التطرُّف: العقلُ القاتل الانتحاري نفسُه..!

التطرُّف: العقلُ القاتل الانتحاري نفسُه..!

علاء الدين أبو زينة
نشر : 06/08/2011 الساعة pm 11:20(GMT +3) نقلَت الأنباء عن سفاح النرويج "بريفيك" قوله في هذره على الإنترنت: "على العرب أن يخرجوا من الضفة الغربية وغزة". وبعد ذلك، طابقت دمويّته البشِعة فظاعة أصحاب هذا الخطاب الصهيوني الإقصائي في فلسطين ونظرائهم في العالم، فأقدم على قتل صبيان أبرياء من مواطنيه بدم بارد. لكن مؤسسة اليمين الغربي وصفته بالجنون، وهو نفس الوصف الذي أُسنِد إلى مُرتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي الصهيوني المتطرف باروخ غولدشتاين، وكأن هذين المجرمين ليسا نتاج وعظٍ عُصبويّ واعٍ لغاياته، حاقدٍ وشيطاني.
في زاوية أخرى من الإطار نفسه، احتفت حاكميّة العالم من اليمين الأميركي والأوروبي المتطرف بعبقرية المنظّرَين المتطرفين؛ فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، وصامويل هنتنغتون، منظر حتمية الصراع بين الحضارات، ولم تعتبرهما مؤسسة اليمين مجنونَين. وكان تجلّي فكرهما الحاقد في التطبيق هو تبرير شنّ اليمين الإمبريالي حروبه المجنونة، وتقتيله الهائل للعراقيين والأفغان، وتأليبه المستمرّ على المسلمين وشيطنتهم بالإجماع.
الملاحَظ في هذا العقل المتطرف، إذا كان يمتّ إلى التعقل أصلاً، هو غرابة تركيبته المكونة من نزعة القتل والانتحار معاً. ونرى الآن كيف أفضت فوقية أميركا واستهدافها للشعوب إلى جعل نفسها ومواطنيها هدفاً لكراهية العالم، وإلى زرْع الرُهاب والخوف من الآخَر في وعيها الجمعي. وتمكن رؤية ذلك الخوف في مظهر السّفارات الأميركية الشبيهة بالقلاع أو المستَعمرات في بُلدان محتلة، وكذلك خوف الأميركيين على أرواحهم في الخارج. وعلى المستوى العَملي، جلبت المغامرات الحربية الأميركية الموت والعُصاب على الآلاف من الجنود الأميركيين، واستنزفت الموارد الاقتصادية، وأزّمت الداخل الذي تتصاعد الدعوات إلى الالتفات إليه ومحاولة إنقاذه. وهذه مواصفات سلوك انتحاري.
وفي فلسطين، عَنت السياسات الصهيونية التي رفضت التعايش واختارت العداء والإقصاء، إبقاء دولة الكيان ثُكنة عسكرية مُرتعبة، تحتال على عُزلتها وسجنها الانفرادي بالصراخ وحدَها. وسوفَ تفضي هذه السّياسات الاستعدائية إلى نهاية هذا الكيان حتماً، بالديمغرافيا أو بغيرها. ولا حاجَة لذكر الآلاف الذين قتلتهم المؤسسة الصهيونية من مواطنيها أيضاً في اشتباكاتها المستمرة. ويُساعد التطرّف الأنجيليكاني المسيحي نظيره الصهيوني في تعزيز هذا التوجّه الذي لا يعدو كونه انتحاراً في نهاية المطاف.
والاتجاه الإسلامويّ التّكفيري، المُتشارك بنزعة الإقصاء، جلَب الدمار أيضاً على الأُمّة في أكثر من مُستوى: أولاً، تبرّع بتلوين الصورة النمطيّة التي اشتغلت عليها الرجعية الغربية عن الإسلام لتجعله ثقافة غزو واستثناء، غايتها تحويل العالَم إلى دولة أحَديّة الهُويّة يحكُمها خليفة، وهو ما عنى الإضافة بغير حصافة إلى خُلاصات فوكوياما وهنتنغتون ودعم فرضيّاتهما، وتسويغ قتل المسلمين كما حصل. وثانياً، بتكفير المُسلمين الآخرين الذين يعتنقون مبدأ صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وانفتاحه على التّفاعل والتبادل والتكيُّف. وعمل التكفيريون أيضاً على إغواء ضعاف الوعي لقتل مُواطنيهم في الأسواق والفنادق بلا شُعور بالشفقة أو الذنب، بالإضافة إلى إنقاذ الأنظمة العربية بإرباك حراك النّاس التحرُّري وخوفهم من احتمال استبدال العقل السُّلطوي القائم بعقل متشدّد أحَديّ أكثر سُلطويّة. وكل هذا سلوك قاتل وانتحاري أيضاً.
الفرق بين "بريفيك" و"غولدشتاين" من جهة، و"فوكوياما" و"هنتنغتون" من جهة أخرى، هو أن الأوَّلين أكثرُ سُفوراً وسَذاجة، وأقلُّ قَتلاً أيضاً. أما مرتكبو القتل الجماعي، والانتحار الجماعي، فهم المنظِّرون الذين يهندسون عقل التطرف. وغالِباً ما وُصفَ بالجُنون الأفراد-الأدوات الذين ينفذون إرادة العقل المتطرّف بالقتل، ليس لتجنيبهم العقاب بالضرورة، وإنّما ليتنصّل المُحرِّضون من المسؤولية. ومن التعبيرات القريبة عن الآلية جريمة "قتلَ الشَّرف"، حينَ يَستنفر العَقل الإجرامي المدبّر "الرّاشد" نوازع العُصبوّية والحميّة عند قاصر، ويُعطيه السكّين والتبرير ليقتل شقيقته، فتذهب حياته مع حياة المقتولة بينما يُدير القاتل الحقيقي المُحرّض وجهه وكأنّه نظيف اليد من الدم. هذا القتل-الانتحار هو تجلٍّ واحد للعَقل المتألِّه نفسه، المُدّعي لنفسه صواب الحُكم.
المُشتَرك في هذا العَقل القاتل الانتحاري المُتشابه، هو ادّعاء التصرُّف بتكليف إلهي -تعالى اللّه، مطلَق الخير والعدل، عن تكليف أحد بالقتل والانتحار. وبهذا الادّعاء للتماهي مع التعاليم المقدّسة كتَب الإنجيليكان أنصار الصهيونية الإقصائية على باب كنيسة في أميركا: "نحبك يا إسرائيل، يا أرض الربَّ"، ويريد بريفيك "تطهير" الضفة الغربية وغزّة من العرب.
المصدر: http://alghad.com/index.php/afkar_wamawaqef/article/26504.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك