول ثوابته وأهدافه وأسسه والتزاماته، وصولاً إلى ميثاق شرف، أو عقد أخلاقي يقـرُّه مؤتمر وطني، ويكون أساساً صالحاً لإعادة بناء الحياة السياسية في بلادنا على مبدأ وحدة الفكر والأخلاق والسياسة، وعلى مبدأ الجهاد الأكبر، جهاد المعرفة وجهاد النفس الأمارة بالسوء، وعلى مبدأ "لا إكراه في الدين". أجل، إن مثل هذه المبادرة ليست غريبة على المؤمنين الذين ينظرون إلى الدين على أنه مبدأ معرفة مجالها الآفاق والأنفس، لا نهاية المعرفة، ومبدأ عمل، لا نهاية العمل، ومبدأ جهاد في سبيل صلاح الناس في الدنيا وفلاحهم في الآخرة. فالدين معرَّف بالإضافة إلى الإنسان، وقد وجد الدين من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين. ومن ثم، فإن الدين انتماء حضاري وهوية ذاتية، وليس عقيدة سياسية. وإن مجتمعاً كمجتمعنا يتوفر على تعدد ديني ومذهبي، وعلى تنوع قومي وثقافي، يفترض دولة محايدة حياداً إيجابياً إزاء جميع الأديان والمذاهب والنظريات السياسية على السواء. وتلكم أهم سمات الدولة الوطنية الحديثة التي تكون لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز. ولا تكون كذلك إلا إذا كان جميع مواطنيها أحراراً متمتعين بحقوقهم ومتساوين أمام القانون، بما هو التعبير الحقوقي عن العقد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وإن جميع محمولات الإنسان هي تحديداته الذاتية، ليس لأي منها قيمة مطلقة، لأنها جميعاً محددة بمطلق واحد هو الإنسان، ومعرَّفة بالإضافة إليه، وجميعها قابلة للنمو والتطور والتغير قابليـة الإنسان لذلك، لأنها انبساط الروح الإنساني في التاريخ وفي العالم. إن الدين الذي انتشل الإنسان من الوحشية الطبيعية، وكان عاملاً من عوامل ارتقائه إلى كائن اجتماعي وسياسي حين أرسى أسس التنظيم الاجتماعي على مبدأ الحلال والحرام والمباح والمحظور، فبـذر بذلك بذرة القانون، بصفته العامة والمجردة، لا بد أن يستأنف القيام بوظائفه الاجتماعية والأخلاقية في رحاب المجتمع المدني الذي يوفر له شروط النمو والازدهار وفق قوانينه الخاصة. ولا بد من الاعتراف بأن الدين يكون كما يكون المؤمنون به. فهل سنظل نرى المسلمين في بلادنا من دون أن نرى الإسلام الذي وجده الإمام محمد عبده في أوربـة الناهضة بالإنسية والعقلانية والعلمانية والحياة الدستورية والنظام الديمقراطي؟