التطرف: علة باطنية
التطرف: علة باطنية
سعد الصويان
فلنحارب التطرف وما يفرزه من إرهاب بكل ما أوتينا من قوة. ولكن أيضا دعونا نفهم جذوره التي تولد العنف حتى نجتثها ونوقف نموها وتكاثرها النجيلي. إدانة السلوك المنحرف أمر سهل لكن محاولة الفهم والتفسير أنفع وأنجع. الناس غالبا ما تشغلهم إدانة ظواهر الانحراف عن البحث عن الأسباب الخفية والآليات الكامنة التي تحركها. وإن حاولوا أن يبحثوا عن تفسير فإن تفسيرهم غالبا ما يكون أحادي النظرة كما لو أن أي نتيجة لا تحتمل أكثر من سبب. مشكلتنا في التعامل مع الظواهر هو أحادية التفسير والمسارعة في الإدانة، وكأننا إذا علت أصواتنا بالشجب والاستنكار أرضينا ضمائرنا وقمنا بالواجب وأخلينا أنفسنا من المسؤولية.
زيد يحصر ظاهرة التطرف في مضامين المناهج المدرسية، وعبيد يقصرها على الدين، وفهيد يقسم بأنها مؤامرة. قد تكون هذه الأسباب كلها وجيهة لكنها ليست وحدها المسؤولة، ناهيك عن أنها تخلط الأسباب بالنتائج. هل هناك مثلا لازمة سببية بين التطرف والدين؟ أم أن التطرف مركب سلوكي له جذور مستمدة من البيئة الاجتماعية والخلفية الثقافية وطرق التنشئة الأولى وظروفها؟ أليس هذا النمط من الشخصية يصبح متطرفا في كل شؤون حياته وطرق تفكيره وسلوكياته، بما في ذلك السلوك الديني! أليس التطرف الديني شكل من أشكال الرفض وعدم القدرة على التكيف ومظهر من مظاهر عدم التوافق الاجتماعي الذي يطغى على مختلف نواحي سيكولوجية المتطرف وعموم شخصيته المتأزمة! ثم ألا يوجد عندنا تطرف ومواقف متصلبة خارج إطار الدين، تطرف في المجال السياسي والفكري، من البعثيين إلى القوميين، إلى.. إلى...! ألا تذكرون كيف كان تعاملنا مع الحداثة أول ما وفدت إلينا، علما بأنها يفترض أن تكون قمة التسامح والانفتاح وتقبل الآخر؟ جذور المشكلة أعمق من الدين، والدين المتطرف هو نتيجة تلك المشكلة الأعمق والتي هي برأيي تكمن في التكوين الشخصي والتركيبة الذهنية.
لنخرج من واقعنا المحلي ونلقي نظرة على ظاهرة التطرف في البلدان الأخرى من أفغانستان إلى باكستان إلى السودان إلى الجزائر إلى مصر إلى اليمن. معظم المتطرفين في هذه البلدان تعود خلفياتهم إلى الصعيد والمناطق الجبلية والريفية النائية. نادرا ما تجد الإرهاب بين من ترعرعوا في المدن والحواضر. نعم، قد ينتقلون إلى المدن والعواصم ويمارسوا فيها تطرفهم وإرهابهم، لكن خلفياتهم الاجتماعية والعائلية غالبا ما تكون قروية فلاحية.
لماذا أرى أن التطرف ظاهرة ريفية أكثر منه ظاهرة مدنية؟ لأن المدن مجتمعات مركبة مختلطة من مختلف الفئات والأجناس والأطياف والطوائف، لذلك فإن لها تاريخ عريق في التعايش مع الآخر والتسامح والانفتاح الفكري والثقافي وتقبل الآراء الوافدة، على عكس المجتمعات الريفية الصغيرة المتجانسة المنغلقة التي تتسم بالمحافظة والتقليد ورفض التغير وكل جديد وغريب ومغاير لما اعتادت عليه، ليس فقط في المعتقد بل حتى في الأمور الشخصية وطريقة العيش مثل المأكل والمشرب والملبس والمسكن. الشخصية الريفية بطبيعتها شخصية نمطية مُقَولَبة تتميز بذهنية تحريمية تتشبث بالمقدس والطقوس التقليدية والشكليات المتوارثة. ومما ينمي لديها هذا النمط من التفكير المنغلق أنها غالبا ما تكون محرومة من أسباب الحضارة والتطور والخدمات والتعليم، وهذا ما نختصره عادة بكلمة التخلف، بجانبيه الفكري والاجتماعي.
غالبية المجتمعات العربية والإسلامية مجتمعات ريفية لم تحقق النهضة الحضارية والنقلة الحقيقية نحو المجتمع المديني بثقافتة التنويرية المتسامحة والقادرة على استيعاب الاختلافات والتوليف بين المتناقضات. أنا طبعا لا أتكلم هنا عن المدن التي تم بناؤها عندنا حديثا على عجل، فهذه عبارة عن هياكل معمارية وبنايات وطرقات ومراكز تجارية لاستهلاك البضائع والتكنولوجيا المستوردة، لكنها ليست مدن بالمصطلح الحضاري والاجتماعي. إنها تجمعات سكانية حديثة النشأة هاجر إليها الناس من القرى والأرياف وسكنوها دون الانصهار في مجتمع مدني، بل ظلوا محتفظين بعقليتهم المحافظة وما حملوه معهم من عادات وتقاليد. ثم إننا حينما نعمر المدن فإننا غالبا ما نطورها وننميها ونسمنها على حساب الأطراف والمناطق الريفية النائية التي تظل محرومة من أبسط الخدمات فيتولد لديها الإحساس بالغبن والقهر والظلم الذي يتحول إلى تضادية وصراع مبطّن بينها وبين المدينة.
العقلية الريفية عقلية سكونية راكدة لا تعترف بالتغير وترفض التطور وتفتقر إلى الحركية والمرونة الكافية للتعامل بشكل عقلاني وخلاق مع المستجدات والتحديات. من طبيعة العقلية الريفية أنها عقلية محافظة مرجعيتها ماضوية تشكك في الحاضر وتخاف من المستقبل بينما تقدس الماضي إلى درجة تصل عند البعض إلى حد عبادة الأجداد. ولذلك كنا حتى عهد قريب نغط في سبات عميق راقدين هانئين في أحضان الماضي التليد حتى استيقظنا فجأة على صفعات الأمم الأقوى وركلات الحضارات الأقدر فقمنا نعرك عيوننا ونتخبط مرتبكين لا ندري أين نتوجه ولا من أين المخرج، حتى وصل الأمر إلى حد أن البعض فقد صوابه وأشهر السلاح في وجه البعض الآخر منا. لقد صوبوا أدواتهم التدميرية لكل منجز حضاري مثلما صوبوا سهام التكفير والإلحاد والتصفية الجسدية لكل من يحاول البحث عن مخرج عقلاني من مأزق التخلف الذي نئن تحت وطأته.
التطرف والغلو والتعصب وخطابات التحريض التعبوية والفكر العدائي المتشنج والتكفير والانغلاق وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وإفرازات العنف والإرهاب كلها مظاهر تخلف سوف تظل تلاحقنا وتهدد أمننا ما لم نخرج من عنق زجاجة التخلف الفكري والثقافي والتسلط الديني والسياسي وما لم نطور مؤسساتنا التعليمية والإعلامية ونحث الخطى ونغذ السير نحو التحديث الشامل والأخذ بأسباب الحضارة المتكاملة والتنتمية المتوازنة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية، وليس فقط المادية. هذا هو السبيل نحو بث الفكر التنويري المنفتح وتغيير البنية الذهنية وإعادة تكوين الشخصية النمطية لنستطيع مسايرة العصر والتكيف مع العالم الحديث الذي يطبق علينا من كل الجهات ويحاصرنا على كل الجبهات.
المصدر: http://www.saadsowayan.com/html/Articles/A06.htm