في النفس والدعوة

في النفس والدعوة
رفاعي سرور
مقدمة :
البـدايـة :
"لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَه مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إبليس يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لاَ يَتَمَالَكُ"( )....
وكانت هذه أول دراسة شيطانية لآدم....
وكانت ترتكز على صفة الضعف فيه....
ومنذ هذه الدراسة لم يزل هذا النوع من الدراسات للنفس بنفس الخطوة الشيطانية المتقدمة والمرتكزة كذلك على صفة الضعف فيه..
فقامت الدراسات النفسية غير الإسلامية للإنسان من مجموع دراسة الأمراض النفسية والظواهر غير الطبيعية في الإنسان.
فكان لابد لأصحاب هذه الدراسات أن يوظفوا التفسير الصحيح للنفس في إطار هذه الأمراض والظواهر الشاذة، ولكي يكون هذا التفسير مقبولاً يتم إقناع المطلعين على هذه الدراسات بالموضوعية والواقعية..
ولنضرب لهذا الكلام مثلاً...
قامـت التفسيرات الباطلة على أن جانب (الجنس) هو أساس تفسير السلوك الإنساني، وكان الجانب المقابل الذي أهدرته وبددته هذه الدراسات الباطلة هو جانب (العبادة). ومن هنا كان علينا أن نكشف بأنفسنا التناسب الخبيث الذي قامت عليه هذه الدراسات، والمقارنة الأساسية بين الجانبين هي التي تكشف هذا الخبث.... وكانت حقيقة الإحساس بالذات هي مجال المقارنة. و كانت العبادة هي أصل الإحساس بالذات في النفس، ولأنها إثبات جوهري للوظيفة الإنسانية من حيث العلة لقوله سبحانه و تعالي وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56) وكذلك لأنها تحقق الاستيعاب الكامل للحياة الإنسانية، وبذلك أصبحت الصلاة هي معيار الشخصية الإنسانية. والصلاة هي جوهر العبادة ولذلك أصبحت الصلاة تحديداً هي المعيار الأساسي للشخصية. والدليل القاطع على معيارية الصلاة للشخصية هي أن الشخصية باعتبارها المحصلة النهائية للأبعاد العقلية والقلبية والبدنية.
فإن الصلاة تكون نقطة الارتكاز في محصلة هذه الأبعاد الإنسانية كلها ولذا كان جزاؤها حفظ الإنسان ذاته إذا حفظها الإنسان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم "إن الصلاة المقبولة تقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني"(1).
ولذلك قال رسول الله  "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ."(2)
وفي ذلك دليل على معيارية الصلاة للإنسان كما كان الحديث دليلاً على معيارية الصلاة للعمل.
كما كان الكتاب مواجهة مع النفس..
مواجهة مع الضعف - الركون - التراجع - الفتور..
مع الخداع والتضليل والتبرير..
مع العورات النفسية والخفايا الوجدانية..
ثم جاء الكتاب بعد ارتباطه بمنهج الدعوة..
لمواجهه ذاتية للحركة الإسلامية..
مع السلوك والظواهر..
والاحساسات المترسبة من حياتنا الجاهلية في كياناتنا النفسية..
ومن أجل تلك المواجهة..
كانت الدراسة شرعية ودقيقة، وتحدد الأمراض بحسم تام...
لنقرر العلاجات بتوفيق من الله وثقة في الشرع.. بلا مواربة أو هوادة أو تردد...
فهي دراسة خافضة رافعة، ولكن ليس في الواقع كما سيكون الأمر يوم القيامة بل أمام النفس وداخلها.
كل منا يعرف نفسه ولكن الشرع يحدد النفس التي نعرفها جميعاً كالتي يعرفها صاحبها..
وكانت هذه هي إحدى أهداف الكتاب..
ثم هدف آخر هو الدراسة النفسية ذاتها، الدراسة النفسية السلفية المتأصلة تأصيلاً شرعياً البعيدة عن المناهج الغربية وذلك في إطار الخطة الفكرية المطروحة من الحركة الإسلامية والمسماة باسمها "خطة أسلمه العلوم"

وبعد...
فقد كنت أقف طويلاً أمام موقف حسان بن ثابت عندما طلبت منه إحدى الصحابيات أن يقتل مشركاً يقترب منهن في إحدى الغزوات فيعتذر بعدم الاستطاعة .. فتقوم إحداهن وتفعل ما طُلب منه .. وهو من أهل بدر..
أقول كيف ؟ سبحان الله.
ولكني وجدت في هذا الموقف أقوى دلالات الكيان الإنساني الصحيح وأقوى هذه الدلالات هو أن يعرف كل إنسان قدر نفسه.
ويساوى هذه الدلالة خطوات أبو دجانة مختالاً في المعركة..
كلاهما يعرف قدر نفسه، وهذه دلالة الصحة .. لا القوة ولا الضعف ولكن إدراك القوة والضعف.
لا وقت للانسياق وراء الإحساس بالبطولة والشجاعة والزعامة بين الإنسان ونفسه.
لا وقت للاطمئنان الوهمي إلى صواب الإنسان بينه وبين نفسه.
لا وقت... حتى ولا طرفة عين ... ولهذا يستعيذ النبي بالله أن يوكله الله إلى نفسه طرفة عين فيقول : "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأكن من الخاسرين"(1).
من أجل ذلك كان لابد من إنشاء علم النفس الإسلامي.
وإنشاء علم النفس الإسلامي يقوم على ثلاث دعائم
المنهج القياسي. النفس القياسية. البيئة القياسية.

المنهج القياسي:
وما نعنيه بالمنهج القياسي أن يكون منهج هذه الدراسة منهجاً ربانياً لأن الله عز وجل هو الخالق وهو الأعلم بمن خلق كما قال سبحانه ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبير (الملك: 14). والتعقيب بقوله سبحانه و تعالي وهو اللطيف الخبير يدل على معرفة الإنسان بصورة كاملة، فاللطيف: العالم بدقائق الأمور والخبير هو العالم بكنه الشيء المطلع على حقيقته وهذا التفسير أنسب ما يكون للنفس البشرية بدقتها وغموضها وحقيقتها وكنهها، والواقع أن هذا الأسلوب شرط علمي لأي دراسة في النفس البشرية.
والقرآن هو المنهج الرباني، ولذلك لابد أن تنطلق أي دراسة للنفس من القرآن الكريم، وكما كان من المستحيل إدراك حقيقة النفس إلا من خلال ما علمنا من كتاب ربنا وهو خالقنا فإنه كان من المستحيل أيضاً إدراك حقيقة السلوك إلا من خلال ما علمنا من كتاب ربنا وخالق أعمالنا والله خلقكم وما تعملون ولذلك كان المنهج قياسياً لأنه منهج ربنا الذي يعلم النفس ويعلم عملها يعني: الطبيعة والسلوك.
و كذلك النصوص الشرعية الواردة عن رسول الله  وكذلك أقوال الصحابة والتابعين الدائرة في إطار هذه الدراسة باعتبارهم السلف الناقل إلينا فهم الكتاب والسنة.
وأي منهج يدعى أحد قياسيته يكون كذباً لأنه من عند نفسه فلا بد أن يتأثر بطبيعته و أحواله النفسية و بيئته الاجتماعية.
النفس القياسية :
أما النفس القياسية فهي التي يتصور أصحاب المناهج الجاهلية في دراسة النفس أنها أمرٌ مفترضٌ نظرياً ليس له وجود في الواقع، أما في الدراسة الإسلامية فإن النفس القياسية عندنا هي رسول الله  ومن هنا كان قول الله عز وجل:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً (الأحزاب: 2).
وهذه الآية نزلت بمناسبة غزوة الأحزاب حيث تميز رسول الل  عن جميع الصحابة بشجاعته حين خافوا، وقوته حين ضعفوا. فكان ذكر الآية في غزوة الأحزاب دليلاً في ذاته على قياسية نفس رسول الله  حتى قال رسول الله  في غزوة الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم وأضمن له الجنة" فلا يقوم أحد. حتى قال: "قم يا حذيفة"، فقام وهو يقول : والله لولا سماني ما قمت.(1) فالآيات تقرر خوف أصحاب رسول الله  وثباته هو.
البيئة القياسية :
ولما كانت النفس القياسية هي نفس رسول الله  كانت البيئة هي الواقع البشرى المحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة بكل ظروفها وأحوالها، ومن هنا جاءت الآيات التي تصور تجانس المنهج القياسي مع النفس القياسية والبيئة القياسية.
وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِي َالْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أهل يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإذا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإذا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. (الأحزاب: 21,10)
لكننا إذ نعتبر أن البيئة القياسية لدراسة النفس البشرية هي الدعامة الثالثة، فذلك لأنها في نفس الوقت هي مرحلة تطور الإنسان من مجرد آدمي إلى إنسان صاحب رسالة يعيش قضية الإنسان، وهي الفترة من بداية نزول الوحي حتى وفاة الرسول لان الوحي هو الذي انتقل بالإنسان هذه النقلة ، وهذا بصفة أساسية. ولا يملك هذه الدعائم التي تمثل في نفس الوقت شروطاً علمية لدراسة النفس البشرية إلا المسلمون وبذلك تسقط الصفة العلمية عن أي محاولة لدراسة النفس البشرية لا تنطلق من هذا الاتجاه ولا تقوم على هذه الدعائم..
لم يكن القصد من ذكر ما سبق تقديماً للدراسة النفسية ولا حتى تلميحاً بمقتطفات منها، فالأمر أكبر من أن يحققه حيز هذه المقدمة ، إنما كان القصد فقط هو تنبيه الحاسة النفسية في التعامل مع النصوص لأننا بتلك الحاسة سنكشف معاً كنزاً من النصوص الشرعية نصوغ به منهجاً إسلامياً لدراسة النفس البشرية منهجاً من الإسلام الخالص، ليست له علاقة بأي مدارس أو نظريات أو مصطلحات أخرى، ولا يقارن بها ولا يقاس عليها، منهجاً إسلامياً لا يعترف ولا يعتبر أي اعتبار لأي طرح تصوري عن النفس يأتي من خارجه؛ لأنه المنهج الوحيد الذي يملك أصحابه إمكانية هذه الصياغة وشروط النجاح فيه.

القسم الأول

كيف نفهم الإنسان؟

كيف نفهم الإنسان؟
النفس ( تعريف عام ):-
هي" جوهر الطبيعة الإنسانية". جوهر تحرزاً من الصفات العارضة. الطبيعة تحرزاً من الصفات المصطنعة. الإنسانية تحرزاً من الخروج عن موضوع التعريف.
وباعتبار كلمة جوهر يقوم معنى النفس:
بالروح: وهو النفس الحية.
والعقل: وهو النفس المميزة.
والقلب: وهو النفس الواعية.
* * *
تبين من المقدمة الإمكانية الضخمة التي تضمنها التصور الإسلامي لفهم الإنسان وكيف أن هذه الإمكانية ترتكز في النصوص الشرعية من ناحية وعلى الحاسة النفسية التي تقرأ بها هذه النصوص من ناحية أخرى.. ومن هنا يبدأ تحديد منهجية فهم الإنسان، وترتكز هذه المنهجية على عدة ركائز:
أولها: (الأسماء اللغوية ):-
فهذا الفهم لا يتم إلا إذا اتفقنا على عدة مصطلحات وبعدة مستويات.
المستوى الأول: (الخلق) الاتفاق على اسم: آدم، البشر، الإنسان.
المستوى الثاني: (المضمون) الاتفاق على اسم: الروح، العقل، القلب.
المستوى الثالث: (القيمة) الاتفاق على اسم: النفس، الذات، الشخصية.
و هذه المستويات الثلاثة بما تتضمنه من أسماء هي التي تعطي الصورة الطبيعية للنفس، أو الصورة التي وجدت عليها النفس بمزاياها ونقائصها.
المستوى الأول:
- أما اسم آدم فهو من الأديم، وهو الجلد، لأن آدم خلق من أديم الأرض أو جلدها أو قشرتها، ولخلق آدم من أديم الأرض معطيات جوهرية في فهمه، ومنه قول النبي  إن الله خلق آدم من جميع الأرض فمنه السهل والحزن والأبيض والأسود"( ).
ومن هذا الحديث تثبت الفوارق الطبيعية بين الأفراد كما تثبت الجبلة الخاصة التي جبل عليها أي إنسان. أما الانسان، فهو إما من الإيناس بغيره من جنسه، أي يأنس بعضه ببعض، أو من النسيان وهما ثابتتان في الإنسان. كما يثبت باسم (الإنسان) صفة ثالثة وهي الحركة، وهي من النوس كما في حديث (أم زرع) أناس من حلي أذني، أي: حرك.
أما البشر فهو من البشرة وهي أعلى جلدة الرأس والوجه والجسد، ومنه: اللون والرقة. ومن معنى الرقة اشتقت مباشرة الرجل والمرأة.
المستوي الثاني:
والحقيقة الأولى في فهم الإنسان على المستوى الثاني أن الروح فيه هي الأصل، وأنها هي بدايته وهى نهايته. وهي هو على وجه التحديد. وأن الجسد فيه تجسيد وإظهار لحقيقته الروحية، وإثبات هذه الحقيقة هو أساس فهم الإنسان..
فالروح هي العقل المدرك لحقائق الربانية.
المقابل للمخ الجسماني (مجموع الخلايا النابضة).
والروح هي القلب؛ بمعنى: اللب الواعي للعقائد والصواب (المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله). المقابل للقلب (مضخة الدم). و الروح هي الشخصية.
ألم يتميز داود وهو لم يزل بعد في عالم الذر حتى أعطاه آدم أربعين عاماً من عمره؟(1).
ألم يصف الحديث الروح بالطيبة والخبث، وكان وصفاً قائماً بها فقال رسول الله النبي  في حديث قبض الروح من الجسد:
" أيتها الروح الطيبة ... أيتها الروح الخبيثة..."(2).
ومعنى الروح هي الشخصية .. أنها تعني ضمنياً أن تكون هي العلاقة بين الإنسان وغيره.. والروح هي مصدر الفاعلية في مجموع هذه العلاقات البشرية. ولذلك بين النبي  أن:
"الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"(3).
أما الجسد فهو أداة إظهار للروح. لأن الجسد بالنسبة للإنسان ضرورة إظهار. و إظهار الروح ضرورة في كل أحوالها، ولذلك بين النبي  أن الروح في حال نزعها مؤمنة تكفن بحنوط من الجنة، وأن الروح في حال نزعها كافرة تكفن بحنوط من نار .. وأن روح الشهداء في حواصل طير خضر .. فالكفن والطير والجسد القائم بالروح الآن هي مجرد ضرورة إظهار لها.يمكن أن تتغير وتتبدل في أي ظرف من الظروف. أما الفطرة فهي معيار الحق في كيان الإنسان. مثلما كان العقل أداة إدراك الحق بالنسبة للمخ (أداة التفكير البحت). وكان القلب الذي هو (اللُب) موضع الإيمان بالنسبة للقلب الذي هو: (مضخة الدم). وبذلك يكون العقل والقلب والفطرة هي ركائز الربانية في كيان الإنسان.

أما العقل: فقد جاء بعدة معاني:
ـ العقل بمعنى الإدراك من حيث السن:
عن الزهري، عن محمود بن الربيع قال:عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو.(1) "البخاري".
وَكَانَ عبد الله بنُ عَمْرٍو يُعَلّمُهُنّ مَنْ عَقَلَ مِنْ بَنِيهِ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ كَتَبَهُ فَأَعْلَقَهُ عَلَيْهِ."(2) ‏"سنن أبى داود".
ـ العقل بمعنى الرشد:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"إذا حج الصبي فهي له حجة حتى يعقل، وإذا عقل فعليه حجة أخرى، وإذا حج الأعرابي فهي له حجة، فإذا هاجر فعليه حجة أخرى"(3).
ـ العقل بمعنى الوعي (الاستيعاب):
"إنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده."(4).
ـ العقل بمعنى الفهم:
"عن أنس أن النبي  كان يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه"(1)
ـ العقل بمعنى الحكمة:
إذا تم عقل المرء قل كلامه وأيقن بحٌمق المرء إن كان مكثاراً
ـ العقل بمعنى الاتزان:
عَنْ عبد الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: [ أَتَى النَّبِيَّ  أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ طَيَالِسَةٍ مَكْفُوفَةٌ بِدِيبَاجٍ أَوْ مَزْرُورَةٌ بِدِيبَاجٍ فَقَالَ إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ كُلَّ رَاعٍ ابْنِ رَاعٍ وَيَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ فَاجْتَذَبَهُ وَقَالَ ألا أَرَى عَلَيْكَ ثِيَابَ مَنْ لَا يَعْقِلُ … ](2)
ـ العقل بمعنى التميز:
"ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان"(3)
ـ العقل بمعني الشخصية:
قَالَ الْحَسَنُ: [ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ صُوَرًا وَلَا عُقُولَ أَجْسَامًا وَلَا أَحْلَامَ فَرَاشَ نَارٍ وَذِبَّانَ طَمَعٍ يَغْدُونَ بِدِرْهَمَيْنِ وَيَرُوحُونَ بِدِرْهَمَيْنِ يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دَيْنَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ ](4)
ـ العقل بمعنى الوعي (الإفاقة):
روى جابر أيضا قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت. فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت"يوصيكم الله في أولادكم"(1)
ـ العقل بمعنى نفي العته:
عن الحسن، عن علي-رضي الله تعالى عن: أن رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يعقل، وعن الصبي حتى يشب"(2) "المستدرك على الصحيحين".
ـ العقل بمعنى نفى الجنون:
عن ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما- قال: أتي عمر-رضي الله تعالى عنه- بامرأة مجنونة حبلى، فأراد أن يرجمها. فقال له علي: أو ما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاث: عن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ فخلى عنها.(3) "المستدرك على الصحيحين".
أما القلب فهو مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط.
وقد يعبر بالقلب عن العقـــل.
وبنفس التصور يمكن تحديد العلاقة بين القلب والعقل، فعندما يكون القلب في حالة وعى يكون أقرب ما يكون إلى مهمة القلب (التمييز) فيسمى القلب عقلاً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (ق: 37) أي: عقل.
والوظائف المتعددة للقلب هي التسميات المتعددة له أيضاً …
فالفؤاد: هو الصفة الحسية للقلب.. واللب: هو الصفة المعنوية للقلب..
ومن هنا؛ كان الفؤاد أقرب إلى الحس في تعريفه ووصفه، حتى قيل: إن الفؤاد من التفؤد وهو التوقد بمعنى الطاقة الحية للقلب، وهو الذي ينطبق عليه قول الله في الكافرين مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (إبراهيم: 37).
فالفؤاد هو الصلة القلبية مع الحواس فهي جزء منه وتعبر عما فيه. ولكونها جزء منه جاء التعبير عن القلب بالفؤاد، ولكونها تعبر عما فيه جاء مقترناً بالحواس كأنه في حال النقل عن القلب يكون من القلب، وفي حال الاتصال بالحواس يكون من الحواس: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء: 43)
وكما يقال القلب هو الفؤاد، يقال عن النار بسطحها الذي يشوى عليه وهو منها.
وكما يقال القلب غير الفؤاد، يقال عن النار بسطحها الذي يشوى عليه وهو غيرها.
وهذا السطح قد يكون المُلة أو الرماد أو الأرض.
ومن الأدلة الشرعية على أن القلب غير الفؤاد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً."(1)
ومن الأدلة الشرعية على أن القلب هو الفؤاد قول الله عز وجل:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (الأنعام: 110)، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء: 36)
أما اللب فهو المعنى الوظيفي الجامع بين العقل و القلب و لذلك كان اللب هو القلب العاقل أي أن اللب هو أداة الاستيعاب القلبي للمعقولات و لذلك ورد في الحديث (عَنْ جندب ابن عبد الله قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم - و نحن فتيان" حزاورة" - جمع الحزور وهو الغلام إذا أشتد وقوي - فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فإزددنا به إيماناً)
وكل من اللب والفؤاد يتطابق تماماً مع القلب ولا ينفصل عنه. وما ينطبق على القلب ينطبق على العلاقة بين العقل والمخ، فالمخ هو الصفة الحسية للعقل، ولذلك كانت آثاره حسية.. فيكون اللب أداة إدراك الحقائق المعنوية وأهمها العقيدة، كما كان المخ أداة إدراك الحقائق الحسية وأهمها العمران والدنيا. و لذلك جاء في تعريف اللب"و ذكرى لأولي الألباب" أي عبرة لذوي العقول.
المستوي الثالث:
ويبدأ بالنفس.
ـ النفس: جملة الشيء وحقيقته ونفس الشيء ذاته و نفس الشيء عينه. و النفس أنفس ما في الإنسان:وأغلي ما له ولذلك كانت النفس هي الروح وبينهما فرق أما الفرق بين النفس والروح أنك تقول: إذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. ولا يقبض الروح إلا عند الموت. فتقول خرجت نفس فلان أي روحه
النفس: الدم، لأن النفس تزول بزواله، ولذلك سمي الدم نفساً سائلة. ومنه قول رسول الله  ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه(1) قال ابن عبد البر في
( التمهيد / 1 / 338 ): يعني بالنفس الدم.
والنفس يعبر بها عن الإنسان جميعه.
كما قال ابن عباس: "لكل إنسان نفسان: أحدهما نفس العقل الذي يكون به التمييز، والأخرى: نفس الروح الذي به الحياة"(2). وسميت نفساً لتولد النفس منها.
ولذلك كانت النفس هي الروع تقول وقع في نفسه أي في روعه
ويمكن التعبير عن النفس بقول: العظمة والكبر. والنفس: العزة. والنفس: الهمة. والنفس: الأنفة، لدلاله النفس علي الذات.
الذات:
ذات الشيء حقيقته وخاصته، كما في قول الله عز وجل وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (لقمان: 23)
بحقيقة الصدور وحقيقة الشيء: خاصته وصاحبه.
وأصلحوا ذات بينكم أي: أصلحوا خاصة بينكم.
الشخصية:
هي المرأى للإنسان أو سواد الإنسان وغيره تراه بعيداً، وكل شيء رأيت جسمانه فقد رأيت شخصه.
والشخص: كل جسم له ارتفاع وظهور.. شخص: (ظَهُرَ- عَظُمَ- انبرى).
الشخصية: لكن الشخصية هي المحصلة النهائية للعلاقة بين الذات والواقع، وهذا يعني أن تجتمع في الشخصية مقتضيات الذات الخاصة: (العقل والقلب والروح).
وعند افتقاد الشخصية مقتضيات الذات تصبح صورة لا معنى لها كما في قول الله: وَإذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أنى يُؤْفَكُونَ (المنافقون: 4).
وقول القائل"رأيناهم صوراً لا عقل لها"
ومن هذه الآية تتحدد عناصر الشخصية.
الخشب لا حياة فيه ولا روح كالتي في الشجر.
والخشب لا جذور له ولا ثبات كالذي للشجر.
والخشب لا صورة له ولا منظر كالذي للشجر.
فالشخصية روح وموقف وصورة حية ثابتة.
* * *
ولكن التحليل العام المثبت لتوجه النفس نحو الذات، وتوجه الذات نحو خالقها، يتبعه تحليلات فرعية متعلقة بالعلاقة بين جميع جوانب النفس بصورة مباشرة، ولكن اتجاه كل مستويات التعريف نحو الذات ينشأ عنه حقيقة تحليلية ثانية، وهي وحدة الكيان الإنساني تحليلياً كما سنرى إن شاء الله.
ومعنى اتجاه عناصر التكوين الإنساني النفسي للذات، فذلك لأن الذات هي الصورة الحقيقية النهائية المعبرة عن كل هذه العناصر.
إذن فالظهور هو نتيجة من نتائج الاتجاه النفسي نحو الذات.
ولذلك نجد التكوين النفسي يحاول الظهور من خلال الصورة الذاتية مثل الوضاءة في وجه المتعبد كما في قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (الفتح: 29).
ومثل فلتات اللسان التي قال الله فيها عن الكافرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْوَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران: 118).
و مثل ظهور الحب في العينين كما قيل: والصب تفضحه عيونه.
وبصفة عامة فإن القلب هو المحرك لكل العناصر التكوينية في اتجاهها إلى الذات.كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألاَ وَإنَّ حِمَى اللَّهِ تَعالى مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألاَ وَهِيَ القَلْب)ُ(1).
ولكن للقلب مع العقل علاقة تبادلية.. تختلف بين إنسان وآخر.
فمن الناس من يبدأ قلبه بالتأثير على العقل (وهو شخص وجداني).
ومنهم من يبدأ عقله بالتأثير في القلب (وهو الشخص العقلاني).
لكن السلوك النهائي ناتج عن العلاقة الأساسية (التبادلية) بين القلب والعقل.
أما الروح فهي تابعة للذات في أعمالها، ولذلك كان منها الروح الطيبة والروح الخبيثة.
أما اتجاه الذات الإنسانية نحو الله سبحانه وتعالى فتنشأ عنه حقيقة تحليلية ثالثة وهي الفطرة.
ومن الإطار العام لتعريف الإنسان بعناصره التسعة يمكن استنباط عدة حقائق:
- الأولى: أن الروح هي أصل الإنسان والنفس أقرب معاني الروح في الإنسان.
وأن الروح هي أصل الإنسان فلا يمكن أن تكون موضع تفكير مجرد لأننا نلتزم فيها بالنصوص الواردة على ظاهرها لأن التفويض في العلم بها إلي الله.
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (الإسراء: 85).
لما تقرر أن الروح هي أصل الإنسان بكل تسمياته؛
كانت الروح هي الجانب الرباني للجسد، وتسمى عندئذ فطرة
وهي الجانب الرباني للمخ، وتسمى عندئذٍ عقلاً.
والروح هي الجانب الرباني لمضخة الدم وتسمى عندئذٍ القلب.
- الثانية: فشل التسمية المتعلقة بالفرق بين القلب (الذي نحب به ونكره) ومضخة الدم (البطين والأذين)
وكذلك فإن القلب عندما يكون أقرب إلى الحواس يسمى عندئذٍ فؤاداً.
وعندما يكون أقرب إلى العقل يسمى عندئذٍ لُباً.
وهذا يعني أن التسميات الوظيفية هي الغالبة على التسميات العضوية في فهم الإنسان
- الثالثة: أن اختلاف التسمية بالاعتبار الوظيفي لا يمنع تحقق وحدة الكيان الإنساني، فالإنسان نفسياً وحدة كيانية واحدة.. إن علاقة كل عضو فيه وكل وظيفة له مرتبطة ببعضها ارتباطاً وحدوياً. فالعلاقة بين الروح والقلب في الحب والكره تأتي من الروح، كما قال الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"(1)
فالاتفاق القلبي أثر التعارف الروحي،والاختلاف القلبي أثر الاختلاف الروحي.
وكذلك القلب والمخ...
فعندما تكون الوظيفة هي الهداية الحسية يكون المخ هو الأداة..
وعندما تكون الوظيفة هي الهداية الربانية يكون القلب و العقل هما الأداة..
فالإنسان يستطيع أن يصل القمر بمخ سليم فقط
فإذا لم يصل إلى وحدانية الله لا يكون عاقلاً
ولكن تجانس حقيقة الهداية في الحالتين جعل شرط صواب المخ شرطاً للهداية إلى الله... بجانب شرط صواب العقل.
أَهَكَذَا عَرْشُكِ (النمل: من الآية42)
فأجابت أمثل إجابة فقالت: كَأَنَّهُ هُوَ (النمل: من الآية42)
ولم تقل هو لأنه منكَّر ولم تقل ليس هو لأنه هو.
فأدخلها في التجربة الثانية وكانت لإسقاط الغرور عن نفسها: قيل لها ادخلي الصرح فلما دخلته حسبته لجَّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرَّدٌ من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربِّ العالمين (النمل: 44).
وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمت الدعوة للملكة وعندئذ قالت: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (النمل: 44).
ولذلك أدخل سليمان ملكه سبأ في تجربتين كانت الأولي لإثبات ذكائها وهي تجربة تنكير العرش... قال نكروا لها عرشها لتنظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون.
- الرابعة أن الذات هي محور عناصر التعريف بالإنسان.
ولذا كانت الذات هي محور الدراسة النفسية.
وهذه النتيجة واضحة وببساطة بمجرد مراجعة المستويات الثلاثة بعناصرها الثلاثة:
المستوى الأول:(الخلق): الذي يناقش الآثار المترتبة على خلق الإنسان وارتباطه بمادة خلقه.
والمستوى الثاني:(المضمون):الذي يناقش الآثار المترتبة على العلاقة بين حقائق كيان الروح والقلب والعقل فكان الأول كالمقدمة للثاني.
والمستوى الثالث:(القيمة): وهو الجامع لكل عناصر المستويين الأول والثاني.
النفس الجامعة للروح والقلب والعقل و الذات المتضمنة لحقيقة النفس الخاصة لكل إنسان بصفته الفردية.
وبذلك تصبح النفس هي باطن الذات المحدد لصورتها في المجتمع و المكونة للشخصية.
وبذلك تكون الذات هي المعنى الجامع للإنسان. وهذا المعنى الجامع هو الذي سيصل بنا إلى الإجابة على هذا التساؤل الهام: كيف نفهم الإنسان؟

القسم الثاني
إسلامية التحليل
إسلامية التحليل
المدرسة الإسلامية للتحليل:-
عندما أنزل الله الدين على آدم بعد النزول إلى الأرض كان هذا الدين موافقاً لطبيعة الإنسان، لكن نزول الدين الموافق للطبيعة الإنسانية فجعل الدين بالنسبة للإنسان لحمه ودمه: "دينك عرضك لحمك ودمك"(1).
فالدين هو الهدى الذي جاء في قوله سبحانه: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَأما يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 38).
والهدى هو القرآن ... والقرآن بالنسبة للإنسان ربيع القلب ونور البصر وجلاء الهم والغم.(2)
فالقلب هو الحياة، والقرآن ربيع هذه الحياة ... والبصر هو النور، والقرآن نور البصر ... والدين هو العبادة، وتمام العبادة هو الخشوع .. والخشوع بكل كيان الإنسان، [كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَإِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَإِذَا رَفَعَ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ وَإِذَا سَجَدَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ](1).
ولما كان الدين هو العبادة؛ أحب الله الإنسان بمقدار عبوديته، وإذا أحب الله عبداً جعله يسمع بالله ويبصر بالله؛ كما قال رسول الله  "إِنَّ اللَّهَ: قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"(2).
ولذلك كان الخروج من الدين انسلاخ، كما قال سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (الأعراف: 175).
فالسلخ هنا معناه أن الآيات كانت بالنسبة له جلده الملاصق لجسده ولحمه وعظمه بصورة كاملة.
وهكذا يكون الدين للإنسان كيانه كله وجوارحه كلها وسلوكه كله، وبتلك القاعدة نطرح نظرية التحليل الإنساني من خلال مصطلحات هذا الدين.
ولذلك سنبدأ الدراسة التحليلية للنفس من خلال هذه المصطلحات بحيث تتوافق في ترتيبها مع البناء المنهجى للتحليل.
وفى القسم الأول تبين لنا كيف نفهم الإنسان من خلال المصطلحات اللغوية
و فى القسم الثانى نبدأ تحليل السلوك من خلال المصطلحات الشرعية وهي:
1- الإيمـــــان.
2- الإســـــلام.
3- الشـــــريعة.
4- الديــــــن.
5- العبــــــادة.

المصطلح الأول: الإيمان
الإيمان .. تفسير نفسي:
و بداية التفسير النفسي للإيمان هى التعريف المباشر له، وهو:"الاطمئنان". وليس أبلغ من هذا التعريف في محاولة التفسير، وذلك أن الاطمئنان هو استقرار الحقيقة في القلب: (الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل). ولكن عمليه الإيمان من الناحية التحليلية والنفسية لا تنتهى عند حد التعريف لأن عملية الاطمئنان ذاتها تحتاج إلى قدر من التفصيل وهو العلاقة بين الفكرة الخارجية حتى مرحلة الاطمئنان بالقلب. وأول حقائق هذا التفصيل هى الأمر الذى يقرب الفكرة من العقل لتعرض عليه فإن قبلها العقل نحلت فيه ثم مررها إلى الصدر، فتحدث الفكرة في الصدر انشراحاً واتساعاً لتصل إلى القلب، فينفتح لها القلب ليستوعبها وتستقر فيه، ويكون الإيمان والاطمئنان. وإذا لم يقبلها العقل فإنها ترتد خارجه عن إطار التفكير. أما الحالة الثالثة وهي التأرجح بين الإيمان بالفكرة أو رفضها فإنه يحدث في العقل نوع من الارتياب. فإذا تجاوزت الفكرة مرحله العقل دون أن يذهب هذا الارتياب فإنها تصل إلى الصدر بنوع من الضيق والحرج الصدرى فلا يقبلها القلب، لأن القلب لا يقبل إلا الحقائق التي يطمئن إليها وتطمئن فيه. و لذلك كان الحق هو النور الذي ينشرح له الصدر، وهو تفسير قول الله عز وجل: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الزمر: 22).
ولكن تصديق العقل و انشراح الصدر و دخول الحق إلى القلب يكون بالحب المحقق للاطمئنان. ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، كما نلاحظ أن الأمر لم يتوقف عند حد إنشاء مادة الحب ذاتها بل يمتد ليكون الفعل الإلهي هو تزيين الإيمان، لأن الحب قد يتحقق في القلب من حيث الواجب الشرعي أما التزيين فهو تحقق الحب في القلب من حيث الرغبة الذاتية. أو "الهوى". ومن هنا كان الإيمان هو أن يكون هوى العبد تبعاً للشرع كما قال "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكونَ هواهُ تبعاً لما جئتُ بِهِ"(1).
ومن هنا كان المنهج القرآني في تحقيق الإيمان قائم علي ثلاث مرتكزات نفسية:
الحب في الإنسان و المنفعة و الجمال في الكون.
وأما دليل الحب فهو قول إبراهيم في تفسير الإيمان وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (الأنعام: 76).
وقد جمعت آيات القرآن بين المنفعة في الكون و الحب في الإنسان ففي سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: 164).وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (البقرة: 165).
كما جمعت آيات القرآن بين المنفعة و الجمال في سورة النحل
وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (النحل: 6،5).
وباعتبار أن طبيعة الحقيقة هي نور الله، فإن ما يخالف هذه الحقيقة لاينفسح له الصدر فيدخل إلى الصدر بالاحتكاك الذي قال فيه النبي  "وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ"(1)
وبمقدار قوة الإيمان يكون النور حتى يملأ القلب ثم يفيضه على الوجه حتى يحقق الوضاءة في الوجه. ومن أهم الحقائق النفسية في تفسير الإيمان هو أن الإيمان بالله هو الذي يفتح القلب لقضايا الإيمان التي تليه، مثل الإيمان باليوم الأخر أو مثل الإيمان بالوحي، وأن الإيمان بالوحي المنزل من السماء يفتح القلب لما يليه من حقائق، وكانت هذه الحقيقة هي أساس تسليم أبي بكر الصديق بحادثة الإسراء كما ورد ثم مضي فأصبح فأخبر عما كان فلما سمع المشركون له أتوا أبا بكر فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك ؟ يخبر أنه أتي في ليله هذه مسيره شهر ورجع في ليلته فقال أبو بكر رضي الله عنه إن كان قاله فقد صدق وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا لنصدقه علي خبر السماء.(2)
وقد اتفقنا أن الإيمان يبدأ بمرحلة ما قبل الإيمان، وقبل الإيمان يكون مرحلة تقريب القضية التي هي موضوع الإيمان من الإنسان لينتبه إليها، وفي هذه المرحلة يكون
"تأليف القلوب" وهي عوامل تقرب القضية من الإنسان حتى يصير محبباً إليه التفكير العقلي فيها.
ولذلك يقول ابن تيمية في تفسير قول الله عز وجل: فلله الحجة البالغة وهي التي بلغت إلي صميم القلب وخالطت العقل، فلا يمكن للعقل دفعها ولا جحودها.
وعوامل تأليف القلوب ترجع في طبيعتها إلى طبيعة الإنسان الذي نريد دعوته إلى الإيمان.
وغالباً ما يكون المال هو المادة الأساسية لتأليف القلوب.. ولذلك قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 63). ولذلك خص الله سبحانه المؤلفة قلوبهم في مصارف الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة: 60).
وباعتبار أثر القلب على الجوارح فإن عمل الجوارح يصبح الدليل الأول على الإيمان، فهو ما وقر في القلب وصدقه العمل. وكما كان الإيمان ناشئاً عن القلب بصورة مباشرة فإن العمل ينشأ بصورة تابعة فيحدث العمل تصديقاً لما في القلب، ولذلك يقول ابن تيميه: لو أنك قلت لرجل أن البيت الذي أنت فيه يحترق فصدقك دون أن يفر هارباً فهو كاذب إذ لو كان صادقاً لفر هارباً قبل أن تتم قولك خوفاً على نفسه بعد تصديقه لك.
وباعتبار أن العمل تصديق لما في القلب كانت العلاقة بين القلب والعمل بصورة تبادلية فنجد الإيمان يزيد بالعمل. والعمل يزيد بالإيمان. ومن أهم حقائق الإيمان وعلاقته بالتكوين الشخصي أن طبيعة التلقى لحقائق الإيمان هي التي تدل علي التكوين الشخصي للإنسان المؤمن وهذه البداية هي التي تعيش مع صاحبها حتى النهاية، ومن هنا كان التوجيه القرآني إلى بداية التلقى والإيمان بأخذ هذا الدين بقوة. ونواصل الدراسة النفسية للإيمان من خلال نموذجاً إيماناً بصورة تحليلية وهو عمر بن الخطاب.

عمر بن الخطاب: نموذجاً إيمانيا
لعلنا نذكر دائماً دعاء رسول الله  "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"(1) .. ونتساءل لماذا أحد العمرين ؟ لماذا لم يكن بالعمرين ؟ إن الدعاء يجمع بهذه الصيغة المشيئة والاختيار .. وهاتان الحقيقتان القدريتان لا تجتمعان إلا للأقدار الكبيرة التي يترتب عليها أقدار كثيرة .. ونعلم كيف إن الإنسان في بداية خلقه في بطن أمه اختيار كان ربانيا من بين ملايين الحيوانات المنوية. ومن الملايين يتم اختيار واحد ليكون أمام إحدى البويضتين ليتم اختيار الواحدة التي ستكون إنساناً .. ولذلك كان قدر الاختيار من أعظم الأقدار .. فثبت في إسلام عمر حقيقة المشيئة والاختيار، لأن إسلام عمر كان قدراً عظيما ً.. ولكن .. من منا ينسى سبب إسلامه وظروف هدايته .. لا أحد، وكذلك عمر .. لقد كانت هناك سورتان في حياة عمر الإيمانية أولاهما الحاقة، و ثانيتهما طه، أما دليل سورة الحاقة فهو الحديث الذي رواه أحمد حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا شريح ابن عبيده قال: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَقُمْتُ خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ قَالَ فَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ قَالَ فَقَرَأَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ قَالَ قُلْتُ كَاهِنٌ قَالَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ](1)‏ لقد أحدثت هذه السورة توافقاً بين عمر و الطبيعة القرآنية فإن السورة لها طبيعة القوة و الحسم و قد وضح ذلك من خلال كلمات السورة: الحاقة، القارعة، الطاغية، العاتية الرابية، فكان هذا التوافق مدخلاً قرآنياً إلى قلب عمر من خلال طبيعته و شخصيته. أما سورة طه .. فقد كانت الصبغة التى اصطبغت شخصيته بكل حقائقها و قضاياها فكان لابد أن يكون بين عمر والسورة مودة خاصة وتعامل نفسى خاص .. ولكن هل سيتحرك عمر بتلك الدروس المستفادة بصورة نفسية بحتة أم لابد من سند شرعي يتميز به عمر عن بقية الأمة ليمارس دوره المستفاد من سورة طه ؟ .. وكان قول رسول الله  "إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ"(2). وقد استقر السند الشرعي في نفس عمر حتى قال: [وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ](3). ومن منطلق استقرار هذا السند الشرعي كانت مواقف عمر الملازمة في مضمونها للسورة التي هداه الله بها.

عمر وسورة طه:
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (طـه: 2).
فهذه الآية جعلت عمر يضع سعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه حتى أنه كان لا يطيق غضب رسول الله  حتى إنه عندما وجد رسول الله يخطب فسأله أحد الناس: من أبى ؟ فغضب النبي، فجثا عمر على ركبتيه وقال رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً.(1) كما أوجدت عند عمر شفقة شديدة لرسول الله  يحكى عمر منها موقفا فيقولَ:كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَضَّبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي فَإذا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ  لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ أحداهُنَّ الْيَوْمَ إلى اللَّيْلِ. فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ  ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: أَتَهْجُرُهُ أحداكُنَّ الْيَوْمَ إلى اللَّيْلِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ أحداكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإذا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ  وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمَ وَأَحَبَّ إلى رَسُولِ اللَّهِ  مِنْكِ - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ: وَكَانَ لِي جَارٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إلى رَسُولِ اللَّهِ  وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ثُمَّ نَادَانِي فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: ماذا، أَجَاءَتْ غَسَّانُ ؟ قَالَ لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ النَّبِيُّ  نِسَاءَهُ. فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا. حَتَّى إذا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي ثُمَّ نَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ  ؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ فَأَتَيْتُ غلاما لَهُ أَسْوَدَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ فَإذا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، ثُمَّ أَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَإذا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ: ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَكَ فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَإذا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رَمْلِ حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا فَإذا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ  لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ أحداهُنَّ الْيَوْمَ إلى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ أَفَتَأْمَنُ أحداهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ  فَإذا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ مِنْكِ، وَأَحَبُّ إلى رَسُولِ اللَّهِ  مِنْكِ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أُهَبًا ثَلَاثَةً. فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. واستمراراً في تصحيح مفهوم سعادة رسول الله  عند عمر كان حديث نزول قول الله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِينا (الفتح:1).
عمر وموضوع السورة:-
وأما موضوع السورة بعد مقدمتها فهو صراع الإسلام - المتمثل في دعوة موسى عليه السلام - مع الفرعونية الخبيثة، فكان أبغض شيء إلى قلب عمر هو الفراعنة،حتى بلغت حد كراهية اسم الوليد. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: [وُلِدَ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ فَسَمَّوْهُ الْوَلِيدَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّيْتُمُوهُ بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُمْ لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ لَهُوَ شَرٌّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ](1).
والوليد اسم فرعون موسى لأن فرعون موسى اسمه: "رع مسيس" معناها: ابن الإله رع. لأن سيس في الهيروغليفية تعني الصغير أو الوليد مثلما نقول الآن للفرس الصغير "سيسى"
* * *
ثم يعيش عمر تجربة موسى مع اليهود ويرى التفافهم حول أمر الله واحتيالهم فيه من خلال الأحاديث المتعلقة بأحوالهم فيروى عمر حديث النبي  "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا"(1) غير أن المعنى الأساسي الذي عاشه عمر هو ما كان من بنى إسرائيل مع موسى ولذلك كان عمر دائما بجانب النبي يدفع عنه تجاوزات الأمة. وكانت هذه المعاني أهم معطيات تجربة موسى مع بني إسرائيل ..
ثم نأتى لتجربه السامرى التى يعيشها عمر من خلال ثلاثة عناصر:
1- منها: السامري كمنافق يخفى على موسى أمره حتى بلغ أثره أن يجعل بني إسرائيل يعبدون العجل وينقسمون عنده بعد اختلافهم فيه فكانت كراهية عمر المتميزة للنفاق. عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله  "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"(2).
حتى أصبح عمر معروفا بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعنى أقطع عنق هذا المنافق عندما يرى أى أمر يمس النبى صلى الله عليه وسلم(3)
ومن هنا كان عمر يتعامل مع المنافقين بأسلوب خاص، ودليل ذلك موقفه فى صلاة رسول الله على عبد الله بن أبى بن سلول..(1) وسؤاله لحذيفة عن أسماء المنافقين، وذلك لأن السامري يمكن أن نعتبره رأس النفاق في بني إسرائيل ..
2 - السامري الذي استطاع أن يلفت النظر إليه، وأن يجعل بني إسرائيل تلتف حوله.
وقد تمثل في كراهية عمر بن الخطاب الشديدة في أن يكون من الأمة من يلتف الناس من حوله فيتعاظم في نفسه مثلما تعاظم السامري، قال عمر: [أخشى عليك أن تَقُص فترتفع عليهم في نفسك، ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك](2).
3- وأما بالنسبة للعنصر الثالث فهو تلك التجربة التي لم يكن يتخيلها بشر، وهي أن يطلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه من دون الله بعد أن نجاهم الله من فرعون تواً، مما جعل عمر يتصور الشرك أمراً محتملاً أن يحدث في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده حساسية شديدة، فيروى حديث النهي عن الحلف بالآباء(3) باعتبار أن ذلك الفعل من الشرك كما قال الرسول .
وكذلك نرى عمر هو الذي يقتلع شجرة الرضوان عندما يرى بعض المسلمين يجتمعون حولها ليتذكروا أيامها(1) .. حتى إنه يقول وهو يقبل الحجر الأسود: [أعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله  يقبلك ما قبلتك](2) وقد كان عمر يعلم أن السامري قد صنع العجل بالسحر فأوجد ذلك عند عمر حاسة العداء للسحرة والشياطين والتي لم تكن عند أحد مثله فهو القائل: "اقتلوا كل ساحر وساحرة"(3).
وبعد وفاة النبي  يشعر عمر بالخطر الشديد الناشئ عن غياب رسول الله  أكثر من غيره حتى إنه يغيب ذهنياً عن حقيقة الموت ولا يجد إلا تجربة موسى في ذهابه ليلقى ربه ثم يعود فيردد عمر العبارة فيقول: [إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ رَبَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوسَى](4). ويتولى أبو بكر الخلافة وتمتنع طوائف من المسلمين عن الزكاة، فيركن عمر إلى موقف هارون الذي استعظم أن تقاتل الأمة بعضها بعضاً، فقال لأبى بكر: أتقتل قوماً يقولون لا إله إلا الله ؟ ..
ولكنه يعود فيقول: [فما أن وجدت صدر أبي بكر قد شرح لقتالهم حتى علمت أنه الحق](5).
عمر والقدر:
ولعل قصة موسى من أساسها درس في القدر لأن السورة تقول:  ... ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (طـه:40). بعد ذكر القصة من بداية الرسالة، واللقاء فوق الجبل، ثم البداية الأسبق وهي الميلاد والنجاة حتى العودة إلى بداية الرسالة، ثم القيام بالرسالة وإرسال هارون معه إلى فرعون، وتفاعل عمر مع قضية القدر حتى كان هو الراوى لأحاديث رسول الله في القدر. فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ اللَّهُ النَّارَ"(1). ولقد بلغ التفاعل بين عمر وقضية القدر حتى روي أحاديث القدر معه ابنه عبد الله بن عمر فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله  "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ" [أَوْ "الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ"](2).
عمر واليَمّ:
تعلم عمر من قصه موسى أن الأشياء بذاتها ليست هي الفاعلة، كما تعلم أن اليم مسخر من قبل الله .. كما قال الله في سوره طه أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) فلم ينس عمر كيف تحدد دور اليم في إنقاذ موسى، وكيف أنه كان جندياً من جنود الله فتعامل مع اليم بهذه الصفة، صفة الجندية لله تبارك وتعالى، فكان خطابه إلي النيل الذي تضمن الأمر بالفيضان بإذن الله. لما فتح عمرو بن عاص مصر، أتى أهلها إليه، حين دخل شهر بؤونة من أشهر العجم القبطية، فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة، لا يجري إلا بها.
فقال لهم: وما ذاك؟
قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة، خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي، والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل.
فقال لهم عمرو:
إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤونة، والنيل لا يجري لا قليلاً، ولا كثيراً.
وفي رواية: فأقاموا بؤونة، وأبيب، ومسرى، وهو لا يجري، حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة، داخل كتابي هذا، فألقها في النيل.(ج/ص: 1/29)

فلما قدِمَ كتابه، أخذ عمرو البطاقة، ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد:
فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل، فأصبح يوم السبت. وقد أجرى الله النيل، ستة عشر ذراعاً، في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السنة، عن أهل مصر إلى اليوم.
وانبثاق مهمة التحليل النفسي من المصطلحات الشرعية يقتضي أن يكون هذا الانبثاق من جميع جوانب المصطلح الشرعي وسنجد ذلك واضحاً من خلال مصطلح الإيمان؛ إذ إننا سنجد التحليل من خلال جوانب الإيمان المتعددة:
1- جانب الإيمان بالله ...
2- جانب الإيمان بالقدر.
3- جانب الإيمان بالغيب.
• الجانب الأول: الإيمان بالله:
وفي تفسير هذا الأساس جاءت آيات سورة الأعراف التى ورد فيها ذكر الأسماء الحسنى وما قبلها وما بعدها توضح هذا الأساس بصورة قوية جداً:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (الأعراف: 178).
وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسمائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأعراف: 180).
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذان لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف: 179).
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (الأعراف: 181).
وفي ذلك يقول ابن القيم: (1) القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في صفات الهيبة والعظمة والجلال؛ فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء. وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته؛ فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء...فتبقى المحبة له طبعاً لا تكلفاً. وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوى طمعه، وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوى الرجاء جد في العمل؛ كما أن الباذر كلما قوى طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصر في البذر. وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة؛ انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر. وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع؛ انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها، وذكرها وتذكرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي. وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم انبعث من العبد قوة الحياء فيستحيى من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى. وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه، وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به وبكل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه. والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته ورضاه بما يفعله ويختاره له. وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته والخضوع لكبريائه وخشوع القلب والجوارح، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته.
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية؛ المحبة الخاصة والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه ويسير هو وحده همه دون سواه.
ويوجب له شهود صفات الربوبية؛ التوكل عليه والافتقار إليه والاستعانة به؛ والذل والخضوع والانكسار له، وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، و إلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره،ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمرة ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه. وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكاً قيوماً فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع، ويسمع ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع. انتهى
ولذلك يقول ابن القيم: من الناس من يعرف الله بالجود و الإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف، ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته. وأعم هؤلاء معرفة من عرفه من كلامه، فإنه يعرفه بأنه قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال منزه عن المثال برئ من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن وكل وصف كمال فعال لما يريد، فوق كل شيء ومع كل شيء، وقادر على كل شيء ومقيم لكل شيء آمر وناه، متكلم بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين، أقدر القادرين، وأحكم الحاكمين فالقرآن أنزل لتعريف عباده به ويبصر أهله الطريق الموصل إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه. وفي تفسير قول النبي  "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري، وجلاء همي وحزني"(1).
دل الحديث على أن التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته أحب إليه وأنفع للعبد من التوسل بمخلوقاته، وكذلك سائر الأحاديث كما في حديث الاسم الأعظم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي عَيَّاشٍ زَيْدِ بْنِ صَامِتٍ الزُّرَقِيِّ وَهُوَ يُصَلِّي وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا مَنَّانُ يَا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى"(1). وفي الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"(2). وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق"(3).
وهذا تحقيق لقوله تعالى: وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأعراف:180).
وقوله "أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري"؛ يجمع بين أصلين: الحياة والنور. فإن الربيع هو المطر الذي يحيي الأرض فينبت الزرع، فيسأل الله بعبوديته وتوحيد أسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحاً للعالمين ونوراً وحياة لقلبه بمنزلة الماء الذي يحيى الأرض، ونوراً له بمنزلة الشمس التي تستنير بها الأرض.
والنور جماع الخير كله فقال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام:122). وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمان وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى: 52).
فأخبر أنه روح تحصل به الحياة ونور تحصل به الهداية.
ولعلك تلاحظ ذلك في كل الآثار النفسية المترتبة على معرفة الله من خلال الأسماء والصفات.
ولقد وضحت هذه القضية فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا أَصَابَ أحداً قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَال: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ موقف عبودية..
وَابْنُ عَبْدِكَ تعميق للعبودية .. في أصل الذات (الأب).
وَابْنُ أَمَتِكَ تعميق أكبر للعبودية .. في أصل العلاقة بالأم (الأب والأم).
نَاصِيَتِي بِيَدِكَ تعميق أكبر للعبودية من خلال معنى الخضوع لله.
مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ... عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ تعميق أكبر للعبودية من خلال معنى التسليم لله قدراً وشرعاً.
أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسم هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أحداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا. قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا.(1)
• الجانب الثاني: الإيمان بالقدر.
المجال السلوكي:
و الدليل العام على العلاقة بين السلوك الإنساني و القدر هو قول الله - سبحانه و تعالى - و الله خلقكم و ما تعملون فلابد أن تكون هذه العلاقة أساساً هاماً في تحليل السلوك الإنساني و عقيدة الإيمان بالقدر لها علاقة جوهرية بالنفس البشرية و ذلك من ناحيتين الناحية الأولى: التأثير السلوكي. الناحية الثانية: التحليل السلوكي.
والإيمان بالله يعني الإيمان بأسمائه و صفاته وتعتبر قضية الأسماء و الصفات هي الأساس الأول لتحليل السلوك الإنساني.
الناحية الأولى: التأثير السلوكي:-
حيث يتم تحديد الآثار النفسية الجوهرية لهذه العقيدة في النفس و قد بين النبي  أن الإيمان هو الحرز الحقيقي من شر النفس فنقول: "اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت عليك توكلت و أنت رب العرش العظيم"(2).
ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شىء قدير و أن الله قد أحاط بكل شىء علما.اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسي و من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم"(1)
فالاستعاذة من شر النفس كان لها مقدمات هي أساسيات الإيمان بالقدر أن ربنا الله، نتوكل عليه. و أن ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن، و أنه لا حول و لا قوة إلا بالله. و أن الله على كل شىء قدير و أن الله قد أحاط بكل شىء علما..
ثم جاء بعد هذه الأساسيات (أعوذ بك من شر نفسي ) ..
لأن النفس في غياب هذه الأساسيات ستكون شراً مستطيراً.
فعند غياب أساسية "ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن"
سيكون الأسى على ما فات و من هنا كان قول الله لكي لا تأسوا على ما فاتكم سيكون ذل النفس بتحميلها ما لا تطيق لأن غياب أساسية ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن هو الذي يحمل النفس مسئولية أكبر من حدودها و طاقتها.
و لذلك قال رسول الله  "لا يحل لمسلم أن يذل نفسه،" قالوا: كيف يذل نفسه يا رسول الله ؟ قال "يتحمل من البلاء ما لا يطيق"(2).
و في غياب أساسية لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم
سيكون الغرور و الكبر.
و في غياب أساسية التوكل على الله رب العرش العظيم
سيكون اليأس و الإحباط.
و لذلك كانت عقيدة الإيمان بالقدر هي القاعدة التربوية الأولى و الحديث عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال:
[كنتُ خَلْفَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يوماً فقال: "يا غُلامُ! إني أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجاهَكَ، إذَا سَألْتَ فاسألِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهِ؛ وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ على أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُوكَ إِلا بِشَيءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"](1) رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي زيادة "احْفَظِ اللَّهَ تَجدْهُ أمامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللّه في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أنَّ ما أخْطأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ"(2) وفي آخره "وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً" هذا حديث عظيم الموقع.‏
يا غلام. فالحديث للغلمان ليكون أساساً لتكوينهم الشخصي منذ طفولتهم.
و يظل الإيمان بالقدر حرزاً للإنسان مهما بلغ من الضعف و الشاهد على ذلك حادثة حاطب بن أبى بلتعة ...
عن علي رضي الله عنه قال:
بعثني الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام، وكلنا فارس، قال: (انطلقوا حتى تأتو روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين). فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ما صنعت". قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا." فقال عمر إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعنى فلأضرب عنقه. فقال: "أليس من أهل بدر؟" فقال: "لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة،" أو "فقد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.(1)
و لعلنا نلاحظ من الحديث أن حاطب و هو في أشد لحظات ضعفه لم يتزعزع إيمانه بالقدر إذ يرد على رسول الله  و هو يسأله عن الخطاب بقوله "..، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع (الله) بها عن أهلي و مالى .."
الناحية الثانية: التحليل السلوكي:
الإيمان بالقدر هو أكبر مصطلح تحليلي للنفس والقدرة الإلهية المؤثرة في السلوك الإنساني و لهذا المصطلح التحليلي عده عناصر:
1- سنن السلوك.
2- المفهوم القدري للحركة النفسية.
3- الغرائز.
4- البيئة: وهي الواقع الذي قدره الله لنشأه العبد دون دخل منه.
5- الوراثة: وهي ما يرثه الولد عن والده بالطبع.
6- الناحية العصبية: وهي التأثير المباشر من خلال الطبيعة الإنسانية والمتجهة نحو حفظ النفس بصورة إلهامية.
7- الناحية الوجدانية ( الحب و الكراهية).
8- الفاعلية القدرية الاستثنائية: مثل الرؤى و الفراسة والإلهام.
* * *
1- سنن السلوك:
* السنة العامة ( الدافع): وقد ثبت عن النبي  أنه ليس هناك للإنسان سلوك من غير دافع وذلك عندما يخبرنا قائلاً: إن أصدق الأسماء همام والحارث(1)؛ لأن كل إنسان لابد أن يهم ولابد أن يحرث؛ أى لابد أن يكون له دافع وسلوك،ويمكن تحليل الهم إلى عدة عناصر:
- الخاطرة.
- ثم العزيمة.
- ثم الهم.
- ثم الفعل.
- ثم العادة.
وقد ذكرها ابن القيم جميعها بقوله: دافعوا الخطرة فإن لم تدفع سارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها سارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده سارت عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها.
والعادة التي انتهى إليها تطور الخاطرة هي أحد نوعي الدوافع التي يمكن تصنيفها على أساس مكتسب مثل العادة المذكورة، أو على أساس فطري مثل الغريزة (كما سيأتي بيانها).
والإرادة هي مصدر الطاقة التي يكون بها الدافع، والمثال المفسر لتطور الخاطرة مثل إرادة الشر، أما الإرادة التي تحقق دافع الخير فلها منبع أساسي هو معرفة الله، لأن معرفة الله تحقق محبته، ومحبته تحقق الإرادة، ذلك أن محبة الله تحقق الأنس به سبحانه، والإنسان في أول الأمر يجد التعب في التكليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زال عنه تعب التكليف والمشاق فصارت له قوة ولذة لتصير الصلاة قرة عينه بعد أن كانت عبئاً عليه، وليستريح بها بعد أن كان يطلب الراحة منها،فله ميراث من قوله صلى الله عليه وسلم:"أرحنا بالصلاة يا بلال"(1)، "وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"(2)، بحسب إرادته ومحبته وأنسه بالله تعالى ووحشته مما سواه.
* سنن الإظهار السلوكي: وهذه السنة ينص عليها ابن القيم بقوله في شفاء العليل: "إن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد؛ فخلق الشياطين مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسل الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثارها، وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثارها، وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوماً له مطابقاً لعلمه السابق."
ومقتضى هذه السنة أن ما يخفيه الإنسان لا بد أن يظهره الله رغماً عنه ويدخل تحت هذه السنة عدة ظواهر سلوكية مثل:
- فلتات اللسان:
وفيها تفسير قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران: 118). وما تخفي صدورهم أكبر أي: قد لاح على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة ما يفضح ما في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله مالا يخفي مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال:"قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون" ابن كثير ص 89 ج2.
وقد سبق في التفسير المذكور عن ابن كثير قبل فلتات اللسان صفحات الوجوه ومنها العيون، وهي من الأعضاء الحسية التي تكشف ما في أعماق الإنسان، ولهذا تواتر التعبير في السنة: "عُرف ذلك في وجهه". والحقيقة أن الوجه هو أدق الأعضاء تعبيراً عن النفس وبصورة تامة، وأهم الظواهر الدالة على ذلك الضحك والبكاء وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (النجم: 43).
* السنن الأخلاقية (الثوابت السلوكية):
الأخلاق هي الصورة الثابتة لباطن النفس البشرية، لأنها الجانب الظاهر لطبيعة النفس الباطنة.
والظهور في معنى الأخلاق دليله الاسم ذاته، وهي من مادة: خلق المتعلقة بظاهر الأشياء وصورتها .. ولذلك يقول ابن منظور صاحب لسان العرب:
الخلوق: وهو الطيب، لأن الطيب أثر ظاهر.
والخلق: هو الشيء الأملس، واللمس صفة ظاهرة.
ولقد اجتمعت الأحاديث على المقارنة بين الصورة الظاهرة للإنسان وهي شكله، والصورة الظاهرة لباطنه وهي خُلقه، وذلك في قول النبي 
"الحمد لله الذي أحسن خَلقي، اللهم حسن خُلقي". وفي تفسير قول النبي  عندما رأى يوسف: "إذا هو قد أُعطى شطر الحسن"(1).
حيث قيل أن الشطر الآخر هو الخُلق.
والأخلاق هي العادة والسلوك الثابت في الإنسان. ووصف الخلق بالعادة الثابتة يأتي من قول الله عز وجل: (إن هذا إلا خلق الأولين) أى: عادة الأولين.
ومن الثبات في الأخلاق؛ تثبت الصفة الطبيعية لأن الطبيعة هي الثبات؛ ومن هنا كان تعريف الخلق: هو السليقة، وهو الشيمة، وهو المروءة، وهي من الثوابت في الإنسان. أما تعلق الخلق بالباطن فدليله ما ورد في الحديث من تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه الله وقوله تخلق أي أظهر في خلقه خلاف نيته، بذلك يكون التعريف النهائي للخلق أنه صورة الإنسان .. الظاهرة والباطنة.
والثواب والعقاب يتعلقا بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلق بأوصاف الصورة الظاهرة، وكما كان الثواب والعقاب متعلقاً بباطن النفس فإن هذا الباطن أساس المقارنة بين الأخلاق الإنسانية والبهيمية؛ والباطن هو المتغير الذي يبعد أو يقترب من هذه الطبيعة البهيمية، ومن هنا كان تشبيه الكافر بالحيوان مثل قول الله عز وجل: ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (محمد: 12).
فإن قلت: هل يمكن أن يقع الخلق كسبياً، أو هو أمر خارج عن الكسب ؟
قلت: يمكن أن يقع كسبياً بالتخلق والتكلف حتى يصير له سجية وملكة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضى الله عنه: "إن فيك خُلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والإناة"، فقال: أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ فقال: "بل جبلك الله عليهما". فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله(1).
فدل على أن من الخلق ما هو طبيعة وجبلة ومنه ما هو مكتسب. وكان النبي يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف عنى سيئها إلا أنت"(2)، فذكر الكسب والقدر والله أعلم.
ولذلك كان من سنن الله في النفس البشرية أن الله يحسن خلقها إذا سعى صاحبها ابتداءً إلى هذا التحسين. وفي هذا يقول النبي "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا"(3) فتبين من الحديث أن الله سبحانه يكتب بقدره الخلق على صاحبه إذا داوم عليه فلا يفارقه أبداً.
* السنن الذاتية:
- العلاقة بين الشعور واللاشعور:
ومن ناحية أخرى هناك تحديد للعلاقة بين الشعور واللاشعور، وهو أن الشعور هو النفس، وأن اللاشعور هو روح النفس، فكما أننا فرقنا بين المخ والعقل، ومضخة الدم والقلب بالمعيار الروحي، فإن هذا المعيار هو الذي نفرق به بين الشعور والحالة النفسية المباشرة، واللاشعور وهو الحالة الروحية للنفس..ولأجل أن اللاشعور هو الحالة الروحية للنفس فإن مجالات ظهور اللاشعور ذات طبيعة روحية مثل حالة النوم ..
الذي يمكن أن يكون ظاهرة مناسبة لكشف اللاشعور في الإنسان.
- اللاشعور و الواقع:
ويوازي مصطلح العلاقة بين الشعور واللاشعور.
ويحكم العلاقة بين اللاشعور والواقع نفس أحكام العلاقة بين الروح والعقل والنفس، مثل استغفار العبد وهو نائم،كما يحكمها أثر الملك الذي يريد أن يعين على القيام للصلاة فيتمثل له في رؤية المؤذن في منامه فيقوم العبد بحسب الرؤيا فيجد أن الأذان الفعلي يؤذن فيقوم للصلاة.
2- المفهوم القدري للحركة النفسية:
لقد اتفقنا أن الإنسان هو أهم عناصر هذا الكون وحسب قول ابن القيم: "فيه كل ما في هذا الكون". واتفقنا أن أبرز ما في هذا الكون هو الحركة .. لذا كان لا بد أن تكون الحركة طبيعة الإنسان.. غير أن الحركة لا تتوقف فقط على مجرد السلوك والتصرفات والعمل، ولكنها تتجلى وتتضح بصورة كاملة في الحركة النفسية للإنسان.. والحركة النفسية للإنسان هي طبيعة الجانب النفسي فيه، حتى يمكن القول أن بقاء هذه الحركة هو الدليل على حياته الحقيقية، ومن هنا كان الجمع بين أهم الظواهر القدرية في النفس البشرية والحياة والموت في قول الله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أماتَ وَأَحْيَا
(النجم: 43،44). ومن هنا يجب دراسة هذه الحركة دراسة وافية. ولعل أول خصائص هذه الحركة هو طبيعتها القدرية؛ حيث يتحول الإنسان من حالة إلى حالة دون متابعة شعورية لهذا التحول.. والدليل على ذلك أن دعاء فك الكرب وهو قول المكروب: "لا حول ولا قوة إلا بالله"(1) أى إن التحول من حالة الكرب النفسي إلى حالة الانفراج لا تكون إلا بالله؛ يثبت الطبيعة القدرية للحركة النفسية من خلال ظواهرها الثابتة ونسبة هذه الظواهر إلى الفعل الإلهي كما سبق في قول الله: وأنه هو أضحك وأبكى. ولذلك كان من أبرز خصائص الحركة النفسية هو انتقالها بين الحماس والفتور كما قال الرسول : "لكل شيء شرة وفترة". كظاهرة نفسية و سلوكية ثابتة في الإنسان. ولأجل أن الحركة صفة جوهرية للنفس البشرية فإن أشد ما يمر بالإنسان حبس النفس عن تلك الحركة، وهو ما يطلق عليه الصبر، ومن هنا كان الصبر لغة هو: "حبس النفس". ولعل التفسير اللغوي يفسر معنى الحركة الأصلية.. ولعل أهم ظواهر الحبس أو الصبر التي لا يقدر الإنسان عليها ويبغضها؛ هي الانتظار إلى الدرجة التي يؤكد فيها الرسول  رغبة الإنسان في الحركة ولو كان متجهاً إلى الخطر والضرر، حيث يقول الرسول  في أهل الموقف: يود الناس الانصراف ولو إلى جهنم.
ولعل أهم العمليات النفسية المخففة لثقل الانتظار هو التردد بين الروح والمجىء أي: من حالة الحبس النفسي ... بالحركة السلوكية (التردد) وهو تصرف طبيعي ثابت عن الرسول  عندما كانت تهب ريح قبل أن ينزل المطر، حيث كان يروح ويجئ تخفيفاً لوطأة انتظار المطر الذي يطمئن بنزوله ويدرك أنه لم يكن وراء هذه الريح عذاب متوقع.. إن هذه الحالة العصبية التي تخف فيها وطأة الانتظار لها معنى واحد هو التخفيف بالحركة المانعة من الإحساس بالانتظار.
أ- العلاقة الطردية: ومن أهم حقائق المفهوم القدري للحركة النفسية حقيقة في الإنسان هي العلاقة الطردية، وهي تعلق صفة بصفة سلباً وإيجاباً. ولعل أوضح الأمثلة على تلك العلاقة هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكبر الإنسان ويكبر معه شيئان: حب المال وحب الحياة"(1). ومن أمثلة العلاقة الطردية: العلاقة بين الإرادة (العزم) والذاكرة، وهو الواضح في قول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طـه: 115).
ب- العلاقة العكسية: والمثال عليها التقابل في النفس البشرية بين العلم والمال حيث يأتي من زاوية أنهما سلوك مطلق لا تحده النفس البشرية، وهذا معنى قول الرسول : "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال"(2). فكان التقابل ناشئٌ عن صدور السلوكين من طبيعة الدوافع المطلقة في النفس البشرية. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( منهومان لا يشبعان ) وهو معني الدافع المطلق. أما التقابل بين طالب العلم وطالب الرئاسة فهو ناشئ عن مقتضى السلوكين وليس من الدافع لهما، حيث إن مقتضى كل من العلم والرئاسة الانشغال التام واستحواذ صاحب السلوك سواء طلب علم أو طلب رئاسة على الطاقة الذهنية بالكلية
3- الغرائز: ومنها النوم
و فيه يمكن القول أن هي في حقيقتها غيبة الشعور بالنفس هو في جوهره غيبة حاسة السمع، ومن السمع يتم الانتقال إلى المخ حيث يتحقق أثر غيبة السمع في المخ في صورة انقطاع كل حواس الإنسان عن الواقع .. وباعتبار أن السمع أعمق حاسة من الحواس التي تبلغ المخ وتؤثر فيه، كان النوم هو الضرب على الآذان كما قال سبحانه في فتية الكهف: فَضَرَبْنَا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (الكهف:11). ومن هنا فإن أي محاولة لإيقاظ نائم يجب أن تقوم على هذه الفكرة، مثل أن يشم رائحة نفاذة تصل إلى المخ بصورة أعمق من السمع، أو نضح الماء على الوجه إنشاءً للصلة بين المخ والجهاز العصبي في أدق منطقة عصبية للإنسان والجهاز العصبي (الوجه)، فإن السنة تثبت إمكانية مسح النوم عن طريق مسح الوجه باليد. كما كان يفعل النبي . وباعتبار الصلة بين النوم والمخ كانت حركة الرأس من أكبر الأدلة على قوة النوم أو ضعفه، على أساس أن حركة الرأس مؤشر لحالة النائم، ومن هنا فإن الشيطان عندما يحاول منع الإنسان من اليقظة للصلاة فإنه في الأساس يمنع حركة الرأس، ومن هنا كان العقد على القافية من أساليب الشيطان المختلفة لاستمرار نوم الإنسان كما قال : "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس، و إلا أصبح خبيث النفس كسلان"(1).
ولذلك كان جزاء من ينامون عن الصلاة شدخ رؤوسهم بحجر: كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج.(2) ومن الأساليب الأخرى لإحداث فاصل بين المخ والحركة العصبية حتى يبدو الإنسان وكأنه نائم من غير تغميض عينيه، وهي الظاهرة التي أخبر عنها الرسول : عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا كان في المسجد جاءه الشيطان فأبس منه كما يأبس الرجل بدابته فإذا سكن له زنقه أو ألجمه." قال أبو هريرة: فأنتم ترون ذلك أما المزنوق فتراه مائلاً وأما الملجوم فتراه فاتحاً فاه لا يذكر الله" (1)
وليس أدل على كون النوم غيبة لشعور النفس؛ من منع الشيطان الإنسان من إتمام الذكر، إذ يقول الرسول: "فيأتى الشيطان إلى أحدكم فينومه"(2) الحديث.
و النوم لغة هو: الرقود، وهو القعود بالبدن كمظهر من مظاهر فقد التحكم العصبي في الجسد .. وعلى ضوء تفسير النوم يمكن تفسير أهم الظواهر المرتبطة به وأهمها ..
الأرق إذا كان هناك شعور ملح يقاوم النوم، وأبرز أمثلة هذا الشعور هو الإحساس بالخوف لأن الخوف يمنع الأمنة التي يكون بها النعاس إلى الحد الذي تكون العلاقة بين الأمنة و النعاس علاقة تبادلية فإذا أمن الإنسان نام إذا نام أمن كما قال الله"إذ يغشيكم النعاس أمنة منه .. "ولما كان النوم فقد للإراده والإحساس كانت مسئولية الإنسان عن نفسه واقعة في فترة ما قبل النوم من حيث الحال الذي يكون الإنسان عليه من المعصية أو الطاعة، ومن حيث النية التي يعقدها للقيام بالطاعة بعد النوم، ومن حيث الانشغال النفسي وطبيعته قبل النوم، وكذلك حال المكان الذي اختاره لنومه حيث يشكل هذا المكان أثراً جوهرياً جعل رسول الله ينتقل من المكان بعدما طلعت عليهم الشمس، ولم يكونوا صلوا الصبح فقال  إن في هذا المكان شيطان، وأمر بالرحيل(3). ومثل أمر الرسول بالتحول عن مكان النوم إذا رأى ما يكره (4).
فعندما أريد النوم لابد أن أختار مكانه، و لنضرب لذلك مثلا فان نام إنسان في مكان يدق فيه جرس يحضر الشيطان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لهذه الأجراس تابعا من الشياطين" فإذا دق الجرس حضر الشيطان وتسلط على النائم لإفزاعه، وبنفس الصورة التي كان منها التسلط فيرى جرساً وهو نائم، مثل أن يرى جرس مزلقان وأن القطار سيصدمه فيستيقظ فزعاً على صوت الجرس الموجود في الشقة وهكذا. فيفزعه ليقوم ليجد سبب التسلط وهو الجرس الذى دق فى البيت.
و أقرب تفسير لظاهرة النوم هو الموت، ودليل ذلك قول الله
عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر: 42)
فالنوم هو توفية النفس من غير موت، والتوفية هي إمساك النفس، وإمساك النفس هو فقد الإنسان الشعور بنفسه في حالة إمساكها ..
و لذلك ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون. ولذلك تتوافق الظاهرتان في حقيقة جوهرية وهي:
* حالة ما قبل النوم والاستيقاظ عليها، تماماً مثل:
* حالة ما قبل الموت والبعث عليها.
فالذكر قبل النوم هو الذي يعطى القدرة على الذكر عند الكابوس، وفي هذا تفسير للعلاقة بين حالة اليقظة والنوم والاستيقاظ من النوم.
4- البيئة:
الجنين ـ الأرض ـ القيامة ـ الجنة.
وقد جاء في المقدمة مصطلح "البيئة القياسية".
وتحت عنوان البيئة يكون تفصيل ما أجمل، فالبيئة من البوء أي: مكان الإقامة الذي تتخذه وتأوي إليه. قال سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (يونس: 87).
ومن الممكن أن تكون البيئة للمكان أو المكانة. فنقول: تبوأ منزلاً، وتبوأ منزلة، ومنه جاء: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (يوسف: 56)، أي: مكانة عالية، فلا يمتنع عنه أي مكان يريده.
وبذلك يمكن أن تكون البيئة حسية أو معنوية. وقد جمع الله الأمرين للأنصار في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9)، فجعل الإيمان محلاً لهم.
وبذلك يمكن القول: بيئة الإيمان .. أي البيئة القياسية لمن يعيش فيها وتم من خلالها تحقيق الإيمان أو تصحيحه أو زيادته .. أو بعبارة مختصرة؛ مكان حياة المؤمن (الشخصية السوية). ومما سبق يمكن أن يمتد معنى البيئة لكل مكان بحياة الإنسان ابتداءً من بطن الأم.. التي يوجد فيها الإنسان جنيناً.
والآن تحاول الجاهلية تصحيح هذا الخطأ بتقديم الدراسات حول الحالة النفسية للجنين في بطن أمه ..
ولكن علم النفس الإسلامي يبدأ البداية الصحيحة فيعتبر أن بطن الأم هي أول الحقائق الاصطلاحية للبيئة ..

المرحلة الجنينية:
ويحفظ لنا التراث الإسلامي حقيقة هي بطبيعتها إعجازية ولكنها تتضمن دلالة لما نحن بصدد إثباته، ذلك هو قول رسول الله  "إن أم يحيى قالت لأم عيسى: أما علمت أن الذي في بطنى يسلم على الذي في بطنك". وحتى لا يحتج بأن مثال عيسى ويحيى مثال إعجازي نذكر الدليل العام على تكوين الشخصية كما ستكون في الواقع من خلال حديث الملكين، إذ إن حديث الملكين يثبت أن الإنسان قد كتب عليه كل ما يتعلق به وهو لم يزل بعد فى بطن أمه.
الأرض:
و إذا كانت المرحلة الجنينية هى البداية الواقعية لتحقيق ما كتب على الإنسان بطريق الملكين فإنه بالولادة يدخل فى بيئة جديدة وهى الأرض. ولذلك كانت الأرض بيئة واحدة عامة لمن ولد عليها من البشر وكانت مهيئة للإنسان قبل خلقه ولذلك طرأت على الإنسان خصائصه التي يتحمل بها الأحوال المترتبة على هذا النزول بصفته عقوبة.
وكان أهم هذه الأحوال الأرضية بهذه الصفة العامة هى الجوع والعرى والظمأ والحر، و النصب والكدح ... كما كانت أيضا بيئات مختلفة تتميز كل بيئة منها بخصائصها الثابتة.
وكان أهم تصنيف للبيئة هو مصطلح البداوة و الحضارة.
البداوة والحضارة: ونصوص الكتاب والسنة تحدد أهم المفاهيم الحضارية المؤيدة للمفهوم القائل بأن الإنسان هو مرتكز الحضارة، حيث جاء قول الله عز وجل: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة: 97). باعتبار أن الأعراب هي النوعية المنفصلة عن إطار الواقع الحضاري للدولة الإسلامية وهم البدو الرُّحل الذين كانوا في مواقع متناثرة من الصحراء من مكة "أم القرى" والمدينة. وكما انفصلت الأعراب عن واقع الدولة انفصلت كذلك عن حركتها وامتدادها العسكري، فكان الأعراب هم المخلفين، وفي هذا جاء قول الله:
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (الفتح: 16). وكنتيجة لانفصال الأعراب عن واقع الدولة؛ كان التخلف الاجتماعي فجاءت الحضر مقابل السفر. وباعتبار أن السفر هو الظرف المؤقت المانع لصاحبه من الاستقرار الاجتماعي والذي يجيز للمسافر القصر في الصلاة، فارتبط بذلك معنى الاستقرار الاجتماعي بمفهوم الحضر أو الحضارة. ولأجل ارتباط الحضارة بالاستقرار الاجتماعي فإن الإسلام يعالج الفارق الحضاري بين الدولة باعتبارها قمة الاستقرار وبين واقع هؤلاء الأعراب باعتبار بعدهم عن الدولة. وأهم عناصر هذه المواجهة هو التحذير من أن تكون الدولة موضعاً لتأثير الأعراب وعاداتهم. وفي هذا يقول الرسول  "لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسم صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ" فالْأَعْرَابُ َتَقُولُ هِيَ: الْعِشَاءُ.(1) ومن عناصر تلك المعالجة؛ واجب استيعاب آثار الفارق الحضاري بين الدولة والأعراب من الناحية السلوكية. ومن أمثلة ذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد الذي رواه البخاري، وفيه نهى النبي الصحابة أن يقطعوا عليه بولته، وقال:"لا تذرموه" (لا تقطعوا عليه بولته) ثم أفهمه الخطأ بقوله: "أخا العرب ما جعلت المساجد لهذا وإنما جعلت لعبادة الله"(2). حتى إن الأعرابي تأثر لحكمة النبي  ورحمته فقال: اللهم ارحمنى ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال له النبي: "لقد حجّرت واسعاً"(1). يعني ضيقت رحمة الله عز وجل بهذا الدعاء.
والأعرابي الذي جاء إلى الرسول  وقال له: أعطني من مال الله لا مالك ولا مال أبيك(2). والآخر الذي قال: يا بني عبد مناف إنكم قوم مطل.
ويدخل في إطار واجب الاستيعاب مراعاة الناحية العقلية، ومن أمثلة ذلك: الأعرابي الذي تصفه الصحابة بقولهم نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى جاء إلى رسول الله فيقول: يا محمد، ثم يسأل ماذا فرض الله عليه في اليوم والعام والعمر فيجيبه النبي عن ذلك فيقول الأعرابي: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص(3). والحديث بنصه متفق عليه.
وفي النهاية يقرر النبي الارتباط بين البداوة والجفاوة كحقيقة قدرية في الطبع الإنساني فيقول:"من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل"(4).وفي رواية: من سكن البادية جفا (5)
ومن مجموع هذه النصوص المقارنة بين البداوة والحضارة نستطيع أن نقدم مثالاً للسلوك الحضاري وغير الحضاري.
وأهم أمثلة السلوك الواردة في نصوص المقارنة؛ أن الكفر والنفاق والجفاوة والقعود عن القتال - وهي الصفات الأساسية - للأعراب تعتبر سلوك غير حضاري. وكذلك سلوك الأعرابي في المسجد، وكذلك سوء أدب الأعرابي مع الرسول ، فكل هذه الأنماط السلوكية بالمفهوم الإسلامي للحضارة تعتبر سلوك غير حضاري.
وفي المقابل يكون الإيمان والصدقة والرقة والجهاد والرحمة والحكمة ومراعاة الفوارق العقلية واستيعاب رعونة الغير؛ تعتبر بالمفهوم الإسلامي للحضارة سلوك وقيم حضارية.
وإذا كنا قد اتفقنا أن لكل أحوال بيئية خصائصها المقابلة لها في النفس، فإن هناك خصائص هي في حقيقتها ناشئة عن حال الانتقال بين البيئات، سواء من نزول آدم من الجنة إلى الأرض أو عودته من الأرض إلى الجنة، مثل خصيصة الحنين إلى الماضي الناشئة عن حياة الإنسان على الأرض بعد خروجه من بيئته الأصلية وهي الجنة، ومثل انتقال الإنسان إلى الجنة بخصائصه الناشئة عن أحوال الأرض.
إن إدراك الثوابت النفسية للإنسان لن يكون إلا بعد تحديد الخصائص النفسية له في كل مراحله البيئية؛ وذلك لأن مجموع هذه المراحل هي الحياة الإنسانية التي أرادها الله.
واستمرار مجموعة الخصائص خلال مجموع هذه المراحل هو الذي يمكن أن نسميه الثوابت النفسية ..
ومما لا شك فيه أن ارتباط الخصائص النفسية بكل مرحلة من المراحل البيئية بطبيعتها التي خلقها الله يعتبر حالة صحية، أو بمعنى آخر أن اختلاف الخصائص النفسية باختلاف البيئة هو أساس إثبات هذه الخصائص، فإذا نظرنا مثلاً إلى الوجود الإنساني على الأرض نجد أنه ذو طبيعة كدحية؛ لأن النزول على الأرض أساساً كان وضعاً استثنائياً، وعندما تنشأ الخصائص النفسية المتفقة مع طبيعة الكدح لا يكون ذلك هو الآخر استثناءً نفسياً ولكن يكون خصيصة نفسية طبيعية لموافقتها لمقتضى طبيعة البيئة.
الجنة .. البيئة الأصلية ..
وانتقال الإنسان إلى الجنة هو في حقيقته جزاء لما كان منه في الدنيا، فكان لا بد أن يقاس نعيم الجنة كجزاء على واقع الدنيا كعمل، وأول مقتضيات هذا الانتقال أن يكون الإنسان بذاته وشخصيته ونفسيته هو الذي يكون في الجنة لأنه هو الذي عمل في الدنيا، ولكنه انتقل بها كصفة مكتسبة أراد أن يحياها في الجنة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية (أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء). فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد وضح هذا القياس من نص حديث: "أريد أن أزرع"، وقد اكتسب هذا الرجل تلك الصفة: "الرغبة في الزرع من الأرض"
وتأتى الأدلة على انتقال الإنسان بتكوينه الذي كان عليه في الدنيا،حتى انه وجاء فى تفسير قول الله عز وجل: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (الحج: 19).
تحديد أشخاص بأعيانهم كمثال تطبيقي للآية.
ومن هنا فإن الخصائص النفسية في الإنسان و الناشئة عن ارتباط الإنسان بكل مراحل البيئة ... لا تظهر إلا من خلال البيئة الأصلية وهي الجنة.
كما أن الأدلة على أن الناس يدخلون الجنة بطبيعتهم الإنسانية التي كانوا عليها في الدنيا هي تنقية المظالم التي كانت بينهم على أبواب الجنة؛ حيث نلاحظ أن الإحساس بالظلم ظل متعلقاً بالنفس حتى أبواب الجنة ولم تذهب الدنيا ولا أهوال القيامة ولا موقف الحساب ولا المرور من فوق الصراط لم تذهب هذه الأشياء بهذا الإحساس، مما يدل على أن الإحساس بالظلم إحساس أصيل في النفس البشرية، ومدى أصالة الإحساس بالظلم هو في ذاته دليل على ترتيب المشاعر فى النفس، لأن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً، فلا بد أن يكون الإحساس بالظلم عند البشر متفقاً مع حكم الله عز وجل بتحريم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً، وكما أن أصل الإحساس بالظلم عند الناس بتحريمه بيننا ؛ فإن إحساس الغيرة يكون مثل الإحساس بالظلم كما قال رسول : "ما أحد أغير من الله ومن أجل ذلك أنزل الحدود"وكما قال رسول الله : "أتعجبون من غيرة سعد فالله أغير منه"(1). ولم يتوقف إحساس الغيرة هو الآخر في الجنة، ومن هنا كانت عدم رؤية زوجات الرجل الواحد لبعضهن في الجنة، وكذلك حديث الرسول: "... قَالَ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أَتَيْتُ الْجَنَّةَ فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلَّا عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ"(2).
القيامة:
ما بعد وهي بعد البيئة الأرضية وقبل الجنة وهي التي .. ينطبق عليها مصطلح البيئة بكل مقاييسه حيث سيكون يوم القيامة .. مكان حياه إنسانية فتره زمنيه تقدر بخمسين ألف سنة.
ولما كانت لكن أهم الخصائص الإنسانية التي تظهر يوم القيامة هي رغبة الإنسان في التحول وكراهية الانتظار؛ لأن الناس في هذا اليوم يودون الانصراف ولو إلى جهنم، وعلى ضوء هذه الحقيقة نجد أن أهم صفات الجنة ونعيمها هي الابتعاد بالإنسان عن هذه الطبيعة، فجعل الله سبحانه الجنة واقعاً متغيراً، وجعل النعيم في زيادة دائماً لكي لا يبغي الإنسان عنها حولاً، حتى إن الفاكهة الواحدة التي تؤكل أول مرة تكون التي بعدها أحلى منها، وحتى إن الكوب الذي يشرب منه العبد شيئاً يكون آخره أحلى من أوله، وحتى إن الأبكار في الجنة يعدن أبكاراً كل مرة كأن لم يقربهن أحد من قبل، وهذا هو سر تكرار الصورة التعبيرية بالحركة في الجنة بقول الله: (تجرى من تحتهم الأنهار)، لأن الحركة للإنسان في الواقع الدائم تكون مريحة وممتعة تنبه على رغبتهم فيها، وحبهم لها مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه يسأمه أو يمله فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً.كما قال سبحانه فى أهل الجنة (لا يبغون عنها حولا).
غير أن الجنة يسبقها مرحله بيئية هامه وهي القيامة ...
التي تمثل المرحلة المباشرة لما قبل الجنة و لذلك كانت المقارنة بين الجنة و القيامة تؤكد تغير الخصائص النفسية للإنسان وفقاً للبيئة.
5- الوراثة:
و موضوع الوراثة يعتبر مثالا لتفسير البعد القدري للتكوين الإنسانى الإسلامي، ذلك لأن الوراثة في هذا التصور ليست محدودة بنقل الصفات بين الآباء إلى الأبناء، بل إن لها أبعادها القدرية والشرعية والأخلاقية. فمن أفعال الله في الخلق ما يمكن أن يكون معناه الولاء الكوني وهو الانتماء على أساس الأصل الكوني للخلائق، والمسئولية على أساس هذا الانتماء ..
ومن أمثلة الولاء الكوني بصفة عامة:
وراثة الشياطين لموقف استكبار إبليس.بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله ـ وفي رواية ـ أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجدة فأبيت فلي النار"
فالذي أُمر بالسجود فعلاً هو إبليس ولكن كل شيطان يعتبر رفض السجود موقفه هو ولاءٌ منه لإبليس صاحب الموقف أصلاً.
ومن أمثلة الولاء الكوني أيضاً:
الأمر بقتل البرص لأنه كان ينفخ النار على سيدنا إبراهيم، فكان الأمر بقتل أى برص ناتجاً عن تحمله لمسئولية نفخ البرص على سيدنا إبراهيم. وبذلك يعتبر الولاء الكوني أوسع درجات الوراثة، ومنه وراثة الأعمال بذاتها وتحمل آثارها. ومن هذا المفهوم كانت وراثة أبناء آدم للخطأ الذي فعله آدم في الجنة فخرج بنو آدم جميعهم من الجنة بفعلة أبيهم. وهذه أول حقائق الوراثة؛ أن الأفعال تورث عن الآباء، ووراثة الأفعال ليست فقط وراثة آثار الفعل أو المسئولية عنه كما في خروج أبناء آدم، ولكن وراثة الأفعال معني بها وراثة الفعل ذاته وتحوله ونقله من خلال فعل الأب إلى طبيعة الابن السلوكية، بل قد تصبح سلوكاً ثابتاً أو أخلاقياً، ودليل ذلك حديث جحود آدم (1).
"خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ومَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ ؟ قَالَ:فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ 
1ـ ومن أمثله الوراثة الصفات الجسمانية مثلما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا يبرق وجهه: ألم تسمعي ما قال محرز المدلجي لما رأى أسامة وزيدا نائمين في ثوب واحد أو في قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
2ـ ومن أمثله السلوك الغريزي .. النوم، حتى إن رجلاً كان يقول عن قومه: وكنا قوم نوّم. أى معروفون بالنوم.ومنها أيضاً: المواهب الخاصة مثل حديث بني تميم: "ارموا بني تميم فإن أباكم كان رامياً"(1).
ومن أمثلة السلوك الأخلاقي ... الصدق في بني عبد مناف: و الدراسة الإسلامية للنفس تثبت مفهوماً للوراثة وحقيقته أن الوراثة لها خطوط ممتدة عبر الأجيال:
خط الامتداد الطبيعي مثلما يكون بين الوالد وولده
خط الامتداد بالدعوة وتفسيره ... قائم علي حقيقة أن الهداية حياة جديدة للإنسان
بدليل قول الله أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
(الأنعام: 122) هذه هي الحياة الجديدة تحمل خصائص وصفات الظروف التي تحققت فيها هذه الهداية مثل الشخص الذي كان سبباً للهداية ... و الذي يظل التأثر به بصورة ثابتة ودائمة ... (طريقة تفكيره وكلامه وحركاته).
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول الهداة ... فإن القرآن يصور علاقة الأمة بنبيها.
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الفتح: 29).
وتصوير الأمة كزرع أخرج شطأه...
يتضمن ارتباط هذه الأمة كزرع البذرة التي نبت فيها الزرع ومثلما يحمل الزرع خصائص البذرة التي ينبت منها.
حملت الأمة خصائص نبيها ...
حتى أن خط الامتداد الطبيعي و الدعوة ... يتوافقان في الوراثة ...
بدرجة كاملة ...
مثلما توافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوصف الطبيعي و الملة مع سيدنا إبراهيم ...
ومثلما توافق المهدى المنتظر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوصف الطبيعي والدين .. إلي حد أن تصبح الدعوة وراثة حيث يقول زكريا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (مريم: 5،6).
6- المجال العصبي:
وارتباط الدراسات العصبية بالجانب القدري راجع إلى أن أهم مجالات هذه الدراسة هو ما اتفق على تسميته (السلوك اللاإرادي).
ذلك لأن هذا المجال هادف بصورة نهائية إلى حفظ الإنسان مثل الحركة اللاإرادية المشهورة التي يفعلها الإنسان عندما يشك بدبوس حيث يبتعد لا إرادياً عن الدبوس.
والسلوك اللاإرادي سلوك خارج السيطرة العقلية ولكنها خاضعة للسيطرة العصبية ولذلك تسمى "السلوك الإلهامي". اتفاقاً مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة: "يلهمون التسبيح كما تلهمون النَفَس"(1) .. فللنفس حركة لا إرادية، أي حركة إلهامية.
وباعتبار أن الوحي هو الحد الجامع لحقائق الدين و النفس، فإن الانتباه إلى الأساس النفسي فيه سيضع أعيننا وينبه إفهامنا إلى تصورات رائعة ومعان مهمة في دراسة النفس البشرية، وبهذا الاعتبار يمكن فهم القرآن والأحاديث على أنها نصوص منهجية في هذه الدراسة، وهذه آية لا يمكن بل يستحيل فهمها إلا بتصور أساسي عن النفس من الناحية العصبية وهو قول الله عز وجل: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (الحج:15).
وفي تفسير الآية قولان: الأول: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه "محمداً"  فليمدد بحبل إلى السماء ثم يخنق نفسه به أي يقطع رقبته.
الثاني: من كان يظن أن لن ينصر الله "محمداً"  فليمدد بحبل إلى السماء ثم ليقطع هذا الحبل.
والأرجح هو الثاني؛ لأن الآية بعد الأمر بالقطع تقول: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ. إذن بقاء هذا الإنسان حي أولى لينظر هل يذهبن كيده غيظه، والدلالة النفسية للنص أن الإنسان عندما يتمنى شيئاً ويعجز عنه فإنه يصنع لهذا الموقف النفسي نموذجياً رمزياً يحقق فيه أمنيته ويعالج غيظه وعجزه. والرمزية في هذا الموقف هي الحبل الذي يرمز إلى المدد من الله لنبيه ؛ ولذلك سيرمز إلى المدد بالحبل المشدود إلى السماء والأمنية هي قطع المدد فينقطع الحبل، وهكذا أصبح الموقف رمزياً نفسياً عصبيا.
وفكرة الرمزية طبيعة بشرية يمارسها الإنسان في موقف القوة والضعف، أما موقف القوة فمثاله: الراية التي تدل على الثبات في الحروب، ومثاله: تصرف سليمان مع ملكة سبأ قبل أن يأتيه قومها مسلمين. وكان تصرف القادر بإذن الله، وذلك عندما أتى بالعرش نفسه وهو رمز الحكم والسلطة بحيث أصبحت السيطرة على العرش بعد نقله إنهاءً لإحساسهم بالسيادة. أما أمثلة موقف الضعف في ممارسة الرمزية فهي ما نراه من العاجزين عن مواجهة دولة بالقوة فيحرقون علمها ليعودوا بعد ذلك وكأنهم هزموا الدولة صاحبة الرمز، أو يعجزون عن مواجهة شخص ما فيصنعون تمثالاً ويحرقونه. و أية قرانية أخرى فى اتجاه الدراسة العصبية هي قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (النور: 39). وهي حالة نفسية تفسر العلاقة بين الحواس والمخ، وارتباط هذه العلاقة بالحالة النفسية للإنسان. والحالة هنا هي شدة الاحتياج الشديد إلى الشيء التي تجعل المخ كأثر للتمنى الشديد ينقل الواقع إلى الحواس في صورة ما يتمناه الإنسان. وليس الاحتياج فقط هو الذي يغير الواقع في إحساس صاحب الحاجة، فقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الحب الشديد له نفس الأثر، حيث يجعل الإنسان لا يرى من يحب إلا في الصورة التي يريدها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "حبك للشيء يعمي ويصم".
ـ وحالة تغير الواقع في إحساس الإنسان بالتمني أو الحب هي أقصى درجات التأثير النفسي في الحواس، ولكن هذه الحالة لها بداية، وأولى درجاتها أن ينشأ عند الإنسان احتمال حدوث الشيء الذي يريده، مثلما كان عمر في بيته وكانت الحرب بين المسلمين والروم قائمة وكان للروم حلفاء من القبائل العربية ومنها قبيلة غسان وكان عمر يتوقع مجيئ غسان للحرب، وكان بيت عمر في أعالي المدينة فكان كلما نادى عليه منادياً رد عليه قائلاً: أجاءت غسان؟، حتى كانت المرة التي أشيع فيها أن رسول الله  طلق نساءه فجاءه رجل وقال: يا عمر؛ فقال عمر: أجاءت غسان ؟ فقال الرجل: إن الأمر أكبر من ذلك. وحكى له ما تردد بين الناس بخصوص زوجات النبي .
وقد تختلف الدوافع في الإحساس بالواقع. مثلما كان الدافع الرغبة في الجهاد وكما كان موقف عمر وكان بدافع معاكس لما كان عند عمر وهو إحساس الجُبن و الخوف مثلما قال الله في المنافقين يحسبون كل صيحة عليهم. و في إطار الدراسات العصبية يأتى قول الله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (الأحزاب:10).
زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وهي حالة عصبية تبدأ بصورة نفسية وسببها الانفصال بالعقل عن الواقع حتى تصبح مرحلة عصبية ناشئة عن شدة الانفصال عن الواقع ورفضه.
وأول درجاتها هي توقف المخ عن إعطاء الإشارة إلى البصر بالتركيز فيما يراه مع إزاغة قليلة في مقلة العين. ويشتد الزيغ بحسب درجة الموقف العصبي، وتبلغ الحالة مداها بتوقف مقلة العين نفسها عن حركتها الطبيعية، فيقف البصر عند نقطة معينة انفصلت عندها إشارات المخ بالنظر فتكون حالة الشخوص (شخوص البصر). وبلغت القلوب الحناجر؛ وذلك عند زيغ البصر يكون قد بلغ الخوف غايته، وعندما يحدث ذلك تتأثر حركة الدم بحالة الفزع فيزداد القلب في ضخ الدم لتعويض النقص في الدم المتجه نحو المخ. ولكن الدم الناقص لايعوض بحركة القلب الزائدة فيبدأ القلب في تقليل المسافة بينه وبين المخ، فعندئذ يقترب القلب مكانهُ ويتجه نحو المخ، كما قال تعالى:  وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. وعندما يبلغ القلب الحناجر يصبح الفؤاد فارغاً كما قال سبحانه: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (إبراهيم: 43). فتضيف هذه الآيات عنصر الخوف بعد عنصر التمني والحب باعتبارها العناصر المؤثرة في إحساس الإنسان بالواقع. عصبيا.
ـ ومن أمثله الدراسة العصبية للنفس من الأحاديث، قول الرسول : "المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء".(1) والألفاظ في الحديث واضحة: معي: مفرد أمعاء. ونحن نسميها أمعاء لأنها جمع. وقد أتت إليها صفة الجمع من تعدد طولها بنسب ثابتة إلى سبع مسافات عصبية. فإذا أكل الإنسان حتى اقترب من إنهاء المسافة الأولى أحس بالشبع. وكان من الممكن أن يقوم عن الطعام وهو يشعر بالشبع. ولكنه إذا أكل وتجاوز الطعام المنطقة العصبية التي تعطيه الإحساس بالشبع فإنه يشعر بالجوع مرة أخرى حتى تنتهي المسافة العصبية الثانية. وهكذا .. فالمؤمن يشبع في المسافة العصبية الأولى من الأمعاء آي في معي واحد، والكافر لايقوم حتى يملأ كل الأمعاء (سبعة أمعاء).
ومن الدراسات العصبية:
كان رسول الله  لا يحب أن يأكل متكئاً (2). لأن وضع الاتكاء يؤثر على الأعصاب المختصة بالطعام والشراب، ولأن القاعدة العصبية أن التحميل على الأعصاب هو الذي يظهر فاعليتها، فإن الطعام أو الشراب من غير اتكاء يحدث التحميل المناسب لإظهار فاعلية الأعصاب في الإحساس بالشبع. أما الطعام والشراب مع الاتكاء فإنه إلغاء للتحميل والفاعلية .. فيأكل الإنسان ويشرب دون شعور بالشبع والارتواء.
ويلى نموذج الإحساس نموذج الحركة:
والمقصود بهذا النموذج هو التفسير العصبي لحركة الإنسان العضوية والعضلية والعصبية ومنه الاتزان في حركة المشي. إن دراسة حركة المشي في الإنسان تؤكد أنها تبدأ من أعلى القدم اليسرى. وإذا أردنا التحديد العلمي الدقيق الكامل نجد أن حركة المشي المتزنة تبدأ من أعلى الفخد الأيسر، وفي هذا المكان تحديداً قال رسول الله  في الحديث عند أحمد: "إنكم تدعون مقدماً على أفواهكم بالفدام، فأول ما يسئل عن أحدكم فخذه من الرجل اليسرى. فخذه من الرجل الشمال عندما يختم على أفواهكم بالفدام"(1).
الفدام: ما يشد على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشراب الذي فيه، أي إنهم يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم وجلودهم، فشبه ذلك بالفدام."
وفي الحديث الذي رواه مسلم: "... ثم يقال له: الآن نبعث شاهداً عليك. ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم الله على فيه، ويقال لفخده ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذِر من نفسه"(2).
وفي حديث الترمذي: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَحَتَّى تُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَتُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أحدثَ أهلهُ مِنْ بَعْدِهِ"(3).
و من مجموع الأحاديث يثبت أن أول الشهادة ستكون أعلي فخذه الأيسر ليناسب ذلك أن يكون هذا المكان هو أول الحركة ولذلك سيكون أول الشهادة وذلك كما صرح حديث أخر باللفظ "فأول ما يسئل عن أحدكم فخذه من الرجل اليسرى".
***
7- المجال الوجداني ( الحب و الكراهية ):
الحب ... وهو قَدَر توافق الأرواح.
قدر: لأنه بيد الله ..
توافق: لأن التوافق هو بدايته تقديرا وتحققا.
الأرواح: لأنه لا يكون بغيرها.
وحسب قاعدة علاقة الإنسان بذاته، يترتب عليها أن ترى الذات فيمن توافقت معه رؤية الكمال.
ولذلك كانت رؤية الكمال بين طرفي الحب هي سببه، وهي آثاره أيضاً، فإذا أحبه رأى فيه صفات الكمال الإنساني.
وإذا رأى فيه صفات الكمال الإنساني أحبه.
والفارق بينهما .. أن الحالة الأولى يراها المحب في المحبوب بإحساسه، وفي الحالة الثانية لابد أن يكون بعضاً من هذه الصفات قائمة فعلاً عند المحبوب ليرى فيه صفات الكمال الإنساني.
وأهم صفات الكمال الإنساني الصالحة لأن تكون سبباً للحب إذا كان الطرفان رجل وامرأة.. هي صفات الرجولة والأنوثة.
مثل القوة .. الغنى .. الوسامة في الرجل ..
ومثل الأنوثة والجمال في المرأة ..
وهي الصفات الوظيفية المباشرة ..
ثم تأتي الصفات الإنسانية المشتركة مثل الذكاء ..
وهذا ترتيب نظري عام .. و لكن الترتيب الواقعي الخاص قد تكون فيه الصفة الأولى في الحب هي الصفة التي يرغبها المحبوب ويتمناها في نفسه، كأثر للشخصية المكونة من عوامل الوراثة أو البيئة أو الظروف الاجتماعية .. وحسب قاعدة التوافق التي تبلغ حد التوحد الذاتي فغالباً ما تكون الصفة تكاملية، أي مكملة لنقص واضح في ذات المحب يراها في محبوبه، وهذا ما جعل الحب تفسيراً متعلقاً بالذات، وهو أنه إثبات اجتماعي للذات.
فإذا أردنا تحليل ظاهرة الحب بين رجل وامرأة، نجد أن الظاهرة لها كل الأبعاد الإنسانية..
القدر .. الروح .. العقل .. القلب .. السمع .. البصر ..
سبق القول بأن الحب قدر من الله عز وجل لأنه غالباً ما يكون أساساً للزواج، والزواج قدر جامع .. لأنه بدوره أساس للذرية والرزق والامتداد.
وقد يكون التوافق العقلي سبباً للتآلف القلبي المحقق لتعارف الأرواح المحقق لقدر الحب.
وقد يكون السمع سبباً للتآلف القلبي ..
ليكون الصوت هو البداية إذ يسمع أحد الأطراف صوت الطرف الآخر فيحبه.
المهم أن ظاهرة الحب .. محصلة نهائية لهذه الأبعاد جميعها ..
وعندما ينشأ الحب من أي بداية فإن بقية الأبعاد تنتظم وفقاً لهذه البداية..
فعندما تكون النظرة مثلاً بداية للحب .. فإن المحبوب امتداداً بهذه النظرة الأولى والوحيدة يكون محققاً في إحساسه لمقاييس الجمال المحببة في النفس عند من أحب.
عندئذ تنتظم الأبعاد .. بتحقق التعارف في الأرواح والائتلاف القلبي .. والتوافق العقلي وجميع الحواس..
فيرى المحب حبيبه في غاية هذه الأبعاد .. يحب روحه .. ويحب صورته .. ويشعر أن صوته أجمل الأصوات وأن صورته أجمل الصور.
يوافقه في عقله وينبض مع قلبه ..
واعترافنا بالحب كحقيقة إنسانية واقعة إنما هو اعتراف مجرد من أي مدلول له في الواقع الجاهلي، وهذا التحفظ في غاية الأهمية، إذ إن الحب في الواقع الجاهلي هو إثبات للذات الإنسانية من واقع الفراغ، لأن الحب بأهم معانيه هو إثبات للذات الإنسانية. والجاهلية فى أبرز صفاتها هي واقع فراغ فكري ووجداني.
وخطورة إثبات الذات من واقع الفراغ على الإنسان تأتي باعتبارها استهلاكاً للخصائص الطبيعية في الإنسان، والتي تحقق فيه إمكانية تحمل تكاليف الرسالة، وهي إمكانية قائمة في كل إنسان ؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بتلك الخصائص كي يكون صاحب رسالة.
ودلائل هذه الإمكانيات هي:
القدرة على الحياة بقضية الرسالة، وتصور الوجود من خلال تلك القضية. والقدرة على مواجهة أي واقع مخالف لهذا التصور. وعندما يحب الإنسان الجاهلي من الفراغ، فإنه بهذا الحب ينطلق نحو من أحبها بخصائص الرسالة الكامنة فيه لأنه يعيش بلا قضية.
فتتحول تلك التي أحبها إلي قضيته التي يحيا بها ويتصور الحياة من خلالها، ويسعى إلى الارتباط بها محطماً في سبيل ذلك أي عقبة. وآثار الحب في الواقع الجاهلي هي الدليل على هذه الظاهرة ؛ فعندما يمارس الجاهلي حباً فإنه يحب إلي حد العبودية.
***
8- الفاعلية القدرية الاستثنائية:
الرؤى:
فما هي الرؤية في التصور الإسلامي الصحيح ...
الرؤية: إما رؤية من الرحمن ..
أو حلم من الشيطان ..
أو حديث نفس ..
هذا ما قاله ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
والرؤيا انتقال روحي إلي المرحلة الشعورية ... ولذلك جاء التعبير عنها إما بالقول: رأيت أو شعرت. ومن هنا كان جزاء الذي يختلق رؤيا بالعقد بين شعرتين.
وذلك بمناسبة ارتباط الرؤى بالألفاظ. فمناسبة قولك: شعرت أو رأيت يكلف بالعقد بين شعرتين لأنه ادعي أمرا لم يكن، فكان جزاءه التكليف بأمر لن يكون.
ورؤيا الرحمن: تصور ملائكي للإنسان لتفسير معاني خبرية .. من خلال الرمزية أو من خلال الألفاظ من حيث حروفها لا من حيث حقيقتها ..
ولما كانت الرؤيا من الله وحيا... ولما كانت الرؤيا تختص بالمعاني وصورتها الكونية...
كانت الرؤيا أقرب ما تكون إلى الناموس.
ولما كان الناموس هو النظام الجامع بين الخلق و الأمر أو بين الطليعة و الشريعة ... أو بين الكون و الدين، كان الناموس هو أساس تفسير الرؤى ..
و تفسير الرؤيا بحسب الاشتقاق فلو أن رجلاً رأى أنه يأكل سفرجلاً فقال له المعبر: تسافر سفراً عظيماً لأن أول جزء السفرجل سفر ورأى آخر أن رجلاً أعطاه غصن سوسن فقال: يصيبك من المعطي سوء سنة لأن السوء يدل على الشدة والسنة اسم للعام التام لكن التعبير بحسب الاشتقاق للألفاظ العربية إنما هو للعرب وغيرهم إنما ينظر إلى اللفظ في لغتهم. واعلم أن المنام الواحد يعتبر فيه اللفظ الذي يقوله صاحب الرؤيا فتارة يقول تزوجت وتارة يقول نكحت فربما [ص 360] يختلف تأويله ولهذا ذكرنا الزواج في حرف الزاي ثم ذكرنا النكاح في حرف النون وهكذا أمثال ذلك فيعتبر لفظ الرائي وما يقوله ويجري الاشتقاق وغيره عليه وإن كان المعنى واحداً والمنام يختلف باختلاف لغتين كالسفرجل عز وجمال وراحة لمن يعرف لغة الفرس لأنه بلغتهم بهاء وهو للعرب ولمن عاشرهم دال على السفر والجلاء لاشتقاقه ويختلف باختلاف الزمان فالاصطلاء بالنار والتدفى بالشمس وملابس الشتاء واستعمال الماء الحار ونحوه لمن مرضه بالبرودة أو في الزمان البارد خير وفرج وراحة وذلك في الصيف أمراض أو نكد كما أن [ص 361] استعمال الرفيع من القماش أو الماء البارد ونحوه في الصيف راحة وفائدة وفي الشتاء عكسه ويخلف باختلاف الصنائع فإن لبس السلاح أو العدد للجندي البطال خدمة وللمقاتل نصر وللرجل العابد بطلان عبادته ولغيرهم فتنة وخصومة.
الفراسة والإلهام:
قال الشافعى فى تعريف الفراسة هى: المهارة في تعرُّف بواطن الأمور من ظواهرها.و استدل بقوله : "اتَّقُوا فِرَاسَة المؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللّه"(1).
الفراسة هى أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر و حديث نفس و هى خاطر يهجم على القلب فينفى ما يضاده و يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة و لكن الفريسة فعيلة و الفراسة على وزن الإمارة و هى على حسب الإيمان.
هي نور الله في قلب العبد و دليله قول الله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ و هذا النور يكون بقدر الإيمان و مقتضياته المتعلقة بالفراسة و هي:
الربانية:
و فيها يقول ابن القيم: "من غض بصره عن المحارم، و أمسك نفسه عن الشهوات، و عمر باطنه بالمراقبة و ظاهره باتباع السنة و تعود أكل الحلال ... لم تخطئ فراسته".
الصدق:
و فيه يقول ابن القيم: "إذا جلستم إلى أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإن الصديق لا تخطئ فراسته" و الفراسة باعتبار الصدق تماثل الرؤى لقوله  "أصدقكم رؤية أصدقكم حديثاً".
غير أن هناك أمر يتعلق بالفراسة و هو التجربة فإن فراسة العبد مبنية على درايته بالواقع و هذه حادثة الأعرابى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا يبرق وجهه: ألم تسمعي ما قال محرز المدلجي لما رأى أسامة وزيدا نائمين في ثوب واحد أو في قطيفة قد غطيا رؤسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
و الفراسة علم من العلوم الطبيعية
و تعُرف منه أخلاق الناس من أحوالهم الظاهرة من الألوان والأشكال والأعضاء وبالجملة الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن.
وموضوعه ومنفعته ظاهران.
وكفى بهذا العلم شرفا قوله تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين وقوله سبحانه: تعرفهم بسيماهم وقوله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كان قبلكم من الأمم المحدثون وإنه لو كان في أمتي لكان عمر(1)".
والمحدث المصيب في ظنه وفراسته، وهذا العلم نافع للملوك والصعاليك في اختيار الزوج والصديق والمماليك، إلى غير ذلك ولا بد للإنسان من ذلك العلم لأنه مدني الطبع محتاج إلى معرفة الضار من النافع ...‏
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم"رواه البزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.‏
"ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه اللّه رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر" يعني أن ما أضمره يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقد أخبر اللّه في التنزيل بأن ذلك قد يظهر في الوجه فقال ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول وظهور ما في الباطن على اللسان أعظم من ظهوره في الوجه لكنه يبدو في الوجه بدواً خفياً فإذا صار خلقاً ظهر لأهل الفراسة والنهى.
ولا تصح مثل تلك الفراسة إلا للمؤمن الكامل، أما المقصر فقد يلقي الشيطان إلى مخيلته، فيظن أنه يرى تلك"الصور"على وجوه الناس. نسأل الله أن يحفظنا من العجب ومن سوء الظن بالمسلمين، آمين.
الإلهام: وهو الاكتشاف و الاختراع
وأساس الإرادة في الاكتشاف هي الاعتقاد، و المسلمون هم أولى الناس بالإدراك الكوني؛ لأنهم يملكون التصور الصحيح عن هذا الكون، و المسلمون هم أقرب البشر إلى الطبيعة الكونية، و العلاقة بين المسلم والوجود الكوني هي العلاقة الحية بين الإنسان والكون.
ويكشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلاقة الحية بقوله في جبل أحُد " هذا الجبل يحُبنا ونحبه". وكان يقول: إن هناك حجر كان يسُلم علي قبل أن أبُعث وأنا أعرفه الآن. ولما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم جزع النخل الذي كان يخطب عليه قبل أن يصُنع له منبر سمع للجزع أنين ولم يسكت حتى نزل الرسول صلى الله عليه وسلم واحتضنه. إن الإحساس الشرعي بالطبيعة هو الذي يعطي الإنسان المسلم إمكانية الكشف الكوني .. من خلال الإدراك الصحيح و التعامل الصحيح مع الطبيعة.

• الجانب الثالث: الإيمان بالغيب
لقد تقرر وجوب التحليل النفسي في إطار المصطلحات الشرعية من خلال كل جوانب المصطلح.
وكان الإيمان بالغيب هو أهم جوانب مصطلح ( الإيمان )
والغيب في إطار التحليل النفسي له ثلاث ركائز:
1- الإيمان بالملائكة.
2- الإيمان بالجن.
3- الإيمان بالساعة وعلاماتها.
وقضية الإيمان بالغيب مجال أوسع من هذه القضايا المحددة ولكن الكلام عنها جاء باعتبارها أكبر تأثيراً في السلوك الإنساني وباعتبارها ركائز في هذا المجال الأوسع.
1- بالملائكة.
و اعتبار الملائكة في الدراسة النفسية ينبه إلي التوافق بين الطبيعة الإنسانية السوية و الملائكة فقال صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن أدم"(1)
و لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصائص التوافق الطبيعي تحديدا خلق الحياء. فيبين أن الملائكة تتميز أخلاقيا بالحياء. حتى إن خديجة علمت أن الذي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الرسالة كان ملكا فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم تهيأ كأنك تريد الجماع فانظر هل تراه فقال: لا: فقالت انه ملك لأنها علمت إن الملائكة تستحي أن ترى هذا الأمر بين الزوج والزوجة. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الملائكية معيارا للسلوك الإنساني الصحيح فيقول: "لو أنكم كما تكونون معي لصافحتكم الملائكة في الطرقات" وكما كانت الملائكية معيارا للسلوك الإنساني السوي فان السلوك الإنساني بدوره كان مؤثراً في أخلاق الملائكة. حتى أن الملائكة كانت تستحي من عثمان بن عفان تأثرا بأخلاقه. حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عثمان " ألا استحى من رجل تستحي منه الملائكة"(1).
ولا يمكن تخيل دراسة إسلامية في النفس لا يذكر فيها أمر الملائكة؛ فالملائكة بالنسبة للإنسان، أثر غير المحدود فى الإنسان يجعلنا نشعر وكأنها خلقت من أجله. فهي مع الإنسان في كل لحظات وجوده. منذ الالتقاء الأول بين الأب والأم.. ففي الحديث المتفق عليه: "إن الله وكل بالرحم ملكاً؛ فيقول: أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً قال قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه"(2).
و إذا اتفقنا علي حقيقة الفاعلية الإنسانية من خلال فاعلية القدرية فإننا نضيف إلى هذه الفاعلية ما يمكن أن نسميه: التأثير الملائكي، وله مجالاته الأساسية. وأهمها:
ـ الطمأنينة بالسكينة: التثبيت القلبي كما قال الله فى غزوه بدر أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (الأنفال: 12).
ـ الإبداع الطيب، سواء كان فهماً عقلياً أو اكتشافاً علمياً.
ـ التأييد بالإلهام ودليله قول رسول الله  لحسان بن ثابت: "اهجهم وروح القدس يؤيدك"( ). ودليله قول ابن عباس: "أعانك عليها ملك كريم". وذلك في فهم آية من القرآن.
وفى النهاية ... تثبت الدراسة الإسلامية للنفس أنها لا تكون كاملة إلا بدراسة العلاقة بين الإنسان و الملائكة.
كما لا تكون كاملة بغير قول الله عز وجل إن كل نفس لما عليها حافظ حيث يتبين من الآية أن الملائكة أكبر قوة خارجية مؤثره فى ابعد أعماق الكيان الإنسانى.
ـ الرؤية: وهي تصوير ملائكي للمعاني في نفس من يراها.
وكما كانت الطبيعة الملائكية معيارا للنفس السوية .. كان الشيطان مقياسا للنفس المريضة.
2- الشيطان والنفس الإنسانية:
و يدفعنا التأثير الشيطاني في النفس الإنسانية إلى دراسة مصدر التأثير وهو الشيطان نفسه. وهذه القضية بصفة عامة سبق طرحها بصورة مناسبة (يراجع كتاب عندما ترعي الذئاب الغنم الجزء الأول) ولكن ما نعنيه بالدراسة في هذا الموضع هو التكوين النفسي للشيطان باعتبار أن هذا التكوين لابد أن يمثل التأثير المباشر على الإنسان.
وأصحاب الدراسات غير الإسلامية للنفس ينكرون وجود الجن أصلاً وذلك في إطار إنكار أصل الدين في علم النفس.
وكما يؤكد أصحاب الدراسات الإسلامية أصل الدين في إنشاء علم النفس فإنهم يؤكدون أيضاً ويثبتون أثر الشيطان في النفس .. وبالتالي حقيقة الشيطان في الدراسة النفسية.
والتصور المبدئي للدراسة يثبت هذا التأثير ..
خلق الجان من مارج من نار..
وقاعدة الارتباط بين الخلق ومادة الخلق المنطبقة على الإنسان تنطبق على الجن أيضاً والانعكاس المباشر لهذه القاعدة في طبيعة الجن، مثاله:
أ- الحركة السريعة.. التي يؤثر بها على الإنسان ليكون أثرها الاضطراب الناشئ من الخضوع لحركة زائدة وسريعة تختلف مع طبيعته.
ب- الحرارة الناتجة عن النار والتي يؤثر بها على الإنسان ليكون أثرها الغضب الذي تنتفخ له الأوداج ويحمر بها الوجه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ، فإن الماء يطفئ النار"(1).
وعندما امتنع إبليس عن السجود لآدم إنما امتنع بصفات نفسية وهي: الكبر والحسد.
ولما عوقب إبليس بعد الامتناع عن السجود بالأبلسة .. كانت عناصرها التي أصيب بها من أخطر العناصر النفسية وهي: الحزن – اليأس - الخوف - والندم.
ومجموع هذه الصفات الناشئة عن مادة الخلق والتي فعل بها المعصية والصفات الواقعة بعد المعصية، تمثل أخطر تأثيرات الشيطان النفسية في الإنسان. حيث كان هذا التقارب أساسا للحجية القرآنية على الجن والإنس، لأنه كلفهما جميعاً كما قال الله سبحانه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (الأحقاف: 29).
حيث تثبت الآية وحده الحجية القرآنية القائمة علي الإنس و الجن بمقتضى هذا التقارب الشديد بين التكوين النفسي للجن والإنسان..
والذي كان أساسا لإيقافهما معا على قاعدة التكليف بالدين ..
بما تتضمن من أحكام حفظ النفس، وأحكام شرعية ذات مضمون نفسي ونصوص شرعية نفسية مباشرة ..
و كذلك حجية النبوة البشرية على الجن باعتبار أن القاعدة في هذه الحجية هي التوافق بين النبي وقومه المبعوث لهم، من حيث اللسان واللغة والفهم والاستيعاب.
ومن حيث العادات والتقاليد وطبيعة اجتماعية لأن هذا التوافق هو أساس هذه الحجية.
و قد كان هذا التقارب بين الجن والإنسان أكبر إمكانيات التأثير في الإنسان.
ومن مجموع هذه الإمكانيات الشيطانية استطاع الشيطان أن يصل بالإنسان إلى مرحلة الضلال البعيد .. قال تعالى: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (النساء: 60)
ومن الآية يتضح أن هدف الشيطان ليس الكفر المجرد الذي من المحتمل أن يعود الإنسان بعده إلى الهدى، وإنما الهدف هو: "الضلال البعيد" ... الذي لا يعود الإنسان إلى ربه بعده أبداً إلا أن يشاء الله عز وجل. ويتحقق هذا الضلال بعد عدة خطوات.
- فقد الأصالة الإنسانية.
- والصفة الإنسانية. وبذلك يصبح الإنسان ممسوخاً مسخاً جوهرياً، ولا يستطيع العودة إلى الهدى مرة أخرى.
والأصالة الإنسانية هي معدن الإنسان نفسه. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن"(1).
ويقول أيضاً: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهواً"(2).
وقياساً على ذلك تكون جميع المخدرات مثل الهيروين التي ينعدم معها إمكانية الالتزام بالإسلام بل تذهب معها الأصالة الإنسانية وتتبدد، وتتوه الصفة الإنسانية ويصبح الإنسان في حكم الممسوخ وإن ظلت صورته آدمية.
3- الساعة وعلامات الساعة:
وهي الجانب الثالث في مصطلح ( الإيمان ), ولهذا الجانب تفسير نفسي هام: فالإنسان دليل على الساعة من حيث خلقته وطبيعته، ولابد أن يمتد الاستدلال بالإنسان على الساعة من خلال علاماتها أيضاً، فيصبح الإنسان في زمن كل علامة دليلاً قائماً على الساعة. وذلك بتغير أحواله ليتوافق مع مقتضيات النهاية الكونية.

والمضمون الإنساني للعلامات له مستويان:
- المستوى الذاتي الفردى.
- المستوى البشري الأممى.
المستوى الذاتي الفردي: وهو أن نعلم أن الإنسان ذاته دليل جوهري على القيامة، فمن حيث خلقته أصلاً في بطن أمه.
يقول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (المؤمنون: 12،15).
ويوافق الآية في معناها قول رسول الله : "إِنَّ أحدكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهل النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهل الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهل الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهل النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ"(1).
حيث جمع الحديث بين الإنسان بنوعه وعمله وبين مصيره عند الله يوم القيامة.
ومن حيث طبيعته، قال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (القيامة:2:1). لأن النفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها بطبيعتها وهذا يعني وجود أصل الحساب على الأعمال التي سيكون عليها يوم القيامة. إن المضمون الإنساني للساعة هو الذي يفسر ظاهرة (الضمير) أو النفس اللوامة لأن هذه الظاهرة دليل على الحساب. وإيمان الإنسان بالحساب مسألة تكوينية نفسية، لأن الضمير كذلك ظاهرة تكوينية نفسية
ومن حيث رده إلى أرذل العمر لتكون نهاية الكيان الإنساني كله ليكون ذلك دليلاً على نهاية الوجود الإنساني كله.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفي وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإذا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (الحج: 5). وبهذا الاعتبار تكون الساعة هي نهاية الخلق عامة، والإنسان خاصة. ولكن ما نعنيه بالمضمون الإنساني للعلامات ارتباطها بألصق وأعمق الصفات والخصائص الإنسانية ولتوضيح هذا المفهوم، نضرب في البداية مثالين:
الأمانة ... والعلم ...
أما دليل جوهرية الأمانة والعلم بالنسبة للإنسان فهو أسلوب رفعهما.
ففي رفع الأمانة:
قال رسول الله : "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى في أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً ليس فيه أى شيء، يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان"(1).
والملاحظة المنهجية في الحديث هي أن الأمانة لا تقبض من قلب الرجل إلا وهو نائم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينام الرجل النومة .."، "ثم ينام النومة" وقد سبق القول أن تفسير هذه الملاحظة يرجع إلى حقيقتين: حقيقة الأمانة ... وحقيقة مكانها في الإنسان ... أما حقيقة الأمانة فهي التكليف، كما قال ابن عباس، وفسر ذلك بقوله: "إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت"
والنوم هو الحال الذي يرفع فيه التكليف فيناسب ذلك قبض الأمانة؛ لأنها أصل التكليف فيناسب قبضها حال رفع التكليف. وأما حقيقة مكانها؛ فهو جذر قلوب الرجال (أى أصل قلوب الرجال). والنوم هو الحال الذي ينام فيه القلب، لأن الذي لا ينام قلبه إذا نام؛ هم الأنبياء فقط فيناسب حال نوم القلب أن ترفع الأمانة من أصله.
وكما كان رفع الأمانة دليلاً على جوهرية المضمون الإنساني لعلامات الساعة فهناك رفع العلم وهو لا يختلف عن الأمانة في رفعها، وفي ذلك يقول : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"(2). ذلك لأن العلم الشرعي علم بالوحي، والوحي روح من الله وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمان وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى: 52).
ولذلك ناسب أن يكون رفع العلم بانتزاع الروح والموت، وبذلك تأكد المضمون الإنساني في صيغة العلم والأمانة. واختيار مثل الأمانة والعلم في ثبات المضمون الإنساني للعلامات ليس فقط لأن الأمانة والعلم ألصق الصفات وأعمقها في كيان الإنسان بل لأن رفعهما – في نفس الوقت – بداية لرفع الدين والكون؛ فرفع الأمانة بداية الأحكام.
بدليل قول رسول الله : "أول ما يرفع من دينكم الأمانة وآخر ما يرفع من دينكم الصلاة"(1). ورفع العلم بداية رفع واقع الدين والكون، وكما قال :"يرفع العلم منكم ويكثر الجهل ويفشو الزنا وتكثر الزلازل"(2).. حتى تكون الساعة الزلزال الأكبر.
إن الارتباط بين الساعة وعلاماتها وبين الإنسان ارتباط غاية في الدقة.
ولعل ذلك يتضح من خلال قول رسول الله  في الساعة: "تأتي ريح لينة من قبل اليمن ...".
إن الحديث يربط بين الريح التي ستأتي في آخر الزمان لتأخذ كل نفس مؤمنة، وبين اليمن.. لأن رسول الله  ذكر اليمن بالاسم وأهل اليمن، ولم يقل ريح تأتي من الجنوب.
يعني بذلك الانتباه إلى اليمن وأهلها وهم الذين قال فيهم رسول الله :
"أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً"(3).
وهكذا جاءت الريح اللينة من عند أصحاب القلوب اللينة.

المستوى البشري الأممي:
ومن هنا كانت الطبيعة الإنسانية معيارا هاما للساعة..
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من علامات الساعة
شح مطاع.
وهوى متبع.
و إعجاب كل ذى رأي رأيه.
والصيغة المقدرة للوجود البشري بصورته الصحيحة هي الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً ..
وهذه الصيغة هي ضمان الوجود البشري حتى قيام الساعة.
ولما كانت العلامات هي مقدمة بين يدي الساعة.
فإن اعتبار هذه الصيغة القدرية للوجود البشري لابد أن يكون قائماً بصورة واضحة حتى هذه المرحلة.
ويستدل لذلك بقوله  في الصحيح، من حديث المغيرة بن شعبة: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون"( ) وفي رواية: "حتى تقوم الساعة"، وفي رواية معاوية في الصحيح أيضاً بلفظ: "ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة. أو حتى يأتي أمر الله". وله شواهد عند مسلم من حديث جابر بن سمرة وعقبة بن عامر. وأيضاً لابد أن يكون مفهوماً أن الساعة هي انهيار الوجود البشري. وأن الأمة هي الصيغة المقدرة لهذا الوجود. ولذا فإن مفهوم الأمة سيبقى معنا في قضية العلامات وذلك باعتبار أن هذه العلامات هي مقدمة انهيار هذا الوجود، لكنه عند قيام الساعة ذاتها.
والأمة عرق الدين..
ولذلك سيشارك حقيقة العرق والدين حقيقة الأمة في تحليل العلامات، والخط الأول الذي سنتابع به حقيقة الأمة هو تحديد الأمم التي ستدخل مجال العلامات.
ونجدها اليهودية والنصرانية والإسلام... ونجد أن عرق اليهود بنو إسحاق... وعرق النصارى الروم بنو الأصغر... وعرق الإسلام العرب بنو إسماعيل...
الحقيقة الجامعة:
التي تجمع بين الأمم الثلاث (الدور الإيجابي).
الحقيقة الفاصلة:
التي تفصل بين الأمم الثلاث (حقائق الصراع).
ومثال الحقائق الثابتة:
- الافتراق: كما قال رسول الله : "افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتْ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً"(1).
- التقليد:
كما قال رسول الله : "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ"(1).
ومثال الحقائق الجامعة هو:
بقاء هذه الأمم الثلاث حتى آخر العلامات؛ بدليل أن الدين لن يكون ملة واحدة إلا على يد عيسى عليه السلام.
فمن حيث العرق فإن آخر آثار إسحاق هم السبعون ألفاً الذين سيغزون القسطنطينية.
أما نهاية صيغة الأمة فإن اليهود سيبقون عليها حتى يقاتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم. أما أمة النصارى باعتبار عرقها فإنها ستبقى مع أمة النبي :
"ستقوم الساعة ويكون الروم أكثر عدداً، أشد الناس عليكم الروم ومهلكهم مع الساعة". رواه أحمد. وعنده أيضاً: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ"(2).
ومفهوم العرق في إطار العلامات لا ينتهي عند هذا الحد. بل سيكون له نطاق أوسع حيث يشمل علامة الدجال ويأجوج ومأجوج؛ لأن الدجال ذكر كعرق مقابل للعرب، وذلك باعتبار انتسابه إلى اليهودية.
أما الحقيقة الجامعة للمضمون الإنساني لعلامات الساعة بالمستوى الذاتي الفردي والبشرى والأممي معاً فهي:
حقيقة العبادة..
ذلك أن العبادة وهي أساس الذات، وهي كذلك شرط في قيام الأمة، وهي المستوى الأممي. ودليل المعنى الأول هو قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذريات: 56).
ودليل المعنى الثاني هو: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 92) ولذلك قال الإمام القرطبى في إثبات العلاقة بين العبادة والسعادة:
ولما كانت العبادة هي علة الخلق كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذريات:56 ) كانت هي علة الوجود وأصبحت كذلك هي الصفة المرجحة للخير والتي تضمن بقاءه.
فإذا قطع التعبد لم يقرها بعد ذلك في الأرض زمناً طويلاً.
ولما كان الإسلام لله بكامل الإرادة و الحرية .. أصبح أي سلوك إنساني ناشئ عن الإسلام له دلاله هذه الإرادة و تلك الحرية ...
المصطلح الثاني: ( الإسلام )
الدلالة السلوكية لمعنى الإسلام:
وقد نشأ مصطلح الدلالة السلوكية من معنى الإسلام في قول الله عز وجل: "ومن يسلم وجهه لله"وذلك لأن الدين باعتباره نظاماً للسلوك البشري فإنه لم يخرج عن معنى الإسلام في دلالته السلوكية وهي المأخوذة من إسلام الوجه لله، إذ ليس المقصود الحركة الحسية للوجه، ولكن المقصود هو الدلالة السلوكية الناشئة عن التوجه لله سبحانه وتعالى. ومن هنا يمكن تحليل السلوك الإنساني بدلالته في إطار مصطلح الإسلام.
وكلمة الإسلام تعني تسليم الإرادة لله بمطلق إرادة العبد وهذا معنى قول الله عز وجل: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256).
فعندما يدرك العبد طبيعة هذا الدين فإنه يدخل الإسلام بمطلق إرادته، وهذا الذي أدركه ثمامة عندما وقع أسيراً، فربطوه في سارية المسجد وكان رسول الله  يمر عليه ويقول له: ما قولك يا ثمامة ؟. فيقول: إن تقتلْ تقتل ذو دم وإن تعفُ تعفُ عن كريم. فتركه ومر عليه أخرى، فرد بنفس القول، فمر عليه الثالثة، فقال: إن تعفُ تعفُ عن كريم، ولم يذكر الدم. فأطلقه رسول الله ، فذهب واغتسل وعاد إلى رسول الله  يشهد الشهادتين.(1)
والملاحظة المقصودة من الحديث أن ثمامة لم يشأ أن يدخل في الإسلام وهو أسير.
ولكن الإنسان بحبه لنفسه وبحب نفسه لذاته يكره بطبيعته تسليم إرادته , فيقدر الإسلام هذا الإحساس فيطلب الرسول  البيعة على الإسلام من رجل فيقول له: ولكني أكره ذلك، فيقول الرسول: أسلم وإن كنت كارهاً، فيتجاوز الرسول  بالرجل حالة كراهية تسليم الإرادة ولكن دون إكراه، لأن الرسول طلب من الرجل الدخول في الإسلام دون تخويف أو تهديد.
وبذلك يعطي معني الإسلام بإرادة الإنسان وحريته.. لكل سلوك إنساني يمارس في إطار هذا الدين المعني الحقيقي الكامل للدلالة علي هذا السلوك..
ولا يتنافى مع الإرادة والحرية. الالتزام بأحكام الإسلام التي قد تجد فيها النفس كراهة طبيعية، ولا يمنع ذلك من الالتزام بها، ولذلك يقول ابن القيم في تفسير الآيات:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة: 216)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (النساء: 19).
فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية، فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه من المكروه , وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده. ويحب الموادعة والمتاركة، وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده. وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كبير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصفها، وله في إمساكها شر كبير لا يعرفه. فالإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول.
فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه , ونفرته وبغضه , بل المعيار على ذلك ما اختاره له بأمره ونهيه.
ولما كان المعنى العام للعبودية مستوعباً لحياة الإنسان؛ كان كل سلوك صادر عن الإنسان في حياته له دلالته. وأن أي سلوك ناقض لهذا التفسير لن يكون له دلالة إلا الكفر أو الفسوق أو المعصية.
من هنا نشأ في المقابل؛ السلوك الدال على هذه الصفات. وبذلك أصبح السلوك الإنساني بطبيعته محكوماً عليه إما بالدلالة على الإيمان أو ما يخالفه، ومن هذه الحقيقة أصبح أي سلوك صادر عن الإنسان له دلالته ومعناه.
و الصلاة أهم مجال سلوكي لإبراز معنى الدلالة السلوكية , ابتداء من التوجه للقبلة، وانتهاء بالتسليم، مروراً بالقيام والركوع والسجود. ولذلك كانت الصلاة في نفس الوقت هي معيار الشخصية (كما سيأتي).
وبهذا المعنى يمكن تحليل السلوكيات الأساسية للإنسان ومنها المصافحة الدالة على التوافق والحب. ولذلك لزم أن ينظر الرجل إلى من يصافحه لإثبات هذه الدلالة. وأي مصافحة لا يتوافق معها حركة الوجه لا تكون مصافحة حقيقية، وتكون عملاً فاقداً دلالته.
ومن هنا كانت البيعة على الإسلام بالمصافحة للدلالة على الموافقة على المنهج والسبيل الذي سيسير عليه مع من يبايعه. ولذلك ربط رسول الله عند البيعة بين المصافحة وثمرة الفؤاد في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: ".. وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ .."(1).
وتقابل هذه الدلالة من حيث حركة الجسد؛ الإعراض بالوجه. ويماثل المصافحة في الدلالة ... التقبيل , وهو اللفظ المشتق من القبول , وهي التعبير بالفم , وهذا التعبير يشغل مساحة كبيرة في السلوك الإنساني. ولذلك كان البصق له دلالة معاكسة وهو الرفض.
ومن مصطلح الإسلام و دلالته علي السلوك الإنساني تبينت العلاقة بين مفهوم الالتزام و الطبيعة الإنسانية ... و لكن مصطلح الشريعة هو الذي يفسر حقيقة هذه العلاقة وبناءً على الدلالة السلوكية جاء القرآن لتثبيت الدلالات المعنوية مع الحركة الحسية المعبرة عنها في مثل قوله سبحانه للدلالة على الإعراض: وَإذا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإذا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (الإسراء: 83). وَإذا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (فصلت: 51).
وقوله تعالى: وَإذا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (يونس: 12).
وبنفس معني العلاقة بين السلوك ودلالته من حيث الإسلام أو الأعراض تتدرج أحكام الشريعة كلها... حتى أصبح مصطلح الشريعة من أقوى المصطلحات الدالة علي المعني الإنساني ابتداء من التعريف اللغوي للشريعة
المصطلح الثالث: ( الشريعة )

فالشريعة لغة: معناها مورد الماء الذي يرده الأحياء للشرب.
ومن التفسير يتضح معنى الضرورة الإنسانية للشريعة ..
وتبدأ الطبيعة الإنسانية للإسلام في الظهور مع البداية الأساسية للشريعة في صيغة الأحكام الخمسة التي تندرج تحتها جميع الأحكام الشرعية وهي:
(حفظ الدين - حفظ النفس - حفظ العقل - حفظ المال - حفظ العِرض).
وهذه الأحكام الخمسة بصفتها الشرعية الحاكمة وغايتها الإنسانية النهائية هي الدليل الأساسي على هذه الطبيعة، ولكن هذه الأحكام لا تدل فقط على الطبيعة الإنسانية للإسلام، بل إنها تحدد المنطلق الصحيح للدراسة النفسية الإسلامية وهو منطلق الحفظ، وهو المنطلق الذي يعاكسه تماماً تلك الدراسات الخبيثة للنفس والتي تنطلق من الضعف والعيوب والأمراض الإنسانية.
ثم تأتي إنسانية الأحكام الشرعية في التعامل مع الإنسان بصورة مباشرة.
إن التعامل مع الإنسان من الناحية الشرعية لتحقيق الالتزام يقوم أساساً على المتابعة الدقيقة للتحول السلوكي من حالة ما قبل الطاعة، إلى الطاعة، إلى ما بعد الطاعة.
إن السلوك الشرعي والطبيعي يقوم على التناسب النفسي مع التكليف، ولذلك كان من سنة رسول الله  قبل الأمر الطاعة أن يهيئ الإنسان لهذه الطاعة. مثل كثرة الصيام في شعبان(1) تهيئةً لشهر رمضان. مثل ركعتين خفيفتين قبل صلاة التهجد(2).
وكان من نماذج الأحكام الشرعية النفسية فيما بعد الطاعة أن يرتبط الإنسان المسلم بالقرب من الله عند الانتهاء من إحدى العبادات أو الطاعات.
كما في قوله سبحانه: فَإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح: 7).
حتى لا يكون الفراغ من العبادة فراغ من الرغبة إلي الله.
وعند الانتهاء من مناسك الحج ..
فَإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (البقرة: 200).
حتى أصبحت المراعاة النفسية في الأحكام الشرعية أساساً عاماً للشريعة.
وهذه آية المراعاة النفسية في التعامل وهو قول الله عز وجل:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (الأحزاب: 37).
إن الله سبحانه علم وقدر أن عبده ورسوله محمد  سيتزوج زينب وأن هذا القدر نافذ إلى درجة أن يعاتب الله نبيه لما كان يقول لزيد:"أمسك عليك زوجك"، كما في قوله عز وجل: إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ...
وقد كانت هذه الآيات بمجرد أن تأخر رسول الله بعض الأيام، كان يقول فيها لزيد: أمسك عليك زوجك، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أنه سيتزوجها.. ولكن هذا الزواج كان قد تأخر قبل ذلك كثيراً، وكان لابد أن يتأخر.. ولم يكن هناك علة لذلك إلا أن تبقى زينب مع زيد حتى يقضي منها وطراً .. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها ... وهكذا كان الاعتبار لحالة زيد النفسية حتى بلغ زيد درجة الانتهاء الكلي من الرغبة في زينب، بل والملل من بقاءها معه حتى كان يشتكي منها. وهكذا تم الأمر. حتى عندما يأتى حكم يبدو فيه الاعتبار النفسي ليس بالقدر الكافي؛ فإننا نجد أن ذلك لحفظ النفس ذاتها.
مثل حكم من رأى رجلاً مع زوجته .. كما في حديث سعد. عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت مع امرأتي رجلاً، لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-. فقال: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ فَو َاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ"(1).‏
إن رسول الله  يضبط الموقف بحقيقة هائلة .. : "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي". فليست المشكلة هنا هي غيرة.. ولكن المسألة أن الإنسان الذي سيرجم لابد أن تتوافر له كل حقوقه التي تنفي عليها الإجراءات الشرعية التي تقوم بها الحدود.
وبذلك لا ترى النهي عن قتل من يراه يزني خروجاً على الاعتبار النفسي في الأحكام- كما يبدو لنا - وعدم اعتبار الغيرة. وليس أدل على جوهرية الاعتبار النفسي في الأحكام الشرعية من جعل حد الجارية الزانية نصف حد الحرة ..
وذلك باعتبار نفسي خطير وهو أن إحساس الحرة بذاتها وكيانها وكرامتها يمثل مانعاً ضخماً من الوقوع في الزنا، الأمر الذي يختلف بالنسبة للجارية التي تفقد ذلك كله.
ولقد كان للمراعاة النفسية في الأحكام الشرعية قوة جوهرية، وذلك عندما نرى عمر بن الخطاب يهدي رجلاً فرساً، فإذا بالرجل يحتاج مالاً فيقرر بيع الفرس، فيراه عمر يباع فعز عليه الفرس فأراد أن يشتريه .. فعرض الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا برسول الله يقول كلمته: "لا تشتريه ولو بدرهم". لا يقل أحد أن هذا بيع وشراء(2).
لأن الوحي يراعي أن الرجل لن يستطيع - نفسياً - مراجعة عمر ومفاصلته في الثمن لأنه في الأساس فرسه وهديته. وهكذا تكون المراعاة.
والوصول إلى الصيغة الشرعية للإنسان لابد أن يكون معه مخالفه بعض الأحكام الشرعية لطبيعة النفس الأصلية، مثل الإنفاق رغم طبيعة الشح الأصلية كما قال سبحانه: وأحضرت الأنفس الشح. وهنا يكون المعني الإنساني للشريعة متمثلا في معالجة هذا الاختلاف بأحكام التوفيق والحكمة..حتى لا يكون الاصطدام .. مثل التحريض على الإنفاق:من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً. ومثل الطمأنة على أن المال لا ينقص بالصدقة كما قال : "ما نقص مال عبد من صدقة"( ).
ومن أخطر الأمثلة الشرعية على الاعتبار النفسي هو معالجة الطبيعة الدفينة للإحساس بالظلم عند الإنسان. مما يدل علي المعالجة النفسية بالأحكام الشرعية بأعمق مدى لأن الإحساس بالظلم من الإحساسات الخطيرة التي لا تعالج عند المظلوم إلا بالقصاص من الظالم شخصياً، فلا يريح المظلوم أن يعلم أن الظالم في النار مع أهل النار، ولكن يريحه أن يلقاه ويرى عذابه شخصياً. وهذا تفسير قول الله:
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم (الحج: 19)، وهو ما يثبت الدلالة النفسية لطبيعة الإحساس بين المظلوم والظالم بصفته الشخصية.
والفوارق الشخصية:
وحقيقة أن الشريعة هي المنبع الواحد الذي يرده الجميع لا تعني أن يتحول الناس إلى صورة سلوكية متكررة، بل إن التفاعل بين الإنسان بطبيعته الأصلية ومنبع الشريعة الذي سيرده هذا الإنسان سينشئ عنه فوارق شخصية ولكنها لا تتجاوز ألوان العسل الذي يخرج من بطن النحل مادة واحدة وإن اختلفت ألوانه.
ولذلك يقول ابن القيم:
وأما ما يقع في كلام بعض العلماء: أن الطرق إلى الله متعددة ومتنوعة، جعلها الله كذلك، لتنوع الاستعدادات، واختلافها رحمة منه وفضل، فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق، وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله. وما يرضيه متعدد متنوع فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته.
فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة ومتنوعة جداً، لاختلاف الاستعدادات وضعفها، ولم يسلكها إلا واحد، ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته وقبوله.
ولذلك يقول ابن تيمية: فأقام الله الحجة وصرف الآيات والأمثال، ونوع الأدلة. ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأمور ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال.
وإذا علم هذا، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله؛ طريق العلم والتعليم.
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكرُ، وقد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لماله.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدى كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون الصيام طريقه، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله.
ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده.
ومن الناس من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فتح الله له فيه، ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والإعمار.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم جامع لمنفذ المسالك إلى الله في كل واد والوصول إليه من كل طريق فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه وعينيه يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت. وقد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك: إن كان علم , وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أني استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، فلو قيل له: ما تريد من الأعمال ؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت، وأين كانت ؟ جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضيت؛ جماعتى أو فرقتى، وليس لى مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها، ومراقباً له فيها عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن والسر , قد سلمت إليه منتظراً منه تسليم الثمن: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 111). وبذلك كانت الشريعة هي المنهج القياسي.
ـ ولكن هناك أحكام تحتاج في علاقتها بالطبيعة الإنسانية الأصلية إلى نوع مناقشة، وأهمها حكم الحجاب، إذ يطرح التساؤل نفسه: هل ترغب المرأة نفسياً وإنسانياً أن يراها الرجال .. ثم يأتى حكم الحجاب مناقضاً لهذه الرغبة؟.
الحقيقة.. وبصفة عامة، أن العلاقة الفطرية بين المرأة والرجل ليست قائمة في البداية على الرغبة المتبادلة بينهما , إذ يسبق هذه الرغبة الإحساس الذاتي بكل منهما لنفسه قبل إحساس كل منهما بالآخر، والإحساس الذاتي لكل من الرجل والمرأة يقتضي أن ينشأ بالنسبة للرجل مشاعر الرجولة والتميز والكرامة، وأن تنشأ بالنسبة للمرأة مشاعر الأنوثة والتميز والكرامة، وأن نشأة الإحساس المتبادل بينهما يأتى بعد هذه المرحلة ..
وعلى هذا فإن العلاقة بين الرجل والمرأة في المرحلة الثانية تأتي باعتبار مشاعر المرحلة الأولى .. و الحجاب يعالج الإحساس الذاتي للمرأة قبل معالجة إحساس المرأة بالرجل.
وتفسير ذلك .. أن الرجل يختار المرأة التي تتمم له شعوره بالرجولة والتميز والكرامة، وكذلك المرأة تختار الرجل الذي يتمم لها شعورها بالأنوثة والتميز والكرامة، وهذا المنطلق هو الذي يجعل الرجل ليس لكل النساء والمرأة ليست لكل الرجال، ولكن يكون الرجل لامرأة معينة والمرأة لرجل معين. فإذا اتجهنا بالتفصيل إلى المرأة باعتبارها موضوع الكلام نجد أن المرأة حسب هذه القاعدة لا تحب كل الرجال، بل رجل معين. ويترتب على ذلك أن لا تحب أن يراها إلا من تحب ولا يغير عليها إلا من تحب ولا تقبل معاشرة إلا من تحب، على ألا يكون لهذا الحب إلا منطلق أساسي، وهو إتمام المشاعر الذاتية للمرأة، وهي الأنوثة والتميز والكرامة. وهدم هذه القاعدة هو الذي أحدث الانفصال بين الإحساس بالذات وبين الحجاب، الأمر الذي تؤكد عليه الأحكام الشرعية بصورة مستفيضة. فمن حيث الذات والحجاب جاء قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (الأحزاب: 59) ففى الآية ربط بين الإحساس بالذات و الحجاب. لأن الإحساس بالانتماء للأمة من خلال مقام النبوة يا أيها النبي قل لأزواجك .. و لأن الإحساس بالانتماء للأمة إحساس بالذات و بناتك و نساء المؤمنين ...
وهنا تأتي هذه العناصر الثلاثة:
أ- إن الحجاب الذى تتميز به المرأة المسلمة يغذي مشاعر الرغبة في التميز عند المرأة.
ب- إن الحجاب يمثل زي الكرامة في المرأة، ويكفي أن تعلم المحجبة أن اعتداء أحد اليهود على زي امرأة مسلمة كان سبباً في جلاء بني قينقاع، وهي واحدة من أكبر قبائل اليهود في جزيرة العرب.
ج- إن الحجاب باعتباره زي طاعة لله؛ فإنه يكون زياً جمالياً كما قال ابن القيم: ".. و الجمال فى الصورة و اللباس و الهيئة ثلاث أنواع: منه ما يحمد و منه ما يذم و منه ما لا يتعلق به مدح و لا ذم، فالمحمود منه ما كان لله و أعان على طاعة الله و تنفيذ أوامره و الاستجابة له كما كان النبي  يتجمل للوفود، و هو نظير لباس آلة الحرب للقتال.." (الفوائد).
و المرأة تحب أن تتحقق فيها كل هذه العناصر ولكن ليس بصفة شخصية مباشرة بل من خلال الأحكام الشرعية للعلاقة بين الرجال والنساء، فعندما تسير مجموعة من النساء المحجبات فقد تشعر كل واحدة داخل نفسها أنها من خلال المظهر العام للحجاب أنها بذاتها موضع تكريم و اختصاص ولا مانع من هذا الإحساس في إطار المظهر العام للالتزام بالحجاب.
وفي المقابل يكون التبرج ظاهرة غير فطرية .. لأنها لا تتضمن هذه العناصر الثلاثة، بل تجعل المرأة لأى رجل، وبذلك تفقد إحساسها بجمالها وتميزها وكرامتها.
وهذا الذي يجعل المرأة المتبرجة ترفض مغازلة رجل لها وتفوح بمغازلة أخر لأن نظرتها إلي الرجل هي التي تحدد رفض أو قبول الغزل حتى المرأة المتبرجة وهي تكشف جسدها لكل الناس تشعر أنها ليست لكل الناس ... بل لمن ترغب هي أن يراها
وبذلك يكون في الحجاب اعتبار كبير للإحساس الطبيعي عند المرأة بأن لا تكون إلا لمن تحب... هو زوجها ورجُلها فلا يراها أحد غيره ...
ـ ومن الأحكام التي تتطلب تفسيراً شرعياً باعتبار نفسي هو الحكم بان شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد.
وهذا الحكم هو مقتضى حقيقة أن المرأة ناقصة عقل.
وتفسير نقصان عقل المرأة .. كمال في وظيفتها وشخصيتها.
لأن هذا النقصان جاء من عدة زوايا للافتراق بين عقل المرأة والواقع.
وهذه الزوايا هي في حقيقتها مقتضى جوهري لوظيفة المرأة الطبيعية
ـ فالمرأة كزوجة ترغب نفسياً وبشدة أن تكون في نظر زوجها أجمل وألطف وانشط النساء على وجه الأرض رغم يقينها أنها ليست كذلك ..
ولكنها ترغب في أن تكون هذه صورتها في نظر زوجها ..، و لذلك تجد راحة شديدة عندما يحدثها زوجها في المعاني التي تتخيلها في نفسها
ومن هنا أجاز الشرع الكذب على الزوجة.(1)
والأصل في التعامل هو الصدق بين الأطراف فإذا كذب أحد الأطراف على الآخر غضب عليه هذا الآخر فإذا لم يغضب عليه و رضى بكذبه بل و رغب في أن يكثر من الكذب عليه فإن هذا سيكون بلا شك نقصاناً في عقله.
وهذا هو واقع المرأة على وجه الحقيقة. ناقصة عقل لترغب في كذب زوجها عليها. حين يصور لها نفسها بالصورة التي ترغبها وإن كانت مخالفه للواقع
ـ وغلبة الرجاء عند المرأة لا يقل خطورة عن رغبتها في الكذب عليها.
لأن المرأة كما تحب أن تكون في نظر زوجها أحسن من واقعها فإنها تحب أن يكون مستقبلها أحسن من واقعها أيضاً، وكما يكذب الرجل على المرأة في شخصها يكذب عليها في مستقبلها وهي أيضاً تعلم ذلك وترغبه بنفس درجة الرغبة في الكذب عليها في شخصها.
ولأن أمل المرأة في مستقبلها يفوق إمكانيات أي رجل كان ضرورياً أن يمنيها الرجل في مستقبلها ويجعلها في رجاء دائم في حياة أفضل.
و هذه حادثة سليمان التي رواها الحافظ أبو بكر البيهقي:
حدثني أبو مالك قال: مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها إلى نفسه ويقول: زوجيني، أسكنك أي غرف دمشق شئت. قال سليمان عليه السلام: لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب.(1)
أما الزاوية الثالثة؛ فهي الاختلاف بين عقل المرأة وواقعها في مقتضيات الأمومة ...
فالعلاقة بين الأم وابنها في المرحلة الجنينية أمر ضروري للغاية بالنسبة للجنين وهي في نفس الوقت طبيعة أمومة قائمة فيها منذ الصغر. فعندما تكون بهذه الطبيعة.. حتى تكبر وتصير أماً فلا بد أن تتعامل بهذه الطبيعة مع الجنين الذي في بطنها.
حتى إن المرأة تتعامل مع جنينها إلى درجة المخاطبة والحوار وهو أمر صحي للجنين لكن ممارسته تتطلب قدراً من العاطفة الزائدة عن العقل لأنها تنشئ علاقة مع طرف خفي و هو جنينها الذي لم يزل في بطنها.
و عندما تتخيل أن زوج دخل على امرأته الحامل ووجدها وحدها تتكلم مع الجنين الذي في بطنها وتتخيله يشاركها الحوار فتصمت حتى تعطيه فرصة الرد ( أقصد الجنين ) ثم تضحك وحدها إذا تخيلت أنها تكلمه كلاماً مضحكاً أو يرد عليها رداً مضحكاً وتعتب عليه لأنه لا يريد أن يكون كما تريد فهي تريده كذا وهو يريد أن يكون شيئاً آخر.
فماذا سيقول الزوج
وهذا هو تفسير نقصان العقل الناشئ عن غلبة تخيلها الكمال في نفسها، و عن أملها الخيالي في مستقبلها. وعاطفتها الجامحة في أمومتها ..
وكلها ضرورات جوهرية في وظيفتها الطبيعية.
ومن الأحكام التي يجب أن تناقش شرعاً باعتبار إنساني هو حكم إباحة ضرب الزوجة الوارد في قول الله.. واضربوهن..
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا.
وهذه الآية تنبه صيغتها إلى حقيقة هامة وهي أن الضرب لا يكون إلا اضطراراً لأنه لا يكون إلا آخر الأمر بعد. ولذلك كان قبل الضرب "فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع ..".
الأمر الذي لا يكون في النهاية إلا اضطرارا.
وبمجرد أن يتحقق الغرض بلا زيادة لأن الزيادة ستكون بغياً.
ولذلك قالت الآية بعد الضرب:
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً.
و لذلك أورد البخاري في صحيحة باب كراهية ضرب النساء
ويجب أن يكون مفهوماً أن أثر الضرب المباح إباحة محدودة .. مرهون بطبيعة العلاقة أصلاً.
بمعنى أن الإباحة المحددة بالضرب استثناء يثبت الأصل.
والأصل هو المودة والرحمة والعطف والحنان فعندما يكون الضرب استثناء من هذا الأصل و بمجرد حدوثه بأقل صورة يكون له في نفس الزوجة أكبر الأثر والحقيقة أن المرأة السوية عندما يضربها زوجها بهذه الصورة الشرعية ..
وبهذه الروح الحانية فإن الزوجة تزداد حباً لزوجها .. لعدة أسباب.
لأنها تشعر أن زوجها حريص على علاقته الزوجية بها فأذهب غضبه بهذا التصرف "وليس بأي تصور يؤثر في العلاقة ذاتها".
ولأن المرأة تحب أن ترى في نفسها المرأة المدللة. ولأنها تحب أن تعيش هذا الإحساس فإنها تحب مع ذلك أن يكون زوجها بجانبها لينبهها عند تغيب بهذا الإحساس عن مقتضيات الواقع وواجبا ته. فتحب أن تشعر بيد قوية تمسك بزمامها وتنبه غفلتها.
تماماً مثل التعامل مع إنسان غائب عن الوعي
لأن المرأة عندما يكون زوجها حاسماً معها بجانب حنانه عليها .. ترى فيه قوة الحسم التي لا يكون معها بغي عليها.
ورقة الحنان التي لا يكون معها ضعف أمامها. فترى الرجولة العاقلة الحكيمة .. فتزداد حباً له.
و العلاقة بين الطبيعة الإنسانية و الأحكام الشرعية لا يتوقف عند حد إنسانية الأحكام و لكنه يمتد بحيث يكون الالتزام بهذه الأحكام هو بدوره التزاما طبيعيا ليكون التوافق النفسي بين الأحكام و الالتزام
و شواهد الالتزام الطبيعي هي مجموع شواهد صحة الإحكام وصحة السلوك للالتزام وأهمها ..
1- الإيمان الذي يمثل الدافع الطبيعي للسلوك. كما قال ابن تيميه ( الفتاوى )
ـ وقد تخفي العبادة حالة نفسية تعويضية كما كان الأمر عند الخوارج وكما كانت الأمة الواحدة، والعبودية لله الواحد؛ حقيقتان متساويتان في تحقيق الإحساس الشرعي بالذات كانت صيغة التعويض النفسي عند الخروج على الأمة هي المبالغة في العبادة، مثلما كان من الخوارج، فبينما كان رسول الله يوزع الغنائم قال رجل: هذه القسمة لم يبتغى بها وجه الله. فأراد عمر قتله فمنعه رسول الله وقال له: "سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم"(1).
و هذا في حالة خروج الفرد عن الأمة القائمة.
2 - و المنهج الإسلامي لا يطرح أحكام و يتركها لمن يحاول الالتزام بل أنه يبقي مع الإنسان ليحفظه من نفسه و النصوص الشرعية بأسلوبها و صياغتها.
هي دليل هذه المنهجية ...
فعندما سؤل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟
قَالَ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا.
ثُمَّ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ.
و معني هذا الترتيب ضرورة الانطلاق للجهاد من واقع العبودية لله .. و العبودية لله هي الذل و الخضوع. و من واقع بر الوالدين الذي يحفظ من الجبروت و الشقاوة وبرا بوالدتي ولم أكن جبارا شقيا
فعندما يكون الجهاد من واقع الذل و الخضوع لله. و عندما يكون الجهاد من واقع الحرز من الجبروت و الشقاوة عندئذ لا يمكن أن يختفي تحت مظلة الجهاد. عقدة التمرد التي قد تصيب الإنسان فتدفعه إلي المواجهة مع المجتمع بأي شكل.
3 - ويكشف المنهج الإسلامي ظاهرة خطيرة. وهي أن صورة الالتزام غير الطبيعي قد يأخذ صورة مبالغ فيها من شدة الالتزام..
و لكن هذه الشدة لن تدخل هذا السلوك في حدود الالتزام الطبيعي فيقول رسول الله صلي الله عليه وسلم فإن أشير إليك بالبنان فذلك مالا ترجوه
ـ ولذلك يحدد المنهج الإسلامي شواهد الالتزام الطبيعي.
4 - ومن أهم شواهد الالتزام الطبيعي أن يكون قدر الاستطاعة و يبين النبي صلي الله عليه وسلم أن تحميل الإنسان لنفسه ما لا يطيق سيكون له أثر نفسيا خطيرا وهو (الذل) فقال "لا يحل لمسلم أن يذل نفسه".
قالوا كيف يا رسول الله. قال "يتحمل من البلاء ما لا يطيق".
و لعل أخطر شواهد الالتزام الطبيعي هو الدوام و الاستمرار.
لأن الالتزام في هذه الحالة سيكون سلوكا محببا للنفس. فترتاح النفس إليه وبه
ولذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم
"أحب الأعمال إلي الله أدومه و إن قل"(1)
وقال أن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي.(2)
4- المصطلح الرابع: الدين
وقد ورد الدين بمعنى الجزاء. كما ورد بمعنى العقيدة. وكذلك بمعنى النظام.
ودليل المعنى الأول قول الله سبحانه وتعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: 4).
ودليل المعنى الثاني قول الله: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (الكافرون).
ودليل المعنى الثالث قول الله: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف: 76). أى في نظام الملك كما ورد في قصة يوسف.
وهذه هي الجوانب الثلاثة لمصطلح الدين التي سيقوم التحليل على أساسها.
المعنى الأول
الجزاء:
والدين بمعنى الجزاء هو الشاهد من الاستدلال بمصطلح الدين لأن الجزاء يكون مطابقاً تمام التطابق لطبيعة العمل , ومن هنا كان التطابق في الجزاء مع طبيعة العمل هو أساس التحليل السلوكي للإنسان فيمكننا بذلك إدراك طبيعة العمل من تحليل الجزاء.
وبذلك أصبح الجزاء من أهم كواشف النفس البشرية؛ والعمل عندما يصدر عن النفس فإنه يكشف بدوره نفسية صاحب العمل ودوافعه.
و توضيح حقيقة التجانس المقصود؛ في قول الله عز وجل: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ (الرحمن: 60)، لا يدل على مجرد التجانس في الإحسان بصفة عامة، بل يدل على طبيعة وتفصيل وتفسير العمل الذي هو موضوع الجزاء، ويدل أيضاً على مقدار ومدى ما يستحقه صاحب هذا العمل من وجوه وأشكال الجزاء المناسب والمطابق لطبيعة هذا العمل. و أهم أمثلة الأدلة القاطعة على صواب اعتبار الجزاء مصدر تحليل للسلوك الإنساني هو مسخ بني إسرائيل قردة وخنازير. بعد اعتدائهم في السبت وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( البقرة: 65 ).
فالتجانس بين الجزاء والعمل جاء بصورة مطلقة لا مثيل لها , فالذين اصطادوا يوم السبت أصبحوا قرده و خنازير. ومن أمثله التجانس بين العمل و الجزاء هو ما كان من السامرى. حيث كان الغرض النفسي من صناعته العجل لبني إسرائيل. هو أن يجتمع الناس حوله و يعظمونه وينبهرون به.
فكان جزاءه أن يصاب بمرض جلدي مقزز جعل الناس يشمئزون منه وينفرون عنه وأصبح هو نفسه لا يتحمل أى مس له من أى أحد حتي بلغ الأمر أن يقول بنفسه للناس .. لا مساس.
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا
(طه: 97). يقول هو بنفسه لأنه هو الذي حاول بنفسه أن يلتف الناس حوله.
ومن أمثله التجانس بين السلوك و الجزاء ... هو قول الله سبحانه وتعالي يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة: 35). و التجانس جاء من قول الله فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم لأن المال استعلاء نفسي ودلالته هي الارتفاع بالجبهة .. ولذلك قال جباههم لأن الفعل كان اختيار للحرام وترك الطيب من الطعام و الخنزير هو الحيوان الذي يختار الطعام الخبيث ( الانتقاء المقلوب ) كما كان في الفعل تقليد من بعضهم لأصحاب الاختيار الحرام والقردة هي الحيوان المُقلد. و لأن اطمئنان نفسي ودلالته الرقود و الاستلقاء ولذلك قال وجنوبهم و لأن والمال سند نفسي بدلالته الظهر الذي يعبر عنه بالسند فالذي له ظهر يعني له سند ولذلك قال و ظهورهم .. ومثال قول رسول الله : "أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك المراء وهو محق.."(1). فكان جزاء ترك المراء هو أن يكون له بيت لأن المراء قلق واضطراب وتوتر فيكون السكون في الجنة بالبيت. ولما كان المراء محاولة للظهور والتميز ولفت الأنظار، كان جزاء تركه أن يكون البيت في وسط الجنة وأعلاها؛ لأن الربض هو أوسط المكان وأعلاه كما في لسان العرب. فيتحقق له السكون بالبيت ويتحقق له التفات الأنظار إليه بالوسطية وتحقق الظهور بالارتفاع.
فأصبح الجزاء تحليلاً مباشراً لطبيعة السلوك وهو ترك المراء.
ومن أمثله التجانس بين السلوك والجزاء، وهو قول رسول الله : "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شيء مِنْ الصَّغَارِ حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ فَتَعْلُوَهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النَّارِ"(2). فهم مثل الذر لأن الكبر انتفاخ , فكانوا في منتهى الضآلة.
و يدخلون سجناً في جهنم لأن المتكبرين كانوا يتصورون تميزهم عن غيرهم فتميزوا عن أصحاب جهنم بمكان خاص جزاء علي الإحساس بالمكانة الخاصة وكما علاهم الناس في الحشر يوم القيامة تعلوهم النساء في جهنم وكما كان لهم مكان خاص كانت لهم نار خاصة (نار الأنيار) حتى وصف أن وصف النار يُذكر بوصفهم لأنفسهم مثل (شاهنشاه) يعني (ملك الملوك) أو عظيم العظماء.
ولا انخفاض أكثر مما تحت الأقدام. وقد كانوا يحاولون الظهور ويتعالون، وهم الآن يطأهم الناس دون أن يرونهم فلا مكانة لهم يعرفون بها. ومن أمثله التجانس بين السلوك و الجزاء
وقال رسول الله  في جزاء الصلح بين الناس أن يقال له: خذ ما شئت من الأجر؛ لأن الذي يصلح بين الناس لن يجد جزاء عند أى طرف من الأطراف الذين أصلح بينهم، فكان عند الله الجزاء، ولأنه وضع نفسه برغبته فكان الجزاء أن يحدد بنفسه وبرغبته الأجر. حديث من كظم غيظاً لله تعالى يقال له: خذ ما شئت من الحور العين(1)؛ لأن الغيظ كبت وحبس ومنع؛ فكان مناسباً أن يكون الانطلاق وتحقيق الرغبة المطلقة بأن يأخذ من الحور العين ما يشاء. ومن قواعد التجانس بين العمل والجزاء: الموازنة بين الجزاء الأصلي للفعل والأثر النفسي للجزاء. ولنضرب لذلك مثلاً وهو: قول الرسول : "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إلى مَنَازِلِ قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهم"(2). ففي هذا الحديث كان الفعل هو ترك الصلاة في المسجد بغير عذر، وكان الجزاء أو العقوبة الأصلية هو الحرق، فلما كان هذا الأمر مستحيلاً لوجود النساء والأطفال الذين لا تجب عليهم الصلاة في المسجد؛ اشتعلت النار أيضاً ولكن بصورة نفسية ؛ وهي الحرب التي تشتعل مثل النار كما قال تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (المائدة: 64).
فتتوتر العلاقات الأسرية وتتفكك ويشكو البيت ناراً غير مرئية؛ فعندما نجد أسرة مفككة الأوامر أو متشاكسة الطبع أو عصبية المزاج فلا نبتعد كثيراً عن تلك العلة وهي ترك الصلاة المفروضة في المساجد. فالحديث يثبت أن الأثر النفسي يساوي العقوبة الأصلية عند استحالة حدوثها. وقال : "مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"(1). وقال أيضاً: ".. كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"(2). فحبوط العمل كان عقوبة أصلية، ولكن الأثر النفسي المساوي لها هو إحساس الإنسان بفقد أهله وماله، ومع ذلك فإن هذا الإحساس بذاته وإن ذكر كمساوي للعقوبة الأصلية إلا أن هذه العلاقة المباشرة بينه وبين الذنب قائمة؛ فالذي يترك صلاة العصر ركوناً إلى الأهل ورغبة في الأولاد سيحرمه الله بمشيئته من الفرح بهم وكأنه فقدهم. ولما كان الجزاء دليلاً على السلوك. وكان السلوك دليلاً على الشخصية. كان الجزاء دليلاً على الشخصية. وهذا مضمون قول الله عز وجل: نْ، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 1،3). فقررت الآيات الكمال لشخصية رسول الله  عندما ذكرت أن رسول الله  له الكمال في الأجر: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ  أي: غير منقوص. ومن المفاهيم التحليلية الناشئة عن مصطلح الدين بمعنى الجزاء أن الحسنة جزاءها أن يوفق العبد لحسنة أخرى مثلها. وتطبيق هذه القاعدة في مجال السلوك .. هو قول رسول الله : "من يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله"(3).
أي إن الذي يريد الصبر وينويه .. يوفقه الله إلى الصبر فعلاً وكذلك من يستغن. فكان جزاء النية والقصد.. تحقق العمل..
و تمتد العلاقة بين القصد والسلوك حتى يبلغ تمامها في القلب.
وهو الذي قال فيه رسول الله :"تٌعرَض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه".
ويصبح باطن الإنسان خيراً .. ويتكون اللاشعور الحسن الذي يؤثر على شعوره ليكون الجزاء حسناً.
ويكون المثل على ذلك.. الرؤية: "أصدقكم رؤية أصدقكم حديثاً"(1).
فالرؤية دليل علي التجانس بين اللاشعور و الشعور ...
المعنى الثاني
العقيدة:
وإذا كانت مدرسة التحليل النفسي الإسلامية قد قامت على الأسماء اللغوية والمصطلحات الشرعية؛ فإن تحليل هذه الأسماء وتلك المصطلحات من حيث تفسير معناها بذاتها وعلاقتها بغيرها يصبح أمراً أساسياً في التحليل النفسي. ولنضرب لذلك مثالاً: هو العلاقة بين الإيمان و العقيدة
فمن تفسير الإيمان يتم تفسير العقيدة، وقد تبين تعريف الإيمان بالاطمئنان، فإذا كان استقرار الحقائق أو اطمئنانها في القلب هو معنى الإيمان؛ فإن انعقاد القلب على الحقائق المستقرة هو معنى العقيدة.
والسلوك الذي يمارسه صاحب العقيدة بناء علي هذا المعنى يعتبر سلوكاً عقيدياً؛ لأن صاحب العقيدة يتصرف مع غيره باعتبار أن عقيدته هي الحقائق التي لا يقبل المناقشة فيها أو الرجوع عنها، فيكون الموقف النفسي هو الحرص التام والحساسية الشديدة. ومع ذلك المعني فإن هناك فرق بين الإيمان و العقيدة , فإن الإيمان باعتباره الاطمئنان القلبي للحقيقة الاعتقادية قد يزيد وينقص، ولكن الحقائق الاعتقادية التي هي موضوع العقيدة تظل ثابتة في النفس لا تغيب.
ونحن في حاجة إلى مثال يوضح هذه الحقيقة، وليكن هذا المثال هو موقف حاطب ابن أبي بلتعة وخطابه إلى أهل مكة:
علم حاطب أن رسول الله  ذاهب إلى مكة ليفتحها بإذن الله, حدثته نفسه أن يبعث برسالة إلى قريش يخبرهم بجيش النبي الآتي إليهم؛ ليكون له يد عليهم يحفظون له بها أهله وماله بقريش، وهذا هو نص الرسالة:
"ذكر السهيلي أنه قرأ كتاب حاطب: أن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده.(1)
ولعلنا نلاحظ فيها وصف حاطب لجيش المسلمين بصورة تحدث الرعب في نفوس قريش: "جيش كالليل يسير كالسيل"، كما نلاحظ قول حاطب وقسمه: "لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده". وهذه حقيقة اعتقادية ثابتة في قلب حاطب لم تتغير في أشد حالات الضعف؛ بدليل أن حاطب لم يحاول المحاولة إلا باعتبار أن الرسالة لن تؤثر في الموقف لأن الله عز وجل منجز لرسوله ما وعده كما قال حاطب في الرسالة. ويقر حاطب بثباته على العقيدة رغم ضعفه موقفه فيقول: "لم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام"(1)، حتى إن تعبير حاطب عن اتخاذ السبب في حماية الأهل لم يخل من أروع أساسيات العقيدة، وهي أن الأمر بيد الله فقال: "أردت أن تكون لى عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي".(2) فتلاحظ قوله:"يدفع الله بها". وفي العلاقة بين الإيمان و الاعتقاد يكون الإيمان قبل الاعتقاد ولذلك قال الصحابي: كنا نؤتى الإيمانَ قبل القرآن فالإيمان كحقيقة قلبية مستقرة يسبق الحقائق الاعتقادية،
لأن الإنسان المؤمن يتلقى الحقيقة الاعتقادية بإيمانه المستقر في القلب.
ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الإيمان في القلب يكون قائم لتلقي أي حقيقة اعتقاديه وذلك عندما قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجُّبًا وَفَزَعًا أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"(3).
فقد اثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الإيمان لأبي بكر وعمر دون أن يصلهم الخبر الذي سيؤمنون به وذلك بمقتضى الإيمان المستقر في قلبهم الذي يتلقون به أي حقيقة اعتقاديه.
وكما تقرر في ( الشريعة ) الاعتبار النفسي في الأحكام الشرعية كان الاعتبار النفسي في حقائق العقيدة أسبق.
وليس أدل على ذلك من أسلوب مخاطبة العقل البشري في قضية التعريف بالله. حيث ارتكز أسلوب المخاطبة على ما استقر في الأذهان عند الناس.
مثال ذلك: ما استقر في الأذهان والعقول من أن من يصنع شيئاً لأول مرة يكون أمراً صعباً عليه.
وأما من يعيد هذا الشيء فيكون أمراً سهلاً وهيناً، فيأتى القرآن ليرتكز على ما استقر في الأذهان فيقول الله سبحانه وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه (الروم: 27) أي: إن الإعادة أهون على الله من الابتداء.
أما الحقيقة عند الله فهي أن البدء والإعادة سواء.
فليس عند الله سهل وصعب:إِنَّمَا أَمره إذا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يّـس:82).
و هكذا يكون الاعتبار الإنساني في قضيه العقيدة و التعريف بالله.
* * *
5- المصطلح الخامس: (العبادة)
وعندما نأتي إلى مصطلح العبادة.. نأتي إلى أخطر المصطلحات النفسية؛ ذلك أن تعريف العبادة له اختصاص نفسي ليس لغيره..
فالعبادة هي غاية الحب مع مطلق الطاعة..
ولفظة: غاية الحب: تعني البعد النهائي الوجداني.
ولفظة: مطلق الطاعه: تعني البعد النهائي السلوكي.
واجتماعهما في مصطلح العبادة يعني أن العبادة هي البعد النهائي للذات، باعتبار أن الذات هي المحصلة النهائية للبعد الوجداني والسلوكي للإنسان، ولكن إدخال العبادة ضمن مصطلحات التحليل النفسي يقتضي أمراً هاماً، وهو البحث عن الصيغة الواقعية لمصطلح العبادة.
ذلك أن الصياغة الواقعية هي التي تعتبر مجالاً طبيعياً لدراسة النفس البشرية، وفي إطار البحث عن هذه الصياغة نجد أن العبادة لها ثلاثة مرتكزات، هي بذاتها التي تحدد إطاراً عاماً لهذه الصياغة الواقعية ..
(1) الحكم ..
(2) النسك ..
(3) الولاء ..
والدليل على النسك هو قول الله عز وجل:
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (الأنعام: 162،163).
والدليل على الولاء هو قول الله:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام: 14).
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (المائدة: 55).
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
(المائدة: 56).
وإذا كنا قد اعتبرنا أن الصياغة الواقعية لمصطلح العبادة لا تخرج عن الإطار العام لهذه المرتكزات الثلاثة.
فإن المفاجأة الحقيقة هي اكتشاف أن هذه المرتكزات الثلاثة هي في جوهرها مرتكزات نفسية بصورة محددة وثابتة وظاهرة.
1- الحكم:
النشأة النفسية للسلطة:
و السلطة في الواقع الإنساني ضرورة أساسية تنشئ توازناً نفسياً بين نفسه وذاته والمجتمع الذي يعيش فيه...
فمن الناحية النفسية فإن النفس تميل إلى هواها وتكره القيود وتنفر كما تنفر الدواب من العقال. ومن هنا كان الحكم بما أنزل الله أول ضرورات الواقع الاجتماعي. لأن الحكم بما أنزل الله هو مقتضى وعد الله بإظهار الدين، رغم السنة الثابتة بقلة أهل الحق، ذلك أن السلطة الإسلامية هي غلبة القلة الخيرة. ومن هنا ارتبطت ضرورة الحكم الإسلامي لمواجهة فسق الكثرة في قوله تعالى:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
(المائدة: 50،49).
فالحكم، لقوم يوقنون: واليقين، هو: الاطمئنان إلى الحكم.
ومن هنا كان الحكم بما أنزل الله هو المعالجة النفسية الوحيدة لتطمئن النفس إليه كاطمئنانها إلى نفسها.
وقد كان لحقيقة غلبة الخير رغم قلة أهله عدة مقتضيات فقهية ومنهجية؛ لعل أهمها هو الحكم على الديار باعتبار شخص الحاكم والسلطة القائمة ونظام الحكم، إذ تصبح الدار إسلامية إذا كان الحاكم مسلماً، والحكم فيها بما أنزل الله حتى لو كان قاطنيها غير مسلمين.
كما يقوم مفهوم السلطة الإسلامية على سنة نفسية واجتماعية؛ وهي أن السلطان - بقدر الله - له أثره في الواقع البشري، وهو مضمون قول عثمان بن عفان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وباعتبار الفاعلية القدرية لموقع السلطة في واقع البشر جعل الله في هذا الموقع تقابلاً بين الخير والشر يحقق التوازن - بقدر الله - ودليل ذلك قول النبي في الحديث الذي أورده البخاري في كتاب القدر عن أبي سعيد الخدري قال: "ما استخلف خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله".
ومن هنا كان لاختيار الحكم تصور ثابت يضمن تحقيق التوازن بين اختيار الحاكم من قبل الناس مع علم الله بمن يستحق هذا الاختيار. ويضمن هذا التوافق حقيقتان أساسيتان في اختيار الحاكم:
الأولى: النهي عن تزكية النفس، ودليله قوله عز وجل:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (النجم: 32).
وعلة النهي عن تزكية النفس هي أن الله يزكي من يشاء كما قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (النساء: 4).
لهذا جاء رجل إلى النبي يعرض أسلوباً دعائياً فيقول: أعطني فإن مدحي زين وذمي شين. فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا ً: "ذاك الله"(1).
الثانية: إجماع المسلمين. وهم شهداء الله في الأرض كما قال النبي: "أنتم شهداء الله في الأرض"(2)، دليل على تزكية الله للعبد. وباعتبار أن مدح المسلمين لشخص هو عاجل بشرى المؤمن بمدحه عند الله؛ وباعتبار أن وضع القبول لشخص في الأرض دليل على حب الله. ومن هنا كان خير الأمراء من يحبون الرعية وتحبهم الرعية، كما قال:"خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم"(3).

ولقد ضرب القرآن مثلاً لعاقبة حكم الإنسان لنفسه من حيث الالتزام.
وهي الرهبانية التي ابتدعها أصحابها وما كتبها الله عليهم. ولم يكن لأحد التدخل فيها إلا أنهم لم يتبعوها، وهم مخترعوها، فليست المشكلة في الحكم ولكن في النفس.
ومن هنا فإن إنشاء النظام في الواقع ليس مهمة نفسية سهلة، ولذلك بدأها القرآن بدقة متناهية.
حيث تعامل القرآن فيها مع الذات تعاملاً رائعاً،و كان من بدايات هذا التعامل قول الله عز وجل: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ (المجادلة: 11).
فلم يكن أمراً سهلاً أن تطلب من رجل عربي أن ينتقل عن مكانه … لأن العربي كان يعتبر مكانه ومجلسه هو ذاته وشخصيته ومكانته؛ لذا كانت الاستجابة للتفسح في المجالس مرحلة نفسية هائلة ..
وكان من بدايات هذا التعامل أيضاً هو الأمر بالاستئذان من رسول الله قبل الانصراف: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله و إذا كانوا على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه ... الآية (النور: 62).
وابتداءً من مثل هذه المواقف النفسية، وانتهاء بالبيعة على السمع والطاعة كانت الاعتبارات النفسية أساساً واضحاً في إقامة السلطة الإسلامية،
و هكذا كان الخط النفسي لإنشاء السلطة.
ولكن هذا الإنشاء كان بداية خطوط نفسية أخرى لا تقل شأناً عن خط النشأة.
وأخطر هذه الخطوط: خط الطمع فيها، وهو حب السلطة ...
وهي الظاهرة المدمرة للنفس والجماعة، كما قال رسول الله:"إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة". وفي رواية: خزي وندامة.(1)
والملاحظة الجميلة في الحديث؛ قول رسول الله: إنها:"خزي وندامة". لأن الخزى: هو المقابل للمكانة التي تحققها السلطة لصاحبها.. والندامة: هي التي تقابل اللهفة التي يسعى بها الإنسان للسلطة.
وأما قوله:"فنعم المرضعة وبئست الفاطمة". فهي العبارة التي ارتبطت بها أحدث الدراسات النفسية. فقد أجريت دراسة حول شخصية الإنسان الذي اكتملت رضاعته والذي لم تكتمل رضاعته وفطم قبل وقته، فوجدوا أن الشخص الذي اكتملت رضاعته ينشأ متوازناً واثقاً في نفسه. أما الآخر فوجدوه عدوانياً محباً للتسلط، مما يجعل معالجة حب السلطة يبدأ من إتمام فترة الرضاعة، كما قال:"فنعم المرضعة وبئست الفاطمة".
وقد نصح رسول الله عبدِ الرحمَنِ بن سَمُرَة َبقوله: "لاَ تَسْأَلِ الإمَارَةَ فَإنّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا"(2).
والحقيقة أن مرض حب السلطة مرتبط من حيث الوحدة السلوكية بظاهرة الكبر إذ أن كلا الظاهرتين هما في حقيقتيهما فرض للسلطة أو الرأي على الآخرين..
والخطير في هذا المرض هو أن الإصابة به بأي درجة، تجعل الإنسان عاجزاً عن مواجهتها.. ومن هنا فإن التحذير من هذه الأمراض يأتي بصورة نهائية ومطلقة بحيث لا يقع الإنسان في شرها.. ففي الكبر قال الرسول: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ"(1).
ويدخل في طبيعة هذا الداء: حب التميز بأي شكل من الأشكال..
ولذلك لم يقبل رسول الله أن يخرج رجل عن الصف فضربه في صدره حتى ساوى بينه وبين الصف.
2- النسك:
و النسك، هو العبادة بمعناها الإنساني و النفسي،
قال ابن منظور: رجل ناسك، أي عابد. فالنسك: هو الأمر يقابله الورع من "النهي". وهذه المقابلة تدل على طبيعة الورع كذلك، وقيل للمتعبد: ناسك لأنه خلص نفسه وصفاها لله تعالى من دنس الآثام، كالسبيكة المخلصة من الخبث.. وفي لسان العرب سؤال: ما هو الناسك ؟ قال: هو مأخوذ من النسيكة وهى سبيكة الفضة المصفاة كأنه خلص نفسه وصفاها لله عز وجل.
و إثباتا لتفسير معني النسك جاءت آيات القرآن لتثبت الصفات النفسية للناسك ...
و منها تفسير قول الله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (الحج: 34)
فله أسلموا: أخلصوا أو استسلموا لحكمته و طاعته.
وبشر المخبتين: قال مجاهد:المطمئنين
قال الضحاك وقتادة: المتواضعين
قال السدي: الوجلين.
و أحسن ما يفسره ما بعده الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أي خافت منه قلوبهم وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ أي في المصائب ومما رزقناهم ينفقون.
وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم و أقاربهم
مع محافظتهم علي حدود الله.
وهذا بخلاف المنافقين فإنهم بالعكس من هذا كله.
كما تقدم في الآيات كان معني النسك
الإخلاص و الاستسلام لله..... و الاطمئنان و الرضي بقضاء الله ... التواضع ...
الوجلين.
الخائفين.
الصـبر.
الإنفاق.

وهذا هو تفسير التصفية النفسية .. المحقق لمعني النسك ..
هي الحديث عن ذات الإنسان حيث جاء في قول الله عز وجل إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة الأنعام: 79)
و الدليل علي أن النسك حقيقة نفسية وذاتية
( وجهي ) ... و ( وأنا).
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي الضمير عائد علي ذات الإنسان (وأنا أول المسلمين) ذات النبي صلي الله عليه وسلم
وفي دعاء الاستفتاح
أنت ربي ( وأنا ) عبدك
ظلمت (نفسي)، (فاغفر لي ذنوبي) (واهدني) (وأصرف عني).
ففي تفسير قول الله وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا وما أنا من المشركين
قال ابن كثير: الإقبال: بالقصد و النية و العزم علي الإخلاص لله تعالي
و كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستفتح الصلاة فيقول إذا كبر ..
وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين
اللهم أنت الملك لا اله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عن سيئها إلا أنت تباركت و تعاليت
استغفرك و أتوب إليك.(1)
3- الولاء:
وكذلك الولاية … عندما تفسر، فإن نضح وجه الزوجة أو الزوج للصلاة يكون هذا أكمل تعريف ..
وأطرافه المودة في العبادة …
لتكون أكمل صيغة عملية للحب في الله..
إذا الولاية هي الصيغة العملية للحب في الله.
وإذا كانت الولاية أكبر من طرفي الزوج والزوجة فإن العلاقة بينهما في الله تكون سبيل المؤمنين.
ليكون معنى الولاية هو السبيل الجامع لكل المتحابين في الله.
وهو شرط آخر في الولاية، وهو طبيعة العلاقة بين الأولياء وهي: (السبيل).
والولاية وضوح:
ولذلك يعبر القرآن عن السبيل بقوله: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (الأنعام: 55). وبذلك يكون الولاء هو الإتباع الواضح البين.
والولاية موقف:
وعلى المستوى الجماعي كان المسار هو سبيل المؤمنين، وكان الموقف هو (حزب الله): وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (المائدة: 56).
والولاية صبغة:
والحذر من أي أسلوب يؤثر في صبغة الأمة وصفتها الكونية أمر واجب، ولعل أخطر الأساليب المتفق عليها هو التشبه بغير المسلمين، ولذلك كان التشبه من الولاء ..
ولذا كانت دراسة حالة التشبه من الناحية النفسية دراسة مباشرة لمفهوم الولاء ..
فالتشبه حالة تنشأ في نفس إنسان تجاه إنسان آخر دفعه إلى ذلك الانبهار به، وتمنى أن يكون له نفس مكانته، فإنه عندئذ يحاول التوحد مع شخصيته ولكنه لا يملك في محاولته إلا الصورة والمظهر.
وأول مجال للتشبه غالباً ما يكون الثياب؛ لأن الثياب يشير إلى المشبه به في أذهان الناس بأسرع ما يمكن. لقد كان لهذه الظاهرة وجوداً تاريخياً واسعاً في تاريخ الدعوة الإسلامية حتى آخر مراحلها.
ولقد رأينا كيف كان الأفراد يقلدون زعمائهم في طريقة كلامهم .. وفي حركة أيديهم المعبرة عن معاني كلامهم، وكان ذلك يتم دون قصد منهم، مما يدل على أن التشبه حالة لا إرادية ..
ولكن نشأة حالة التشبه بصورة لا إرادية لا يعفي المشبه من إثم المشبه به إن كان كافراً أو فاسقاً.
لأن النشأة وإن كانت لا إرادية من حيث أسبابها، إلا أن المسئولية تكون عن الانبهار والتأثر بالشخصية الكافرة أصلا.
وفي التشبه: قالَ رَسُولُ اللَّهِ : "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1).
والولاء هو الموقف الفردي المنشئ للأمة بفاعليتها الكونية.
والولاء عندما يكون موقفاً فرديا ً.. يكون معناه اتخاذ كل فرد موقف الإنشاء، والحفاظ على الأمة، وممارسة الأساليب المحققة لذلك.
و النصرة تعنى القتال فى سبيل الله و هى أكمل حالات الصدق النفسى و لكن النصرة تعنى الانتظار في قول الله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (الأحزاب: 23).
فالانتظار هو أيضاً حالة نفسية صادقة.
ولعل المساواة في الأجر والمقام بين من قضى نحبه وبين من ينتظر يدل على القيمة الحقيقية للأوضاع النفسية وحسابها عند الله سبحانه. نقول أن إنشاء المدرسة الإسلامية للتحليل لا يعنى الرفض المطلق لأى حقيقة نفسية صحيحة وصل إليها أصحاب الدراسات النفسية الأخرى إذ أن الحكمة ضالة المؤمن بشرط أن يثبت دليل شرعي على صحة هذه الحقيقة و هذا يعنى أن الدراسة الإسلامية دراسة واثقة بأصولها السلفية.
***
خاتمة التحليل النفسي:
وهي موقف المدرسة الإسلامية للتحليل النفسي من الدراسات الأخرى.
و بعد التأصيل الشرعي المتفق عليه و بعد الاستطراد في الأقوال السلفية المعمقة للتصور المحكم عن فهم الإنسان من خلال المصطلحات اللغوية والمنتهية إلى مصطلح النفس
و الذات والشخصية، وبعد إثبات أن الذات: هي محور فهم الإنسان، وأن النفس تتجه نحو الذات ؛ تبدأ مناقشة كل المفاهيم والأفكار والقائمة في مسافة التوجه النفسي للذات لنفاجئ بأخطر حقائق الفهم في الإنسان وأهمها شدة: التحيز النفسي للذات، وقد يتفق أصحاب الدراسات غير الإسلامية للنفس على هذه الحقيقة - حقيقة تحيز النفس للذات -. وبمناسبة ذلك ندلل على طبيعة العلاقة بين الدراسة الإسلامية و الدراسات الأخرى فإن الدراسة الإسلامية الحقيقية لا ترفض الحقيقة لكونها صادره عن آخرين فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها،ولكن بعد تأصيلها التأصيل الشرعي بل و نقبل مصطلحات هذه طالما أنها لا تتعارض مع التصور الإسلامي الصحيح للنفس.
و حقيقة التحيز النفسي للذات. معروفه باسم الحيل النفسية وأهم الأمثلة علي مصطلحات هذه الحقيقة:
1- التبرير.
2ـ الكبت و القمع.
3ـ التسامي.
1- التبرير:
أما التبرير فقد كان من البداية جزءً لا يتجزأ من المعصية .. والذي جعله كذلك هو إبليس عندما وسوس إلى آدم بالأكل من الشجرة المنهي عنها.
فقالت الآيات: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (الأعراف: 20).
وسواء كان التبرير طبيعة أصلية قبل وسوسة إبليس ..
أو أن إبليس أوجده بالوسوسة ..
فإن التبرير أصبح طبيعة مركوزة في النفس وبصورة يعتبر لها اعتبارها في الأحكام الشرعية.
وقد يكون التبرير سابقاً للفعل، وفي هذه الحالة يشكل التبرير دافعاً للفعل مثل أخوة يوسف.حيث قالوا قبل الفعل: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (يوسف: 9).
وقد يأتى التبرير بعد الفعل ..
وملخصه
- أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام.
ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة ودية تسلم إلى أهله.
- أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب.
في هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين يستعينون بها على قتال المسلمين.
- أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - يرى البعض النص على إطلاقه ويرى حكم تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله المعاهدين.
ويمكن تفسير الأحكام بأن:
- تحرير الرقبة تعويض للمجتمع المسلم عن فقده لإنسان مسلم.
- والدية المسلمة تعويض للأهل عن بعض منافع القتيل لأهله.
أما حكم الذي لا يستطيع القيام بالأحكام السابقة فهو الذي يتطلب التفسير لأنه صيام شهرين متتابعين.
فهذا الصيام لن يبلغ أثره أهل القتيل أو المجتمع ولكن يبلغ أثره القاتل نفسه ذلك أنه سيحميه من ظاهرة التبرير …
وفي مثال الحكم الشرعي بالصيام بعد القتل الخطأ كان الصيام مانعاً من آثار الفعل على النفس القاتلة تجاه الإحساس بالمقتول خطأً، ولكن
إذا كان اتجاه النفس نحو الذات هو طبيعة تمارسها النفس بكل طاقاتها وأساليبها ..
وكانت النفس بطبيعتها أيضاً أمارة بالسوء وصاحبة الهوى فإنها لابد أن تتجاوز بالذات كل حدود الصواب.
2- الكبت أو القمع
والكبت أو القمع هو وجود رغبة في ممارسة سلوك ولكن ظروف الفرد لا تسمح له بهذا السلوك
وهما يتفقان في معني الامتناع عن ممارسه السلوك رغم وجود الدافع و لكنهما يختلفان باختلاف طبيعة الدافع.
و القمع يكون مثل رغبة الإنسان في التبول فإذا كان في طريق عام فإنه يقمع نفسه حتى يصل إلى المكان المناسب للتبول.
وظاهرة القمع تفسر العلاقة بين الدافع والسلوك من حيث تولد الرغبة ووجود المانع من التحقيق، فكلما قوي الرجاء في ممارسة السلوك كان لقوة الرجاء تأثيراً عصبياً يجعله أقل قدرة على قمع نفسه فتزداد رغبة الفرد في التبول كلما اقترب من المكان المناسب لأن الاقتراب يزيد التفكير ويقوى الإشارة العصبية الدافعة إلى التبول.
أما الكبت فهو ظاهرة ثابتة على كل مستويات الدافع ؛ ابتداءً من المثل المذكور في القمع وانتهاءً بأكبر الدوافع في النفس وهو رغبة الرجل في الزواج من امرأة، حيث يكون في فترة الخطوبة مستقراً لأنه على يقين بأنه لا يستطيع أن يقترب منها شرعاً، فإذا ما كان هناك عقد شرعي ازداد قوة في الدافع ورغبة في السلوك حتى يصبح من الصعب عليه قمع نفسه مع وجود المرأة، وقد أصبحت زوجة له بمقتضى العقد دون البناء.
ولذلك قال رسول الله : "أراد نبي فيمن كان قبلكم الغزو فقال: لا يتبعنا ثلاث: رجل عقد على امرأة ولم يبن بها، ورجل بني بيتاً ولم يكمله، ورجل له عشار ينتظر أن تلد له". لأن هذه الأمثلة من الرجال تكون في حالة استحواذ تام من الدافع على السلوك.
3- التسامي
وهو التعامل النفسي الطبيعي مع الحرمان حيث يتعامل الإنسان مع مشاعر الحرمان بأسلوب يعالج أثرها في نفسه.
ومن الأمثلة الشرعية على هذه الظاهرة هو ما ورد في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله حيث أورد ابن كثير في تفسير الآية قول عكرمة:
هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.
فتلاحظ أن المواجهة هنا كانت بالتسامي عن الغريزة والشهوة والتحول بالطاقة الجنسية إلى الرؤية الجمالية الكونية واستيعاب الرغبة في المرأة من خلال الآيات المبثوثة في الكون، وهي لا تقل شأناً أو عظمة عن رغبته الزوجية ..
وفي التسامي لا يتوقف الإنسان عند حد التفكير في السماوات والأرض بل يجب أن يتوجه إلى العوامل الأخرى المساعدة على الصبر علي عدم قدرته علي الزواج بمثل الصيام.

القسم الثالث
النظرية الجاهلية في النفس
النظرية الجاهلية في النفس
من التصور الإسلامي للنفس ثبت ارتباط الإنسان بالدين.
كما قامت المدرسة الإسلامية للتحليل النفسي على أساس هذا الارتباط و من خلال المسميات و المصطلحات اللغوية والشرعية.
والقاعدة العامة في التحريف الجاهلي للحق هي قاعدة النقض ..
فكان لابد من نقض التصور الإسلامي للنفس ..
وكان لابد أيضاً أن تقوم النظرية الجاهلية في النفس على قطع هذا الارتباط و فصل الإنسان عن الدين . وكان لابد أن يتم ذلك بصورة مقنعة و بصيغة يصعب مناقشتها.
فقامت النظرية على حقيقة طبيعية في النفس،يتم من خلالها تعويض كل الظواهر المثبتة للدين بظواهر أخرى تنفي هذا الإثبات.
وكان لزاماً في البداية تفسير هذا التعويض .. ليتم بعدها تفسير الفعل الجاهلي في النفس.
وتحقيقا لهذا التفسير نعود إلى ما اتفقنا عليه .
ـ اتفقنا فيما سبق أن العناصر التكوينية للإنسان: (الروح – القلب – العقل) هي المكونة لمصطلح النفس .. وأن هذه العناصر تتجه نحو الذات.
وأن الذات تتجه نحو الأمة.
وأن الأمة تتجه نحو العبادة.
فالنفس تثبت من خلال ذاتها.
و الذات تثبت حقيقتها من خلال الأمة.
والأمة تثبت حقيقتها من خلال عبوديتها لله رب العالمين.
ومن أجل توجه النفس للذات والتحيز لها ... فإن مجموعة من الظواهر النفسية تؤكد هذا التوجه .. و توجه النفس للذات وتحيزها كما هي مطروحة في التصور الإسلامي سيربطها في النهاية بحقيقة العبادة .
وفي اطار هذا التوجه النفسى للذات تثبت في النفس حقيقه أخرى بعد حقيقه التوجه ... وهي الثنائيه ..
والمقصود بالثنائية هي كل خطين متوازيين في الاتجاه متجانسين في التأثير .
يفسر ذلك مناقشة بعض هذه الثنائيات ... غير أن أهم وأخطر هذه الثنائيات:
العبادة والجنس:
والتناسب في التوازى بينهما هو أن كليهما يبلغان (أعمق) تأثير في الكيان الإنساني.
كما يبلغان (أشمل) تأثير في الكيان الإنساني.
ومن العمق والشمول .. كصفتين مشتركتين للجنس والعبادة كان التعويض.
إذن التعويض هو الانتقال من خط إلى أخر بالتعويض بين الخطوط الثنائية في النفس .
فارتكزت الجاهلية على ظاهره التعويض , وكان الجنس هو طرف التعويض عن العبادة..
وكان الجنس والعبادة هما فرسي الرهان في الوصول إلى موضع التأثير العميق الشامل.
وبذلك يكون تقبل الإنسان للجنس بديلاً عن العبادة راجع إلى طبيعة التجانس بين طرفي التعويض. لأن الممارسة الطبيعية للتعويض في السلوك الإنساني تجعل الإنسان يتقبل التعويض بالجنس بديلاً عن العبادة بصورة سهلة.
فعندما يكون النقص مثلاً في قدرة الرجل على المعاشرة الزوجية، فإن المال يمثل تعويضاً نفسياً عند المرأة.. وتكون هذه الحالة تعويض نفسي وشرعي صحيح ؛ لأن كل من العنصرين: القدرة على المعاشرة، والمال ؛ هما عنصري الرجولة والقوامة في نظر المرأة، وهذا يوافق قول الله عز وجل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (النساء: 34).
ويعتبر هذا تعويضا صحيحا ومن التعويض ما هو مرضي ...
فمثلاً، عندما لا يقيم الإنسان الصلاة فإنه يخفف من وطأة الأمر على نفسه ببناء المساجد وتزيينها. وفي هذه العلاقة التعويضية يقول الأثر "لتزيننها ثم لا يعمرنها منكم إلا قليل"(1)
وبعد تفسير التعويض و أثره في العلاقة بين طرفي الحقيقة الثنائية في النفس تأتى المقارنة بين العبادة و الجنس لإثبات التجانس من حيث التأثير .
و ذلك من خلال عدة عناصر: المعنى الإنساني للعبادة و الجنس.
• العبادة والجنس
أولاً: العبادة:
العبادة علة الوجود الإنساني: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
والعبادة تحقق المعنى الإنساني الكامل ؛ و لذلك كان الخروج عن أي صورة صحيحة للعبادة يكون خروجاً عن الصورة الإنسانية الصحيحة.
أخرج مسلم من حديث عائشة مرفوعاً: كان ينهي عن عُقبة الشيطان(1)، وأخرج أحمد والبيهقي، عن أبي هريرة: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرةٍ كنقرة الدِّيك والتفاتٍ كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعية انبساط الكلب"(2)
وروى أحمد عمن سمع أبا هريرة يقول: -أوصاني خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث أوصاني بالوتر قبل النوم وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى قال ونهاني عن الإلتفات و إقعاء كإقعاء القرد ونقر كنقر الديك.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ رَسُولُ اللّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلاَتِهِ قَبْلَ الإِمَامِ، أَنْ يُحَوِّلَ الله صُورَتَهُ فِي صُورَةِ حِمَارٍ."(3)

حديث جابر بن سمرة قال: [خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ](1) رواه مسلم.
- "نقر كنقر الديك" - "التفات كالتفات الثعلب" - "إقعاء كإقعاء القرد" - "بسط كبسط الكلب" - "أيدي كأذناب الخيل" - "تحول الوجه كوجه الحمار".
ثانياً: الجنس:
و كما كانت العبادة هي العلة الغائية للوجود الإنساني كان الجنس هو العلة السببية لهذا الوجود، بمعنى أن العبادة غاية والجنس سبب، و كما كان الخروج عن الصورة الصحيحة للعبادة خروجاً عن الصفة الإنسانية للإنسان كان أيضاً الخروج عن الصورة الصحيحة للجنس هو خروج عن الصفة الإنسانية، ابتداءً من أبسط درجات الانحراف، وانتهاءً بالخروج عن الصفة الإنسانية كلية،كما قال : "يتسافدون تسافد الحمر الوحشية".
ومن حيث الأصل ؛ فإن العلاقة بين العبادة والجنس في الإنسان الفطري والتصور الإسلامي يتوافقان ؛ ولذلك كان رسول الله  يؤكد هذا التوافق , فكان يصلي في فراش عائشة، وكان يقول: " حبب إلي من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة."(2) وبذلك يثبت التجانس بين العبادة و الجنس ...
ولذلك كانت العبادة والجنس هما المعيارين الأساسيين في تكوين الشخصية الإنسانية، ولكن "الجاهليه" عندما أرادت إلغاء جانب العبادة في تكوين الشخصية الإنسانية كان لابد لها أن تستبدل العباده بالفاحشة لينشأ التضاد الذي يذهب بالعباده، فكانت الخطوة الأولى هي ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (مريم: 59).
ومن هنا نشأ التضاد بين العبادة والجنس عندما يكون انحرافا وفاحشة، وكان ذلك تفسير قول الله: ... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت: 45)
وبذلك يضيع المعنى الإنساني للمعاشرة الزوجية الصحيحة حيث يتحول الإنسان بالفاحشة إلى الدرك الحيواني كما قال رسول الله  " فتبقى فئة تقذرها نفس الله يتسافدون تسافد الحمر".
• الاستيعاب:
ومعناه أن كل من العبادة والجنس استيعاب كامل لكيان الإنسان ؛ فمن حيث العبادة دل قول رسول الله  على ذلك، فقال: "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ"(1).
"اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت"(1) "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي"(2) "سبوح قدوس رب الملائكة والروح"(3) "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"(4)
فيتبين أن حقيقة العبادة استيعاب للكيان الإنساني بصورة كاملة، فإذا جئنا إلى الجنس فإننا نستدل على هذا الاستيعاب بالحكم الشرعي المترتب على الزنا وهو الرجم، حيث يشمل هذا الحكم الكيان الإنساني كله.
وحتى لو ستر الله العبد فلم يقم عليه الحد فإن الدليل على استيعاب الفعل لكيان الإنسان هو أن يرفع عنه الإيمان حتى يصير مثل الظلة، لأنه لا مكان للإيمان في كيان الإنسان وقت الوقوع في الفاحشة، ويردّ إليه الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: " والتوبة معروضة بعد "(5). ويتضمن معنى الاستيعاب معنى العمق ؛ حيث يمثل كل من العبادة والجنس أبعد عمق في كيان الإنسان.
وأعمق بعد هو الاطمئنان لأن الاطمئنان هو المستقر.

• الاطمئنان:
و الاطمئنان مقدمة للعبادة: فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَأما وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (النساء: 103).
والاطمئنان أثر للعبادة: إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ (المعارج: 22,19)
والاطمئنان مقدمة للمعاشرة الزوجية و أثر لها وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21).
و بذلك تم تفسير العلاقة بين العبادة و الجنس كحقيقة ثنائية في النفس البشرية بمعناها المذكور (الحقيقة الثنائية: هي كل خطين متوازيين في الاتجاه متجانسين في التأثير ).
و هنا تدخلت الدراسة الجاهلية للنفس البشرية – فرويد و غيره - فدمرت خط العبادة الصحيحة و استبدلت به الجنس تفسيراًً للسلوك الإنساني.
و لكن الدراسات الجاهلية المرتكزة على الجنس تبدأ في الحقيقة منذ خلق الله آدم؛ لأن إبليس أدرك في آدم ضعفا خطيرا، حيث دخل من فم آدم وهو لم يزل طيناً وخرج من دبره، وهكذا اكتشف إبليس في كيان الإنسان حقيقة ارتكزت عليها الدراسات التحليلية للنفس، فقام فرويد ليقول: إن المرحلة الشرجية هي أساس التفسير الجنسي، وأن الجنس هو أساس التحليل النفسي.
وليس أدل على شيطنة هذه النظرية من أن يكون تفسير السلوك منذ الطفولة تابعاً لأثر الشيطان في كيان آدم وهو لم يزل بعد طيناً، إذ إن الرسول  يقول: "فنظر إبليس إلى آدم فدخل في فمه وخرج من دبره" (الشرج)، وكانت هذه الحركة تهدف إلى إحداث تسلط شيطاني على هذين الموضعين، مثلما يضرب الشيطان المولود فيستهل صارخاً. فكان دخول إبليس من فم آدم والخروج من دبره لما كان طيناً أسبق من هذه الضربة التي تكون عند الولادة. ومن هنا تمثل أثر إبليس في الإنسان منذ خلقه بالاهتمام بطبيعة الفم على اعتبار أنها أهم حركة بالنسبة له: (الرضاعة)، الاهتمام بعملية الإخراج على اعتبار أنها الحركة الطبيعية بعد الرضاعة، وقد يحدث الشيطان في نفس الطفل أثراً للتسلط القديم، فينشغل الطفل سلوكياً بالفم والشرج. فيأتي فرويد ليؤصِّل هذا التسلط فيسمي مراحل النمو عند الطفل بمقدار اهتمام الطفل بهذين الموضعين: الفم والدبر؛ فيسمي مراحل النمو باسمهما: (المرحلة الفمية والمرحلة الشرجية).
• العبادة والإنتاج:
ولم تكن العبادة والجنس، هي الصيغة الوحيدة للظاهرة الثنائية في النفس البشرية ؛ فهناك ثنائية أخرى: وهي العبادة والإنتاج.
وبنفس الأسلوب التعويضي تم استبدال القدرة على الإنتاج بالقدرة على العبادة في شواهد الصحة النفسية.
والحقيقة أن القدرة على العبادة هي الشاهد الأول على الصحة النفسية ؛ لأن العبادة هي الغاية النهائية للوجود الإنساني.
وتحقيق هذه الغاية يعني أن الإنسان في حدود الوجود الطبيعي للإنسان.
حتى لو كان الإنسان مصاباً نفسياً فيمكن علاجه في إطار الطبيعة الأساسية السليمة له والتي تدل عليها (العبادة).
وكما كان العبادة و الجنس كانت العبادة و الإنتاج .. و قد تقرر أن العبادة هي غاية الخلافة . الوجود الإنساني و الخلافة هي الصيغة الشرعية لهذا الوجود
فالاستعمار المادي للأرض: (الإنتاج) هو السبب الكوني للخلافة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (البقرة: 30).
فارتبطت الخلافة بأسبابها المادية: (الإنتاج) كما ارتبطت بغايتها: (العبادة).
وأصبح الإنتاج والعبادة متلازمين في إطار (الخلافة).
و وفقاً لقاعدة الحقيقة الثنائية (كل خطين متوازيين في الاتجاه متجانسين في التأثير) أمكن من خلال هذا التلازم استبدال الإنتاج بالعبادة في شواهد الصحة النفسية.الدراسة الجاهلية
فقرر أصحاب هذه الدراسة أن القدرة على الإنتاج هي أول شاهد للصحة النفسية.
ولكن الدراسة الإسلامية تؤكد أن العبادة هي هذا الشاهد.
وكما كان التعويض استبدال العبادة بالجنس و الإنتاج فان الاستبدال لم يتوقف عند حد الخطوط الثنائية في النفس
بل تجاوزه إلى ظواهر نفسية أخرى خارج هذه الثنائية وذلك استمرار في محاوله الهروب من الدين ...
فالتفسير الإسلامي للرؤية أنها صور كونية لحقائق غيبيه وفقا للناموس
والناموس هو النظام الجامع للخلق و الأمر أو الكون والدين

• التكيف و الواقع:
ذلك أنهم يعتبرون أن أهم شواهد الصحة النفسية عند الإنسان هو قدرته على التكيف مع الواقع الذي يعيشه دون النظر إلى هذا الواقع من حيث الخطأ والصواب .. فالمهم أن يتكيف.
ولما كانت القاعدة العامة في الهروب من الدين في هذه الدراسة هي التعويض الذي يجعل به الشيطان لكل حق بديلاً باطلاً.
فكان من مفهوم التكيف مع "الواقع" بديلاً عن "الحق".
و باعتبار قاعدة الثنائية كان الأصل المشترك لطرفي التعويض الواقع و الحق يرجع إلى أن طبيعة كل منهما (حجة نفسية).
وللواقع أثر طبيعي في النفس.
و لما كان الواقع له هذا الأثر ؛ استبدل الشيطان الحق بالواقع الباطل ..
حتى إن فرعون يستشهد بالواقع على ملكه لمصر يؤكد به صوابه كدليل في نفس الأتباع: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (الزخرف: 51). وعندما وسوس الشيطان بمفهوم التكيف، فانه كان في الحقيقة يدعو إلى التكيف مع الواقع المنفصل عن الحق، ومن هنا كان الخطر.
لأن هذا المفهوم يعني القضاء على معيار الحق في الواقع.
فكان هذا المصطلح عند أصحاب الدراسة غير الإسلامية يعني قدرة الفرد على التكيف أو قدرة الفرد على تشكيل وتغيير شخصيته وفقاً لمقتضيات الواقع.
أما مفهوم التكيف في الدراسة الإسلامية للنفس فهو قائم على الحق و التقييم الشرعي للواقع وقائم على تحقيق مقتضى هذا التقييم الشرعي سواء بالمواجهة أو الاعتزال.
والحقيقة أن الفرد مكلف بتقييم الواقع قبل التكيف معه فإن كان واقعاً صحيحاً كان التكيف هنا مع الحق وإن كان الواقع باطلاً كان النهي عن التكيف. وهذا مضمون قول النبي  "لا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسئت. ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس تحسنوا وإن أساءوا فلا تسيئوا"(1).
ومن الظواهر النفسية التي كانت مجالا في الدراسة الجاهلية للهروب من الدين
• ظاهرة الضمير .
فعندما تجد الجاهلية نفسها أمام ظاهرة بشرية تثبت الدين فإنها تطرح تفسيراً لا يزيد الأمر إلا غموضاً.
مثل مسألة الضمير.. ما هو الضمير وما تفسير وجوده؟!!
الإسلام وحده الذي يملك التفسير الصحيح.
فالضمير هو النفس اللوامة ..
لأن الله سبحانه خلق الإنسان مهيأ تكوينيا للحساب يوم القيامة ومن أجل تهيئته للقيامة والحساب فإن الله سبحانه أنشأ فيه ما أسميناه: الضمير .. وهو في حقيقته نفس الإنسان في حال محاسبتها على الأعمال خوفاً قبل الحساب عليها في الآخرة، ولذلك قال الله سبحانه: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة (القيامة: 2,1)
إن اسم النفس اللوامة يربط ويثبت العلاقة بالآخرة، ولذلك استبدله أصحاب الدراسات الأخرى "بالأنا الأعلى" ليكون ظاهرة نفسية مبتورة العلاقة بالحساب عند الله سبحانه.
فكيف تقبل الناس عبارة (الأنا الأعلى) دون أن يتساءل أحد: ما الذي أوجد الفرق بين الأنا و الأنا الأعلى ومن الذي أحدث هذا العلو الأنوي؟
فلقد ذهب فرويد مؤسس هذا العلم , وذهب الاهتمام الذي كان قائما حوله حتى الستينيات من هذا القرن في الغرب، ولكن العلم الذي أسسه - إن سُمِّى هذا علما - مازال يعيش في العيادات النفسية المنتشرة في الغرب، والتي أصبح من الأمور المعتادة فيه - إن لم يكن من الضرورات - أن يرتاد الإنسان - فتى أو فتاة، رجلا أو امرأة – إحدى العيادات النفسية على فترات تختلف باختلاف (حالة) كل شخص، وقد تصل أحيانا إلى مرة كل أسبوع !
وفي النظرية الجاهلية للنفس يقول الأستاذ محمد قطب:
وفي المعتاد يقول الطبيب النفسى للمريض الذي يعالجه (أنت تعانى من الكبت) من عقدة نفسية أو أكثر . انطلق ! هذا علاجك )!
عقدة التحليل النفسي أنه يسقط (الإنسان)، إذ يسقط الإرادة الضابطة في الإنسان، ويفسر الأمور على أساس جبرية نفسيه لا تدع للإنسان مجالا للاختيار ...
هذا في مجال تبرير الجريمة ... ثم يدعو إلى إطلاق الشهوة البهيمية على أنها علاج للكبت وهذا في مجال تزيين الجريمة. وفي كلا المجالين يتعامل مع الحيوان و ليس مع الإنسان.
وعلى الرغم مما تكشف للناس من التزييف الواضح في نظريات فرويد الخاصة بالتفسير الجنسي للسلوك البشرى، ومن اعتماده في نظرياته على المرض والشواذ، وتعميم الملاحظات المستقاة من حالاتهم على الأصحاء و الأسوياء، فما زالت السموم التي بثها قائمة في مجالات كثيرة ن من بينها العيادات النفسية التي أشرنا إليها، ومن بينها الإعلانات التي يستخدم فيها الجنس و الإغراء، والتي تبثها وسائل الإعلام على مدار الساعة في كل الأرض!
وحين توارى فرويد عن الساحة - أو عن مكان الصدارة في الساحة - فقد خلفته مدرسة أخرى لا تقل عنه سوءا في تصورها وتصويرها للإنسان، وهي المدرسة السلوكية التي لها السيادة اليوم في الدراسات النفسية، التي تعتمد اعتمادا أساسيا على تجارب المعمل، ولكنها تستمد تجاربها أساسا من عالم الحيوان، ثم تجربها - بنجاح ! على عالم الإنسان!
كلتا النظرتين: نظرة فرويد ونظرة السلوكيين، تفسير جوانب من الإنسان، ولكنها لا تحيط به، ولا تستطيع أن تفسر المقامات العليا من النفس البشرية، التي لا تصل إليها (جنسيات) فرويد، ولا تجارب السلوكيين). (نقلاً من كتاب التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية - للأستاذ محمد قطب).

القسم الرابع
الصحة النفسية
وامتداداً لدراسة النفس البشرية بتصور سلفي، وفي إطار المقارنة بين النظرية الجاهلية وهذا التصور؛ نواصل تفسير الصحة النفسية.
حيث يمثل هذا التفسير أساسا للعلاج النفسي.
ومما لا شك فيه أن إنشاء هذا التصور السلفي للنفس في الوقت الحاضر في زمن قريب لا يسمح بدراسة وافية للصحة النفسية.
لأننا لم نتجاوز إثبات هذا التصور الذي تسقط به النظرية الجاهلية الخبيثة في النفس.
و لذلك ستكون دراسة محدودة بحدود هذا التصور الناشئ و تحديداً من خلال الأمراض التي تمثل بصورة مباشرة خللاً في الطبيعة الإنسانية السوية التي تقوم الدراسة الإسلامية على أساسها.
لذا لزم من الابتداء تحديد مفهوم المرض النفسي
- المرض النفسي:
وهذا المفهوم لابد أن يتحدد على أساس ثابت في هذا التصور وهو: أن الإنسان السوي هو الأصل الذي يقوم عليه تفسير المرض، وأن ثبوت المرض النفسي لابد أن يقاس إلى الحالة الطبيعية للإنسان من الناحية النفسية.
بل إن التصور الإسلامي للنفس يؤكد أن الخلل النفسي هو ذاته سيكون دليلاً على التصور الطبيعي للإنسان.
وهذا المنطلق الذي ننطلق منه في تحديد المرض النفسي يعاكس تماماً تفسير المرض النفسي عند الجاهلية.
إذ أن المرض النفسي عند أصحاب هذا التصور هو الأصل في التحديد.
وإن علم النفس الذي يتصوروه في مجموعه هو إطار عام لمجموع الأمراض النفسية في الإنسان.
ولذلك كان هذا المنطلق هو الامتداد العلماني لطبيعة الدراسة النفسية التي بدأها إبليس عند خلق آدم..
حيث لم يلاحظ إبليس في البداية إلا ما تمناه في آدم وهو أنه أجوف فعلم أنه خلق لا يتمالك.
لذا سنعرض - فقط - لبعض الأمراض النفسية في إطار إثبات الأصل الذي نشأ فيه الخلل.
وبصفه عامة فإن هذا الأصل هو التوازن وهو تفسير الصحة النفسية مما يلزم أن يكون الخلل في هذا التوازن هو تفسير المرض النفسي.
وكان القلق هو البداية.
- القلق:
وهو أول الأمراض المطروحة وفقاً لقاعدة إثبات الأصل، لأن القلق في ذاته ظاهرة طبيعية (أصل)، ولا يكون مرضاً إلا إذا وجد دون مبرر مناسب من الواقع.
وهو أول الأمراض المطروحة أيضاً لأنه أول المؤثرات في النفس السوية باعتبار أن النفس السوية هي النفس المطمئنة.
لأن القلق ذهاب للطمأنينة النفسية التي تعتبر أول دلائل الصحة النفسية.
والقلق كظاهرة مرضية علته الأساسية ضعف الصبر، والصبر هو حبس النفس، لذا كان القلق اضطراب وحركة نفسية غير منضبطة.. وبذلك تكون أعراض القلق هي نفسها أعراض الاضطراب النفسي، وهذه الأعراض.. ناشئة عن مغالبة الصبر وعندما تصاب النفس بالاضطراب فإن أول اصطدامها يكون بالعقل، لأن الصبر يكون بالعقل من خلال حكم النفس، والاصطدام بين النفس المضطربة والعقل أمر ينشأ عنه عرض ثالث وهو ضيق الخلق، لأن العقل و النفس سيكونان في صدام ولا وجود لأحدهما بصورة صحيحة.. والاستمرار على ضيق الخلق مع اضطراب النفس والاصطدام بالعقل هو الذي ينشئ بغض الناس؛ لأن العلاقة بين حسن الخلق وحب الناس علاقة مترابطة.. فيترتب على ذلك أن يبغض الناس الإنسان القلق لضيق خلقه معهم..
فإذا فقد الإنسان الصبر..واصطدم بالعقل..وضاق خلقه.. وبغضه الناس.. انعدم إحساسه بالدنيا والوجود... حيث غالباً ما يسلمه هذا الحال إلى الإدمان..
- الإدمان:
ووفقا لقاعدة إثبات الأصل و التوازن في تفسير المرض "الخلل" يكون الأصل هو ظاهرة القبض والبسط و دليلها قول الله عز و جل و الله يقبض ويبسط و إليه ترجعون فالنفس دائرة بين القبض و البسط و الإدمان هو إحداث الانبساط كحالة عارضة مصطنعة في النفس .
لأن التفسير النفسي للإدمان هو إحداث حالة الانبساط النفسي المصطنع (المرض)، وبناء على التوازن بين القبض والبسط (الأصل) كان لابد من إحداث نوع من القبض ليستمر التوازن بين القبض والبسط بعد إحداث البسط بالإدمان. فالمدمن يتدخل بإدمانه لإطالة حالة البسط النفسي وهو لا يدرى أنه لابد له من أن يعيش بعد هذا الانبساط حالة انقباض يُقهر عليها، وهي الحالة التي يكون عليها المدمن في حالة فقدان ماده الإدمان لتكون حالة الانقباض الناشئة عن الانبساط المصطنع (الإدمان) هي الخوف و الحزن و الانطواء و ما يترتب على هذه العناصر من آثار نفسية و عصبية. وبذلك يتبين لنا من خلال هذا المثال مفهوم التوازن الذي يقوم عليه الكيان الإنساني، ومعنى الخلل المؤثر في هذا التوازن.

- ضعف الذاكرة:
والذاكرة في الأساس ثقة من الإنسان في ذاكرته و بمقدار هذه الثقة تكون قوة الذاكرة و من هنا كان النهي عن أن يقول الإنسان نسيت و ذلك في قوله  "بئس لأحدكم أن يقول نسيت كيت و كيت بل هو نُسِّى"(1) رواه مسلم و النسائى.
و في حديث ابن مسعود أدب في التعبير عن حصول ذلك فلا يقول نسيت فإن النسيان ليس من نفس العبد مما يعود بالثقة من الإنسان في ذاكرته فينفي عنها النسيان.
و قد يكون من أسباب النسيان الذنب يقع فيه العبد و هو قول الله عز و جل و اذكر ربك إذا نسيت (الكهف: 24) لأن النسيان إنما يكون عن سبب قد يكون ذنباً - وهذا ما ذهب إليه الضحاك بن مزاحم - فأمر الله تعالى بذكره ليذهب الشيطان عن القلب كما يذهب عند الفرار بالأذان، و الحسنة تذهب السيئة فإذا زال السبب للنسيان انزاح فحصل التذكر بذكر الله تعالى و الله أعلم. و قد نص القرآن على أثر الشيطان في إحداث النسيان ففي قصة يوسف وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (يوسف: 42).
و في قصة موسى مع فتاه التي وردت في سورة الكهف قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (الكهف: 63). و لعلنا نلاحظ خطورة أثر الشيطان في إحداث النسيان في الإنسان من خلال حادثة الحوت الذي اتخذ سبيله في البحر سربا ذلك لأن الحدث لا يمكن لأحد أن ينساه فالحوت في مكتل مجهز للطعام وفجأة تدب فيه الحياة فيقفز من المكتل و يدخل في البحر بقوة شديدة هي التي جعلت القرآن يقول فاتخذ سبيله في البحر سربا لأن حركة الحوت القوية جعلته يشق الماء فينكسر على جانبيه فيحدث شكل السرب فأنساه الشيطان كل تلك الأعاجيب و لعل قوة التأثير تتمثل في أمر آخر و هو أن الشيطان جعل صاحب موسى ينسى و هو يرفقه موسى للقاء الخضر.وكان ذلك في سفرهما الذي لقيا فيه نصبا.
و بضعف الثقة في الذاكرة يكون النسيان حتى يبلغ هذا الضعف مداه لتكون الوسوسة.
- الوسوسة:
والوسوسة راجعة إلى ارتباط اليقين في الإنسان بمدى الجهد الذي بذله في الأمر الذي إنشاءً واستمراراً.
فالجهد ينشأ عن اليقين في الابتداء.. لكن الجهد ذاته يحقق زيادة في اليقين وتبعاً للعلاقة بين اليقين والجهد التي تمثل (الأصل والتوازن) في الطبيعة الإنسانية. ليكون الخلل في هذا التوازن هو الوسوسة.. لأن الوسوسة تكون في الأمر بمقدار سهولته.. ولهذا نجد أن الوسواس غالباً ما يكون في لحظة البداية في العبادة مثل الصلاة لأن حركة رفع اليدين والتكبير أمر سهل، ويمكن تداركه، وهو في نفس الأمر تقوم عليه صحة الصلاة، فيكون من السهل الإعادة لتدارك الأمر- لأنه شرط للصلاة -فتكون الوسوسة.
و وفقاً لقاعدة الأهمية التي تنشأ عنها الوسوسة كانت العبادة هي أخطر مجالات الوسوسة.
فتجد الوسواس غالباً في الصلاة.. والعلة الأساسية في الوسواس هي الحرص الزائد عن الحد.. مثل الحرص على الطهارة في وسواس الوضوء.. وفي التكبير عند الدخول في الصلاة وعندما يزيد الحرص عن حده يفقد الفرد ثقته في ذاكرته وذهنه، فتصبح الزيادة في الحرص على السلوك سبباً في الإصابة بالوسوسة بعد النقص في ثقته و اللازمة .. لمنع الوسوسة.
ومن هنا كان عناصر علاج الوسواس في العبادة هي نفسها عناصر الثقة في الذاكرة .. لان كثرة النسيان هي بداية الوسواس، وعندما يتكرر النسيان يأخذ حكم الوسواس .. وكثرة النسيان أو بداية الوسواس .. حكمها عدم الانتباه إليها .. فإذا كانت الوسوسة في التسمية قبل الوضوء يكون الحكم أن المتوضئ قال: بسم الله فعلاً. وهذه أول درجات الثقة ..
وإذا كانت الوسوسة في نزول نقاط من البول بعد الوضوء، فان تكرارها يأخذ حكم سلس البول الذي لا يؤثر على الوضوء. وفي هذا النوع فإن الوسواس ينشأ عن علاقة عصبية بين التفكير والتبول، ولذلك يكون العلاج هو قطع التفكير في الموضوع وهذا الحكم هو المحقق لهذا القطع ولذلك كان علاج الوسوسة فقها قائما على هاتين الحقيقتين و هي قولهم اله عنه أى انشغل ذهنيا عنه حتى تنقطع الصلة العصبية بين التفكير و التبول .. وكذلك قول الفقهاء برش موضع البول بالماء حتى يظن الإنسان أن هذا الماء ليس ببول ولكنه الماء المرشوش فتكون الثقة المانعة من الوسواس .
و وفقاً لقاعدة الأهمية التي تنشأ عنها الوسوسة ننتقل بموضوع الوسوسة إلي أخطر المجالات الإنسانية وهو الشك في الزوجة باعتبار أهمية العرض عند الإنسان ...
- الشك في الزوجة:
وهو أبرز أشكال الوساوس، وهو مرض مستقل بذاته، و قد يبلغ بصاحبه درجة من درجات الجنون بل أخطرها. وغالباً ما ينشأ هذا المرض في البيئة التي توارثت قيمة العرض اجتماعياً دون الالتزام الشرعي في العلاقات الاجتماعية. فلا ينشأ المرض في البيئة التي يحكمها الشرع مثل البيئة الإسلامية. ولذلك تجد أن العلاقة الزوجية في البيئة الاجتماعية الإسلامية تقوم ومعها أسباب حمايتها من هذا المرض. فهي قائمة على الثقة والاطمئنان إلى الزوجة. كما إنها قائمة على إحساس المرأة بمسؤليتها الأصلية في حماية نفسها، وذلك في إطار الحدود الشرعية المنزلة وحسب الطاقة البشرية في مسؤولية الزوج عن عفاف زوجته.
ومنه النهي عن مفاجئه النساء بالليل ... وسنة إبلاغ النساء بقدوم الرجال بعد الغزو ..
وعلى الرغم من الأخذ بكل أسباب الحماية للزوجة تبقى في نفس الزوج رغبة في المزيد من الإحساس بالأمان على زوجته وعرضه. ولكن هذا الإحساس لا يمكن أن يكتمل عند الزوج إلا من خلال استقرار عدة حقائق في ضميره، وأهمها أن العفاف قدر إلهي يتحقق في الزوجة بعلم الله لها وعدله فيها. والدليل في قصة هجرة سيدنا إبراهيم وزوجته سارة إلى مصر(1)، فقد كان ملك مصر يأخذ كل امرأة جميلة غصباً فإن كان معها أخوها تركه، وإن كان معها زوجها قتله، فعلم هذا الملك بقدوم إبراهيم وسارة كما علم بجمالها، فطلبها، فكان موقف إبراهيم أن قال لها: أخبريه أني أخوكي، وهذا بالطبع فيه نجاة للخليل إبراهيم.
ولكن أين التفكير في نجاة الزوجة؟ هذا ما تركه إبراهيم للزوجة نفسها، فوقفت أمام هذا الملك الماجن تدعو الله: "اللهم إن كنت تعلم أني قد أحصنت فرجي إلا على زوجي فابعد عني هذا الشيطان". فخسف الله به الأرض واستجاب لها، ويتكرر فعل الملك بعد أن دعت بنجاته حتى لا يقولوا قتلته. ويتكرر مرة ثالثة، ولكن الله ينجيها في كل مرة حتى يقول الملك: اذهبوا بها عني وأعطوها هاجر.
ومن الدعاء والاستجابة يتبين كيف أن العفاف قد تحقق لزوجة إبراهيم بأسباب من عندها وهي إحصان فرجها إلا على زوجها. فكتب الله لها النجاة والعفاف وتأكدت بذلك مسؤولية المرأة الحقيقية عن نفسها.
كما إن عبودية المرأة وخشيتها لله هي الحماية الأصلية لها من الانحراف، فإذا أحست الزوجة قبل أن تكون زوجة لرجل؛ أنها أمة لله، وانحرافها قبل أن يكون خيانة للزوج فهو كبيرة عند الله، "والله أغير منا"(1)؛ كما قال رسول الله  "وما أحد أغير من الله، من أجل ذلك أنزل الحدود "(2). وقيمة هذه النصوص أنها تشعر المرأة بغيرة الله عليها فيمنعها ذلك من الخطأ.
ومن مثل مرض الشك في الزوجة الذي ينشأ عن الانشغال بالعرض و الذي يكون له أثر في إحداث التوهم الذي يبلغ درجة الهوس و هو ما يفسره مرض الهوس السمعى و البصرى.
- الهوس السمعى والبصري:
وهذه الظاهرة المرضية من أبرز أمثلة حدوث الخلل من خلال التوازن؛ فالعلاقة بين أبعاد الكيان الإنساني الروحية والجسدية والنفسية والقلبية والسلوكية تقوم بالكيان الإنساني في وحده متناسقة واحدة.
وعوامل التأثير في أي بعد من هذه الأبعاد له نفس التأثير على الكيان الإنساني كله وأهم عوامل التأثير في العقل: عامل الانشغال، لأن الانشغال إنما يكون بالعقل، و أول علامات الصواب في موضوع الانشغال هو هذه العلاقة القائمة بين الموضوع المطروح على العقل والعقل ذاته، ولذلك يكون الرفض العقلي ابتداءً للموضوع دليل بطلانه عند صاحب هذا العقل، فإذا انشغل العقل بالموضوع بصوره خاطئة فان هذا الانشغال (المرضي) يستمر.حتى يبلغ العقل درجة القناعة بالموضوع ويعتبرها من خلال هذه العلاقة المصطنعة حقيقة، فيرسل العقل إشارته إلى القلب بقبول هذا الموضوع، فيقبله القلب كحقيقة ثم يرده القلب إلى الحواس بصفه حقيقة فتتعامل الحواس بهذه الصفة.
عندئذ يبلغ الموضوع الوهمي .. درجة الحقيقة عند الحواس فيسمع صاحبها أصواتاً أو يرى صوراً ولكن ليس في الواقع بل في الوهم، و هذا هو تفسير ظاهرة الهوس السمعي والبصري.
ويكون ذلك قاعدة أن الخلل من خلال التوازن فيكون الهوس الناشئ عن الأثر الطبيعي للتكرار ويثبت على العقل والقلب.
مثال أن ينشغل إنسان بموضوع الأطباق الطائرة.
فيتوقع أي حركة في السماء. طبقاً طائراً.
ويقوى الانشغال وهو أقوى مؤثر طبيعي في العقل .. و يفرض الموضوع على العقل. ويزداد الانشغال حتى يتعامل العقل مع هذا الوهم على أنه حقيقة.
ثم يرسل العقل الموضوع إلى القلب .. بعد تعامله معه على أنه حقيقة.
ثم يرسل القلب الموضوع إلى الحواس.
فيرى هذا الرجل أطباقاُ طائرة بعينه ويسمعها بأذنه.
وكما كان الانشغال سبباً في التوهم الذي يصل إلى مرحلة الهوس فإن هناك حالة مقابله لمرض الهوس، وهي أحلام اليقظة، ففي حاله الهوس لا يتحكم الإنسان في التوهم الناشئ عن الانشغال فيسمع أو يرى بلا إراده أو سيطرة أما في حاله (أحلام اليقظة) يتحكم فيها الإنسان في إنشاء الصورة المتوهمة لينشغل بتلك الصورة نفسيا و ذهنيا ...
أحلام اليقظة:
و هي التمني الكاذب .. الذي لا يعني سوى ترك العمل وعدم بلوغ حد الاستطاعة فيه، وترك الأخذ بالأسباب والسنن.
والواقع هو الذي يقف بالأمل على عتبة التحقيق لأن الانفلات من الواقع والأسباب والقدرة والاستطاعة يغرق الإنسان في خيال ليس له حدود.
والفرق بين التمني الكاذب و الرجاء الصادق متعلق بما يرجى وجوده فالتمني الكاذب هو الأمنية التي لا يرجى حصولها كما يتمنى العاجز المراتب العالية.
والأمانى الباطلة: هي رؤوس أموال المفاليس بها يقطعون أوقاتهم و يلتذون بها كالتذاذ من زال عقله بالمسكر أو بالخيالات الباطلة (أحلام اليقظة) و لا يرضى بالأمانى عن الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة.
إن الخطر الناشئ عن أحلام اليقظة هو استهلاك الطاقة الذهنية و الرصيد العقلى في تخيل الواقع الذي يرفضه، في صورة ترضيه و لذلك فإن هذا التخيل يستهلك في الإنسان طاقة ذهنية هائلة تضعف عقله كما أن خطر أحلام اليقظة ينشأ عن أن المريض يعيش تخيله و أحلامه بصورة عصبية تستهلك هي الأخرى قدرته العصبية بكثرة مجاراة أعصابه لأحلامه.
وخطورة أحلام اليقظة كذلك تنشأ من طغيان إحساسه بخياله عند فقد قدرته العقلية و العصبية على إحساسه الذي يعيشه فعلاً لينفصل عن واقعه كلية فيكون الجنون.
الجنون:
وجميع الأمراض السابقة من الممكن أن تؤدى بالإنسان إلى حاله الجنون و ذلك عندما يفقد المريض إدراكه لنفسه و للواقع الذي يعيشه و لذلك كان استبصار المريض بنفسه و إدراكه لحقيقته يمنع إطلاق وصف الجنون عليه فكان هذا الاستبصار و الإدراك حدا فاصلا بين من بلغ درجه الجنون ومن لم يبلغها ..
والجنون هو الاختفاء و الغياب و الستر , وهو مرض مقصود به اختفاء و غياب و ستر العقل. ومنه جن الشيء يجنه جنا: ستره .
ومنه قول الله (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا) أي أظلم حتى يستره بظلمته
ومنه سمي الجن لاستتارهم عن الأبصار ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه .
والإعجاب بالنفس هو محور الآثار و النصوص المعالجة لظاهره الجنون .
يقول الحسن: لو أصاب الإنسان في كل شيء جن , أي: لا عجب بنفسه إعجابا يجن به. ومن هنا كان الإعجاب بالنفس سبباً خطير للجنون
والحديث:(اللهم إني أعوذ بك من جنون العمل) أي: من الإعجاب به.
و رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما مجتمعين على رجل فقال: ما هذا؟ قالوا: مجنون . قال: هذا مصاب. إنما المجنون من يضرب بمنكبية و ينظر في عطفه ويتمطى في مشيته)
ومن الظواهر الأساسية الدالة على الجنون: الحركة النشطة غير المنضبطة ..
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشباب شعبة من شعب الجنون) .
و دليل ذلك النشاط هو قول العرب: جنى الشاب وصفاً لحركة الشباب خفته
و دليل عدم الانضباط أن تكون الحركة في أي اتجاه ..
ومنه قول العرب: جنت الأرض إذا ذهب عشبها كل مذهب .
ووفقاً للقاعدة العامة في التصور الإسلامي للصحة النفسية و هي أن المرض يثبت الأصل الذي تكونت عليه الطبيعة الإنسانية.
حيث ينطبق على أعراض الجنون نفس القاعدة التي تنطبق على جميع الأمراض النفسية ولذلك كانت أعراض الجنون مرتبطة بالسبب الأساسي الذي كان سببا للجنون فعندما ما يكون سبب الجنون هو عقده الشعور بالذنب فان أعراض المرض تتمثل في رغبته الجامحة في الاغتسال بالماء حتى انك لا تستطيع أبعاد المريض عن الماء.
ويدخل في تحديد أعراض الجنون بجانب سبب المرض .. شخصيه المريض أصلا فلو كان المريض رجلا ملتزما بالصلاة فان أعراض الجنون ستمنعه من أداء هذه الصلاة ...
والأصل في ذلك هو العلاقة بين الماء وإسقاط الذنوب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيحاول تخفيف الإحساس بالعجز عن أداءها فتكون الحيلة التي يخفف بها هذا الإحساس هو أنه إذا سمع المؤذن طلب أي طعام ليأكله. ليكون صاحب عذر في عدم قيامه إلى الصلاة لعلمه بحديث النهي عن الصلاة في حضره الطعام ..
فيتبين من ذلك الارتباط الوثيق بين شخصيه المريض قبل المرض وبين أعراض المرض عندما يحدث .
و أن علامات الجنون هي عدم القدرة على التعامل مع الآخرين و عدم القدرة على الإنتاج
ولكننا نعتبر في الابتداء أن العلامة الأساسية لهذا المرض هي عدم القدرة على الصلاة إذا كان الشخص مداوما على الصلاة قبل الإصابة .. لان الصلاة تبقى أعمق سلوك , ولا يمكن التخلي عنه إلا في حال الغياب التام للشخص عن نفسه .
والحقيقة أن الجنون في الأساس مرض شيطاني من حيث الأسباب ومن حيث طبيعة المرض ومن حيث النتائج ..
ومن أجل ذلك كانت الرقية من الجنون هي نفسها الاستعاذة بالله من الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم
ولذلك كانت الصلاة أيضاً هي أقرب سلوك يمكن أن يستجيب المريض من خلاله إذا حاول أحد توجيهه أو معالجته .
ومع الاستعاذة بالله من الشيطان فان أسباب الحماية من الجنون تتمثل بصوره أساسيه. في عده أمور أهمها:
ـ التسليم بقدر الله لان الإيمان بالقدر هو الذي يحقق الرضى بالواقع
ـ وكذلك حماية العقل من خيالات أحلام اليقظة لأنها تستهلك رصيد الطاقة الذهنية في الإنسان
ـ وفي هذا الإطار يكون تفكير الإنسان في الحاضر ولا يكون في الماضي إلا للعبرة ولا يكون في المستقبل إلا بالتوكل و الاستعداد ..
وفي هذا جاء قول الله لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم
والحضور العقلي الذي يحمى الإنسان من غياب العقل يكون بالذكر لان الذكر هو النصوص الشرعية المناسبة لكل أحوال الإنسان و أوقاته فيحفظه الله من الغفلة عن الله و الغفلة عن واقعة و أحواله و أوقاته .
وذكر الأمثلة السابقة للأمراض النفسية ليس دراسة لها بقدر ما هي إثبات (للمنطلق) الذي تكون منه الدراسة الوافية ...
و التعامل مع الإنسان بطبيعته المتوازنة السوية ... التي تحفظ له صحته النفسية ...
وهو ما يقابل المنطلق المرضي للدراسات غير الإسلامية
ودراسة الصحة النفسية لا تتوقف عند موضوع الأمراض ولكنها تمتد إلى جميع الأحوال التي تؤثر في الإنسان تأثيرا مشابها لتأثير هذه الأمراض .
وهي ما يمكن أن نسميه الأحوال الخاصة .
وباعتبار أن الدراسة النفسية مرتبطة بالدعوة فان الاستمرار فيها سيكون من خلال الأحوال المتعلقة بالدعوة ..

الأحوال الخاصة
أ- الاستضعاف:
مصطلح إسلامي يعني حياه الإنسان المسلم في واقع غير إسلامي .
وهذا المصطلح ينطبق على كل أفراد الجماعة المسلمة إذا كانت تعيش واقعا غير إسلامي حتى لو كان من أفرادها من يملك قوة شخصيه لان حكم الاستضعاف ينطبق عليه بمقتضى انتماءه لتلك الجماعة المستضعفة .
ـ مثلما كان عمر بن الخطاب يتحدى قريش في هجرته، فيصعد جبل من جبال مكة و يقول [إنى ذاهب إلى محمد فمن أراد أن تثكله أمه أو تترمل زوجته أو ييتم أبناؤه فليتبعنى] ومع ذلك كان مستضعفا باعتبار انتماءه للجماعة المستضعفة .
ـ و الاستضعاف له تفسير نفسي فهو ضعفا في الإحساس بالذات لأن الإحساس بالذات ينبع من الانتماء للأمة فعندما تكون الأمة مستضعفة ينعكس ذلك على الإحساس بالذات.
كذلك فالاستضعاف تناقض بين التصور الذي يعيش فيه عقل المستضعف وقلبه وبين المجتمع الذي يعيش فيه بمنهجه وتقاليده.
ولذلك كان للاستضعاف ردود أفعال نفسية محددة وأهمها أن تتجمع في الجماعة التي ينتمي إليها المستضعفون بكل مشاعرهم الاجتماعية حتى درجة الاصطباغ النفسي و الشخصي بصبغة الجماعة، وكذلك تجتمع في تلك الجماعة كل مشاعر الولاء في شخص القائم على هذه الجماعة فينشئ ذلك مبالغة في تقدير هذا الشخص و إمكانياته و كذلك السمع و الطاعة المطلقة له .
ولكن استمرار فترة الاستضعاف لا تنفي مشاعر الرغبة في أن يعيش المستضعف حياته الاجتماعية بصورة طبيعية فنتجمع نحو محاوله إلغاء التناقض الذي يعيشه فتنشأ في عقلة أفكار الحلول الوسط التي تكون من وطأة هذا التناقض وقد تقوى تلك الرغبة في إزالة هذا التناقض إلي درجة التخلي عن قضية الجماعة فتنشأ في نفسه منهجية الاستسلام للأمر الواقع ويساعده علي ذلك الشعور بأنه قد أدي ما عليه .
وخطورة هذه المحاولة هي أن صاحبها يحاول فرضها على كل أفراد الجماعة لأنه يحاول إلغاء التناقض الذي يعاني منه، وأي رفض لمحاولته من أي فرد سيبقي معني التناقض .
ولذلك يجب أن تكون فترة الاستضعاف متميزة بالإيمان المطلق بقضية الجماعة والقدرة المطلقة على تحمل صعوبة هذه المرحلة، ولكن الإيمان كمعالجه لضعف الإحساس بالذات له صيغ متهجية محددة وأولها العبادة التي تحقق للمتعبد إحساسه الكامل بذاته من خلال عبوديته لله و الوقوف بين يديه .
وخصوصا صلاة الليل التي يتحقق من خلالها التميز المطمئن للنفس لأنه يكون في وقت لا يقف فيه أحد بين يدى الله الا مثل هؤلاء الناس .
والتصور الإسلامي الصحيح هو الذي يرسخ العقيدة في القلب ويثبتها وهو الذي يحدد منهج التعامل بين أفراد الجماعة من ناحية وبين الجماعة و المجتمع الذي تحيا فيه من ناحية أخري .
ولذلك يلزم أن تكون مرحله الاستضعاف متميزة منهجيا بالتأصيل السلفي الذي يحقق الثقة في شرعية المنهج كما ينشئ الطاقة اللازمة لمواجهة طبيعة المرحلة، أي محاولة فردية لمعالجة التناقض بالاستسلام لابد أن تأخذ صيغة منهجية فكان لابد أن يكون هناك التأصيل القادر على مواجهة هذه المنهجية الاستسلامية ولعل الخروج عن المنهج السلفي وعقيدة أهل السنة والانحراف نحو الإرجاء و الفكر الصوفي كانت أخطر الصياغات المنهجية التاريخية الاستسلامية
وقد تكون محاولة إلغاء التناقض محاولة غير منهجية لا يدعوا فيها صاحب المحاولة غيره إليها و لكن منهجيتها تكون قائمة علي التخلي السري عن قضية الجماعة و التحول الي القناعة بقضية المجتمع المعادي وينشأ عن هذا الموقف ظاهرة العمالة التي تُريح العميل من معاناة التناقض بلا حاجة إلى معاناة إقناع الجماعة بمحاولته.
هذا من حيث الإحساس بالتناقض بين الفرد المسلم المستضعف و المجتمع الجاهلي
وبصفة أساسية فإن مشكلة الجماعة المستضعفة في المجتمع الجاهلي مرتبطة في منهج الدعوة بثلاث قضايا:
أولا: قضية وجود المسلم في المجتمع الجاهلي , و الأصل في هذه القضية هو النتيجة الفعلية لهذا الوجود وليس الوجود ذاته، فإذا غلب علي هذا الوجود معني الإقرار للجاهلية كان خطأ .
وإذا غلب علي هذا الوجود معني الإنكار علي الجاهلية كان صوابا .
وتنتفي صفة الإقرار عن وجود المسلم للجاهلية بالاستضعاف .
وتثبت صفة الإنكار بالانتماء إلي الجماعة المسلمة وإعطائها الولاء .. وهذا من حيث الموقف كما تثبت له صفة الإنكار بممارسة الدعوة وما تقتضيه من إنكار لأي منكر وبراءة من كل باطل ... هذا من حيث السلوك،
وثبوت الإنكار علي الجاهلية بالانتماء للجماعة وممارسة الدعوة هو الأصل في الإنكار، أما الاعتزال فهو تصرف اضطراري يثُبت الإنكار بعد اليأس من الاستجابة للدعوة.
إذ لو كان الاعتزال هو الأصل في معني الإنكار لتقرر علي المسلم بمجرد دخوله الإسلام، فيلغي هنا الاعتزال واجب الدعوة وهذا خطأ خطير.
والتحديد العملي لضرورة الاعتزال يؤكد أن الاعتزال أصلا إنما يكون للمنكر وليس للناس في ذاتهم، إذ أن الناس هم موضع الدعوة، بدليل قول الله عز وجل: أَنْ إذا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (النساء: 140)
والأمر بالاعتزال كما هو واضح من الآية معلق بحال الاستهزاء بالآيات، وبمجرد انتهاء حال الاستهزاء يكون القعود للدعوة .
وتأتي كل آيات الاعتزال لتثبت أن الاعتزال إنما يكون باعتبار ما عليه الناس من منكر وليس للناس أصلا .
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ ...  (مريم: 48)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ...  (الكهف: 16).
ويظل اعتزال الناس معلق بحال المنكر الفعلي إلي أن يثبت علي هؤلاء الناس استحالة مفارقتهم للمنكر فتصبح حياتهم بصفة دائمة مثل حال وقوعهم في المنكر الذي يجب اعتزالهم فيها، فيتقرر الاعتزال بصفة دائمة .و حينئذ يكون صواباً
وفي الإحساس بالتناقض بين المسلم والمجتمع الجاهلي الذي يعيش فيه و قواعد التعامل معه يقول الأستاذ سيد قطب لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية. كان يشعر في اللحظة التي يجىء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عمراً جديداً، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية، وكان يقف كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدى الإسلام الجديد. فإذا غلبته نفسه مرة. وإذا اجتذبته عادته مرة، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة .. شعر في الحال بالإثم والخطيئة، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهير مما وقع فيه، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني، كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائياً من بيئته الجاهلية واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية، وعرفها وتصورها وعاداتها وروابطها، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود، وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد، بقيادته الجديدة، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته بل تبعيته، وكان هذا مفرق الطريق، وكان بدء السير في الطريق الجديد، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي، ومن كل التصورات والمبادئ السائدة فيه. ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة، هو في ذات نفسه قد عزم وانتهي ولم يعد لضغط التصور الجاهلي، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل.
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية ... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية. ومراجع إسلامية. وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.
فلابد إذن – في منهج الحركة الإسلامية – أن تتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها، لابد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال. النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة. نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق، وجود الله سبحانه ... ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ولا بد أن نرجع إليه – حين نرجع – بشعور التلقي للتنفيذ والعمل لا بشعور الدراسة والمتاع. نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون، لنكون. وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص وبمشاهد القيامة في القرآن.. وبالمنطق الوجداني في القرآن .. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع، ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول. إن هدفنا الأول أن نعرف: ماذا يريد منا القرآن أن نعمل؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة؟ ثم لابد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة .. صفة الجاهلية .. غير قابل لأن نصطلح معه. إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيراً، إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع، مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسياً بالمنهج الإسلامي. وبالتصور الإسلامي والذي يحرمنا بالقهر
والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش. إن أولى الخطوات إلى طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيراً لنلتقي معه في منتصف الطريق، كلا! إننا وإياه على مفرق الطريق وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق!. وسنلقى في هذا عنتاً ومشقة، وستفرض علينا تضحيات باهظة، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي، ونصره على منهج الجاهلية، وإنه لمن الخير أن ندرك دائماً طبيعة منهجنا، وطبيعة موقفنا، وطبيعة الطريق الذي لابد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد.
معالم في الطريق ... الأستاذ سيد قطب.
• التعذيب والسجون
* التعذيب:
وفي مهنة التعذيب فإن بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات لا يكون إلا بمعرفة إمكانية المواجهة الصحيحه لهذه المحنه .
وأهم عناصر هذه إلا مكانية هو دخول المحنة بالعزم المسبق على مقاومة الانهيار حيث إن دخول مرحلة التعذيب يجعل الفرد في حالة شبه لا إرادية، والعزم المسبق هو الذي يحقق المقاومة.
وهذه الحالة أقرب ما تكون شبهاً بحالة النوم، فإذا أراد إنسان أن ينام وهو عازم على فعل شيء فإن هذا العزم يكون مؤثراً في حال نومه، فيجعله منشغلاً بالموضوع الذي عقد العزم عليه.
وكذلك الأمر في التعذيب حيث ينشئ العزم المسبق نوعاً من الإرادة ومقاومة الانهيار.
ومع العزم المسبق على مقاومة الانهيار ...
ودائماً ترتبط مرحلة الاستضعاف بالسجون و التعذيب حتى أصبح هذا الأمر أخطر أسباب التأثير النفسي في أصحاب الدعوة ولذا كان من الضروري دراسة هذا الأمر.
فقد تراود الإنسان نفسه بالاستسلام. وحدوث هذه المراودة لا يعني فقدان هذا الإنسان ثقته في نفسه، بل عليه أن يؤجل قراره الداخلي بالكلام أطول فترة ممكنة.
وحتى إذا وصل الفرد الممتحن إلى ابتداء مرحلة الانهيار، فإن المقاومة الدائمة ستكون أكبر إمكانيات المواجهة.
و أهم العوامل المساعدة على المقاومة: المتابعة الذهنية عند الفرد لمراحل التعذيب، والغرض المحدد لكل مرحلة أن يبدأ تعذيب الفرد برؤيته لتعذيب الآخرين - كما فعل الملك مع الغلام في قصة أصحاب الأخدود حيث قتل الملك الراهب و الجليس قبل أن يحاول قتل الغلام حتى يراهما يقتلان فتتأثر نفسه بذلك.
و يكون الغرض من هذه المرحلة تحطيم العزم المسبق بعدم الكلام .. وجعل الفرد يدخل محنة التعذيب بلا عزم على الصبر والتحمل والثبات. وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يسبق الدخول في التعذيب وهذا الخوف أشد من آثار التعذيب ذاته.
وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يمكن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها.
* كما إن وصول الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار لا يعني هدم كل خطوط الدفاع النفسية.
* حيث أن هناك خطاً قوياً يجب الانتباه إليه، وهو خط العلاقة النفسية بين الفرد الواقع تحت التعذيب والإفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره، فكلما كان الحب قوياً وشديداً كانت إرادة الصبر والتحمل قوية وشديدة أيضاً.
* وأساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرض سلب الإرادة. ولعل أخطر هذه الأساليب المحققة لهذا الغرض هو الإهانة النفسية .. لإفقاد الفرد كرامته. لأن العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مطردة.
فإذا قويت كرامة الفرد وعزيمته قويت إرادته.
ومن هنا فإن الشعور بالاستعلاء والعزة. من أهم موانع الانهيار وفقد الإرادة، فلا يؤثر السب والبصق والركل بالقدم على الاستعلاء والعزة، بل واليقين بأنك تمتلئ عزة واستعلاء بالقدر الذي يمتلئ فيه من يعذبك حقارة ومهانة.
* والفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب، ولا يبطل هذا الخطر إلا الطمأنينة و السكينة. ولا يحقق الطمأنينة و السكينة إلا الذكر؛ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ إلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: 28).
* وعلى هذا يكون الذكر هو الواجب الأول والدائم على من يقع في محنة التعذيب، كما إن الصيغ المتعددة للذكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعددة للتعذيب.
* فدعاء الدخول على ذوي السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى، والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سبباً في وقوع المحنة، وعندما ترفع الذنوب تذهب أسباب المحنة وتتحقق العافية. ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكرب.
وكذلك التكبير الذي يحقق الشعور بإكبار الله فيهون التعذيب والقائمون عليه ..
وكذلك يهون التعذيب والقائمون عليه أيضاً برضى الله سبحانه.
وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي e في الطائف، وفي نهايته: "إن لم يكن بك سخط على فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لى"(1).
ولعل أهم صيغ الأذكار المناسبة لمحنة التعذيب هي الاستعاذة الواردة في قول النبي e
"أعوذ بك ... أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم"(2)
لأن الانهيار هو الذي يجر السوء على النفس وعلى المسلمين. وفي النهاية فإن ما يذهب بمحنة التعذيب وكأنها لا تكون هو تذكر عذاب الله وعدم المقارنة بين فتنه الناس وعذاب الله كما في قوله سبحانه:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت: 10).
حيث لا وجه للمقارنة.
فعذاب الله يلازمه سخط الله والمهانة الحقيقية، كما إنه يتضاعف، ولا ينفع معه الصبر، وليست له نهاية، وليست منه نجاة. وفتنة الناس و الإيذاء في الله يحقق رضى الله والعزة لمن يؤذى في سبيل الله. كما إن فتنة الناس تضعف وينفع معها الصبر، ولها نهاية ومنها النجاة بإذن الله.
وبعد معالجة مشكلة التعذيب تتقرر حقيقة هامة وهي أن التوكل على الله هو الشعور الذي يدخل به المسلم نتيجة تلك المحنة، وأن التسليم بقدر الله هو الشعور الذي يتقبل به نتيجة تلك المحنة حيث إن محنة التعذيب مع ما ذكر من عناصر لمعالجتها هي في النهاية بيد الله وحده.
* السجون:
الواقع أن السجن فكرة شيطانية. .
لأن الشيطان لا يريد أن يموت المسلم على إسلامه فقد يتحمل الإنسان مراحل التعذيب و لكن تأتى مرحلة السجن أشد عليه من مرحلة التعذيب لأن السجن معناه هو فقد المعنى الخاص بالحياة و فقد الخصوصية المعيشية هذا بصفة عامة ...
ولذلك نجد تصرفات القائمين على السجن هادفة إلى أن لا يعتاد السجين حياته في السجن و أن لا يألفها فمن أجل ذلك تكون التنقلات الكثيرة حتى تحرم المسجون من الاستقرار و السكينة.
ثم يكون اختيار العناصر غير المتجانسة في العادات و التقاليد و الأفكار و الأهداف في تجمعات واحدة (زنزانة أو عنبر) حتى لا يحدث التآلف و الوفاق.
إن فترة السجن شبيهة بفترة البرزخ التى يكون فيها الانسان غائباً عن الدنيا و لذلك يمكن الاستفادة بهذا الإحساس في تقوية الاستعداد للآخرة فيتخيل الانسان نفسه و كأنه في برزخ.
وشعور السجين بغيابه عن الدنيا يعالجه اليقين بأنه هو وجميع من في السجن وجميع القائمين على السجن ليسوا غائبين عن الله ...
ويعالج هذا الشعور في نفس الأخ السجين ... قول الله عز وجل: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ فالله يريد أن نعلم قدر علم الله فهذه الورقة الصغيرة التى تتهاوى من شجرة في هدأة الليل و ظلمته يعلمها الله و هو الذى قدر سقوطها فيبث ذلك في قلب السجين طمأنينة أنه ما دخل هذا السجن إلا بعلم الله و قدره فهو عندما يأكل اللقمة و يشرب شربة الماء و يأخذ النفس في هذا المكان يكون ذلك بقدر الله و بعلمه.
وبذلك تكون حياه السجين المسلم كلها أجر ..
وقته، طعامه و شرابه، نومه، ويقظته، و عمره ..
ويكون السجن هو أجر العمر .
وعندما يعلم أنه لا تغيب حبة في ظلمات الأرض عن الله فانه يوقن أنه لا يغيب في ظلمات السجن عن الله فالمسلم السجين في كتاب مبين. لأنه لا حدث في الكون إلا في كتاب مبين .
وليكن كل سجين مسلم وثيقة من وثائق اليقين و الثبات و هذا عطاء السجناء.
وقد يعانى السجين من الحرمان من الحرية و الحركة
والحقيقة أن معالجة هذا السبب يتطلب مناقشة سريعة لمفهوم الحرية. . .
فعندما قالت أم مريم إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كانت تقصد خالصاً و هذا ما أورده الطبري في كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن بقوله: عن مجاهد: {إني نذرت لك ما في بطني محررا} قال: خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.
و هذا هو "الحر" الخالص لله ...
فالحرية مفهوم مرهون بالحركة و الغاية من الحركة ... و هي العبودية لله.
والذين لا يفهمون يقيدون حرية المسلم بحرمانه القدرة على الحركة كما يريد هو و هذا مفهوم خاطئ فالحرية هي الحركة كما يريد الله و بمقدار التزامك بمراد الله تكون خالصاً محرراً
فعندما تدعوا إلى دين الله و تسجن تكون كما أراد الله ..فتكون حراً.
وعندما لا يتحكم فيك هواك تكون حراً.
وعندما لا تخضع لغير الله تكون حراً‏.
أما الحركة كلها .. فهي التحول أو الحول (و لا حول و لا قوة إلا بالله).
فعندما يرى المسلم السجين نفسه لا يستطيع أن يخطو خطوة إلا بأمر السجان يجب أن يتذكر أنه لا حول له و لا للسجان و لا لجميع الخلائق فنواصي العباد جميعهم بيد الله و هذا معنى (لا حول و لا قوة إلا بالله).
إن إحساس المسلم السجين بالخارج يفسره ابن تيميه تفسيراً رائعاً عندما كان يغلق عليه السجان باب زنزانته فيقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ...
فكان يقول: "بستاني في صدري ..." فليس له تعلق بالخارج.
بستانه في صدره ...
البستان هو المكان الجميل الواسع الذي يسعد من فيه، كل ذلك في صدره في قلبه في عبادته في تلاوته في أذكاره، اطمئنانه إلى رضا الله عنه.
وعندما يشعر السجين المسلم بالحرمان من الحركة في الأرض و معايشة آيات الله الكونية فهذا الأمر يعالجه .. الوصول المباشر إلى الغاية من الحركة و الغاية من المعايشة الكونية للآيات و هي ذكر الله.
إن الارتباط بين الذكر و تدبر الآيات الكونية حقيقة نفسية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألباب * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران: 190،191)
فأنت تستطيع إذا ذكرت الله ..في السجن أن تستمتع بمتعه الرؤية الكونية كاملة .لأن هذه الرؤية غلبتها ذكر الله التي تبلغها في سجنك
وأنت عندما تذكر الله تتحقق في قلبك المتعة الكاملة فأنت عندما تقول في زنزانتك المظلمة. .. "أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ e وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ"(1)
فيتحقق فيك أثرا أقوى من رؤيتك للصبح إذا ظهر.
إن معاناة المسلم في سجنه تنشأ عن أسباب محددة أهمها:
الإحساس بحرمانه من دوره في الدعوة:
وهذا السبب تعالجه سورة الكهف إذ أوى الفتية إلى الكهف فلقد كان الدور المحدد للفتية هو إعلان العقيدة والولاء ...
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض ..  العقيدة.
 ... لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً الموقف.
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تقييم الواقع بمقتضى العقيدة
ثم كان الضرب على آذانهم سنين عددا.
كان دورهم بعد إعلان موقفهم هو البقاء في الكهف. . بلا حركة .. و لا كلام .. و لا تفكير فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً.
ولكن هذا الدور كان سبباً في إيمان أمتهم ..
فقد تعلم الناس منهم التوحيد ..
والثبات عليه في أنفسهم ..
والمفاصلة عليه مع الناس.
وكان هذا الدرس كاملاً و كافياً .. ليؤمن الناس.
ونفس قصة الفتية تعالج أمراً آخر من أمور السجن و هو الضيق و عدم الاتساع.
إن الله قادر على أن يملأ الإنسان إحساساً باتساع المكان الذي يعيش فيه و لذلك يقول الله سبحانه وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً و النشر لا يكون إلا في الاتساع و الفضاء و الأفق وكل ذلك يكون مع أخوه السجن كما كان مع فتية الكهف.
ب- التمكين:
إذا كان الابتلاء هو التجربة النفسية للتربية الكاملة فإن ارتباط الابتلاء بالتمكين يجب أن يكون امتداداً للتجربة النفسية من هذا الابتلاء أصلاً و هذا الامتداد يعنى الاستفادة من النتيجة النفسية لتجربة الابتلاء في تحقيق مقتضيات التمكين.
وأول هذه المقتضيات هو أن يكون الناجون من فتنة الابتلاء و الاستضعاف هم أحق الناس بالمكانة في واقع التمكين
هو أن يكون للمستضعفين في زمن الحركة ... الولاية في نظام الدولة .. وذلك لأن الدولة والسلطة فتنة لا تعطي إلا لمن لا تضره بإذن الله .. والمستضعفون هم الذين عرضت على قلوبهم الفتن كالحصير عودًا عودًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث(1) .
فالمستضعفون هم الذين لا تضرهم الدنيا والسلطان بعد أن مروا بمرحلة الاستضعاف ..
ومن ناحية ثالثة .. فإن توليه المستضعفين وهم خير من حفظهم الله من فتنة السلطة سيكونون خير من يحفظون أمانة السلطة.
وهذه خطبة عتبة بن غزوان التي تمثل الوثيقة السياسية التي يتأكد منها منهج الدعوة في الانتقال من مرحلة الحركة إلى مرحلة الدولة .
خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، قال: أما بعد: فإن الدنيا قد أذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها ؛ فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، و والله لتملأن، أفعجبتم، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة ؛ وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله e ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكاً فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا(1) .
ومن تحليل الوثيقة يتبين: كيف أن الولاية لم تؤثر في إيمان الولاة وارتباطهم بالآخرة واحتقارهم لشأن الدنيا، وكيف أن الولاية لم تنس الولاة فترة الاستضعاف وأنها لا زالت هي الفترة التي تملأ عقله ووجدانه ولم تزحزحها عن ضميره ممارسة الحكم. وكيف أن الولاية لم تصبه بأمراضها فنراه يستعيذ بالله أن يكون في نفسه عظيماً وعند الله صغيراً، وكيف أن الولاية مرحلة ستمر ولن تبقى لهم وأنه سيأتي ولاة آخرون محددو الصفات والمعالم .
وهناك ظاهره نفسيه مرتبطة ارتباطا وثيقا بحاله التمكين و هى ظاهره النفاق.
- النفاق: هي الظاهرة التي تنشأ نتيجة للتمكين .. و التصوير القرآني لحالة النفاق هو أدق تفسير نفسي لهذه الحالة:
إظهار غير ما يبطن: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة: 8).

الخداع: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
(البقرة: 9).
مرض القلب: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (البقرة: 10).
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاَرَاً ..  أى إظهار المنافق غير ما يبطن بقصد و القصد ثابت و هو الخداع للذين آمنوا. أو كصيب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، و الله محيط بالكافرين. يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا، و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم إن الله على كل شىء قدير. إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب. فيه تيه و ضلال، و فيه هول و رعب، و فيه فزع و حيرة و فيه أضواء و أصداء. . صيب من السماء هاطل غزير فيه ظلمات و رعد و برق .. كلما أضاء لهم مشوا فيه .. و إذا أظلم عليهم قاموا .. أى وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون. و هم مفزعون: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت .. إن الحركة التى تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات و الرعد و البرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات الوجلة، التى تقف عندما يخيم الظلام .. إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق الاثر الايحائى - حركة التيه و الاضطراب و القلق و الأرجحة التى يعيش فيها أولئك المنافقون .. بين لقائهم للمؤمنين، و عودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى و نور و ما يفيئون إليه من ضلال و ظلام .. فهو مشهد حسى يرمز لحالة نفسية، و يحسم صورة شعورية، و هو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس(1).
العلاجات النفسية الشرعية
والعلاج النفسي في الدراسه إلاسلاميه يقوم على إلاساس العام للعلاج وهو قول الله وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة غير أن التفسير الأساسى للفاعلية الكونية القرآنية هو مضمون الحق. ومثال الفاعلية القرآنية الذى يؤكد الارتباط بين مضمون الحق في الآيات و فاعليتها من خلال اشتمال الفاتحة على مضمون الحق الكامل، و فاعليتها الكونية الثابتة، فيقول ابن القيم في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل و النحل والرد على أهل البدع و الضلال من هذه الأمة: و هذا يعلم بطريقين مجمل ومفصل:
أما المجمل فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق، وإيثاره، و تقديمه على غيره، و محبته، و الانقياد له، و الدعوة اليه، و جهاد أعدائه بحسب الإمكان .
والحق هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه، وما جاء علما و عملا في باب صفات الرب سبحانه و أسمائه و توحيده و أمره و نهيه ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان التى هى منازل السائرين إلى الله تعالى، وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون آراء الرجال و أوضاعهم و أفكارهم واصطلاحاتهم .
فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، و عليه السكة المحمدية بحيث يكون ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم. وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب و الضلال. فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاثة طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وكما جاء به، وطريق أهل الغضب وهى طريق من عرف الحق و عانده، و طريق أهل الضلال وهى طريق من أضله الله عنه. و لهذا قال عبد الله بن عباس و جابر بن عبدا لله: [الصراط المستقيم هو الإسلام] وقال عبدا لله بن مسعود وعلى بن أبى طالب: [هو القرآن] وفيه حديث مرفوع في الترمذى وغيره. وقال سهل بن عبدا لله: [طريق السنة والجماعة]. وقال بكر بن عد الله المزنى: [طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم]. ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله و أصحابه علما و عملا وهو معرفة الحق و تقديمه وإيثاره على غيره، هو الصراط المستقيم، وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه، جامعه له. فهذا الطريق المجمل يعلم به أن كل ما خالفه فهو الباطل، وهو من صراط الأمتين أمة الغضب و أمة أهل الضلال. وأما تضمنها لشفاء الأبدان فنذكر فيه ما جاءت به السنة وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة، ففي الصحيح من حديث أبى المتوكل الناجي عن أبى سعيد الخدري أن ناسا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم مروا بحى من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا: هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم ولكنكم لم تقرونا، فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا. فجعلوا لهم على ذلك قطعا من الغنم، فجعل رجل منا يقرأ عليه الفاتحة، فقام كأن لم يكن به قلبه فقلنا لا تعجلوا حتى نأتى النبى صلى الله عليه وسلم فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال: "ما يدريك أنها رقية كلوا واضربوا لى معكم بسهم"(1).
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء، وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء، وهذا مع كون المحل غير قابل، واما لكون هؤلاء الحي غير المسلمين، أو أهل بخل ولؤم فكف إذا كان المحمل قابلا؟!
ثم يأتي الموضوع المباشر للاستشهاد بقول ابن القيم.
ومنكر هذا ليس معدودا من بنى آدم إلا بالصورة والشكل فإذا قابلت النفس الزكية العلية الشريفة التى فيها غضب و حمية للحق هذه النفوس الخبيثة السمة، و تكيفت بحقائق الفاتحة و أسرارها ومعانيها، وما تضمنه من التوحيد، و التوكل، والثناء على الله، وذكر أصول أسمائه الحسنى، وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا إزالة ومحققة، ولا على خير إلا نماه وزاده دفعت هذه النفوس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية، فحصل البرء، فان مبنى الشفاء و البرء على دفع الضد بضده، و حفظ الشيء بمثله فالصحة تحفظ بالمثل و المرض يدفع بالضد، أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا. ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة، وقبول من الطبيعة المنفعلة. فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية، ولم تقو نفس الراقي على التأثير لم يحصل البرء.
فهنا أمور ثلاثة:
موافقة الدواء للداء و بذل الطبيب له وقبول طبيعة العليل .
فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء، وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولابد، بأذن الله سبحانه وتعالى .
ومن عرف هذا، كما ينبغي تبين له أسرار الرقي. ويميز بين النافع منها و غيره، ورقي الداء بما يناسبه من الرقي، و تبين له أن الرقية براقيها و قبول المحل، كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع. وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظرة و حسن تأمله والله أعلم . أما المنهج العام للعلاج فهو الوحى و التجربة كما قال ابن حجر في فتح البارى في شرح العلاج بالسعوط في قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بهذا العود الهندى فان فيه سبعه أشفيه يستعط به من العذرة و يلد به من ذات الجنب"(1)
قال ابن حجر:
كذا وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنتين وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحى وما ذاد عليها بالتجربة وفي ذلك يقول ابن القيم و أما شهادة التجارب بذلك فهى أكثر من أن تذكر، وذلك في كل زمان. وقد جربت أنا (الكلام لابن القيم) من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولاسيما مدة المقام مكة، فانه كان يعرض لى الام مزعجه بحيث تكاد تقطع الحركة منى، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح على محل ألألم فكأنه حصاة تسقط. جربت ذلك مرارا عديدة، وكنت آخذ قدرا من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مرارا، فأشربه فأجد به النفع و القوة ما لم أعهد مثله في الدواء. والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان...
هذا من جهة منهج العلاج أما من جهة من يتلقى العلاج ففيه شرط واجب وهو حسن الظن بالله ... ودليله قول رسول الله e عن رب العزة: "أنا عند ظن عبدي بى"(1).. فالله سبحانه وتعالى بقضائه وقدره وقدرته؛ عند ظن العبد به ... وعوامل تحقيق حسن الظن بالله... تقوم أساساً على إلالفاظ.. التي تكون مثل الفأل بالألفاظ. وباعتبار أثر الألفاظ في تحقيق الفأل وحسن الظن. كانت أدعية الرسول e بالشفاء من إلامراض، قائمة على ألفاظ الشفاء بصورة متكررة ... مثل "اللهم رب الناس، مذهب البأس اشف أنت الشافي، فإنه لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً"(2) ...
وبعد الأساس العام للعلاج النفسي يكون العلاج من خلال عده اتجاهات
1 ـ الرقي الشرعية المتعلقة بالأحوال النفسية مثل الرقية من الجنون والأرق
وفيه هدى النبى صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع والأرق المانع من النوم عن بريدة قال: شكى خالد إلى النبي e فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الارق، فقال النبي e "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، كن لى جاراً من شر خلقك كلهم جميعاً أن يفرط على أحد منهم أو يبغي عليّ , عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك"(1) وأيضاً فإن رسول اللهe كان يعلم أمته الوقاية من الفزع: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون"(2).
2 ـ الطب النبوى و أهمه قول الله في العسل فيه شفاء للناس وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان الشفاء ففي ثلاثة؛ شربة عسل وشرطة محجم وكيه نار وأنهى أمتى عن الكى"(3). و كذلك قوله "الحبة السوداء فيها شفاء من كل داء"(4)
ومثاله في العلاجات النفسية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "التلبينة تذهب ببعض الحزن"
(العلاج من الاكتئاب) العلاج بالتلبينة: "دقيق الشعير بنخالته".
وكان من هديه e تغذية المريض بألطف ما يعتاده من الأغذية، واستخدامه الغذاء كدواء. ففي "الصحيحين" من حديث عروة عن عائشة: أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، واجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلى أهلهن؛ أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، وصنعت ثريداً، ثم صبت التلبينة عليه، ثم قالت: كلوا منها؛ فإني سمعت رسول اللهe يقول: التلبينة مَجَمَّة لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن "(1) (أخرجه البخاري ومسلم).
وعنها: كان رسول الله e إذا قيل له: إن فلاناً وجع لا يطعم الطعام؛ قال: عليكم بالتلبينة فحسوه إياها "، ويقول: "والذي نفسي بيده؛ إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ"(2). (رواه أحمد). و التلبين: هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن، ومنه اشتق اسمه. متخذ من دقيق الشعير بنخالته. قال الهروي: سميت تلبينة لشبهها باللبن لبياضها ورقتها. قال ابن القيم: وهذا الغذاء هو النافع للعليل، وهو الرقيق النضيج، لا الغليظ النيئ، وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة، فاعرف فضل ماء الشعير، بل هي ماء الشعير لهم، فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته. والمقصود: أن ماء الشعير مطبوخاً صحاحاً ينفذ سريعاً، ويجلو جلاء ظاهراً، ويغذي غذاءً لطيفاً، وإذا شرب حاراً كان جلاؤه أقوي، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق. وقوله صلى الله عليه وسلم فيها: " مَجَمَّة لفؤاد المريض "(3) يروى بوجهين: بفتح الميم والجيم، وبضم الميم وكسر الجيم. والأول أشهر، ومعناه: أنها مريحة له؛ أي: تريحه وتسكنه، من الاجمام، وهو الراحة.
وقوله: " تذهب ببعض الحزن" هذا - والله أعلم - لأن الغم والحزن يبردان المزاج، ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها، وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادة مادتها، فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن.
وقد يقال - وهو الأقرب:- إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية، والله أعلم.
وقد يقال: إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليُبس على أعضاءه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء ... ، وهذا الحساء يرطبها، ويقويها، ويغذيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريض كثيراً ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ويحدره، ويميعه، ويعدل كيفيته، ويكسر سورته فيريحها، ولاسيما لمن عادته الاغتذاء بخبز الشعير، وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك، وكان هو غالب قوتهم وكانت الحنطة عزيزة عندهم. والله أعلم.
روى ابن ماجة من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله e إذا أخذ أحداً من أهله الوعك؛ أمر بالحساء من الشعير فصنع، ثم أمرهم فحسوا منه، ثم يقول: "إنه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها"(1). (أخرجه ابن ماجة).
ومعنى يرتوه: يشده ويقويه. ويسرو: يكشف ويزيل.
وقد تقدم أن هذا هو ماء الشعير المغلي، وهو أكثر غذاء من سويقه، وهو نافع للسعال، وخشونة الحلق، صالح لقمع حدة الفضول، مدر للبول، جلاء لما في المعدة، قاطع للعطش، مطفئ للحرارة، وفيه قوة يجلو بها ويلطف ويحلل.
وصفته: أن يؤخذ من الشعير الجيد المرضوض مقدار، ومن الماء الصافي العذب خمسة أمثاله، ويلقى في قدر نظيف، ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى منه خمساه،ويصفي، ويستعمل منه مقدار الحاجة مُحَلا.ً (و هذا في الشعير الحصى) (زاد المعاد – لابن القيم).
علاقة الشعير بأمراض القلب وضغط الدم والكوليسترول:
لكي تعرف أهمية الشعير للقلب و الأوعية الدموية يجب علينا معرفة خطر زيادة نسبة الكوليستول في الدم على القلب والدورة الدموية.
يتميز الشعير بفاعليته الفائقة في تقليل مستويات الكوليسترول في الدم بما يحتويه من مركبات كيميائية لذلك يعتبر الشعير علاجاً لأمراض القلب.
الشعير وأمراض ضغط الدم: أكدت الأبحاث أن تناول الأطعمة التي تحتوى على عنصر البوتاسيوم تقي من الإصابة من ارتفاع ضغط الدم، ويحتوى الشعير على عنصر البوتاسيوم؛ حيث إن البوتاسيوم يخلق توازناً بين الملح والمياه داخل الخلية.
وكذلك فإن الشعير له خاصية في إدرار البول حتى إن هناك أدوية تعمل على إدرار البول، وهي أشهر إلادوية المستعملة لمرضى ضغط الدم.
وفي ضوء قول رسول الله e "التلبية تذهب ببعض الحزن" يمكن تفسير علاقة الشعير بالحزن و ذلك باعتبار أن الاكتئاب هو الحد النهائي للحزن

فالاكتئاب خلل كيميائي و على أساس هذه الحقيقة العلمية تكون علاقة البوتاسيوم بالاكتئاب:
ففي حالة نقص البوتاسيوم يزداد شعور إلانسان بإلاكتئاب والحزن، ويجعله سريع الغضب والانفعال والعصبية.
وتشير الدراسات العلمية أن المعادن مثل البوتاسيوم والماغنسيوم لها تأثير على الموصلات العصبية التي تساعد على التخفيف من حالات إلاكتئاب، وتحتوى حبة الشعير على عنصر البوتاسيوم والماغنسيوم.
فيتامين:"B" و الاكتئاب:
تقول إحدى التقارير العلمية: يشعر الإنسان بالميل للاكئئاب، وقد يكون أحد مسببات أعراض الاكئتاب هو تأخر في العملية الفسيولوجية لتوصيل نبضات الأعصاب الكهربية، وهذا يسبب نقص فيتامين B. ولذلك يجب مراعاة زيادة الكمية المأخوذة من بعض المنتجات، وأشار التقرير العلمي إلى أن الشعير ضمن هذه المنتجات.
مضادات الاكسدة و الاكتئاب والشيخوخة:
(إن إعطاء جرعات مكثفة من مجموعة معينة من العقاقير التي تعرف باسم مضادات الأكسدة (فيتامين E - A)، تساعد في شفاء حالات الاكتئاب لدى المسنين في فترة زمنية قصيرة تتراوح من شهر إلى شهرين، وتمتاز حبة الشعير بوجود مضادات الأكسدة، مثل (فيتامين E - A).
ويوصف الشعير لأمراض الصدر (السل، الرشح المستعصي)، ولأمراض الضعف العام، وبطء النمو (عند إلاطفال)، وضعف المعدة والامعاء، وضعف الكبد، وضعف إفراز الصفراء، كما يوصف لالتهاب الامعاء، وكذلك أمراض التهابات المجاري البولية (التهاب المثانة، التهاب الكلى) والحميات وارتفاع ضغط الدم،كما إن مغلي الشعير يستعمل (غرغرة)(1).
3 ـ الطب التقليدي: ويرجع فيه للاطباء المتخصصين ودليل ذلك شرعا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "عباد الله تداووا فما من داء إلا له دواء"(2)
وفي مجال الطب التقليدى يجب الحذر من أى مخالفه شرعيه والحذر من أى تداوى محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما جعل الله شفاء أمتى في ما حرم عليها"(3)
ومن الأسس العامة في العلاج النفسي ... ضرورة التفريق بين المرض النفسي وأمراض الشيطان مثل المس أو السحر .. لان الأعراض بينهما مختلطة (كلام ابن حجر)
وعناصر التفريق تبدأ من إثبات نوع المرض النفسي بأساليب الطب النفسي بالفحوصات الطبية و التحاليل.
فاذا أثبتت الأشعة مثلا بؤره صرعيه في المخ ...
فلا يصح أن اعتبر هذا الصرع (شيطاني)
وإذا كان هناك صرع (شيطان) ولم يثبت له أى سبب طبي فلا يصح أن نعتبره مرضا نفسيا.
ومن الضرورى في هذا التفريق التأكيد علي شواهد المرض النفسي أو الشيطاني واثبات حقيقة المرض بصوره قاطعه ..
وقد تكون هناك شواهد مشتركه بين المرض النفسي والشيطاني فلا يؤسس عليها مثل الصداع.
ومن أمثله الشواهد القاطعة المثبتة للمرض في المخ ... البؤرة الصرعيه الثابتة في الأشعة ومن أمثله الشواهد القاطعة في أمراض الشيطان الأحلام المفزعة المتكررة. (الكوابيس) أو رؤية خيالات في المرض الشيطاني.
كما أن هناك شواهد للأمراض الشيطانية متعلقة بالحالة بصوره خاصة مثل أن ترى البطن تنتفخ بصوره غير طبيعية و ترتفع بصوره خطيرة جدا بحيث لا يمكن ولا يجوز أن نعتبرها حاله مرضيه طبيعية.
بل يجب البحث عن شواهد أخرى للتفريق.

القسم الخامس
في النفس والدعوة

(أ) الإنسان الداعية:
1- حتمية الأداة الإنسانية.
2- الإنسان مخلوق رسالي.
3- المنهجية الإنسانية (الحكمة).
4- الفاعلية الإنسانية.
5- منطلق الفاعلية (الدعوة و الذات).
(ب) الإنسان موضع الدعوة (المدعو):

1- سنن الاستجابة.
2- أسس التعامل.
(جـ) المعنى الإنساني فى دعوة النبى 

في النفس والدعوة
والآن وبعد ما سبق تبدأ دراسة النفس في واقع الدعوة، حيث نبدأ بالتعريف النفسي للدعوة من خلال عملية تحليلية لظاهرة الدعوة باعتبارها ظاهرة إنسانية،
فالتفسير النفسي للدعوة هو امتلاء كيان الإنسان المسلم بالإيمان، ثم إفاضته بعد الامتلاء على غيره. وامتلاء كيان الإنسان المسلم؛ ليست عبارة أدبية، ولكنها حقيقة واقعية تمثلت ليلة الإسراء والمعراج بشق صدر رسول الله ، ثم ملئه حكمة وإيماناً(1). وهذا التفسير ينشئ عدة ضوابط في واقع الدعوة.
أن يكون كل أثر للإنسان الداعية إفاضةً على غيره، وهذا يعني أن أي محاولة للتأثير لا تأتي من عمق كيان الداعية لا تعتبر سلوكاً طبيعياً للدعوة.
وتفسير الدعوة بالامتلاء ثم الإفاضة يعني أن أي نقص في الداعية لا يتفق مع التفسير الطبيعي للدعوة، لأن الامتلاء والإفاضة لا يتحققان بالنقص بل بالزيادة،
وأن نقل النصوص من الإنسان الداعية إلى غيره لا يدخل في المعنى الصحيح للدعوة إلا بعد أن تنشأ مرحلة التفاعل مع النص والالتزام به ثم الاتجاه بالمحصلة الكاملة للتفاعل إلى من هم موضع دعوته.
والآن تبدأ القضية، تبدأ بالترتيب الطبيعي لكل المقدمات السابقة.

(أ) الإنسان الداعية:
1- حتمية الأداة الإنسانية:
وهي في واقع الدعوة أول الضرورات ذلك أن إنسانية الأنبياء حكم رباني لا راد له: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أهل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وحتى لو كان الأمر يتطلب من حيث القدرة على المهمة أن يكون النبي ملكاًً لكانت صورة هذا الملك هي أيضاً رجل ..
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (الأنعام: 9).
إذن فإنسانية الأنبياء حتمية قدرية ..
والأنبياء هم أول الدعاة.. وبداية الدعوة ..
وتحديد التصور القدري للبلاغ يقوم على أساس أن المبلغ عن الله (بين الله وعباده) ومن هنا يجب أن يكون أداة صالحة، ولذلك يقول ابن القيم في قول الله واصطنعتك لنفسي: بمعنى الاصطفاء لموسى. والاصطناع في الأصل اتخاذ الصنيعة، وهي الخير تسديه إلى غيرك.
قال ابن عباس: اصطنعتك لوحيي ورسالتي.(1)
وقال الكلبي: اخترتك بالرسالة لنفسي لكي تحبني وتقوم بأمري.(2) قال أبو إسحاق: اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي.(3) (مدارج السالكين ص 123 ج 3).
وتلك هي الضرورة الإنسانية للدعوة.
ومن أجل تلك الضرورة خلق الله الإنسان مهيأ للدعوة حاملا فى كيانه خصائص حمل الرسالة ..
2- الإنسان مخلوق رسالي:
ومما يجب إدراكه أن كل العوامل المجتمعة في عملية خلق الإنسان لها أثر مستمر دائم وباق معه، فمن ذلك أن خلق آدم عصر يوم الجمعة هو الأساس في تفسير قول الله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر).
فدل ذلك على الارتباط بين أحسن الزمن وبين الإنسان في أحسن أفعاله. لأن الرسول  أخبر أن خير الوقت هو عصر الجمعة حيث روى مسلم فى صحيحه عن أبي هريرة.(1)
قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ" والواقع أن هذه العناصر هي التي تشكل شخصية الداعية "الإنسان صاحب الرسالة"، وعلى هذا الأساس يكون الإنسان في خسر إذا خرج عن مجال هذه العناصر .. وعلى هذا الأساس أيضاً يتقرر القول في تعريف الإنسان بأنه مخلوق رسالي ..
هذا من حيث زمن الخلق...
أما من حيث مادة الخلق .. فتأتي سورة التين.
وفي سورة التين يرتبط معنى الإنسان من حيث أصل تكوينه وصورته الكاملة بمعنى الرسالة..فذكر أحسن النبات التي تنبته الأرض وهو التين والزيتون..وأحسن الأرض التي تم اللقاء فوقها بين الله والإنسان "طور سينين"، وأحسن البقاع التي باركها الله وهي البلد الأمين .. مع تمام خلق الإنسان في أحسن تقويم .. ثم كانت الردة الإنسانية عن تلك المكانة إلى أسفل سافلين .. ثم العودة إلى المكانة الأصلية من خلال الإيمان والعمل الصالح. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (التين).
لتكون بعد ذلك (الحكمة) التى تجتمع فيها كل خصائص الرسالة فى الإنسان و التى يتحدد بها المنهج الإنسانى الصحيح لممارسة الدعوة.
***
3- المنهجية الإنسانية (الحكمة):
واتفاقا مع قاعدة أن الإنسان مخلوق رسالى فقد أورث الله تعالى الحكمة آدم وبنيه. الرجل الكامل: من له إرث كامل من أبيه، ونصف الرجل – كالمرأة – له نصف ميراث. والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله.
وأكمل الخلق في هذا: الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. وأكملهم أولو العزم وأكملهم محمد . ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه، وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة، كما قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شيء وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (النساء: 113). وقال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة:151).
فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة، وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه: الإخلال بها.
فأكمل الناس: أوفرهم منها نصيباً. وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال: أقلهم منها ميراثاً.
وللحكمة ثلاثة أركان: العلم والحلم والأناة.
وآفاتها وأضدادها: الجهل والطيش والعجلة فيقول ابن القيم: (.. فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول، والله أعلم)..
غير أن أهم أخلاقها: التواضع. ويقول الإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك في الاعتصام نقلاً عن الإمام الغزالي: (أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعجب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء).(1)
ومن هذا القول يتبين أهمية التواضع بالنسبة للدعاة، وخطورة العجب والتعالي على الناس. ويحدد ابن القيم برنامجاً تربوياً للدعاة يحقق فيهم صفة الحكمة التي تحقق بدورها في الدعاة صفة التجرد للدعوة.
وإذا كانت الحكمة هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي.. فإن تفسير هذه العبارة سيكون من خلال البرنامج المقترح من ابن القيم للمسلمين لتحقيق كمال الطاعة والعبادة.
والملاحظة الأساسية في هذا البرنامج أنها مقتضى حب الله والصبر على طاعته، وهي التحبب إلى الله بالنوافل تقابلاً مع المعاناة في أداء الفرائض، والإخلاص في النصيحة تقابلاً لمن لا تتجاوز إرادته حدود نفسه بل تقل عن تلك الحدود.
والتعرض لكل سبب يوصل إليه تقابلاً مع المعاناة في أداء الفرائض، والإخلاص في النصيحة تقابلاً مع السعي لتفادي الواجب والتكليف بالعلل والمعاذير.
والقناعة بالخمول وهو عدم الشهرة، والقناعة بعدم الشهرة هو مقتضى
الإخلاص، والسعي إلى الشهرة يتنافي مع الإرادة لتعلقها بالإخلاص.
وهذه الحقيقة تنبهنا إلى خطأ خطير في مجال التربية وهو استثارة حب الظهور والمدح، وهو أسلوب غير شرعي لتوليد الإرادة في كيان الإنسان، والإرادة الصحيحة لا تؤثر فيها الأيام، أما من لم تصح إرادته ابتداءً فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدباراً، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
والقصد أن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلي درك النقيصة، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال، فإذا أضاعه لم يبق في موضعه، بل ينزل من النقص فإذا لم يكن فى تقدم فهو متأخر.
فالعبد سائراً لا واقفاً، فإما إلي فوق و أما إلي أسفل، إما إلي أمام وإما إلي وراء، وليس في الطبيعة، و لا في الشريعة وقوف البتة. (مدارج السالكين ج1 ص202)
ومن خلال هذا البرنامج أيضاً يحدد ابن القيم الأساس المحقق لمعنى أن تكون حياة الإنسان لدعوته، فنجد ذلك قائماً على حقيقة الإرادة فيقول: "من علامات الإرادة أن يكون نومه غلبة، وأكله فاقة، وكلامه ضرورة". وهذه العلامات قائمة على معنى أن تكون حياة صاحب الإرادة لدعوته.
ثم نأتي إلى الصيغة العملية للحياة التي تكون لله سبحانه، فنجد ذلك قائماً على حقيقة العبادة إذ يقول: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.
فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة ذهاب الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً: القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك عن أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعهما على أكمل وجه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام العشر من ذي الحجة: الإكثار من التعبد لاسيما التكبير والتهليل و التحميد.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة فيه والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وإيذاء الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ خير من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، فهذه أفضل العبادة وهذا دأب صاحبها في السير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم. حُر مجرد دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل. كالغيث؛ حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة فيه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله.
وبتمام الحكمة يتحقق أقصى حد للفاعلية الإنسانية فى واقع الدعوة.
4- الفاعلية الإنسانية:
وفاعلية الإنسان الداعية تكون من حيث الطبيعة والفهم والمشاعر، ولهذه الفاعلية أثرها الهائل في الفكر والمنهج والحركة.
فمن حيث الطبيعة: فالإنسان بطبيعته يحب أن يكون الناس على ما هو عليه. ومثال ذلك أن عائشة رضى عنها كانت تحب أن تزوج نسائها في شوال قائلة: إنه الشهر الذي تزوجت فيه من رسول الله .
وهذه أخص خصائص الطبيعة الإنسانية.
وهذا مجرد مثل لتلك الطبيعة.
ولكن الطبيعة الإنسانية تبلغ حدها النهائي اللازم لممارسة الدعوة ببلوغ مرحلة الربانية، وهي المرحلة التي يتوافق فيها الإنسان بطبيعته مع الحق ليصبح الإنسان بذاته وكل حياته دليلاً على الحق والدعوة إليه. وعندئذٍ يكون الإنسان ربانياً.
ومن هنا ارتبطت مرحلة الربانية بالدعوة في قول الله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ...  (آل عمران: 79).
وأول ما ينشأ عن الطبيعة المتوافقة مع الحق .. الفهم الإنساني الصحيح.
ومن حيث الفهم؛ فالإنسان بفهمه هو الذي ينشئ الحقائق المنهجية في الدعوة. ولذلك يقول علي بن أبى طالب: "ما ترك رسول الله  إلا كتاب الله، وفهماً أتاه الله إنساناً في كتاب"(1).
والحد النهائي للفهم هو كمال العلم. وكما إن الفهم كانت له طبيعته الإنسانية؛ كان العلم كذلك له طبيعته الإنسانية.
ولذلك كان الإنسان أول ضرورات العلم ولوازمه إلى درجة بين فيها النبي  أن نزع العلم لا يكون إلا بموت العلماء، ولا انفصال بين العلم والعالم إلا بالموت. قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"(1). ونلاحظ في هذا الحديث تسمية الذين يفتون بغير علم "رؤوساً" لأنهم يتكلمون من عند أنفسهم ويبتدعون برؤوسهم ما لم يأذن به الله. إن الفاعلية الإنسانية في واقع الدعوة يمثلها بصفة أساسية الحديث الذي رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "و الذي نفسي بيده إن مثل المؤمن كمثل النحلة، أكلت طيباً ووضعت طيباً، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد".(2)
إن المثل الذي ضربه رسول الله  هو مثل الإنسان في الدعوة، فالدعوة ليست مجرد نصوص ولكنها إنسان يمتص رحيق هذه النصوص.
المحصلة النهائية بين النص والرحيق، وبين الإنسان والنحلة هي التي تعطي العسل الذي يكون فيه الشفاء. وكلمة: نصيحة؛ معناها: نصحت العسل أي صفيته.
ولكن اختصاص النصيحة بتصفية العسل له بعداً اعتقادياً هائلاً وهو ارتباط العلاقة بين العسل والدين. (راجع قدر الدعوة).
وكنتيجة للفاعلية الإنسانية في الدعوة، وفي التحديد المنهجي لها، وفي فهم قضاياها؛ نلمح أثراً نفسياً في عملية الفكر والفهم. ولعل أوضح الأمثلة على هذا الأثر سنجدها متناثرة في مجالات العلوم الشرعية، ففي التفسير كان لابن عباس قول يخالف الأقوال الواردة في قول الله سبحانه وتعالى: وَأما الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (الكهف: 82).
حيث اتفق المفسرون على أن الكنز من المال والذهب، ولكن ابن عباس وهو حبر الأمة لا يتصور أن هناك كنزاً غير العلم باعتبار قيمة العلم عند ابن عباس، فيقول في تفسير الآية: الكنز المذكور هو العلم.
وفي الفقه نشأ الإمام مالك في المدينة وكان يرى أهلها وهم يتوارثون السنة من عهد رسول الله  فكانت رؤية هذا الواقع عنده أسبق في الاستدلال من الحديث. ومن هنا كان الإمام مالك يرجح عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح عند التعارض.
وفي الحديث كان للطبيعة الإنسانية أثر في الرواية، فكانت الرواية مرتبطة بطبيعة وتكوين الرواة بإسناد الحديث، مثل أحاديث التمر التي كان يرويها المدنيون، وذلك لحب أهل المدينة للتمر، كما قال رسول الله : "انظروا إلى حب الأنصار التمر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍"(1)، وذلك عندما كان يشير إلى عبد الله بن الزبير وهو أول مولود ولد في الإسلام بعد أن حنكه بالتمر فأخذ يحرك فمه بشدة فرحاً بالتمر.
أما من حيث المشاعر فإن واقع الدعوة هو أقوى مجالات الفاعلية النفسية وهو أوسع محيط جامع للمشاعر الإنسانية.
و فاعلية المشاعر الإنسانية في واقع الدعوة لها أدلتها، فالعطف على الضعيف أداة حاسمة للنصر. كما قال : "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم"(1).
وفي واقع الدعوة يكون النصر بالرعب قبل القتال كما قال : "نصرت بالرعب من مسيرة شهر"(2).
5- منطلق الفاعلية (الدعوة و الذات):
إذا اتفقنا على حتمية الأداة الإنسانية فى الدعوة... و على أن الإنسان مخلوق رسالى...
وعلى أن الحكمة هى الصيغة المنهجية التى تجتمع فيها كل خصائص الرسالة فى الإنسان... و على أن الفاعلية الإنسانية الكاملة هى تمام هذه الحكمة...
نتفق الآن على أن هذه الفاعلية لها منطلق محدد لا تنطلق إلا منه و هى العلاقة بين الدعوة و الذات.
و إذا كنا قد اتفقنا أن الذات هي غاية الاتجاه النفسي للإنسان لتكوين الشخصية فإن الدعوة هي غاية اتجاه الذات للحق.
ومن هنا كانت الدعوة هي المعيار النهائي للنفس والذات والشخصية.
والأساس الذي يقوم عليه هذا التقييم هو التجرد من الذات من أن يكون لها أثر سلبي على الدعوة، وهذا الأثر له في الواقع عدة احتمالات:
- أن يجبن بذاته عن دعوته.
- أن ينشغل بذاته عن دعوته.
- أن تكون دعوته عملاً لذاته.
وفي مواجهة الاحتمال الأول (أن يجبن بذاته عن دعوته) يأتي قول الله سبحانه وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (المائدة: 105). حيث جاء في تفسير هذه الآية قول أبو بكر: يا أيها الناس إنكم تضعون هذه الآية في غير موضعها، فقد قال رسول الله : "إذا رأى الناس الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده".(1) وفي مواجهة الاحتمال الثاني (أن ينشغل بذاته عن دعوته) يجب أن يصل الداعية إلى أن تكون الدعوة هي حياته بكل لحظاتها ومواقفها. ومثال ذلك ما كان من رسول الله  في غزوة حنين.(2) وأيضاً حين تأتي رسول الله  سكرات الموت وما أشدها على الإنسان وقد عانى رسول الله منها فكان يتصبب عرقاً ويقول: "ما أشد سكرات الموت إن للموت لسكرات"(1)؛ ولكن ذلك كله لم يشغله عن البيان فى وقته .. فرفع الخميصة عن وجهه وقال إنى أبرأ إلى الله أن يتخذ قبرى وثنا يعبد(2) لأن الوقت وقت موت وهو وقت البيان، وقد كان آخر ما فعل  في حياته هو أن نظر من حجرة عائشة إلى المسلمين وهم يصلون ثم ابتسم(3) ابتسامة الرضى والغاية المحققة ...
هؤلاء هم الناس قد عبدوا ربهم ... وتمت الرسالة ..
وحتى بعد الموت؛ فإن صاحب سورة يس بعد أن يطمئن على مصيره ويعرف منتهاه لم يتوقف عن التفكير في نجاة الناس فها هو يدخل الجنة ولكنه لا يزال يحمل أمنيته ورجاءه في إيمان القوم ليروا ما يراه من النعيم: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (يَـس: 26). وفي مواجهة الاحتمال الثالث (أن تكون دعوته عملا لذاته) يجب أن يتحقق الإخلاص. ومثال ذلك الراهب في قصة أصحاب الأخدود(1)، حيث قال للغلام أي بني قد أصبحت اليوم أفضل مني(2). ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك. ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية. فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز، باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه هذا الإنسان موقفاً يشعر فيه بأن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً، فقال له: "أي بني قد أصبحت اليوم أفضل مني".كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج. ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟! فهو لم يكن يتعلم حتى يقال عنه عالم، ولم يكن يدعو لكي يكون على رأس أتباع.
ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه. فيجعل من نفسه نقطة على محيط دائرة النمو العقيدى والحركي للغلام، وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغير السن وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب؛ ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة. فهي ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان ولكنها بالإيمان والكفاءة.
والاحتمال الثالث هو أخطر الاحتمالات حيث تندرج تحته أخطر قضايا الدعوة و أولها التجرد للحق "السعى للحقيقة" ...
و فى إطار هذا السعى تناقش قضية التعصب باعتبارها أول مشاكل هذا السعى.
التعصب:
ومما يجب الانتباه إليه أن التعصب ظاهرة مرضيه نفسية
وأول أسباب التعصب هو الإعجاب بالرأي .. لأن الإعجاب بالرأي هو نقطة الانفصال بين العقل والحق حتى يكون الإعجاب بديلاً عن الاقتناع.
وفي إطار الإعجاب بالرأى تتولد المنهجية المتوهمة لمساندة الرأي، وإنشاء العلاقات غير الصحيحة بين الأفكار والحقائق، ليتم ترسيخ الرأي والدعوة إليه وقصر الناس عليه، وحرب المخالف له وهدم منهجه ..
ويضاعف خطورة النتائج الناشئة عن التعصب هو أن يكون التعصب جماعياً، لأن التفكير الجماعي إنما يكون بعقل ضعيف أو غائب.
ولأن السلوك الجماعي قائم على الاستثارة العاطفية كرد فعل لضعف العقل "همج رعاع أتباع كل ناعق".
ولذلك يدعو القرآن إلى التفكير المتأنى الواعى بقول الله سبحانه قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا هل بصاحبكم من جنة أى يفكر كل واحد وحده بينه وبين نفسه.
أو على الأكثر أن يكون هناك أخر يبادله الرأى أما الكثرة فلا تحدث إلا الانسياق.
وفى مواجهه الاحتمال الرابع وهو أن يتجاوز الداعية حدود ذاته ..
يأتى التجرد من الاحساسات الشخصية للداعية.
كما قال الله فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
(فاطر: 8).
وقوله سبحانه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ألَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (الشعراء: 3).
وقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (الكهف: 6).
ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (الحجر: 88).
فتضمنت الآية: التجرد عن الرغبة في الدنيا، والتجرد من الحزن على الكافرين، والتواضع للمؤمنين. ولعل هذا النص يمثل خطاً ثابتاً لاستقامة المشاعر وفقاً لمقتضيات الدعوة. ولعل هذا هو السبب في أن تجمع الآية بين الرغبة في الدنيا والحزن على الكافرين والتواضع للمؤمنين.
وبمواجهة هذه الاحتمالات تتحدد العلاقة الصحيحة بين الدعوة وذات الداعية، حيث تنشأ في واقع الدعوة شواهد هذه الممارسة الصحيحة.
ومثالها: أبو بكر الصديق الذي عُذب حتى فقد وعيه. فإذا به يفيق وهو يقول: ماذا فعل رسول الله  .. لقد غاب عنه إحساسه بنفسه و ذاته ولم يغب عنه انشغاله عن رسول الله .
وهذا صحابي قتيل يأمر رسول الله  بالبحث عنه بين القتلى، فوجدوه يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يقول لهم: "أبلغوا رسول الله  مني السلام وقولوا له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته". فلم ينشغل بحاله ولم ينقطع تفكيره عن صاحب دعوته حتى آخر لحظات عمره.
وباجتماع هذه الشواهد تصبح الدعوة حياة الداعية، فيزن الأحداث والأيام والعلاقات بميزانها.
وهذه عائشة تسأل رسول الله : أي يوم أشد عليك ؟ ويتبادر إلى الذهن أنه سيكون يوم الغار أو يوم أحد أو مقتل حمزة أو يوم الأحزاب الذي قال الله فيه:
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (الأحزاب:10)
ولكنه لم يكن يوماً من هذه الأيام لقد كانت إجابة رسول الله  "إنه يوم الطائف"(1) لأنه يوم الرفض النهائي من أهل الطائف لدعوته ...
وهكذا تغير معنى (الشدة) في إحساس رسول الله .
وعندئذٍ يتحقق التفسير الصحيح لتجرد الداعية لدعوته.
وهذا هو مفهوم التجرد من خلال الأحداث والأيام.
أما مفهوم التجرد من خلال العلاقات فقد وضح تماماً في ذكر رسول الله  لخديجة؛ فيظل يذكرها الرسول  بخير طوال حياته حتى تغار منها عائشة وهي ميتة، فتحاول أن تجعله يشعر بأن الله أبدله بها خيراً فتقول: ما غرت على أحد من أزواج النبي  ما غرت على خديجة وما بي أن أكون أدركتها وما ذلك إلا لكثرة ذكر رسول الله  لها وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صديقات خديجة فيهديها لهن ..(1) رواه البخاري ومسلم. بل انظر إلى قول النبي  لزوجته العروس (عائشة) عن زوجته المتوفاة (خديجة): "والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد صدقتني حين كذبني الناس وأيدتني حين عاداني الناس ونصرتني بمالها"(2).
وفي إطار العلاقة الصحيحة بين الدعوة والذات تتساوى قيمة الإنسان مع قيمة الدعوة ذاتها لتصبح النفس والدعوة مقاماً واحداً عند الله. هذا المقام هو الإحسان، فالدعاة هم أحسن الناس كما قال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33).
ومن هنا كان الإحسان هو كل مقتضيات الدعوة ابتداءً من القول كما في الآية السابقة، ومروراً بالجدل، كما قال سبحانه: ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل: 125)، وانتهاءً بالدفع كما قال سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (المؤمنون: 96).
والقرآن - وهو منهج الدعوة - هو أحسن ما أنزل الله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (الزمر: 55). ومن أجل ذلك كانت النفس والدعوة حقيقة واحدة هى الإحسان.
فإذا كانت الدعوة هي واقع التغيير إلى الأحسن؛ فإن النفس هي مفتاح هذا التغيير. قال سبحانه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإذا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (الرعد: 11).
وإذا كان اتجاه الذات إلى الشخصية حقيقة نفسية طبيعية في الإنسان؛ فإن مناقشة شخصية الداعية يتمم دراسة الذات ..
و بعد تحديد العلاقة بين الدعوة و ذات الداعية تكون قد تمت معالجة موضوع الإنسان الداعية لتبدأ معالجة الإنسان و أول ذلك معرفه القيمة الإنسانيه فى منهج الدعوة الذى يتوجه إليه الداعية بدعوته ...
(ب) الإنسان موضع الدعوة (المدعو):
- القيمة الإنسانية:
و الدعوة هي التي تبلغ بالدعاة غاية الحرص على الناس، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد عمه قبل موته أن يقول كلمة واحدة، فيقول له: "قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند ربي"، ويستغفر له، فينزل الوحي بأن الاستغفار لن ينفعه طالما مات على الكفر.
وقيمة النفس هي أقوى دوافع الدعوة عند الداعية، فعندما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرض غلام يهودي؛ يشعر بمسئوليته تجاه هذا الغلام، ويحاول إدراك الغلام قبل أن يموت كافراً .. إنها نفس وستدخل النار. ولكنه يهودي وابن يهودي وصعب على اليهودي أن يسلم، ولكن رسول الله  يتحرك مسرعاً إلى بيت اليهودي، يذهب إلى بيوت اليهود، بما في ذلك من خطر. ويدخل على الغلام، ويقول له بقوة: "يا غلام: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" .. ينظر الغلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدري ماذا يقول، ثم ينظر إلى أبيه لعله يجد عنده الإجابة، فيحسم الأب موقف الابن فيقول له: "أطع أبا القاسم"(1) .. لا تدري كيف. فهل كان يعتقد اليهودي أن دينه باطل ؟ وإن كان كذلك. فلم لم يسلم هو ؟. أم كان يعتقد أن دينه حق ؟ فلماذا قال لابنه: أطع أبا القاسم؟... إنها إرادة الله بالهداية لا تتطلب إلا الإحساس بقيمة النفس كما كان رسول الله .
لقد كانت قيمة الإنسان في منهج الدعوة هي الدرس الأول الذي تلقاه جميع الأنبياء قبل الوحي، وهي تجربة ما قبل النبوة كما قال : "ما من نبي إلا ورعى الغنم"(2). حيث يتعلم الأنبياء السكينة والوقار في رعي الغنم قبل أن يتعاملوا مع الإنسان. لأن للإنسان قيمة في منهج الدعوة لا تسمح بالتعامل معه بغير تجربة ولذلك كان من الضرورى معرفة الأساليب المحققة للاستجابة الإنسانية.

1- سنن التأثير و الاستجابة:
وهذه هي السنن الثابتة في النفس التي تقوم الدعوة عليها.
- ومن هذه السنن أن يعمل الإنسان وفق ما يحبه، وهذا تفسير قول الله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ. فإن معنى الآية: قل كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، فالفاجر يعمل على ما يليق به وكذلك الكافر والمنافق، ومريد الدنيا وجيفتها عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه.
والمحب لله يعمل ما هو لائق به والمناسب، فهو يعمل على شاكلته وإرادة ما هو الأليق والأنسب.
- ومن سنن النفس البشرية والداخلة في معنى الآية؛ أن يعمل الإنسان على مشاكلة من يحبهم من البشر. ولا ريب أن كل من تعلق بأنفاس قوم انخرط في مسلكهم ودخل في جماعتهم ومن هنا تصبح الجماعة والمعايشة من أهم منابع الإرادة بعد حب الله عز وجل. وتعريف الإرادة أنها ترك العادة، لأن عادة الناس غالباً التعريج على أوطان الغفلة وإجابة داعي الشهوة والإخلاد إلى أرض الطبيعة.
وترك العادة يكون بالعلم، فإنه النور الذي يعرف العبد به مواقع ما ينبغي إيثار طلبه وما ينبغي إيثار تركه. فمن لم يصحبه العلم لن تصح له إرادة، ومن هنا كان الانتفاع بالعلم من علامات الإرادة، فكان قولهم: إنه من سمع شيئاً فعمل به، صار حكمه في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به. وإذا تكلم انتفع به من يسمعه، وبذلك ينضم العلم إلى منابع الإرادة فتكون هي: حب الله والالتزام بالجماعة والعلم.
ولعلنا نلاحظ في قول ابن القيم أثر التزام الدعاة في استجابة الناس حيث قال (انه من سمع شيئاً فعمل به، صار حُكمه في قلبه إلي آخر عمره ينتفع به) ثم قال (و إذا تكلم انتفع به من يسمعه)
- ومن هذه السنن الائتناس بالكثرة، والوحشة بالوحدة، وهي في تفسير: "اهدنا الصراط المستقيم".
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالباً لأمرٍ أكثر الناس ناكبون عنه مريداً لسلوك طريق مرافقة فيها غاية السعادة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرق وعلى الأنس بالرفيق؛ نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (النساء: 69).
فأضاف الصراط إلى الرفيق السالك له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية سلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلون قدراً وإن كانوا الأكثرين عدداً. كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين. وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق. واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً.
وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
- و من هذه السنن عداء ما لم يؤمن به، ودليل هذه السنة قول الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (الأحقاف: 11).
وهذه السنة تعني أن حسابات مواقف الناس من الدعوة تقوم على أن الناس إما مؤمنون مؤيدون أو كافرون معادون، وليس على وجه الحقيقة موقف ثالث، فالذي لا يؤمن يكفر والذي يكفر يعادي.. نتائج ثابتة لمقدماتها لا يمكن تغيرها ..
وليس أدل على سنة: (أن الناس أعداء ما يجهلون) من دعاء النبي : "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون"(1)، والحقيقة أن هذا الدعاء إعذار لهم، وهذا الإعذار يدل على أن عداء الإنسان لما يجهله سنة لا تجد لها تحويلاً، ومن هنا تنشأ ضرورة سعي الإنسان للعلم لأن انتفاء هذا السعي لن يكون معناه إلا الإعراض.
ـ ومن هذه السنن: أن يكون الحب بقدر الكره الذي كان قبل الحب، وهي السنة الواضحة في الاستجابة للإسلام والحق.
وفيها يقول النبي  "أشد الناس كراهية لهذا الأمر أشدهم حباً له"، ومثلهم الواضح أيضاً سحرة فرعون .. الذين كان السحر ذاتهم وكل حياتهم.
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (طـه: 69).
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (الأعراف: 119).
ثم قالت الآيات في إيمانهم: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (الأعراف: 120).
وقال السلف عنهم:كانوا في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء. ولذلك تواتر التعبير في السنة والسِيَر: "فوالله يا رسول الله لقد كنت أشد الناس بغضاً في نفسي والآن أنت أحب الناس إلى نفسي". ذلك أن المشاعر المتولدة بالحب لابد أن تكون غالبة على الكره، فلابد من أحدهما، ولابد لأحدهما من التغلب على الآخر، لذا وجب أن يساويه أو يزيد عليه.
ـ و من هذه السنن سنن الفطرة الواردة عن رسول الله  و التى يجب أن يلتزم الدعاة بها لأثرها فى النفس و قد قال فيها الإمام ابن حجر صاحب الفتح "ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: وصوركم فأحسن صوركم لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس".
وقد أورد ابن حجر هذا الكلام فى شرح أحاديث سنن الفطرة(1) و هى فى مجمل أحاديثها قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء المضمضة، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة(1)، وبعد معرفه القيمة الإنسانية فى منهج الدعوة وسنن الاستجابة الإنسانية، يكون تحديد أسس تعامل الإنسان فى واقع الدعوة بصورته النفسية .
2- أسس التعامل النفسي:
والتعامل النفسي في منهج الدعوة قائم على حقيقة أساسية عامة .. وهي مراعاة الأحوال النفسية والشخصية. أما أمثلة مراعاة الأحوال النفسية والطباع الشخصية؛ فمنها ما ورد في حادثة الإسراء مع موسى عليه الصلاة والسلام حيث قال النبى  "فإذا أنا بموسى عليه السلام، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى. قيل له: ما يبكيك ؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي".
وفي رواية: "فقال موسى: رب ما أظن أن ترفع عليَّ أحد". وفي رواية أخرى: "ثم اندفعنا فقلت: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا موسى بن عمران يعاتب فيك، قلت: ويرفع صوته ؟ قال: إن الله قد عرف له حدته".هكذا (إن الله قد عرف له حدته). والتعامل النفسي في منهج الدعوة قائم على حقيقة أساسية هامة وهي الابتعاد عن المفاجأة و الصدمة .. وهذه الحقيقة ثابتة في أنواع التعامل النفسي مع الإنسان. ففي الصلاة كان يبدأ رسول الله  الصلاة الطويلة دائماً بركعتين خفيفتين.(2) لتهيئة النفس بعد ذلك لهذا النوع من الصلاة .. كما كان رسول الله  يكثر من الصيام في شعبان تهيئةً لصيام رمضان.(3)

وبمراجعة قصة كعب بن مالك(1) يتبين مبدأ تفادي الصدمة حيث كان التدرج بأمر المسلمين بمقاطعته لفترة زمنية معينة، ثم أمر كعب والذين معه بمقاطعة نسائهم حتى بلغوا المرحلة التربوية النفسية المطلوبة بلا صدمة. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة: 118).
ولكن حقيقة تفادي الصدمة لها موقف إنساني عام نرى فيه كيف أن تفادي الصدمة حكمة أصلية في التعامل مع الإنسان. هذا الموقف هو إنزال آدم إلى الأرض..
لقد كان آدم في الجنة .. وعصى آدم ربه .. وكانت المشيئة الإلهية بالهبوط إلى الأرض .. وكان مع مشيئة الهبوط مشيئة أخرى .. وهي خلق جنة تشبه جنة عدن التي كان يعيش فيها آدم حتى بلغ التشابه أن سميت بعدن، وهي مكان "عدن" الآن. وهذا هو الذي جعل أصحاب دراسة التاريخ الطبيعي يجمعون على أن عدن هي مكان الإنسان الأول على الأرض. وهذا الذي جعل هناك خلافاً في كون الجنة التي كان فيها آدم هل هي في السماء أم في الأرض .. فكانت في السماء باعتبار البداية. كما كانت في الأرض بعد الهبوط من السماء باعتبار التشابه .. ومن جنة عدن في الأرض بدأ الانتشار في الأرض وهو المعنى الآخر للهبوط .. المختلف عليه. و بذلك كانت المراعاة فى انتقال آدم من الجنة إلى الأرض و اعتبار عدن التى على الأرض مرحلة وسط بين الحياة فى الجنة التى فى السماء و الحياة فى الأرض بما فيها من مشقة و كدح. وبمراجعة قصة الرميصاء امرأة أبى طلحة ..(1) يتبين كذلك مبدأ تفادي الصدمة، بل تخفيفها قدر المستطاع. وكان تخفيف الصدمة قدر المستطاع مبدأ آخر يلازم مبدأ تفادي الصدمة .. وكان من الأمثلة الرائعة لذلك هو قول رسول الله للصحابة في امرأة مات أبوها وأخوها وابنها وزوجها لا يخبرها أحد حتى أكون أنا أول من يخبرها. وكان في هذا تخفيف من الصدمة .. لأن المؤمنين تعودوا أن يتلقوا أخبار استشهاد ذويهم بالسؤال عن رسول الله  ليطمأنوا عليه. فيخفف هذا الاطمئنان من صدمتهم في ذويهم. وها هو رسول الله يخبرها بنفسه فيخبرها بخبر الواحد تلو الآخر, ولم يقل لها جملة واحدة لقد ماتوا جميعاً. وكان لا يخبرها بالخبر التالي حتى تسترجع الله وكان هذا يعينها على الصبر.
ـ ومن أسس التعامل النفسي: قاعدة ذكر الميزة والعيب في الأشخاص، فقاعدة ذكر الميزة قائمة على اتباع ذكر هذه الميزة بمسؤلية الشخص عنها، مثلما كان بين الراهب والغلام في قصة أصحاب الأخدود.(2) إذ إن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعه بذكر المسؤولية التي تقع عليه باعتبار تلك الميزة. وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور, لأن الإحساس بالمميزات دون الإحساس بتكاليفها يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بمميزاته فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور. ولهذا لما قال الراهب للغلام: "إنك اليوم أفضل مني". قال له: "وإنك ستبتلى فلا تدل عليَّ". أما القاعدة في ذكر العيب أو إبداء أي ملاحظة في تصرفاته فهي أن نثبت للإنسان قيمته ابتداءً ثم نذكر له تلك الملاحظة حتى لا يأخذ ذكر الملاحظة صورة الهدم لشخصه و ذاته، مثلما رأى عبد الله بن عمر رؤيا فيها أن رجلان يأخذانه إلى النار، فجاء ثالث وقال له: لن تراع، فقال  تعقيباً على الرؤيا: "نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل "(1).
ومن نماذج التعامل النفسي ما حدث في غزوة بني المصطلق.
قال ابن إسحاق: فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود، يقود فرسه. فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يامعشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا!! والله ما عدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله  فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال عمر: مر به عباد بن بشر فليقتله.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لا ولكن آذن بالرحيل , وذلك في ساعة لم يكن رسول الله  يرتحل فيها فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله  حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت، ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر رسول الله  من الأنصار من أصحابه: يارسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل، حدباً على ابن أبي ودفعاً عنه. فلما استقل رسول الله  وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه وقال: يا رسول الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال له رسول الله  أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: أي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: وما قال ؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله؛ ارفق به لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه. فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. ثم مشى رسول الله  بالناس يومهم ذلك حتى أمسى؛ وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً. وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي.
ولعلنا نلاحظ كيف أن رسول الله سمع لأسيد ابن حضير وهو يصف الحاله النفسية لعبد الله ابن أبي بقوله (فأنه ليري أنك قد استلبته ملكاً), وكيف أن رسول الله سار بالجيش ليرهقه فلا يستطيع أحد الكلام فيتوقف حتى يقول الراوي فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث. والقاعدة العامة في مراعاة الأحوال النفسية والطباع الشخصية ألا يكون في هذه المراعاة أثر سلبي في إحقاق الحق .. وفي قصة عائشة رضي الله عنها حين غارت فكسرت قصعة الطعام التي أرسلتها إحدى أمهات المؤمنين "فجمع النبي  فِلَق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصفحة ويقول "غارت أمكم"(1).. الحديث رواه البخاري. ولعلنا نلاحظ أن رسول الله لم يفعل شيئاً سوى قوله: "غارت أمكم"، عندما أخذت طبق الثمر الذي أرسلته له الأخرى وهو في بيت عائشة. فألقت بالطبق فانكسر .. فضحك رسول الله  لغيرتها. ولكنه يأمرها فتأتي بطبق آخر وتجمع الثمر فتغسله فيأكله ثم يأمر أن تعطي طبقها للأخرى بدلاً من الذي كسرته .. ويحدد رسول الله  منهجاً عاماً في التعامل مع النساء، باعتبار خلقها من ضلع أعوج فيقول: "استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه..."(2) .
ويوضح لنا رسول الله  حدود المراعاة المقصودة فيقول مثلاً: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود "(3).
ومن أسس التعامل النفسي مراعاة الفوارق الشخصية
فمن الناس من يغلب على شخصيته الجانب الأدبي.
ومنهم من يغلب عليه الجانب المادي ..
حتى إنك تجد أن الذي يغلب عليه الجانب الأدبي يرضى بأقل شيء مادي يوفر له حاجته الأدبية..ومن هؤلاء المسور بن مخرمة..
كان رجلاً ثرياً .. ولكن الغنائم وزعت ولم يكن حاضراً فنساه الرسول صلى الله عليه وسلم. حتى تذكره بعد حين فخبأ له قميصاً. فعلم هذا الرجل أن الغنائم قد وزعت .. ولم يبعث إليه أحد بنصيبه فجاء غاضباً وهو ينادى يا رسول الله .. فقال له رسول الله: قبل أن يكلمه خبأته لك .. خبأته لك. فعظم في نفس الرجل أن يخبأ له بنفسه نصيبه حتى قال الرجل دون أن يأخذ القميص: .. رضيت .. رضيت.
ومن أسس التعامل النفسي.. "مراعاة الضعف الإنساني العام".
ولعل إيقاف الحدود في بلاد الكفر أثناء الحروب دليل واضح في هذا، لأن الإنسان بضعفه قد تسول له نفسه الهروب من حد من الحدود الواجبة عليه إلى الكافرين واللجوء إليهم، وفي ذلك فتنة شديدة عليه.
لأن الذي يعيش في عز طول عمره يصعب عليه نفسياً أن ينقلب إلى حالة المذلة، فعندئذ يتطلب الأمر هنا مراعاة له في حالته.
جـ- منهج التربية (تمام الفاعلية)
و منهج تربية الدعاة هو التوجيهات المرتبطة بمرحلة الإعداد لأصحاب الدعوة، و يتحدد من ناحيتين:
ناحية عملية و هى أن أحكام هذا المنهج مرتبطة بالأحكام التى بدأت بها الدعوة باعتبار أن مرحلة الإعداد هى البداية الطبيعية كما كانت فى عهد الرسول .
و ناحية شرعية و هى أن أحكام هذا المنهج نوافل و ليست فرائض إذ أن الفرائض تكليف عام لا يجوز فيه تخصيص مسلم داعية فى مرحلة إعداد دون غيره من المسلمين. وكون أن أحكام هذا المنهج ليست فرائض فإن لذلك قيمة تربوية و هى تحقق الرغبة الذاتية فى الطاعة التى لا تقف عند حد التكاليف الشرعية المفروضة و هذا أمر مفترض فى الدعاة.
لذا فإن النوافل هى السبب الشرعى الذى يتحقق به حب الله للعبد بدليل قوله  فى الحديث القدسى عن الله عز و جل: "ما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضته عليه، و لا يزال يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه .. "(1) و فى حديث آخر الذى رواه البخارى و مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ  "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً، دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ. قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْض"(2)
و تبدأ أحكام التربية كما بدأت فى عهد رسول الله .
أولاً: التهجد:
و هو من أول ما أمر الله به نبيه عليه الصلاة و السلام بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيل * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً وفيه عدة عناصر لتكوين الداعية:
• الإخلاص:
وهو أن يبتغى الداعية بدعوته وجه الله سبحانه و تعالى، و الممارسة العملية التى تنشئ الإخلاص فى نفس المسلم هو أن يعمل عملاً لا يراه فيه أحد من البشر، و كلما كان هذا العمل الخفى فيه جهد كلما كان أكثر حماية من الرياء و تثبيتاً للإخلاص، إذ أن الرياء أقرب إلى الإنسان فى العمل المجهد المعلن، و التهجد هو هذا العمل الخفى المجهد.
• التميز:
و هو ضرورة شخصية للداعية لأن الشعور بالتميز هو الذى يعطى للمسلم فى نفسه دافع الدعوة لغيره. و التهجد مصدر أساسى لهذا الشعور حيث أن هذه الصلاة لا يقوى عليها إلا من تفرد و تميز بالعزم و القوة.
وقد قصد النبى  أن يؤكد شعور التميز من خلال صلاة العشاء فأخرها إلى أن قال عمر "يا رسول الله نامت النساء و نامت الأولاد فقال رسول الله: أبشروا، إنه لا يصلى فى هذا الوقت على ظهر الأرض أحد غيركم"، فوضح أن تميز الصحابة بالصلاة فى وقت لا يصلى فيه أحد غيرهم كان هدف رسول الله  من تأخير الصلاة. و صلاة التهجد بوقتها من الليل تحقيق لهذا الهدف.
• الإرادة:و هى نوعان فى الإنسان:
إرادة البدء: و شواهد هذا النوع أنك قد تجد صعوبة فى أن تجعل إنساناً يبدأ عملاً و لكنه بمجرد أن يبدأ يسهل استمراره.
و إرادة الاستمرار: و شواهد هذا النوع أنك لا تجد أن إنساناً بعدما بدأ عملاً لا يلبث أن يتوقف عنه.
و صلاة التهجد معالجة لنوعى الإرادة البدء و الاستمرار و هذه المعالجة تتم من خلال كيفيتين ثابتتين عن رسول الله .
فلمعالجة إرادة البدء ورد عن ابن عباس قال: "كان رسول الله  يصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعة"(1). نجد فى هذا الحديث ست بدايات يتم من خلالها تربية الداعية على إرادة البدء.
و لمعالجة إرادة الاستمرار هو ما ورد عن عَن أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائشَةَ: كَيفَ كَانَتْ صَلاةُ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رَمَضانَ فَقَالَتْ "مَا كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزيدُ في رَمضَانَ وَلا في غَيرِهِ عَلَى إِحدَى عَشْرَةَ رَكعَةٍ يُصَلِّي أَربعاً فَلا تَسْأَلْ عَلَى حسنِهنَّ وَطولِهنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَربعاً فَلا تَسْأَلْ عَلَى حسنِهنَّ وَطولِهنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثاً. فَقَالَتْ عَائشَةُ: فَقَلتُ يا رَسُولَ الله أَتَنَامُ قَبَلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يا عَائشَةُ إِنَّ عَينَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلبي"(2)
حيث نجد فى هذا الحديث طول الصلاة ليتم من خلالها تربية الداعية على الاستمرار.
• الاتزان النفسى:
و التهجد يحقق فى الداعية صفة الاتزان النفسى فى ظروف الاستضعاف التى قد تفقد الداعية تلك الصفة لأن الاستضعاف شعور بالضعف و قلة حيلة و هوان على الناس و هى أمور قد تحيط بالمستضعف فتدفعه إلى محاولة الإفلات من هذا الشعور و التخلص من هذا الحال فلا يتحرك بمقتضيات المرحلة بل يتصرف برغبة الإفلات و التخلص.
و لذلك كانت الصلاة هى التوجيه الأساسى لتحقيق صفة الاتزان لأن الصلاة هى التى تصب فى كيان المستضعف الإحساس بذاته و مكانته فى هذا الوجود فتتم معالجة الآثار الناشئة عن حال الاستضعاف و ذلك امتثالاً لقوله تعالى:
كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ.
ثانياً: الصيام:
يشترك الصيام مع التهجد فى معالجة الإرادة و لكن من حيث الأصل إذ إن أصل الإرادة فى الإنسان هى إرادة الامتناع بدليل أن تجربة الإرادة و العزم التى خاضها آدم فى الجنة كانت إرادة امتناع: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ.
و إرادة الامتناع فى الإنسان إرادة مطلقة و لهذا تقوم الأحكام الشرعية على أن يكون (الأمر) بقدر الاستطاعة أما (النهى) فهو مطلق فى وجوب الانتهاء عنه بدليل قوله  "دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(1).
و بهذا يصير الامتناع (النهى) مقياساً مطلقاً للإرادة غير (الأمر) المقيد بحد الاستطاعة.

ثالثاً: الإنفاق:
و ضرورته فى تكوين الداعية هى حمايته من صفة البخل و كسبه لصفة الكرم حيث يتحقق له من خلال ذلك حمايته من صفة الجبن و كسبه لصفة الشجاعة و ذلك لأن الجبن و البخل صفتان متلازمتان فى الطبع الإنسانى، و كذلك صفة الشجاعة و الكرم، بدليل قوله  "اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن و البخل و أعوذ بك من غلبة الدين و قهر الرجال"( ).
رابعاً: الذكر:
و هو يحقق فى التكوين الشخصى للداعية عدة عناصر:
- إكبار الله عز و جل . . وهو توجيه مهم لصاحب الدعوة فى مواجهته للجاهلية بضخامتها و إمكانياتها، و لهذا كان من التوجيهات الأولى من الله لرسوله  وذلك فى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.
- الانشغال بالله .. وهو من أهم مقتضيات الدعوة إذ أن الداعية الصادق هو الذى يعيش بدعوته كل لحظات حياته .. و ذكر الله باعتبار كثرته و إطلاقه من التوقيت المحدد: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ فإنه يحقق الانشغال بالدعوة من خلال الانشغال بالله عز و جل.
- الاطمئنان القلبى .. و هو ضرورة لمواجهة الشدائد التى تنتظر كل داعية فى طريقه الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
يراجع ما ورد في الكتاب في الذكر في الأحوال الخاصة (حالة السجن)
كما يراجع ما ورد في الذكر في الأمراض النفسية (أحلام اليقظة)
(ب) الإنسان موضع الدعوة (المدعو)
ملاحظات إنسانية في دعوة الرسول :
ومن الأدلة القاطعة على ثبوت المعنى الإنساني لدعوه الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ هو أن جميع المواقف التي عقب فيها القرآن على تصرفات رسول الله  إنما كان لها معنى ثابتاً وهو الرغبة الإنسانية لدى رسول الله  في إيمان الناس حتى فاض المعنى الإنسانى عند رسول الله  فى هذه المواقف على الإطار المنهجى للدعوة مما اقتضى تعقيب القرآن عليها.
ولعل أبرز الأمثلة على هذه التعقيبات هي:
- قول الله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلْىَ * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَىَ (عبس: 1،2)؛ تعقيباً على إعراض النبي  عن ابن أم مكتوم بسبب انشغاله في دعوة عظماء قريش الذين كان رسول الله  يطمع في هدايتهم.(1)
- وقول الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِيَن وَلَوْكَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الْجَحِيمِ (التوبة: 113)؛ تعقيباً على استغفار النبي  لعمه أبو طالب.
- وقول الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (التوبة: 84)؛ تعقيباً على صلاة النبي  على عبد الله بن أبي ابن سلول حتى إن رسول الله أعطى قميصه لعبد الله ابن عبد الله بن أبي ابن سلول ليكفن فيه والده استجابة لرغبة الابن في رحمة أبيه.
- وقول الله: مَا كَانَ لِنَبِّيٍّ أَنْ َيكُوْنَ لَهُ أَسْرَى حَتْىَ يُثْخِنَ فِي اَلأَرْضِ؛ وذلك تعقيباً على قبول الفداء من أسرى بدر بدلاً من قتلهم، بعد أن أشار عليه ابو بكر قائلا ً: أهلك وعشيرتك.
***
ولما كان رسول الله  هو النفس القياسية في الدراسة النفسية، وهو الأسوة الحسنة في واقع الدعوة، كانت أخلاقه  منبعاً لكل أخلاق الدعاة، وذلك من خلال خلقين جامعين لكل هذه الأخلاق: الشجاعة والكرم. وهي التي تحقق بها قول الله عز وجل في سورة الأحزاب لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب: 21).
ذلك لأن موقف الرسول  في غزوة الأحزاب كان متميزاً عن الأمة كلها.
ومن هنا كان منشأ التأسي ووجوبه.
ولكن تميز رسول الله  في الغزوة كان من الناحية الأخلاقية قائماً على صفتين أساسيتين ظهرتا بشدة في أحداث الغزوة وهما: الشجاعة والكرم.
أما الشجاعة فقد وضحت من تحركه  بين الصحابة عند عجز جميع الصحابة عن الحركة. حتى إن الرسول يقول: من يأتيني بخبر القوم فلا يقوم أحد، حتى قال: قم يا حذيفة. ويقول حذيفة: ولولا سماني رسول الله ما قمت!!(1).
أما الكرم فهو الصفة التي تحتاج إلى قدر من الإظهار، وقد ظهرت جلية من خلال الحديث الوارد عند البخاري في الغزوة عن جابر؛ قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل. ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي  المعول فضرب في الكدية فعاد كثيباً أهيل أو أهيم. فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتى: رأيت بالنبي  شيئاً ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء ؟ قالت: عندى شعير وعناق. فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة ثم جئت النبي  والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعِّيم لي، فقم أنت يارسول الله ورجل أو رجلان. قال: كم هو ؟ فذكرت له؛ فقال: كثير طيب. قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا. فقام المهاجرون والأنصار. فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي  بالمهاجرين والأنصار ومن معهم. قالت: هل سألك ؟ قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا. فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا، وبقى بقية، قال: كلي هذا واهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة"(1).
وبعد تحديد العلاقة بين الدعوة وذات الداعية تتحدد شخصية الداعية بصورة أساسية تتناسب مع مقتضيات الدعوة بصفة حكيمة تجعل من الداعية آداة مناسبة لأهداف الدعوة في أي موقف وفي أي مرحلة. وهكذا يكون المسلم الداعية..وهكذا تكون شخصيته.
• ولذلك كان أبو بكر في عهد رسول الله  يرى آراء الرحمة، فإذا به يصبح خليفة، وإذا بمانعي الزكاة، فتظهر لأبي بكر شخصية أخرى تعلن آراء الشدة. "والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه"(1).
• وخالد بن الوليد الذي استطاع أن يكون جندياً مثلما كان قياديا ً: حيث أمر عمر بعزله بعد أن كان سبباً - بقدر الله - في تحقيق أكبر الانتصارات الإسلامية بقيادته.. فاصبح جندياً تحت قيادة أبى عبيدة.. وهذا المثال بالذات دليل على طبيعة الشخصية الإسلامية .. لأن خالداً الشخصية العسكرية .. القتالية .. القيادية .. المنتصرة تحول بمجرد قرار - أمر العزل - إلى جندي؛ فقاتل بكل طاقته تحت قيادة أخرى.
ومصعب بن عمير الذي استطاع أن يعيش حياة الشظف كما كان يعيش حياة الرغد، حيث كان ابناً لأحد الملوك، فإذا به يدخل الإسلام ويعيش حياة الشظف ثم بعد ذلك يموت حتى يقول  لأصحابه الذين لم يجدوا ما يكفنوه به: "غطوا رأسه وضعوا عند قدمه الأذخر"(2).
• وبذلك تكون شخصية الداعية هى مقتضى الدعوة و ضرورتها ...

القسم السادس
علم النفس الاجتماعي

علم النفس الاجتماعي (الذات و المجتمع)
إذا كان إنشاء المجتمع المسلم هو غاية الدعوة. فإن السعي نحو كمال النظرية الإسلامية في النفس لا بد أن يمتد إلى مرحلة علم النفس الاجتماعي ..
وإذا كانت الخلافة هي غاية المجتمع المسلم الناشئ عن الدعوة، فإن السعي نحو كمال النظرية الإسلامية في النفس لابد أن يمتد إلى مرحلة علم النفس الأممي.
وفي الابتداء نقرر أن الإنسان اجتماعي بطبعه، ودليل ذلك السنن الاجتماعية التي يرتكز عليها هذا الطبع ومنها :
- الائتناس بالكثرة، والوحشة بالوحدة.
وفيها أن النفوس مجهولة علي وحشة التفرد وعلي الأنس بالرفيق وفيها يراجع سنة الائتناس بالكثرة الداخلة تحت عنوان سنن التأثير و الاستجابة ( الفصل الخامس ).
و من هذه السنن تأثر الناس بأفعال بعضهم البعض ، و في هذه السنة يقول ابن تيمية في كتاب الحسبة : "وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير فكم من لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره، ولا سيما إذا كان نظيره. ويفعل فعله، فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض". (الحسبة: ص155).
ولهذا لاحظ عمر بن الخطاب رفع الزوجات أصواتهن أمام أزواجهن، فذهب ليشتكي ذلك إلى رسول الله قائلاً : "إن نساء الأنصار كن يرفعن أصواتهن أمام أزواجهن فلما جاءت المهاجرات إلى المدينة وجدن نساء الأنصار يفعلن ذلك ففعلن مثلهن"(1) .
ولما كانت الأمة : هي صيغة الجمع البشري.
وكانت العبادة هي علة هذا الجمع.
أصبحت الأمة هي صيغة العبودية البشرية لله سبحانه وتعالى.
وهذا معنى قول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء:9).
فأصبحت الذات وهي أصل الجماعة والعبادة هي غاية الجماعة ...
لما كانت الذات هي المكون الأساسي للجماعة والمحقق الفعلي للعبادة أصبحت هذه العلاقة مضمون علم النفس الاجتماعي
و لما كان الوالدين هما أداة الوصل بين الذات والأمة فإن عبوديتهما أصبحت إتماماً لمعنى الانتماء للأمة من خلال العبادة
وكان أول دليل على ذلك هو قول رَسُولُ اللَّهِ : "ما أَصَابَ أحدا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَال:َ
اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ.... موقف عبودية.. (الذات الإنسانية العابدة)
وَابْنُ عَبْدِكَ........ تعميق للعبودية..في أصل الذات (من خلال الأب).
وَابْنُ أَمَتِكَ..... تعميق أكبر للعبودية.. في وصل الذات ( من خلال الأم).
نَاصِيَتِي بِيَدِكَ...... إثبات الخضوع الذاتي للهيمنة الربانية.
مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ... إثبات الخضوع الذاتي لشرع الله.
عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ... إثبات الخضوع الذاتي لقدر الله.
أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسم هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أحداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا..."(1)
و تحدد من الحديث عبودية الذات الإنسانية من خلال التعريف بالله و بأسمائه و بصفاته و من هذا التحديد كانت أقصى فاعلية لهذه الذات و لذلك جاءت آيات سورة الأعراف وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
حيث صورت الآيات الموقف الإنساني في أحط صوره ليكون هذا الانحطاط هو الصورة المقابلة للموقف الإنساني في أكمل صوره بعد ارتباطه بربه و بأسمائه الحسنى.
و لذلك جاءت بقية الحديث ... فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا و فَقَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا"(1) .
فأصبح الحديث درساً لكل فرد في الأمة، لأنه درس (الذات) في المجتمع؛ لأن الرسول قال : "ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها."
و قد جاء في الآية كما جاء في الحديث التعريف بالأمة والتعريف بالله؛ أما التعريف بالأمة فقد عرفتها الآية بالأمة الواحدة إِنَّ هَذِه ِأُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ... وكان التعريف بالله في الآية بالربوبية والوحدانية … وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء:92).
وبإنشاء الأمة العابدة للرب الواحد تنشأ أقصى فاعلية لتحقيق الخير.
لذا يعود الحديث إلى أقصى فاعلية فردية وهي أثر القرآن في الإنسان.
أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء همي وحزني.
فالقلب هو الحياة، وأجمل الحياة وأحسنها هو الربيع، والربيع هو القرآن.
والبصر هو النور، والنور هو القرآن.
ثم يكون جلاء الهم والحزن - و هما أخطر أسباب ضياع النفس وتدمير الطاقة - لتتحقق موجبات السعادة الإنسانية وتنتفي موانعها.
وإذا كان الانتماء إلى الأمة هو أهم أصول الإحساس بالذات..
فإن ما يعمق هذا الارتباط هو البحث في ذاتية الأمة..
أي العناصر التي تتميز بها وتقوم ذاتها بها.
وأهمها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذا الفعل هو أهم العناصر الذاتية للأمة المسلمة.
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أهل الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأكثرهُمُ الْفَاسِقُونَ
(آل عمران : 110).
حتى أصبح التيار النفسي والاجتماعي للأمة مرهوناً بهذا الفعل، وهذا هو مضمون قول رسول الله عليه وسلم :
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لكم".
وقد ذكر رسول الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغتين تتضمن كل منهما نوعاً من الجزاء على ترك هذا الأمر. الأولى قوله : "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليضربن الله قلوبكم بقلوب بعض، ويلعنكم كما لعنهم". يعني بني إسرائيل. والجزاء في هذه الصيغة هو ضرب القلوب بعضها ببعض. لأن القلب هو جوهر النفس والذات، فيكون الجزاء هو تآكل الأمة ذاتياً وهلاكها نفسياً، فيتبدد تكوينها وكيانها.
والصيغة الثانية هي قوله :
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ"(1) .
والجزاء في هذه الصيغة هو أن تنقطع صلة الأمة جميعها بالله فلا يستجاب الدعاء، وبذلك يكون جزاء الصيغتين هو انقطاع أوصال الأمة بعضها ببعض، وانقطاع الأمة جميعها عن الله، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مادة البناء الاجتماعي للأمة المسلمة.
وفي إطار مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأساس لذاتية الأمة يتحدد مفهوم التكيف الاجتماعي الذي يحدد الدور الذي يمارسه الفرد في التأثير الاجتماعي بحيث يكون على علم بالشرع، لأن هذا العلم هو الذي يجعله قادراً على ممارسة الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و بذلك يحمي العلم المجتمع من أن يتسلط عليه (الرويبضة) فيتكلم في أموره و مقدراته التافه السفيه الجاهل كما قال عليه الصلاة والسلام : "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ. يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيْؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَخُونُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ (قِيلَ : وَمَا الرَّوَيْبِضَةُ. قَالَ : الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ"(2). كما أن هذا العلم يمنع من حدوث ظاهرة الهمج الرعاع لأن فقدان العلم يجعل الفرد ينساق وراء ما عليه الناس.كما رُوي عن علي ، رضي الله عنه، أَنه قال : "الناسُ ثلاثةٌ: عالِـمٌ ربَّاني ٌّ، ومُتَعَلِّمٌ على سَبيلِ نَجاةٍ، وهَمَجٌ رَعاعٌ أَتْباعُ كلِّ ناعق"(1).
وكما كانت الأمة الواحدة، والعبودية لله الواحد؛ حقيقتان متساويتان في تحقيق الإحساس الشرعي بالذات كانت صيغة التعويض النفسي عند الخروج على الأمة هي المبالغة في العبادة، مثلما كان من الخوارج، فبينما كان رسول الله يوزع الغنائم قال رجل : هذه القسمة لم يبتغى بها وجه الله. فأراد عمر قتله فمنعه رسول الله وقال له : "سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم "(2). و هذا في حالة خروج الفرد عن الأمة القائمة.
وكما كانت الأمة الواحدة والعبودية لله الواحد حقيقتان متساويتان في تحقيق الإحساس الشرعي بالذات، فإن الشيطان رضي أن يكون تفريق الأمة الواحدة بديلاً عن عجزه في منع العبادة لله الواحد. فقال : "إن الشيطان قد يأس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم"( ). لأن هذا التحريش قد ينتهي إلى تفرق الأمة و ذهاب ريحها كما في الحالة السابقة.
ونواصل تفسير العلاقة بين الذات والأمة .. وأهم حقائق هذا التفسير أنها علاقة متداخلة .. فالإنسان بذاته وعبوديته أصل إنشاء الأمة .. والأمة هي البيئة الشرعية للإنسان بذاته .
وباعتبار أن الإنسان العابد لله هو الأصل.. فإن إيثار الإنسان لنفسه برضى الله والبدء بتحقيق عبوديتها يدل على المعنى .. وقول الله عز وجل : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (نوح : 28) يمثل خطاً ثابتاً في عملية البناء الاجتماعي من خلال المعنى المطلوب إثباته. وهو البداية بالذات العابدة لله.
فالدعاء يبدأ لذات الإنسان.. ثم للوالدين، ثم لمن دخل بيته مؤمناً، ثم المؤمنين والمؤمنات .. (الأمة). وإذا كانت إقامة المجتمع المسلم هي النتيجة الأساسية للدعوة فإن الخط النفسي الرابط بين الدعوة و المجتمع المقام لابد أن يكون ثابتاً في إطار هذه الدراسة و قد أثبت النبي هذا الخط في حديثه البادئ بمرحلة ما قبل البعثة ثم البعثة ثم الدعوة و المواجهة ثم إقامة المجتمع متضمناً إثبات النموذج الاجتماعي الإنساني و ارتباطه بالدعوة في البداية و الجنة في النهاية. عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: "أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي، يَوْمِي هَذَا. كُلّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً، حَلاَلٌ. وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ. وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً. وَإِنّ اللّهَ نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ. وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ. تَقْرَأُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ. وَإِنّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ. وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ. وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ. وَابْعَثْ جَيْشاً نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ. وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ، وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ: الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً. وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ. وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ". وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ، وَإِنّ اللهَ أَوْحَىَ إِلَيّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتّىَ لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ علىَ أَحَدٍ ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَىَ أَحَدٍ"(1)
ففي الحديث تحددت صفات أهل الجنة الثلاثة باعتبارها أهم ركائز البناء الاجتماعي للأمة:
(1) ذو سلطان مقسط متصدق موفق .. فالسلطة العادلة في الناس الأمينة على أقواتهم والتي يبلغ من أمانتها التصدق على رعيتها من مالها تستحق التوفيق والإلهام ؛ ولذلك كان الصدق والأمانة مقدمتان أخلاقيتان لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه.
(2) و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم . . وأمام هذه السلطة رعية تعيش بالرحمة فيما بينها وبرقة القلب لكل ذي قربى ومسلم .
(3) و عفيف متعفف ذو عيال .. ومع المقسط المتصدق الموفق من ذوي السلطان ، والرجل الرحيم رقيق القلب على كل ذي قربى ومسلم من الرعية .. يكون مع الرعية أيضًا الرجل العفيف بطبعه والمتعفف عن السؤال رغم حاجته وهو ذو عيال .
وهذه الصفات هي عناصر البناء الاجتماعي للدولة المسلمة .
وبهذه الصفات يكون المجتمع المسلم وتكون الأمة وتكون الجنة .
كما تحددت في الحديث صفات أهل النار الخمسة باعتبارها أخطر أسباب الانهيار الاجتماعي للامه:
(1) الضعيف الذي ( لا قوة له ) ، الذين هم فيكم تبعًا لا يبتغون أهلاً ولا مالاً.
الحثالة الفارغين كماله العدد .
(2) والخائن الذي لا يخفى ( أي لا يظهر ) له طمع وإن دق إلا خانه.
و هؤلاء هم الخونة بطبعهم وتكوينهم وتصرفهم .
(3) و رجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك.
المخادعون : عن العرض والمال .
(4) و البخل والكذب .
(5) والشنظير سيئ الخلق .
وفي رواية : وأن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد . فالتواضع يمنع الفخر الذي إذا امتنع امتنع معه البغي.
وبصفات أهل النار تكون نهاية المجتمع ونهاية الأمة .. وتكون النار.
و لذلك كان إنشاء الأمة مرتبطاً بالالتزام بالحق و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و كان أول أحكام هذا الإنشاء هو البيعة وكانت البيعة بدورها مرتكزة على الطبيعة النفسية للإنسان المسلم.
ولذلك كان من بدايات هذا التعامل هو دخول المدينة طلباً لحماية الأنصار "مما تحمون منه نساؤكم وأولادكم"(1)، وكان هذا الأمر هو الذي يتفق مع الطبيعة العربية.
والبيعة في الأساس موقف نفسي وقلبي ولذلك يقول الرسول" أعطاه صفقة يمينه وثمرة فؤاده"(2).
فاليد ليست فارغة؛ إنما معها ثمرة الفؤاد، والفؤاد هو ثمرة القلب فما بالنا بثمرة الفؤاد؟ والبيعة : توازن تفسيقي سلوك الفرد و في العلاقة بين الفرد والأمة ولذلك قالت الصحابة: بايعنا رسول الله على:
السمع والطاعة : الولاء
في العسر واليسر : في كل الأحوال الواقعية.
والمنشط والمكره : في كل الأحوال النفسية.
وعلى أثرة علينا : الواجب النفسي الشرعي في العلاقة بالغير.
وعلى أن ننطق بالحق أينما كنا : الواجب الشرعي في العلاقة بالأمة.
"لا تخاف في الله لومه لائم"( ).
وفي إطار نقاط الانتماء الأساسية : (الذات – الأمة – العبودية) يكون نظام الانتماء.. و هو الحكم و السلطة و الخلافة.

القسم السابع
الخـــــلافة
الخلافـــة
والدراسة النفسية للخـلافة في إطار هذا الكتاب – تأتى امتداداً مباشراً لقضيتين منه: الدعـوة و علم النفس الاجتماعي و الأممي
و باعتبار أن الخلافة هي الامتداد بالواقع الاجتماعي الناشئ عن الدعوة و هي الحاكمية الأممية أو الحكم الإسلامي للأمم.
وارتباط قضية الخلافة بقضية الحكم والأممية يتحدد منهجياً بعملية نقل السلطة من الأمة اليهودية إلى الأمة الإسلامية.
أو ما يمكن تعريفه تحت عنوان:
الولاية الشرعية للبشر:
إن قضية الخلافة هي القضية الإنسانية الأولى لأنها ضبط الوجود الإنساني وفقاً لشرع الله سبحانه.
فإننا إذ نحكم قوماً معينين في مكان معين لإنشاء حكم الإسلام فإن ذلك قد يكون سهلاً إذا كان هؤلاء الناس يؤمنون بذلك ويرغبون فيه.
أما إقامة الخلافة التي تعني جمع كل البشر تحت نظام واحد.فهو الأمر الذي يتطلب الدراسة النفسية الدقيقة الوافية .
لأنها الولاية على كل الأجناس ... كل القارات ... الذين يؤمنون، والذين لا يؤمنون، وبصورة إنسانية راقية .. يشعر فيها كل إنسان بأمنه وحقه ومكانته. رغم اختلاف الطبائع الفردية والجماعية والأممية.
ولان هذه الولاية تقتضي اختيار الجماعة التي تقوم على عملية إنشاء الولاية بدقة نفسية متناهية.
وبذلك تصبح عملية إنشاء الولاية الشرعية على البشر هي أوسع دراسة نفسية يتضمنها الكتاب، وخصوصاً في مرحلة نقل الولاية في مدتها الأولى من اليهود إلى المسلمين.
مما يعني تحديد الصفات الأساسية المانعة من القيام بالمهمة (اليهود). وتحديد الصفات الإنسانية الموجبة لصلاحية القيام بهذه المهمة (المسلمين).
التفسير القرآني للولاية الشرعية:
ويناقش القرآن قضية الولاية من خلال عدة سور:
ـ سورة البقرة:
وفي سورة البقرة تبدأ مناقشة قضية الولاية الشرعية من خلال مفهوم التثبيت اليهودي على أفضليتهم على العالمين .
فالآيات تثبت ابتداءً هذه الحقيقة: أن بني إسرائيل كانوا في زمانهم أفضل العالمين، ولكن كيف تعامل اليهود مع هذا العطاء ؟
يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة: 47).
ثم تركز الآيات التي بعد هذه الآية على:
النجاة من آل فرعون. نِعمة.
وفرق البحر وإغراق آل فرعون. نِعمة.
ثم اتخاذ العجل. ذنب . والعفو عن ذلك. نِعمة.
ثم تذكر الآيات بعد ذلك:
طلب بني إسرائيل رؤية الله جهرة. ذنب.
ورزقهم المن والسلوى. نِعمة.
وانفجار الحجر اثنا عشر عيناً. نِعمة.
والاعتداء في السبت. ذنب.
ثم المراوغة في ذبح البقرة. ذنب.
ثم تقرر الآيات مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولاهم ينصرون (البقرة: 122،123).
وتتوالى الآيات الدائرة بين الذنب والنعمة، ثم تأتى الآية 124 من سورة البقرة متضمنة عهد الله بالإمامة لإبراهيم وذريته.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلاقة بين النعم والذنب من ناحية وعهد الله من ناحية أخرى وذلك في حديث سيد الاستغفار عن شدّاد بن أوس رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبُوءُ بِذَنبي، فاغْفِرْ لي فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ ما صَنَعْتُ. إذا قال ذلك حين يُمسي فمات دخل الجنة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حين يُصبح فمات من يومه مثله"(1)
معنى أبوء: أقرُّ وأعترف.‏
لأن الإقرار بالنعم دليل على الإيمان بالربوبية لأن الربوبية بالنعم، والاعتراف بالذنب دليل على الإيمان بالألوهية لأن الألوهية يكون مقتضاها في واقع العبد هو الوقوف على قاعدة الخضوع وقبول التكليف من الله، والخضوع وقبول التكليف هو الذي ينشئ الإحساس بالذنب عندما يخالف العبد الأحكام والتكاليف الشرعية.
من اجل ذلك كانت آيات سورة البقرة دائرة بين النعم والذنوب في بني إسرائيل حتى انتهت عند آية العهد.
ولكن مناقشة الآيات للنعم والذنوب في بني إسرائيل ارتكزت على الآثار المترتبة على تجربة الاستضعاف التي عاشها بني إسرائيل في حكم فرعون.
فلما كانت ولايتهم في الاستضعاف لا تتجاوز حدود الضرورات الحياتية اليومية.
كان تعامل القرآن معهم على هذا الأساس. فشغلت مسألة الأكل مواضع كثيرة من آيات التعامل.. وكان ذلك أهم النعم المذكورة.
- وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (البقرة: 57).
- وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شئتمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (البقرة: 58).
- وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة: 60).
- وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (البقرة: 61).
ولما كانت حياتهم في الاستضعاف بلا إرادة اجتماعية
فقد ظلوا فاقدين للإرادة الاجتماعية كنتيجة فقدها في فترة الاستضعاف
حيث كانوا عاجزين عن الوفاء بالعهود والمواثيق باعتبار أن هذا الوفاء إرادة اجتماعية؛ وكان هذا أخطر الذنوب المذكورة.
- وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (البقرة: 83).
- وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . (البقرة: 84). ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة: 85).
ثم جاءت آية الولاية على الناس - و التي يمكن أن نسميها آية العهد - في قول الله سبحانه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة: 124).
فأوضحت آية العهد أن الإمامة على الناس كانت لإبراهيم في الابتداء.
وذلك بعد أن أتم إبراهيم الكلمات التي ابتلاه الله بها.
وكان أهم هذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم .. هو الختان .
حيث جاء في تفسير هذه الكلمات قول ابن كثير:
"وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر اللّه بها إبراهيم الخليل عليه السلام،
- عن ابن عباس في ذلك روايات فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ابن عباس ابتلاه الله بالمناسك.(1)
- عن ابن عباس وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء.(1)
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الِاخْتِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ".(1)
ولكن مفهوم الابتلاء ينطبق أول ما ينطبق بالنسبة لإبراهيم على الختان .
لأن الختان كان أمراً لإبراهيم وهو في سن الثمانين من عمره وختن نفسه في هذا السن بقدوم من حديد ...
فانطبق مفهوم البلاء على الختان بصفة خاصة، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ أماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة:124). لأن بقية الكلمات لم تكن بنفس صفة الختان والبلاء به. مثل قص الأظافر والإبط والعانة..
ومن هنا جاء قول القرطبي في تفسير قول الله تعالى: صِبْغَةَ(2) اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (البقرة: 138).
(إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء).
ولكن الصفة الجامعة للكلمات نستطيع أن نقول فيها أنها الصفات المتعلقة بصورة مباشرة بالعلاقة الزوجية والمساعدة على إتمام معاشرة زوجية صحيحة..
ليكون الختان هو ضبط الشهوة حتى لا تتجاوز حد الضرورة.. فتتحول إلى غاية في ذاتها.
وتعامل إبراهيم الخليل مع نفسه في الختان يؤكد حدود الضرورة كسياج.
فيختتن وهو في سن الثمانين وبقدوم من حديد! فتشعر بالضرورة في كل عناصر الحديث الذي أخبر به النبي:
السن - المكان وحساسيته - والأسلوب - ولأداة.
والامتداد بالذرية هو واقع الإمامة.. لأن الله لما جعل إبراهيم إماماً بعد إتمام الكلمات سأل إبراهيم الإمامة لذريته. فكتب الله الإمامة لذريته باستثناء الظالمين منهم: ... قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة: 124) .
وبذلك أصبحت المعاشرة الزوجية الصحيحة باعتبارها بداية طبيعية للذرية - أصبحت هذه المعاشرة - بداية طبيعية للإمامة ..
وقد جاءت العلاقة بين الزواج والإمامة مباشرة .
في تفسير قول الله عز وجل: ربَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (الفرقان:74) .. يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له و قال ابن عباس: "يعنون من يعمل لله بالطاعة فتقر بهم أعيننا في الدنيا والآخرة."(1)
وقال عكرمة: "لم يريدوا بذلك صباحه ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين"(2)
وقال الحسن البصري – وقد سئل عن هذه الآية :- "أن يُري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمة طاعة الله لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو ولد ولد أو أخا أو حميما مطيعا لله عز وجل"(3)
و باعتبار ثبات العلاقة بين الزواج و الإمامة في الدين فإن الشيطان استهدف هذه العلاقة فنجده و هو يحارب سلطة سليمان و خلافته يحاول في نفس الوقت هدم العلاقة الزوجية و تدميرها على أساس أن هدم الحكم الإسلامي و العلاقة الزوجية هدفاً واحداً و كان ذلك هو مضمون قول الله سبحانه و تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أحد حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أحد إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (البقرة: 102).
الزواج والذرية والإمامة في الدين ..
و بذلك تحقق بالزواج و الذرية مقتضيات الإمامة في الذين:
1- فتتحقق الرجولة .. بالقوامة.
2- و تتحقق القيادة .. بالأبوة.
3- و يتحقق الصبر .. بالتربية.
4- و يتحقق اليقين .. بالاطمئنان.
و لكن هناك علاقة تفصيلية بين الزواج والإمامة ذات طبيعة نفسية إذ كان إحساس الغيرة والدفاع عن العرض هو الإمكانية الأولى لحماية الدعوة، و لذلك نشأ الولاء للجماعة ارتكازاً على طبيعة الغيرة والدفاع عن العرض؛ ولهذا كان نص البيعة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار هو قوله: "أن تحموني مما تحمون منه نساءكم وأموالكم ..."(1) وتبقى طبيعة الغيرة الإنسانية على العرض طاقة مستمرة لحماية الدعوة حتى تصبح الغيرة على الدين قرينة الغيرة على العرض، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".(1)
كما أن العلاقة الزوجية تغرس في نفس الإنسان صفة أخلاقية مهمة تعتبر الأساس الأول في الالتزام بالجماعة المسلمة، وتلك الصفة هي الارتفاع بمستوى الالتزام بالجماعة فوق مستوى الانفعال النفسي، وذلك لأن العلاقة الزوجية هي التي تحقق في الطبيعة الإنسانية صفة الاتزان السلوكي؛ لأن ثبات العلاقة الزوجية دون التأثر بالانفعالات النفسية قاعدة قرآنية، إذ يقول الله _ عز وجل _: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً.
و يقول الإمام ابن القيم في قوله _ تعالى _: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وقوله عز وجل: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، و الثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية، فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعادة، وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه، فالإنسان كما وصفه به خالقه (ظلوم جهول) فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره له بأمره ونهيه".
وهذا هو المطلوب في علاقة الرجل بالجماعة؛ إذ أن الالتزام بالجماعة المسلمة لن يكون صحيحاً إلا إذا ارتفع فوق الظروف النفسية، ومن هنا كانت البيعة على السمع والطاعة و العسر واليسر والمنشط والمكره كما قال الصحابة فيما يرويه البخاري و غيره عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ قَالَ: "بايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالأَثَرَةِ عَلَيْنَا. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَةُ. وَأَنْ نَقُولَ الْحَقَّ حَيْثُمَا كُنَّا. لاَ نَخَافُ فِي الله لومه لائم"(1)
ويفسر العلاقة بينها قصة بناء الكعبة وفيها
ـ آية العهد و بناء الكعبة و العلاقة الزوجية .
فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ فَشَكَتْ إِلَيْهِ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ قَالَ فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ كَيْفَ أَنْتُمْ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ مَا طَعَامُكُمْ قَالَتْ اللَّحْمُ قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ قَالَتْ الْمَاءُ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ قَالَ فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ قَالَ فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ وَأُعِينُكَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قَالَ فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(1) إلي أخر آيه العهد
لقد رفع إبراهيم بهذا الموقف قاعدة هامة للبيت المسلم قبل رفعه هو وإسماعيل القواعد من البيت الحرام.
وهي أن تكون الزوجة قرة عين للزوج حتى يكون للمتقين إمامًا ..
ولذلك كان لا بد من هذه القاعدة قبل أن يأخذ إبراهيم عهد الاستخلاف لنفسه وذريته ..
ومن موقف بناء البيت تتقرر الولاية للرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان الدعاء عند رفع البيت: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ" .
ولتتحقق الولاية على البشر بداية بفتح مكة ..
ومن هنا تحدد في فتح مكة أعظم مواثيق العلاقة الزوجية و وذلك في خطبة الوداع .. حيث قال صلى الله عليه وسلم: " أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف .واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت"(1)
ـ سورة الأعراف:
تبين من سورة البقرة أن أساس التعامل القرآني مع بني إسرائيل هو اعتبارهم أمة ذات وحدة نفسية واحدة حتى بلغ التعامل حد مخاطبة بني إسرائيل الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارهم امتداد واحد متجانس مع الذين كانوا في عهد موسى عليه الصلاة و السلام بأنهم كلما كانوا في حالة خروج على عهد الله عادوا إلى أخلاقيات فترة الاستضعاف عند فرعون والتمرد على موسى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(سورة البقرة: 83 ،85)
وكان اخطر مثال لهذا التعامل هو الربط بين نزع الولاية عنهم في عهد رسول الله بسبب عبادتهم للعجل في عهد موسى.
وهذا المعنى الذي أوضحته وأثبتته سورة الأعراف.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (الأعراف: 152).
فالغضب والذلة في الحياة الدنيا لا يتفقان مع استحقاق الولاية الشرعية على البشر.
لان الولاية و الخلافة رضى من الله سبحانه وعزه للبشر
وأراد موسى لقاء ربه لإعلان التوبة العامة لبني إسرائيل. فاختار نيابة عنهم سبعين رجلاً جعل الله سبحانه الجبل يرجف بهم كعلامة على أن الذنب أكبر من محاولة التوبة. ولكن الله سبحانه قَبِلَ دعاء موسى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شئتَ أهلكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (الأعراف: 155).
ولكن قبول الله لتوبة بني إسرائيل تضمن الأمر الإلهي بنقل الولاية.
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157,156)
ولذلك يأتي الإعلان على لسان رسول الله بنقل الولاية إلى أمته بصفته النبي الأمي
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (الأعراف: 158) .
وكما تبين من سورة الأعراف أن عبادة العجل كانت سبباً لنزع الولاية من بني إسرائيل بينت الآيات أيضاً أن انتقال الولاية إلى أمة النبي صلى الله عليه وسلم كان باعتبار الأمية وهي ما بينته آيات السورة. ولذلك تأتي سورة الإسراء لتناقش عملية نقل الولاية. باعتبار هذه الصفة.
سورة الإسراء:
فأثبتت هذه السورة في البداية الولاية لبنى إسرائيل ... بعد إهلاك فرعون
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيْلَ اسْكُنُوْا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيْفَاً وتقف الآيات ببني إسرائيل عند مرحلة ما بعد انشقاق البحر. التي جاءت من قول الله عز وجل فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً . وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (الإسراء:104,103)
ثم جاءت الآيات التي تثبت انتقال ولاية بنى إسرائيل إلي أمه النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
ولذلك قال بعدها: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً. (الإسراء: 106) .
وبذلك اجتمعت سورة الأعراف والإسراء على إثبات انتقال الولاية من بنى إسرائيل إلي أمه محمد صلى الله عليه وسلم ...
ولما كانت سوره الأعراف قد أثبتت نقل الولاية إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته النبي الأمي في الآية كما جاء في آيات السورة
وكانت سورة الإسراء إثبات مماثل ...
كانت حادثه الإسراء تشكل إجراءا فعليا لعمليه نقل الولاية إلي أمه الأميين
ولذلك كانت طبيعة هذا الأجراء مناسبة للصفة الأساسية لامه الولاية الجديدة ..
فكانت الأمية طبيعة هذه الليلة ابتداءً بتجهيز النبي بشق صدره وملئه حكمة وإيماناً حيث كانت عملية شق الصدر تحديداً المعاني بصورة حسية وهو جوهر مفهوم الأمية ومروراً بعرض الخمر واللبن على النبي واختيار اللبن وقول جبريل: "اخترت الفطرة" .. وانتهاء بالمرائي التي رآها النبي ليلة الإسراء. ومنها: التعبير عن حقيقة الربا برجل يسبح في نهر من الدم ويذهب إلى أحد شاطئي النهر فيلقم بحجر فيأخذه بفمه ويذهب إلى الشاطئ الثاني فيلقم بحجر وهكذا..فيقول: من هذا يا جبريل؟ _ فبقول: هذا آكل الربا(1)فنجد الارتباط بين الدم والمال باعتبار أن الدم والمال هما شريان الحياة، ونجد الحجر الذي يلتقمه حتى يشبع لأنه لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وهاهو يلتقم حجراً ونجد تكرار الموقف بين الشاطئين ليمثل كل شوط دورة من دورات الربا التي يضاعف بها المال كما يتضاعف الحجر.
مرأى آخر نرى فيه رجالاً أمامهم لحم نظيف طاهر، ولحم نتن عفن، فيتركون اللحم النظيف الطاهر، ويأكلون من اللحم العفن..
فيقول: من هؤلاء يا جبريل فيقول: هؤلاء الزناة يتركون نساءهم ويزنون. يتركون اللحم النظيف النقي ويأكلون اللحم العفن.
مرأى ثالث خطير ومهم.
رأى ثوراً يخرج من جحر ثم يحاول الثور أن يدخل في الجحر مرة أخرى، ولا يستطيع. قال: من هذا يا جبريل .
قال: هو الرجل يتكلم الكلمة فتخرج من فمه ويريد أن يعيدها إلى فمه ولا
يستطيع. هكذا تكون الكلمة غير المحسوبة.. ثور هائج لا يتحكم فيه أحد.. ولا يمكن أن يعود إلى الجحر.
وبذلك كانت المرائي مثالاً للأسلوب الأمي.. في طرح القضايا الإسلامية الضخمة و هذا هو مضمون الأمية .
سورة الجمعة:
ثم تأتي سورة الجمعة لتحدد في عملية نقل الولاية مفهوماً جديداً وهو أن الولاية لشخص رسول الله ولأمته معه، لامه الولاية الجديدة (الأمية) .
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . (الجمعة: 2). وقد تم ذلك بصفتهم الأميين.
لأن نقل الولاية ليس مهمة فردية أو شخصية خاصة برسول الله ولكنها للأمة بعد رسول الله إلى قيام الساعة، ولذلك قال: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. (الجمعة: 3).
والتفسير الأساسي لذلك هو فضل الله.
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (الجمعة: 4).
أما الطرف الذي نقلت منه الولاية فهم اليهود ولكن سوره الجمعة تصف اليهود وصفا لا ينتفي به ولا يتهم علي الإنسانية فقط بل تنتفي به صفتهم الإنسانية.
وهذا قول الله عز وجل مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة: 5).
تتضمن الآية دلالة أخرى أن بنى إسرائيل كانوا لا يحققون ما يعلمون كما ورد فيهم في سورة البقرة أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) و قال النبي في تفسير الآية "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"(1)
وكذلك تصورهم عن أنفسهم وادعاء أنهم أولياء لله من دون الناس وهم ليسوا كذلك بموجب ظلمهم حيث نصت آية العهد في سورة البقرة على أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله _ كما قال الله: قال لا ينال عهدي الظالمين.
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (الجمعة: 6).
أن الدراسة الإنسانية و النفسية لهذه الأمة التي نزعت عنها الولاية أمر سيكون أمراً ضرورياً .
دراسة نفسيه لليهود:
لقد كان الشرط النفسي الأساسي في أمة الولاية البشرية العامة؛ هو أن تكون هذه الأمة قادرة على استيعاب كل التجارب البشرية.
ولكن بني إسرائيل ظلوا أسرى تجربتهم حتى بعد تسلمهم الولاية، حيث كانت تجربة الاستضعاف والقهر هي المصدر الأعلى لكل خصائصهم النفسية.
وكانت أخطر الآثار النفسية المترتبة على فترة الاستضعاف، عدم وفائهم بالعهود وردهم الحقوق إلا بالقهر، لأنهم فقدوا حاسة الإرادة بالقهر الاجتماعي، لذلك أخذ الله عليهم عهد التوراة وقد رفع فوقهم جبل الطور.
فأخذوا التوراة خوفاً من وقوع الجبل عليهم.
ومن موقف الجبل المرفوع فوقهم يتبين أن فترة القهر والاستضعاف التي عاشتها بني إسرائيل في مصر، أوجدت عندهم بلادة في الإحساس فأصبحوا لا يتأثرون بمجرد الخوارق. حتى أصبحت حياتهم كلها بكل أيامها، ذات طبيعة خارقة.
ولعل هذه الحادثة التي رواها البخاري تدل على طبيعة الخوارق في حياة بني إسرائيل .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ"(1)
ولعلك تلاحظ كيف أن حواراً تم بين المرأة و رضيعها ولم تلتفت إلى أنه يتكلم في المهد.
وكذلك حادثة موسى عندما كان يغتسل وحده بعيداً عن بني إسرائيل. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ"(1)
فهو قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (الأحزاب: 69).
ولعلك تلاحظ في الحديث أن بني إسرائيل قد التفتت إلى موسى وعلمت أنه ليس به عيب ولم يلتفتوا إلى الحجر وهو يجري بثوب موسى.
هذه الطبيعة الخارقة لبني إسرائيل ... جعلتهم لا يتأثرون بالطرح الكلامي للرسالة.
فنجد أن ابتداء انقيادهم لموسى للخروج من مصر جاء بعد الآيات التسع التي أرسلها الله مع موسى لفرعون وملأه، كما كان استمرار انقيادهم لموسى للخروج من مصر كان بعد انشقاق البحر.
ولكن ذلك كله لم يؤثر فيهم أي تأثير..حتى إنهم لما وجدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (الأعراف:138).
غير أن أخطر أسرار التكوين النفسي لليهود المانع لهم من الولاية على البشر هو حسد العباد على القرب من الله، حتى أصبحوا لا يطيقون رؤية عبد قريب من الله سبحانه ..
فكيف سيقومون على تحقيق قرب جميع البشر من الله وإقامة واقع العبودية لله فيهم!!
ولعل حادثه العابد جريج التي من ذكرها دليل على ذلك . حيث لم يطيقوا رؤية جريج العابد يعبد الله في صومعته فتحايلوا عليه بالمرآة البغي حتى يفتنوه عن عبادته(1)
ولم تكن هذه الخصلة في أحد غيرهم حتى إن الله حاسبهم عليها كما حاسب القاتل من ابني آدم. وفي هذا كان قول الله في سورة المائدة:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أحدهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (المائدة: 27) .. حتى قال الله في آخر القصة: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة: 32).
لأن الحكم يدور مدار العلة فلما قامت العلة في بني إسرائيل وهي الحسد على القرب من الله كان لهم حكم القاتل من ابني آدم بسبب حسده لأخيه على قربه من الله.
و من أجل ذلك كان التقييم القرآني لبنى إسرائيل هو هذا المثل ...
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة: 5).لذلك فهم لا يصلحون للولاية.
وكما تبينت أسباب انتقال الولاية من بنى إسرائيل تبين من مجموع الآيات الواردة في السور الخصائص التي استحقت بها الأمة الإسلامية هذه الولاية و كان لهذا الاستحقاق شاهدين: الأمية والختان.
ـ الأمية:
تعريف الأمية:
الأمية معنى له تفسيران.
تفسير نظري وتفسير واقعي.
والتفسير النظري له جانبان:
- تفسير لغوي.
- تفسير اصطلاحي.
والتفسير الواقعي له جانبان.
- جانب خاص بالرسول خاصةً .
- الجانب الخاص بأمة رسول الله .
وبعد هذا الإطار يبدأ التحديد ...

* التفسير اللغوي:
الأمية نسبة إلى الأم، وهذه النسبة تعني الناحية المعرفية الناشئة عند الابن من خلال علاقته بأمه وتتميز هذه المعرفة:
بالفطرة .
والبساطة .
والحسية .
* التفسير الاصطلاحي:
وباعتبار أن هذه الطبيعة المعرفية لا يدخل فيها القراءة والكتابة؛ فإن الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب يكون أمياً ...
وهذا المعنى الاصطلاحي ناشئ عن أن القراءة والكتابة هي المرحلة التي يتجاوز بها الابن مرحلة التلقي عن الأم.
ومن هنا جاء المعنى بأن الأمية هي عدم القراءة والكتابة اصطلاحاً.
* التفسير الواقعي:
أما التفسير الخاص برسول الله فالرسول عليه الصلاة والسلام باعتبار معجزته ذات الطبيعة الحجية العقلية العلمية .. كان لابد أن يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب وذلك لإظهار الإعجاز بصورة كاملة .
وبذلك أصبح المعنى الاصطلاحي للأمية ينطبق على رسول الله.
فهو النبي الذي منعه الله أي معرفة قبل الوحي ..
أما تفسير الأمية الخاص بالأمة فله ثلاثة أبعاد:
البُعد الأول: إطلاق اسم الأمية على الأمة باعتبار انتسابها للنبي الأمي .
ولذلك أثبت القرآن خضوع غير العرب من المسلمين لصفة الأمية باعتبار الانتساب للامة الأمية وقوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
الجمعة: 3).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ قُلْتُ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أَوْ رَجُلٌ مِنْ هَؤُلَاءِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخْبَرَنِي ثَوْرٌ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ"(1)
ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته إلى جميع الناس و أنه فسر قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ، بفارس. ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى اتباع ما جاء به. ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، قال: هم الأعاجم وكل من صدق النبي من غير العرب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم عن سهل ابن سعد الساعدي قال: قال رسول الله: "إن أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يعني بقية من بقى من أمة محمد وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره، وقوله تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الجمعة: 4)(1)
يعني ما أعطاه الله محمداً من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته.
البُعد الثاني: هو عدم وجود أي معرفة حضارية للأمة قبل البعثة رغم معرفتها الثابتة للقراءة والكتابة ..
البُعد الثالث: هو المعنى الجامع للأمية بين الرسول والأمة فهو معنى الأمية ومنهج الدعوة.
فالأمية في منهج الدعوة ليست مستوى معرفي ولكنها أسلوب دعوي .. فنحن قوم أميون باعتبار أسلوب الدعوة الذي نراعي فيه كل المستويات البشرية الثقافية والعلمية..
ابتداء من التفهيم بالإشارة . عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ(2)
وهذا الحد يمثل الحد الأدنى للعقول التي نتعامل معها في دعوتنا.
وهو نقل الرسالة كما هي باعتبارها فطرة. فلزم عند الأميين أن تكون طبيعة التلقي لهذا الدين من طبيعة الدين. وأن تكون طبيعة اعتناقه من طبيعة تلقيه. وأن تكون طبيعة الدعوة إليه من طبيعة اعتناقه، وهكذا.
ـ الختان:
لقد تبين مما سبق أن الأمية كانت أساسية مباشرة في استحقاق أمة النبي للولاية ..
أما الختان فقد تبين أنه الأساسية الموازية للأمية ..
ونذكر الوثيقة الدالة على ركيزة الختان في الولاية .. بصورتها المباشرة كما كانت في الأمية و هذه الوثيقة أعطى فيها ملوك الروم الرسول صلى الله عليه وسلم لقب (ملك الختان) حيث كان لهذا اللقب دلالته السياسية الهائلة.
ومن هنا ننتقل إلى البخاري لنقرأ الوثيقة.. ففي كتاب بدء الوحي:
وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ(1)
وقد تبين من حديث هرقل عدة حقائق..
الأولى: أن ذرية إبراهيم المستحقون للإمامة بعد إتمام الكلمات هم اليهود والعرب.
وأن علامة إمامتهم هي الختان لأنها العلامة المشتركة بينهم. لذلك قال هرقل: لقد ظهر ملك الختان ..
والدليل على أن الملك سيكون عالمياً هو قول هرقل: لو كان كما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. لأن هرقل كان ملك العالم حيث جاء الحوار بعد انتصار الروم على الفرس .. وأصبحت الروم أقوى دولة في العالم.
واعتبار الختان (كعلامة كونية) على الولاية (كحقيقة قدرية) ليست المثال الوحيد للعلامة الكونية على الحقيقة القدرية.
فمثلها: خاتم النبوة .. وهي علامة كونية دالة على النبوة كحقيقة قدرية ..
وباعتبار أن الختان أساس للعلاقة الزوجية السليمة ..
وباعتبار أن العلاقة الزوجية الصحيحة أساس للشخصية ..
كان الختان أساس في التكوين الشخصي والنفسي للإنسان.
وباعتبار أن الختان مرتبط بشخصية إبراهيم الخليل ..
فإن الختان قد أحدث ارتباطاً شخصياً ونفسياً بسيدنا إبراهيم ..
واخطر الأدلة على ذلك هو الانفصال الشخصي والنفسي بين سيدنا إبراهيم والنصارى بسبب امتناعهم عن الختان.
وهذا الدليل هو الذي يفسر الأثر النفسي والشخصي وبالتالي الفكري والحضاري للختان على الإنسان.
ومن هنا كان الختان علامة كونيه للولاية على البشر
ـ القرشية:
وقد قضت آية العهد بمشاركة إسماعيل لإبراهيم في بناء البيت. وفي الدعاء (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك و أرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
ولقد كان لهذه المشاركة آثار جوهرية في قضية الإمامة.
وكان أهم هذه الآثار هو بقاء الإمامة في ذرية إسماعيل .. عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ"(1)
حيث بقيت في قريش ومنها النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك كان قول النبي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ ... "(2)
وعن عمرو بن العاص عن النبي قال: "عن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قال َ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قُرَيْشٌ وُلَاةُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(3)
ِ عَنْ أَبي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ وَادِيًا سَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ قَالَ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ صَدَقْتَ نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْأُمَرَاءُ"(1)
ومعنى التبعية كما فسره ابن حجر في فتح الباري..
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم - عبارة ابن حجر -
وهذا يعني أن الناس المسلمين كانوا تابعين لمن أسلم من قريش.
وان الناس الكافرين كانوا تبعاً لمن كفر من قريش وان من آمن من الناس هم الذين يقاس عليهم جميع المؤمنين وان أول من آمن من الناس من قريش هم الذين يقاس عليهم جميع المؤمنين وان أول من كفر من الناس من قريش هم الذين يقاس عليهم جميع الكافرين والحقيقة المبدئية في هذا القياس هي أن الإيمان ملة واحدة وان الكفر مله واحدة، والقرآن يثبت هذه الوحدة.
و ستظل تلك التبعية حتى آخر الزمان بدليل عَنْ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ اثْنَانِ"(2)
ولكن الرسول حدد لتلك التبعية عدة شروط ... فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله ثم صلى الله عليه وسلم الأمراء من قريش ما بثلاث ما رحموا إذا استرحموا وأقسطوا إذا قسموا وعدلوا إذا حكموا".
وقد كان لتلك التبعية الباقية بشروطها تفسير إنساني يتفق مع المهمة المرهونة بقريش و هو أن قريش تتمتع بخصال وهبها الله إياها و دل على ذلك ما روايا عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الله قريشا بسبع خصال فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قرشي وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون وفضلهم بأنه نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيهم غيرهم لإيلاف قريش وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية". الطبراني في الكبير
غير أن أهم خصائصها المرتبطة بمهمة الإمامة هو ما رواه أحمد في مسنده ومتفق عليه [البخاري ومسلم] عن أبي هريرة عن النبي قال: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"(1)
ـ العرق العربي:
و كما دخلت قريش في قضية الخلافة من مشاركة إسماعيل لإبراهيم في رفع القواعد من البيت دخل العرق العربي في قضية الخلافة من خلال القافلة العربية التي تزوج منها إسماعيل وكان أقوي دلائل ذلك:
اللغة العربية.
اللغة العربية... لغة رسالية:
إن تحليل اللغة العربية يأتي باعتبار أنها لغة الرسالة العامة والباقية، وهي الإسلام، مما يعني أن هذه اللغة تجاوزت بطبيعتها حدود الأمم وحدود الزمن. وذلك باعتبار أن العرق الذي قامت عليه الرسالة هو العرق العربي، وأن اللغة العربية هي لسان القوم حسب القاعدة المتبعة في كل الرسالات. ومن هنا جاء اختصاص اللغة العربية بالدراسة كظاهرة إنسانية تمثل أساساً رسالياً دعوياً.
و ينطلق تحليل اللغة العربية من شرفها كلغة للقرآن و فصاحتها كلغة للإنسان؛ ولكن التحليل يمتد ليصل إلى طبيعتها كأسلوب للدعوة.
واللغة العربية تتميز بارتباطها كلغة بطبيعة الدعوة. وذلك من حيث الإبانة عن المعاني العقيدية والتصورية وتوظيفها للدعوة.
ومن حيث التجاوب السهل مع قوة المعاني كضرورة للدعوة.
ومن حيث الفاعلية اللغوية في النفس البشرية كتأثير للدعوة.
و بمقارنة سريعة بين اللغة العربية و اللغة الإنجليزية في معني أي كلمة تتبين حقيقة اللغة العربية وقيمتها ومثال معنى الشيطان، فتجد في اللغة الإنجليزية مثلاً أن أحد مرادفتها demon ومعناها (الروح الحارسة)، أو (شخص ذو قوة) أو (نصف إله) فنلاحظ أن اللغة الإنجليزية تشتق من الاسم معاني لا تتفق مع حقيقة الشيطان.
ولكن اللغة العربية تشتق من الكلمة كل المشتقات المؤكدة لحقائقه المتعددة؛ فمن مادة شيطان: (الشطط)و وهو الغلو والبعد. و(الشط)و وهو التقابل والضد، و(شاط)و وهو الاحتراق والنار، و(أشاط) و وهو الإهلاك والتلف، و(شوطاً) وهو البعد.
و في غثبات ضعف الشيطان ضرب رسول الله للشيطان مثلاً كونياً و هو الذباب فقال: "عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَثَرَتْ دَابَّةٌ فَقُلْتُ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقُولُ بِقُوَّتِي وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ"(1)
و الواقع أن هذا المثل ليس مجرد تشبيه بين أمرين و لكنه مثل للعلاقة بين الشيطان والذباب بصورة كاملة مطلقة إلى الدرجة التي تصبح بها هذه العلاقة أساساً لحقائق اعتقاديه خطيرة للغاية.و لإثبات ذلك فإننا يجب أن نرجع إلى مادة ذباب في اللغة .. لتكون المفاجأة العظمى في العلاقة بين الشيطان و الذباب هي أن اللفظ و مشتقاته لا تخرج جميعها عن معاني الشيطنة.
(1) ذباب: من الذب و الذب هو الطرد و الدفع و المنع و كلها عوامل متعلقة بالشيطان تعلقاً مباشراً في قوله سبحانه قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً (الأعراف:18) مذءوماً: معناها الطرد و الخزى و الذم.
(2) رجل محشى الذباب: أي الجاهل.
(3) الذباب: الشر – فلان أصاب عن فلان ذباب أي شر – و أرض مذبوبة: موحشة.
(4) الذبذبة و الذباب: الأجراس: أشياء تعلق بالهودج أو رأس البعير للزينة و الواحد ذبذب أي جرس.
(5) الذبذب: سوءة الرجل و لسانه و هما ما ورد فيهما قول رسول الله: " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ "(1)
و قوله: "أخزن عليك هذا - وأشار إلى لسانه - إلا بخير تغلب الشيطان".
(6) متذبذب متردد و متحير من الحيرة.
(7) تذبذب في الهواء: تحرك و اضطرب من الاضطراب كما في الحديث "كآني أنظر إلى يديه تتذبذبان" أي تضطربان.
(8) ذبيبان كلمة تقال في الطعام الذي لا خير فيه.
(9) ذببنا ليلتنا و تعبنا و شقينا.
(10) الذباب: الطاعون والملاحظة المهمة هنا أن الذباب أحد أسباب مرض الطاعون و هو الذي وصفه رسول الله بقوله: "الطاعون قال وخز أعدائكم من الجن"(2)
(11) الذباب: الجنون ذب الرجل إذا جن.
(12) و أخيراً نأتي إلى الاشتقاق الأخطر و هو الذئب: و عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ‏(1)
ومنه ذؤبان الناس: أي الصعاليك و اللصوص و ذؤب الرجل يذؤب ذابة: خبث.
المتذائب: المضطرب. و يقال للذي أفزعته الجن تذأبته أو تذعبته.
عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِي شَعْرٌ طَوِيلٌ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذُبَابٌ ذُبَابٌ قَالَ فَرَجَعْتُ فَجَزَزْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَعْنِكَ وَهَذَا أَحْسَنُِ .(2)
وكذلك لفظة: (إبليس) تجد لها في اللغة العربية أربعة مشتقات هي في حقيقتها العناصر الأساسية لحركة إبليس، فإبليس من الإبلاس، والإبلاس هو الحزن والحيرة واليأس والندم. ولا يخرج إبليس من حيث الواقع في وجوده وأهدافه عن هذه العناصر.
ومن مفردات اللغة العربية الدالة على منهجيتها الكاملة كلمة "دخان" حيث كانت هذه الكلمة بكل مشتقاتها تفسيراً كاملاً للمسيح الدجال
أما تفسير دلالة الدخان على طبيعة الدجال فهو الأمر الذي يعود بنا إلى معنى كلمة (دخان) وخصوصاً إذا علمنا أن الدلالة مرتبطة بالاسم و حيث أن البداية كانت مجرد كلمة مخبئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم له(3).
ولكننا نفاجأ بتفسير كلمة: (دخان) لنجدها علامة الدجال من بـدايته إلى نهايته وكما جاء في لسان العرب:
فالدخن: الرجيع من الطعام الذي يتجنبه الناس. دخان: جدب.
الدخان: الجوع ليبس الأرض من الجدب وارتفاع الغبار فسبه غبرتها بالخان حتى قيل لسنة المجاعة: (سنة غبراء).
الدخان: الشر وضعت العرب الدخان موضع الشر إذا علا يقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان.
الدخن: رجل دخن متغير الدين والعقل والحسب.
دخن الخلق: ساء وفسد وخبث .
الدخن: الغم و ليلة دخنانه: أي شديدة الغم.
الدخن: الفتنة ستكون فتنة دخنها من تحت قدم رجل ...
الدخن: هدنة على دخن شبهها بدخان الحطب الربط لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر.
ومن تحليل كلمة الدخان ومشتقاتها يتبين التوافق بين الكلمة والدجال .
فمن حيث فتنة الدجال هي فتنة الجوع . كان الدخان: الرجيع من الطعام الذي يتجنبه الناس. والجدب و الجوع
ومن حيث أن فتنة الدجال هي فتنة الشر.
كان الدخان: هو الشر الذي يعلو .و السواد هو الغيم
وكان الدخان من حيث الخلق: هو السوء والفساد والخبث.
ومن حيث أن الدجال فتنة عن الدين.
وكان الدخن: هو تغير الدين والعقل والحسب.
ومن حيث أن الدجال علامة خداعية.
كان الدخن هو الخداع: لما في حديث هدنة على دخن و وصفت بذلك لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر يعني الخداع.
ومن مفردات اللغة العربية الدالة على منهجيتها كلمة "لحية" التي أمر رسول الله بإطلاقها حيث قال عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ.(1)
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى".(2)
إن مصدر هذا الاسم هو "اللحاء" فـ "اللحية" من "اللحاء" وهو قشر الشجر الذي يحميه و يعطيه صورته الخارجية الجميلة فأثبت المصدر "اللحاء" أن اللحية جزء من الإنسان ليس زائداً عنه و هذا الجزء هو الذي يعطى للإنسان صورته الجميلة كما يعطى اللحاء للشجر صورته الجميلة و هذا المفهوم هو الذي قالت فيه عائشة أم المؤمنين - رضى الله عنها:- "سبحان من زين الرجال باللحى"(1) و هذه العبارة تثبت مع ما سبق الإحساس الإنساني باللحية من جهة المرأة، فالمرأة بإحساسها الفطري الصحيح ترى اللحية زينة و صورة جمالية تميز الرجل .
ومن مفردات اللغة العربية الدالة على منهجيتها ما سبق قوله في معنى الشريعة فإن الشريعة لغة هي مورد الماء الذي يرده الأحياء للشرب فيثبت من خلال المعنى التوافق بين الوحي و الماء كما يثبت التوافق ضرورة الماء للحياة في قوله سبحانه: و جعلنا من الماء كل شيء حي.
وكذلك ضرورة الوحي للحياة في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم فتأتى كلمة الشريعة بمعنى مورد الماء لتثبت المنهجية المتكاملة لحقائق هذا الدين.

المعطيات النفسية لعناصر الإمامة: الاميه، الختان، القرشية.
• معطيات الأمية:
الفطرة.
البساطة.
الحسية.
وكانت معطيات الختان:
التوازن الاجتماعي (العلاقة الزوجية و الذرية).
وكانت معطيات القرشية
الأصالة الإنسانية و الوفاء بالعهد.
إن الأصل العرقي لإسماعيل هو إبراهيم بكل خصائصه النفسية و يضاف إلى تلك الخصائص في ذرية إسماعيل خصائص قبيلة جرهم التي صاهر إليها إسماعيل و يكشف طبيعة هذه القبيلة حادثة بئر زمزم إذ اتفقت القافلة مع هاجر أم إسماعيل على أن يشربوا من بئر زمزم على أن يجعلوا ابنها أميراً عليهم عندما يكبر ..
وكان من الممكن أن يقتلوها و ابنها و يشربوا من البئر كيفما شاءوا ..
وكان من الممكن أيضاً أن يشربوا من البئر رغماً عنها دون أن يقتلوها ..
ولكن الرجال يحتفظون لهاجر بحقها في البئر ويعقدون معها الاتفاق ..
ويكبر إسماعيل و يوفون بعهدهم و يصبح إسماعيل أميراً عليهم ..
وبذلك انصهر معدن قريش في معدن إبراهيم من خلال معدن تلك القافلة صاحبة العهد.
ليكون النبي صلى الله عليه وسلم خير هذه المعادن كما قال "أنا من خيار من خيار من خيار"(1) ليكون الصبر و اليقين هما أخلاق الإمامة في الدين
و بعد ركيزة الأمية و الختان على مستوى الأمة المسلمة يبقى أن نفهم أن خصائص الأمة صاحبة الحق في الولاية على البشر تبدأ بخصائص الإنسان فيها و أول هذه الخصائص على الإطلاق هي الصبر واليقين حيث كانت هاتان الصفتان شرطاً نفسياً للإمامة في الدين .. وهذه هي الآية الدالة على ذلك.
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون.
والملاحظ من الآية ما يدل على أن الصفتان شرطان للإمامة على مستوى الأمة صاحبة الحق في الولاية وهو المقصود بقول الله (وجعلنا منهم).
وتفسير اشتراط الصبر واليقين يرجع إلى أن الوصول إلى غاية الإمامة يتطلب الصبر على معاناة الواقع واليقين في غيب المستقبل ..
لأن الإمامة فرض نظام الإسلام على كل مجالات الواقع ومشكلاته.
ولذلك كانت القدرة على إقامة الولاية الإسلامية على البشر مرهونة بدرجة هاتين الصفتين على مستوى الأمة وأئمتها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو أقوى البشر صبراً ويقيناً.
ودليل ذلك حادثة الهجرة و غزوة والأحزاب .
أما حادثة الهجرة فقد كان فيها ...
إتباع سراقة بن مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الهجرة فساخت قدما فرسه في الأرض واتبعه دخان حتى استغاثة فدعا له فانطلق الفرس، وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سوارا كسري.( )
متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق.‏
وقد روى عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لمَّا جيء بفروة كسري وسيفه ومنطقته وتاجه وسواريه ألبس ذلك كلَّه لسراقة بن مالك بن جعشم وقال: الحمد لله الذي ألبس ثياب كسري لرجل أعرابي من البادية.(2)
قال الشَّافعي:(3) إنما ألبسه ذلك لأنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لسراقة ونظر إلى ذراعيه -: (كأنِّي بك وقد لبست سواري كسري) والله أعلم.
أما غزوة الأحزاب فكان فيها الخندق فيقول الصحابي . . .
فحفرنا تحت حتى بلغنا الندى فأخرج الله عز وجل من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه فرقي سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلا ولا كثيرا فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضرب الصخرة حصول صدعها وبرقت منها برقة أضاء ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فصدعها وبرق منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة فكسرها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم أخذ بيد سلمان فرقي فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال هل رأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا قد رأيناك عملا فيخرج برق كالموج ارثها تكبر فنكبر ولا نرى ذلك قال صدقتم ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسري كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق منها الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صادق بار وعدنا النصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما وقال المنافقون ألا تعجبون يحدثكم والباطل ويعدكم الباطل يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسري وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا ؟ وأنزل القرآن: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا(1)
وسنظل نحيا قبلك البشرى حتى يبلغنا النصر بإذن الله
وأخيراً نأتي إلى الصفات النفسية والأخلاقية للجماعة والأمة صاحبة الحق في الولاية على البشر.
جماع القول في سنة الله في باب الإمامة:
هذا وأريد الآن أن أبين لكم بكلمات موجزة تلك السنة التي سنها الله تعالى في باب الإمامة والتي مازالت نافذة من الأزل، وستبقى جارية ما دام النوع البشري حياً قائماً على فطرته على هذه المعمورة. فهاكم إياها:
إذا لم تكن في الأرض طائفة منظمة متصفة بكل من الأخلاق الأساسية والأخلاق الإسلامية، وهي تستخدم – مع ذلك – الوسائل والأسباب المادية، فلابد أن يُسَلم زمام القيادة والسيادة في العالم إلى طائفة تكون أكثر جمعاً واجتيازاً للأخلاق الأساسية والإنسانية، والأسباب المادية من غيرها؛ وذلك بأن قد جرت مشيئة الله أن يبقى نظام هذا العالم جارياً مطرداً على كل حال، فمن ثم يفوض أمر إدارته وتسيير دفة شؤونه إلى أعظم الطوائف المعاصرة قدرة وأكثرها كفاءة، أما إن كانت في الأرض فئة منظمة تمتاز من بين سائر الفئات الموجودة وتفضلها جميعاً في الأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية العامة معاً ثم لا تقصر في الوقت نفسه في استخدام الأسباب المادية حق استخدامها فمن المستحيل عندئذ أن تتسلم قيادة الأرض وتتمتع بسيادتها فئة أخرى بازائها؛ فإن ذلك مما يناقض من فطرة الكون ويناقض سنة الله التي سنها في الشؤون البشرية ويناقض مواعيده التي وعد بها المؤمنين الصالحين من عباده في غير موضع من كتابه العزيز. والله تعالى لا يحب الفساد في أرضه، وأي فساد أبشع وأشنع من أن ينقاد زمام أمور الأرض لفئة تعبث وتملأها ظلماً وجوراً مع أن فيها فئة صالحة قادرة على تسيير دفة حكمها طبقاً لمشيئة الرب ومرضاته تعالى. ومما ينبغي ألا يغيب عن البال أن نظام الاستخلاف في الأرض لا يمكن أن يتغير ويتبدل بمجرد وجود فرد صالح أو أفراد صالحين مشتتين في الدنيا، ولو كانوا في ذات أنفسهم أولياء لله تعالى، بل ومن أنبياًئه ورسله. إن الله تعالى لم يقطع ما قطع من المواعيد لأفراد متفرقين مشتتين وإنما قطعها لجماعة منسقة متمتعة بحسن الإدارة والنظام، قد أثبتت نفسها - فعلاً - أمة وسطاً أو خير أمة في الأرض. (أبو الأعلى المودودي).

الخاتمة:
وفي خاتمة الكتاب نعرض صورة وصفية سلفية للنفس البشرية يظهر منها جلياً القدرة التعبيرية الرائعة في وصف الإنسان، لنثبت من خلال هذه القدرة التعبيرية أن السلف هم الذين يملكون القدرة الكاملة في التعبير عن النفس البشرية ظاهرا وباطنا. وأن السلف هم أصحاب الحق الأصلي في طرح تلك القضية على العقل البشري ليفهم كل إنسان نفسه كما أراد الله له أن يفهم.
فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه وإلى بدنه وصفاته فترى به من العجائب
والصنعة ما يفضي إلى العجب وكل ذلك صنع الله من قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء، فما صنعه في ملكوت السماوات وكواكبها ؟ و ما حكمته في أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها، واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها ؟ فلا تظن أن ذرة من ملكوت السماوات تنفك عن حكمة وحكم بل هي أحكم خلقاً وأتقن صنعاً وأجمع للعجائب من بدن الإنسان، بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلي عجائب السماوات. ولذلك قال تعالى: أأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
(النازعـات: 29:27).
فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانياً. وتأمل أنه لو اجتمع الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً أو يخلقوا فيها عظماً أو عرقاً أو عصباً أو جلداً أو شعراً هل يقدرون على ذلك؟! بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته وكيفية خلقته بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه، فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصور على حائط تأنق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان، وقال الناظر إليها: كأنه إنسان، عظم تعجبك من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم في قلبك محله مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وبالحائط وبالقدرة وبالعلم والإرادة وشيء من ذلك ليس من فعل النقاش، ولا خلقه بل هو من خلق غيره، وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب مخصوص فيكثر تعجبك منه وتستعظمه!!
وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة، وخلقها خالقها في الأصلاب والترائب، ثم أخرجها منها وشكلها فأحسن تشكيلها، وقدرها فأحسن تقديرها وتصويرها، وقسم أجزائها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة. فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها
وزين ظاهرها وباطنها، ورتب عروقها وأصابعها، وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها، وجعلها سميعة بصيرة عالمة ناطقة.
وخلق لها الظهر أساساً لبدنها، والبطن حاوياً لآلات غذائها، والرأس جامعاً لحواسها.
ففتح العينين ورتب طبقتها، وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها، ثم حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها، ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماوات مع اتساع أكنافها و تباعد أقطارها فهو ينظر إليها.
ثم شق أذنيها وأودعها ماءً مراً ليحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها، وحوطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى صماخها، ولتحس بدبيب الهوام. وجعل فيها تحريفات و اعوجاجات لتكثر حركة ما يدب فيها، ويطول طريقه فيتنبه من النوم صاحبها إذا قصدها دابة في حال النوم.
ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله، وفتح منخاريه، وأودع فيه حاسة الشم ليستدل باستنشاق الروائح على طعامه وأغذيته، وليستنشق بمنفذ المنخارين روح الهواء غذاءً لقلبه و ترويحاً لحرارة باطنه.
وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقاً وترجماناً، ومعرباً عما في القلب. وزين الفم بالأسنان لتكون آلة الطحن، والكسر والقطع، فأحكم أصولها، وحدد رؤوسها وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم. وخلق الشفتين وحسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه وليتم بها حروف الكلام، وخلق الحنجرة وهيئها لخروج الصوت، وخلق للسان قدرة للحركات، والتقطيعات لتقطع الصوت في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها. ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته. والطول والقصر حتى اختلفت بسببها الأصوات فلا يتشابه صوتان، بل يظهر بين كل صوتين فرقاً حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة، ثم زين الرأس بالشعر، والأصداغ، وزين الوجه باللحية والحاجبين وزين الحاجب برقة الشعر، واستقواص الشكل، وزين العينين بالأهداب.
ثم خلق الأعضاء الباطنة وسخر كل واحد لفعل مخصوص، فسخر المعدة لنضج الغذاء، والكبد لإحالة الغذاء إلي الدم والطحال، والمرارة والكلية لخدمة الكبد، فالطحال يخدمها بجذب السوداء عنها، والمرارة تخدمها بجذب الصفراء عنها، و الكلية تخدمها بجذب المائية عنها، والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها، ثم تخرجه في طريق الإحليل. والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن.
ثم خلق اليدين وطولهما لتمتد إلي المقاصد، وعرض الكف وقسم الأصابع الخمس،
وقسم كل أصبع إلى ثلاث أنامل و وضع الأربعة في جانب، والإبهام في جانب، لتدور الإبهام على جميعها. ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجهاً آخر في وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع وتفاوت الأربع في الطول وترتيبها في صف واحد لم يقدروا عليه.
إذا بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض والإعطاء، فإن بسطها كانت له طبقاً يضع عليها ما يريد وإن جمعها كانت له آلة للضرب، وإن ضمها ضم غير تام كانت مغرفة
له، وإن بسطها وضم أصابعه كانت مجرفة له.
ثم خلق الأظفار على رؤوسها زينة للأنامل، وعماداً لها من ورائها حتى لا تنقطع، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل. وليحك بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذي هو أخس الأعضاء، لو عدمه الإنسان، وظهر به حكة لكان أعجز الخلق، وأضعفهم، ولم يقم أحد مقامه في حك بدنه، ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ولو في النوم والغفلة، من غير حاجة إلي طلب. ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل.
ثم خلق هذا كله من النطفة، وهي في داخل الرحم في ظلمات ثلاث، ولو كشف الغطاء والغشاء، وامتد البصر إليه لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئاً فشيئاً، ولا يرى المصور ولا آلته فهل رأيت مصوراً أو فاعلاً لا يمس آلته و مصنوعة ولا يلقيه وهو يتصرف فيه؟!!
فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه!! ثم انظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته، فإنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ وكأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه؟!!.
ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي، ثم لما كان بدنه سخيفاً لا يحتمل الأغذية الكثيفة؛ كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف، واستخرجه من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً، وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن و أنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي، ثم فتح في حلمة الثدي ثقباً ضيقاً جداً حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجياً، فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل، ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق؛ اللبن الكثير عند شدة الجوع.
ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخر خلق الأسنان إلى تمام الحولين، لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن، و إذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف، ويحتاج إلى طعام غليظ، ويحتاج الطعام إلي المضغ والطحن، فأنبت له الأسنان عند الحاجة لا قبلها ولا بعدها. فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثات اللينة، ثم حنن قلوب الوالدين عليه للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزاً عن تدبير نفسه !! فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه.
ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجياً حتى بلغ وتكامل، فصار مراهقاً ثم شاباً كهلاً ثم شيخاً؛ إما شكوراً أو كفوراً، مطيعاً أو عاصياً، مؤمناً أو كافراً تصديقاً لقوله تعالى:
هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً *إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان: 1،3).
فانظر إلى اللطف والكرم ثم إلى القدرة والحكمة، تبهرك عجائب الحضرة الربانية.
والعجب كل العجب ممن يرى خطاً حسناً أو نقشاً حسناً على حائط فيستحسنه فيصرف جميع همه إلى التفكر في النقاش و الخطاط، وأنه كيف نقشه وخطه وكيف اقتدر عليه، ولا يزال يستعظمه في نفسه ويقول: ما أحذقه وأكمل صنعته وأحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره، ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته!!

قال أهل الطب: لكل إنسان سبعة أمعاء: المعدة ثم ثلاثة متصلة بها رقاق ثم ثلاثة غلاظ، فالكافر لشرهه وعدم تسميته لا يكفيه إلا ملؤها، والمؤمن لاقتصاده وتسميته يشبعه ملء أحدها،

وأخرج البيهقي عن ابن محب عن أبيه قال: المعدة حوض الجسد والعروق تشرع فيه، فما ورد فيها بصحة صدر بصحة، وما ورد فيها بسقم صدر بسقم.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن السنى وأبو نعيم معافى الطب النبوي والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم"
............................
وقال لي مرة : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري , إن رحت فهي معي لاتفارقني , إن حبسي خلوة وقتلي شهادةوإخراجي من بلدي سياحة .
وكان يقول في محبسه في القلعة:لوبذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال ما جزيتهم علي ما تسببوا لي فيه من الخير وكان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله
وقال لي مرة المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالي واأسور من أسره هواه
ولكم دخل الي القلعة وسار داخل سورها نظر اليه وقال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كانم فيه من ضيق اتلعيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل لاضدها ومع ماكان فيه من الحبس والتهديد والإرهلق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا أسرهخم نفسا تلوح نضرة النعيم علي وجهه
.........ز
قال أحد المبتدعة لإبن تيمية وهم ينقوله من سجن الأسكندرية الي سجن آخر : ياإبن تيمية إن كل هؤلاء يطالبون بدمك ويريدون قتلك الآن
قال أتخوفني بالناس والله كأنهم ذباب
.....................ز
إنما سمي القلب من تقلبه إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرا لبطن .
............................
الشخصية
الزبير
النيل في حرب النجاشي
الأحزاب
فتح حصن بابليون
........................
...................
تكتب في في النفس
ـ وفي الصحيحين عن أنس قال كان رسول الله أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم
..................
تكتب في النفس
إذا تبايعتم بالعينة وأمسكتم أذناب البقر
..................
سوره فصلت
اعتبارها كشف وتبين لقضية الدعوه داخل النفس البشرية
......................

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك