قراءة في ظاهرة التطرف
قراءة في ظاهرة التطرف
الشيخ سعد الله خليل
يجمع علماء النفس والاجتماع على أن الإنسان مدني بطبعه ومحكوم لمنظومة القيم الاجتماعية والدينية والثقافية العامة للمجتمع الذي يعيش فيه أو ينتمي إليه وهو أيضاً محكوم لتكوينه الفطري الذي يدفعه للاتصال بالجماعة والعمل الجماعي أي أنه اجتماعي بالطبع. وواقع تحت تأثير غرائزي لإشباع حاجاته الفطرية الطبيعية التي جبل عليها. وينطلق من خلالها لتحديد موقعه ومكانته في المجتمع وبالتالي تحديد الوظيفة والدور المفترض الذي يثبت عضويته بغض النظر عن مدى فعّاليتها. لأننا ما زلنا نتحدث عن دافع غرائزي فطري أما عندما يتجاوز الإنسان هذا الدافع إلى الدوافع الأخرى المبنية على بداياته المعرفية وتراكم التجارب الحسية المنطلقة من أعمال العقل ودمجه الميكانيكي مع منظومة القيم فللحديث بُعد آخر يُدخلنا إلى عمق المجهول في عالم الإنسان المجبول في تحديه لعالم الأسرار والغيبيات.
ونقصد بالأسرار هنا ذلك التداخل العجيب المكون لمخزون الإنسان الفيزيولوجي والبيولوجي بأبعاده الفطرية والنفسية ومجموعة القابليات والاستعدادات التي تدفع به نحو تأكيد طباعه المدنية والاجتماعية وانطلاقة الوعي المتدرج مع أوزار الخوف في عملية ترويضية مُعقَّدة لإثبات الذات.
هذه العملية هي التي تشكل المفصل الهام في حياة الإنسان فإما أن يخرج منها سليماً معافى ثابتاً على أرضية فطرية سليمة تؤكد حقيقته الإنسانية أو أنه يخرج على خلاف ذلك منحرفاً أو متطرفاً أو معزولاً أو متمرداً سلبياً...إلخ.
إذن فالتطرف حالة خارجة عن التكوين الفطري السليم وبالتالي غير محكومة بمنظومة القيم الآنفة الذكر. ولكنها ليست حالة مرضية بالمعنى الدقيق للكلمة كما يحلو للبعض أن يفسرها. فالمتطرف إنسان طبيعي محكوم لمنظومة قيم غير طبيعية خاصة إذا تحولت هذه القيم إلى قيم جماعية وثقافة نافذة في مجتمع ما.
فجدلية العلاقة بين الطبع والتطبع قائمة منذ الأزل ولم تُحسم لا من قبل علماء النفس ولا علماء الاجتماع والمجاميع العلمية إلى اليوم تغص بالكثير من الدراسات والآراء والنقاشات حتى وصلنا إلى ما يسمى بالدور وإن كنا على مستوى علماء المسلمين قد حسمنا هذا الجدل بغلبة التطبع على الطبع. وهذا ما نفهمه من خلال دعوة الإسلام إلى جهاد النفس وتغليب الخصال الحميدة على كل ما عداها. فإذا قلنا بعدم إمكانية التطبع فهو تكليف بما لا يطاق وهذا محال باعتقادنا نحن المسلمين لأنه لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها. وكل التكاليف تدخل في دائرة طاقة الإنسان وكل تكليف يشعر إنسان معين بأنه خارج عن إطار طاقته فهو ساقط عنه وهي خصوصية تعني ذلك الإنسان بعينه والإسلام يحاكي عموم الناس لا خصوصية الأفراد.
لكننا في بحثنا هذا نحلل على قاعدة أرجحية العلم الحديث لغلبة الطبع المكون من مجموعة المبادئ التي أرستها المجاميع العلمية في حديثها عن نشوء القناعات وتركيب القابليات وطغيان ما هو أفعل في التأثير على بنيوية العوامل المؤثرة في شخصية الإنسان الأصلية فضلاً عن المركبة التي تتداخل فيها المؤثرات والمثيرات من كل جانب وهي ما يسمى بالشخصية المصطنعة أو المصنعة إذا شئت ذلك.
أعتقد أنه من هذا المنطلق يكون الحديث عن التطرف والمتطرفين ونكون أكثر فهماً لهذه الظاهرة القديمة الجديدة.
أما الحديث عن هذه الظاهرة من خلفيات سياسية أو أبعاد اجتماعية فلا يزيدها إلا نمواً واتساعاً وانتشاراً وقد ثبت علمياً بأن أسوأ أساليب مواجهة ظواهر من هذا النوع هو أسلوب الوعظ والتأديب والبناء على النتائج دون محاكاة الهواجس والأسباب والدوافع سيما للموضوعات منها.
بخلاف المراحل السابقة التي كان التطرف عادة يأخذ فيها بُعداً فكرياً أو عرفياً أو غير ذلك من الأبعاد المحدودة في أمكنة وظروف خاصة ومعينة.
أما وأنها أخذت بُعداً دينياً فيعني ذلك إمكانية انتشارها حيث تنتشر الأديان ولا أعلم أن في هذا العالم مجموعة من الناس لا تنتمي إلى دين من الأديان، وهذا يعني أيضاً أن هذه الظاهرة آخذة بالتغلغل إلى المجتمعات كلها عاجلاً أم آجلاً.
وبالتالي يمكن أن يأتي اليوم الذي لا ينجو من انعكاساتها الخطرة أحد ما لم تتوفر عناصر مواجهتها من قبل المخلصين بطريقة علمية وموضوعية بعكس ما نراه اليوم وللأسف أن جُلّ عناصر المواجهة محصورة بمجموعة من الكتابات والخطابات والأحاديث المتلفزة وكل ذلك في دائرة الإدانة وكفى.
أعتقد أن عناصر المواجهة هذه وبهذه الطرق هي أكثر تثبيتاً لهذه الظاهرة من مواجهتها ولا أشك هنا في نوايا الكتّاب والخطباء والمحدّثين بل ما أردت قوله هو أن النية يمكن أن تكون حسنة ولكن الأسلوب خاطئ.
وأستميح هؤلاء عذراً في قولي أن مواجهة ظواهر من هذا النوع يحتاج إلى متخصصين وليس إلى مهارة الإنشاء أو طلاقة الألسن وما شابه، وأنه ليس من الإنصاف أن نعالج الظواهر الاجتماعية أو التربوية أو النفسية بخلفيات سياسية أو ردود أفعال لا تشبه إلا تطرفاً معاكساً أي أننا نعالج المشكلة بالمشكلة والتطرف بالتطرف والعنف بالعنف المضاد.
بل لا بد من العمل على التشخيص والبحث العلمي والموضوعي عن الدوافع والأسباب والحوافز والمؤثرات والمثيرات.
وهذا العمل يحتاج إلى جهود مضنية من قبل مراكز أبحاث ودراسات وبالتالي متخصصين في كثير من المجالات المختلفة التي تُعني عادة بالعمل على تشخيص الداء والبحث عن الأدوية الشافية له.
وأغرب ما في هذا العالم لاسيما في عالمنا العربي أن أكبر السياسيين والمفكرين والقادة لا يتجرأ أحد منهم على وصف حبة دواء حتى لمن تلدغه بعوضة لكن عندما تكون هناك ظاهرة اجتماعية أو دينية أو تربوية أو نفسانية أو ما شابه فإن الواحد منهم يتحول مباشرة إلى عالم اجتماع أو عالم دين أو متخصص تربوي أو معالج نفساني ....إلخ
لست مبالغاً إذا قلت أن التخبط الذي نعيشه في عالم اليوم وعدم وضع الأمور في موضعها الحقيقي والمواقف الارتجالية سيما ممن هم في دوائر صنع القرار المتنوعة والمختلفة هي أهم وأبرز أسباب التطرف، لأن التطرف في كثير من الأحيان هو أسلوب خاطئ ضد أساليب خاطئة.
إن التخبط وانعدام الحكمة والمواقف الارتجالية غير المُعدّة والمدروسة سلفاً وغيرها تشكّل في غالب الأحيان البيئة الحاضنة للمواقف المتطرفة والأساليب العنيفة والغلو في النظر إلى الأشياء.
فعدم سيادة القانون العادل والمعارف الحقة وعدم تحكيم ذوي الاختصاص والمهارة وانعدام تعاون الناس مع بعضهم كل من موقعه العلمي والقانوني والاجتماعي والتربوي والسياسي والمعرفي بشكل عام، هذا كله ليس هو من نوع الجهل فقط بل هو الجهل بعينه والجهل بالتالي هو الأب الروحي للتطرف.
إن التطرف ليس نتاج شخصية محددة، فالشخصية بذاتها لا تُكوّن تطرفاً لأن التطرف منهج فكري أكثر منه حاجة نفسية، وسلوك اجتماعي يجذب إليه من أفراد المجتمع من هم أكثر ميولاً واستعداداَ نفسياً لقبول ما هو خارج عن دائرة القيم السائدة عادة.
فالمتطرف يرتاح إلى ما هو معاكس لكل ذوق عام ويعطي لما يحكم المجتمع قيمة عكسية تصل في كثير من الأحيان إلى إباحة المحرمات ويرى في ذلك خدمة له ولمجتمعه حتى ولو كان ذلك قتلاً أو سرقة أو تدميراً.
فالتطرف هو انحراف عن المبادئ السائدة والحاكمة بل أكثر من ذلك فيرى المتطرف من هذه المبادئ عقبة بحد ذاتها بغض النظر أكانت هذه المبادئ دينية أو وضعية.
فالمتطرف يعمل جاهداً وبطريقة لا إرادية في غالب الأحيان على إعادة تشكيل نفسي حيث يعزل نفسه مدّة معينة عن ذاته ومجتمعه ثم يعمل على إعادة بناء شخصيته وذاته من جديد بفكر وقناعات جديدة وسلوك جديد مناقض لمبادئه الموروثة ومتوافق مع التركيبة المستحدثة لذهنيته وتصوراته.
ومن الملاحظ أن التطرف ليس حكراً على مجموعة معينة من الناس بل يملك من القدرة ما يستطيع من خلالها أن يدخل إلى كل العقول والنفوس وبالتالي كل الطبقات الاجتماعية المختلفة والشخصيات المتنوعة.
والتطرف ليس نتاج فكري معين وليس من الإنصاف أن نلصق التطرف بالدين والمجموعات الدينية الإسلامية وغيرها بل هو نتاج كل البيئات الحاضنة بغض النظر عن انتمائها الديني أو الفكري الوضعي والتاريخ يشهد ببروز حالات التطرف والمتطرفين في الأزمنة والأمكنة ولست مبالغاً إذا قلت أن التطرف حالة فكرية منحرفة صاحبت البشرية منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا ويظهر أنها ستبقى كذلك إلى يوم يُبعثون لأنه ليس في الأفق ما يقنع بأن العالم يسير نحو معالجات لهذه الظاهرة بل أكثر من ذلك أننا نشعر بأن الآتي من الأيام سيشهد من حالات التطرف ما لم تشهده حقبات أخرى سابقة وأن آثار التطرف المستقبلي ستكون أشد قسوة وأكثر فتكاً من الماضي باعتبار أن تراكم الأحداث وتسارعها وتداخل تعقيداتها سيجعلها عصية على الحلول لأن التطرف في الماضي كان يمثل حالة شاذة في المجتمعات ومحدودة التأثير بينما نجد اليوم الفكر المتطرف وأفعال التطرف تصدر من أعلى السلطات وأن هناك دولاً بحد ذاتها محكومة بأفكار التطرف وقوانين التطرف ويحكمها متطرفون.
وهناك الأعلام المتطرف وأكثر وسائل الإعلام اليوم نحا منحى التطرف سواء على المستوى الديني أو المذهبي أو السياسي وحتى الاقتصادي وغير ذلك.
والأخطر من ذلك كله أنه أصبح هناك فلسفات وعلل خاصة للتطرف بل وشُرّعت قوانين بناء على أساس فكري ولا أتحدث هنا عن الإعلام الديني فقط بل أن المنصف المتابع والمواكب لحركة الإعلام يرى أن الإعلام الغربي يفوق في تطرفه الإعلام الديني وسيما الإسلامي منه أكثر بكثير ولست مبالغاً في قولي إن الإعلام الغربي أكثر فتكاً وتأثيراً سلبياً من إعلام ما يسمى بالإسلامي إن لم نقل بأن الإعلام الإسلامي المتطرف ولد من رحم الإعلام الغربي وتعلم منه الدروس وتقنيات المؤثر والمثير.
وأخشى ما أخشاه في عالم اليوم أن يتحول التطرف إلى قيمة سليمة تحكم المجتمعات والدول بعد أن كان الفكر المتطرف والسلوك المنحرف شاذاً عن قيم المجتمع وسلوكه. وبمعنى آخر نخاف أن يتحول الشاذ والسقيم إلى سليم وسوي والعكس صحيح وهو ما نرى إرهاصاته ومقدماته من خلال تحكم التطرف في السياسة والإعلام والخلفيات الثقافية الموجهة عبر المؤسسات الدولية والإقليمية وشرعنتها على المستوى الرسمي والعالمي.
التطرف غالباً ينتج عن اضطراب في الشخصية والشخصية المضطربة من أكثر الشخصيات التي تمتلك الاستعداد والقابلية للتطرف لأن الإنسان المضطرب لا يملك معايير واضحة أو ثابتة ولا يملك موازين حقيقية وموضوعية في طريقة تقويم الأحداث والمواقف التي تعترضه في الحياة بعكس الإنسان السوي فإنه محكوم بمنظومة من المسلمات التي تشكل بحد ذاتها مجموعة من المعايير والموازين التي يقيس من خلالها وعلى أساسها كل الأحداث والمواقف التي تعترضه في حياته على المستويات كافة، فبالنسبة له فإن لكل شيء حد وللحد حد وأيضاً هناك حد أقصى وحد أدنى ومساحات يمكن أن تكون مغلقة وأخرى متحركة وهكذا.
والإنسان المضطرب أيضاً هو إنسان فاقد للتوازن في المشاعر والانفعالات وهو غير متناسق مع الحدث بشكل متوازن وطبيعي فهو في غالب الأحيان يتعامل مع الحدث بمشاعر زائدة فيعطيه أكثر مما يستحق أو بمشاعر ناقصة يمكن أن تصل إلى حد اللامبالاة. مثال ذلك أن يفقد الإنسان والده أو والدته فهو حدث محزن ويستحق التفاعل معه ضمن حد معين من الحزن والألم حيث تظهر عليه إمارات وعلامات الحزن والتفاعل مع الحزن ولا يخرجه هذا التفاعل عن عقله وصوابه ، أما الشخص المضطرب فإنه إما أن يخرج عن عقله وصوابه وكأن الدنيا كلها قد تهدمت على رأسه أو أنه لا يبالي وكأن شيئاً لم يقع وبالحد الأقصى يتأثر كتأثر أهل القرية بموت أحد أبنائها.