.

حوار الأديان في مطلع الإسلام

تأكيدًا لأصالة الحوار في الإسلام وحضارته؛ نسوق بعض نماذج الحوار عبر عصور الإسلام المختلفة.. تتصدَّرها نماذج الحوار النبويّ والصدر الأول.
وتعدّ حوارات النبيّ محمد ص النموذج الأول للتأصيل الحواري العملي مع أصحاب الأديان الأخرى, فقد حاور الرسول محمد اليهود في المدينة وهو يعلم أنهم لا يريدون الحق؛ بل النيل من الرسالة والرسول، ومع ذلك قبل حوارهم، وعاملهم معاملة حكيمة حسنة.

عن عبدالله بن مسعود ] قال: بينما أنا أمشي مع النبي ص في طرف المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه؛ لا يجيء بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنه؛ فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم: ما الروح؟ فسكت:

فقلت إنه يوحى إليه، فقمت فلما انجلى عنه قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}(1).

وقد أجابهم الرسول ص بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}، قالوا له: من جاءك بهذا؟، فقال لهم النبي ص: «جاءني به جبريل من عند الله»، فقالوا: والله ما قاله إلا عدو لنا.

وفي قصة أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أتي رسول الله ص بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعًا (أي زنيا)، فقال لهم: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية. قال عبدالله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها فوضع أحدهم يده على آية

الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها، وما بعدها، فقال ابن سلام: ارفع يدك، فإذا بآية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول الله ص فرجما» (2).

وبعيدًا عن المشاعر الشخصية الأليمة التي عانى منها المسلمون في المدينة من اليهود؛ بعد أن عقد محمد رسول الله ص معهم معاهدة المواطنة الكاملة (صحيفة الدستور)؛ فإذا ببعضهم (وهم بنوقينقاع) يحاولون مرة الاعتداء على عرض امرأة مسلمة في أسواقهم (سنة 2هـ)، ومرة أخرى

نرى بعضهم (وهم بنوالنضير) يتآمرون على قتل الرسول نفسه (سنة4هـ)، ومرة ثالثة يقدمون على خيانة جماعية عظمى لمواطنيهم المسلمين، وهم في محنة حرب الخندق (بنوقريظة سنة 5هـ).

بعيدًا عن كل هذه الخيانات، وعن الحرب التآمرية الباردة الدائمة المتآزرة مع مشركي الجزيرة، ومخالفتها للدستور.

بعيدًا عن كل ذلك؛ يفتح الرسول والمسلمون لليهود صفحة الحوار دائمًا؛ حتى لا يظل المستقبل يدفع ثمن أخطاء الماضي.

فمن المعروف أنه بمجرد أن أقام المسلمون إمبراطوريتهم العالمية الخاصة، وطوروا نظامًا متقدمًا في شريعتهم؛ أسسوا نظام تسامح؛ ظل يسود الأجزاء المتمدينة في الشرق العربي لمدة طويلة؛ حيث تعايشت مجموعات دينية في ظله جنبًا إلى جنب. إن المعاداة للسامية خطيئة مسيحية غربية،

وليست خطيئة إسلامية، ويجب أن يكون ذلك حاضرًا في أذهاننا؛ كي لا نخضع لإجراء التعميمات.

ففي ظل الإمبراطورية الإسلامية تمتع اليهود مثلهم مثل المسيحيين بحرية دينية كاملة، وعاش اليهود في المنطقة في سلام؛ حتى إقامة دولة الكيان الصهيوني في سنة 1947م.

ولم يعان اليهود في ظل الإسلام قط ما عانوه في ظل المسيحية

أما الأساطير الأوروبية المعادية للسامية؛ فقد قدمت إلى الشرق العربي؛ في نهاية القرن الماضي؛ على يد البعثات التبشيرية المسيحية، وكانت الجماهير عادة ما تقابلها بالازدراء (3).

ومن الجدير بالذكر هنا أن نقول: إن تغاضي المسلمين عن إساءات اليهود البالغة لهم عبر التاريخ، وتغاضيهم عن خيانتهم للدستور الذي وضعه رسول الإسلام، وأعطاهم فيه حق المواطنة الكاملة في المدينة المنورة (وطنهم)، ومع ذلك خانوا الدستور والوطن؛ في محنة شديدة؛ كاد المسلمون

لولا رعاية الله يبادون فيها.

إن هذا التغاضي من المسلمين عن صفحات خيانة اليهود الكثيرة ضدهم يؤكد أن المسلمين ينظرون إلى الحرب على أنها أمر استثنائي بغيض، وأنه لا ينبغي على المسلمين أن يبدأوا بالعداوات؛ لأن الحرب العادلة هي التي تشن للدفاع عن النفس فقط؛ ومع ذلك فمتى دخلوا الحرب وجب عليهم

أن يقاتلوا بالتزام أخلاقي مطلق، لكي ينتهي القتال في أسرع وقت ممكن.

- كما تقول أرمسترونج كاترين وإذا اقترح العدو هدنة أو أبدى استعدادًا للسلم؛ فإن القرآن يأمر المسلمين ألا تكون شروط السلام غير أخلاقية أو مخزية؛ لكن القرآن يؤكد أيضًا على أن إنهاء الصراع الحربي أمر مقدس؛ على أن تتم مواجهة العدو بحزم، وأنه يجب تحاشي أي تردد؛ لأن

ذلك يعني أن يستمر الصراع لأجل غير مسمى.

إن هدف أي حرب في الإسلام هو إحلال السلام والوفاق في أسرع وقت (4).

وباستثناء الحوارات التي تمت بالتأكيد بين المسلمين والنصارى في الحبشة أثناء لجوء المسلمين إلى حاكمها (النجاشيّ) الذي لا يُظلم أحد عنده، كما وصفه الرسول ص.. وهي حوارات لم يصلنا منها إلا النذر اليسير، وأبرز ما وصلنا منها حوار النجاشيّ نفسه، مع جعفر ابن أبي طالب ]

عندما أرسلت قريش وفدًا برئاسة عمرو بن العاص ليردّ النجاشيّ اللاجئين المسلمين إليها؛ حتى تفتنهم عن دينهم بممارسات التعذيب والتنكيل التي كانت تمارسها معهم.

وكانت سورة مريم وما ورد فيها عن نبيّ الله عيسى عليه السلام هي السبيل لرضا النجاشيّ عن الإسلام، وطرده للوفد القرشي، وتمسكه بحماية المسلمين.

باستثناء هذه الحوارات التي نأمل أن يكشف التاريخ بعضًا من صفحاتها الخافتة؛ فإن أبرز حدث احتل مكانة تاريخية ودينية بارزة في مجال الحوار بين الإسلام والنصرانية تمثل في الحوار بين الرسول عليه السلام ووفد نجران النصراني؛ الذي ضم أكثر من ستين شخصًا؛ منهم أربعة عشر

من أشرافهم، وثلاثة من كبار رجال دينهم (الأسقف، والسيد، والعاقب)؛ فاجتمعوا بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة سنة (8هـ/630م)، واستقبلهم الرسول في مسجده، وعليهم الحبرات (الشارات النصرانية)، ثم جرت بينه وبينهم مناظرة؛ كان من بين موضوعاتها، معجزة ولادة

عيسى عليه السلام، وموقف الرؤيتين النّصْرانية والإسلامية منها، وصلة عيسى بالله، هل هي صلة الابن بأبيه، أو صلة النبي الإنسان بالله؟

وقد ناقشوا الرسول ص مستشهدين بما جاء في القرآن الكريم من أن عيسى عليه السلام كلمة الله وروحه.. ناسين أن القرآن الكريم ورد فيه أيضا توضيح معنى ذلك؛ متمثلًا في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (5).

فهل آدم ابن الله؟ مع أنه بالمقياس العقلي والتاريخي أحق بالبنوّة من عيسى؛ لأنه ولد من غير أب وأم؛ ولأنه أول الناس خلقًا.. وقد أقامه الله في الجنة فترة!!

لكن أحدًا لم يقل ببنوّة آدم لله.. لأن الله لا ولد له؛ وكل الناس عبيده، وكلهم خلق من جملة مخلوقاته التي لا تعدّ ولا تـُحصى

فلماذا عيسى وحده ابن الله إذن؟

كما أن النصارى جادلوا النبي محمدًا في معنى قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (6)؛ قائلين: إنهم لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا.. فبين لهم الرسول أنهم نظروا إلى أحبارهم ورهبانهم على أنهم معصومون؛ يملكون حق التحريم والإباحة، وهذا الحق لله

وحده.. فمن يزعم أنه يملكه يشرك بالله، ويكون مدعيًا للألوهية.. فتلك عبادتهم إياهم.. أليسوا يؤمنون بأن ما يحلونه في الأرض يحله الله في السماء، وما يحرمونه في الأرض يحرمه الله في السماء؟ فكأن الله تابع لهم! وكأنهم يقدسون الأحبار والرهبان أكثر من تقديسهم لله!!

وبعد هذا الحوار عقد الرسول معهم اتفاقًا شهيرًا؛ يمثل نموذجًا للمعاهدات الإنسانية الراقية.

ويقول مارسيل بوازار: لقد عقد النبي محمد عليه السلام اتفاقًا مع نصارى نجران اعتبره فقهاء المسلمين نموذجًا للتنظيمات الصالحة للتطبيق على الأقوام الخاضعة للإسلام.

وقد تعهد الرسول ص بحماية سكان مدينتهم وجوارها، وتأمينهم على نفوسهم وممتلكاتهم، وضمان حريتهم في التمسك بعقيدتهم وعبادتهم. ولقد شملت الحماية الضمان لجميع السكان؛ في حين ظلت مسؤولية الانتهاكات مسؤولية فردية؛ فلا يؤخذ أي معاهد بجريرة آخر.

ولم يفقد أهل نجران من الوجهة القانونية الصرفة أي حق من حقوقهم، باستثناء ما كان من أمر تحريم الربا.

وكانتْ هناك أحكام خاصة تمنع تدخل النفوذ الإسلامي في الجهاز الحكومي الكهنوتي المسيحي، وتحظر الإساءة إلى أهل الذمة، وكل شكل من أشكال الاضطهاد (7).

- من حوارات المسلمين في العصر الأموي والعباسيّ

تمثل قصة يوحنا الدمشقي (670ـ 750م) مع الإسلام نموذجًا للتسامح الإسلامي، وللكرم الكبير الذي أسبغه خلفاء بني أمية عليه وعلى أمثاله من مجادلي أهل الكتاب، وهم يعلمون أنه وأباه من قبله يتعصبون تعصبًا شديدًا للأرثوذكسية.

- لقد عمد يوحنا الدمشقي إلى كتابة كتابين يشير فيهما إلى الإسلام على مستوى التاريخ والعقيدة والقرآن والأخلاق والممارسات.

- ولقد انتهج يوحنّا الدمشقي منهجًا مبتورًا متعسفًا في كتابته عن الإسلام، ولذلك لم يُدخل في نهجه، وهو يدرس الإسلام، مسائل جدلية حول ما إذا كان مجيء محمد قد وَرَدَ في نبوءات أنبياء تقدموا عليه، أو ما إذا كان قد أتى بمعجزات تفوق مثيلاتها لدى عيسى وموسى عددًا وأهمية، أو ما

إذا كان الأسلوب البلاغي في القرآن دليلًا على نبوّة الرسول.

بل من المؤسف أن نقول: إن يوحنّا رفض التعرف الموضوعي على الإسلام، وأن المسيحية الأرثوذكسية هي التي استقطبت وحدها جلّ اهتمام يوحنا الدمشقي، فهو يدرس الإسلام ابتداءً لتفضيل الأرثوذكسية عليه، ولتشويهه وتفنيد حقائقه، وهو تحيّز «غير علمي»، ويكفي لبيان عنصريته

الأرثوذكسية أن يوحنّا الدمشقي يعدّ الإسلام من جهة، وحركة تحطيم الصور و«الأيقونات» والمعتقدات الشعبية من جهة ثانية من وجهة نظره بدعتين معاصرتين (8)، وكان جزاؤه على هذا التحيزّ من بني دينه أنفسهم، فقد تمت إدانته في مجمع «هاييريا» سنة754م، وذكر باعتباره

هالكًا لعدم رفضه لتقديس الأيقونات.

ومن أكبر أدلة تعمد يوحنا الدمشقي تشويه الإسلام ما اعترف به دانييل ساهاس من أن يوحنا كان يحاول التشكيك في كون الإسلام دين إبراهيم الحنيف من خلال وصفه المسلمين، على نحو لا يخلو من الخبث

وأيًا كان أمر المنهج الفاسد الذي استعمله بخبث شديد (كما يقول ساهاس) يوحنا الدمشقي، فإنه قام بإيجاد مناخ جدلي صاخب مع المسلمين.. كما أن عنصر الإثارة والجدَّة اللذين استخدمهما الدمشقي في مناقشاته العقدية، ومراسه الفلسفيّ في تطويع مقولات الفلسفة اليونانية والمنطق، شكلت

كما يقول ساهاس أمورًا كان من نتيجتها أن استرعت انتباه المسلمين، وشدّت اهتمامهم إلى ما يتجاوز المضامين الفكرية (يقصد الباطلة) موضوع المناقشة (9).

- كما أن يوحنا الدمشقي، الذي عاش في فترة متقدمة خلال العصر الأموي، كان واحدًا من الذين ألهموا المسلمين ووجهوهم لدراسة الإسلام، لأغراض ذاتية على وجه التحديد، باستخدام نماذج وإنجازات مستقاة من حضارة أخرى، (وهو تفاعل حضاري مقبول).

وفي العصر العباسي ثمة حوار طريف نذكره ونعدّه دليلًا على مستوى راقٍ من الحوار الحضاري في هذا العصر.

فقد قال الخليفة المأمون لمرتدٍ إلى النصرانية: خبِّرنا عن الشيء الذي أوْحَشَك من ديننا بعد أُنْسك به، واستيحاشِك مما كنت عليه؟

قال المرتدّ: أَوحَشني ما رأيتُ من كثرة الاختلاف فيكم، قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان، والتكبير في الجنائز، ووجوه القراءات، ووجوه الفُتيا؛ وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخيّـُر وسعة وتخفيف، فمن أذَّنَ مَثْنى وأقام مثْنَى لم يُخطِّئ من أذَّن مَثْنى وأقام فُرادَى، ولا

يتعايرون بذلك ولا يتعايبون.

والاختلاف الآخر: كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عَيْن الخبر.

فإن كان الذي أوْحَشَك هذا حتى أنكَرْت هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقًا على تأويله، كما يكون متفقًا على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها، ولو شاء

الله أن يُنزِّل كتبه، ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل.. قال المرتدّ: أشهد ألا إله إلا الله، وأنّ المسيح عبدٌ، وأن محمدًا صادقٌ، وأنك أمير المؤمنين حقًا.

ولم تكن الحروب الصليبية كما هو المتوقع حربًا كلها، على امتداد كل الأيام أو الشهور؛ بل كانت تتخللها فترات سلم كثيرة، تمليها ضرورة الحياة والطبيعة الإنسانية؛ لحرب استمرت قرنين ونصف قرن من الزمان.

وفي ضوء هذا، لا يبدو من المستغرب أن تزدهر العلاقات التجارية والثقافية بين الصليبيين الذين احتلوا الرها، وأنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس، واستوطنوها، وبين المسلمين في هذه الأيام الصليبية التي يتقاتل الناس فيها حينًا، ويتبادلون التجارة والثقافة حينًا آخر؛ في عملية حوارية من

أطرف العلاقات الجدلية في التاريخ.

وإذا كان التتار؛ الذين دمروا بغداد، وقضوا على الخلافة العباسية في العراق، قد خرجوا وهم المنتصرون عسكريًا مسلمين دينًا؛ بعد أن عمدوا بفطرة غير مركبة على التعرف الموضوعي على الإسلام.. فإن الأوروبيين الذين يحملون تراثًا مركبًا، وفطرة دنيوية مصلحية بحتة (براجماتزم)

قد خرجوا وهم المنتصرون أولًا والمنهزمون أخيرًا بإدراك حقيقة الإسلام؛ مع اتخاذ قرارهم بعدم الاقتراب الموضوعي منه، والعمد إلى تشويهه، والاكتفاء بنقل علومه وثقافته العامة، ونظمه، ونواحي تقدمه؛ وذلك خشية على أوروبا من الإسلام.. وزادوا الطين بلـّة فكونوا كتائب من

المستشرقين ثم المستغربين للحفاظ على هذا التشويه، ولذلك؛ فقد ظل الجهل والتحيز قرونًا يحيطان بمعرفة بيزنطة والغرب بالإسلام والعالم الإسلامي؛ فالبيزنطيون الذين تصارعوا مع المسلمين لثلاثة قرون؛ كان لديهم أدبهم الشعبي الذي يصور المسلمين يعبدون ثلاثين إلهًا أكبرهم «

مهومد»، كما يذكر ذلك «ريتشارد سوذرن»؛ مستغربًا فظاعة الأساطير المنتشرة عن الإسلام في الغرب خلال القرنين التاسع إلى الثاني عشر. وعلى الرغم من التعايش عن قرب مع المسلمين لعدة قرون في إسبانيا، والحروب الصليبية، مما يفترض معرفة أفضل؛ إلا أن واقع الحال يذهب

باتجاه مغاير (10).

ومن أدلة الجهل المطبق الذي كان عليه الصليبيون قبل أن يتعرفوا على المسلمين في الحروب الصليبية، ما هو معروف من الطبيعة الغوغائية لسلوكيات الحملات الصليبية الأولى؛ ليس ضد المسلمين وحدهم، بل ضد البيزنطيين أيضًا، ويضاف إلى ذلك أنهم عندما احتلوا مدينة (طرابلس الشام) التي أصبحت إحدى مستعمراتهم لم يترددوا في إتلاف مكتبتها العامرة بمائة ألف كتاب. ومع هذا فالزمن وما يحمله من احتكاك مباشر، وغير مباشر، والرغبة في معرفة العدو.. كل هذه الأمور ستدفع الصليبيين باتجاه التعرف أكثر على معالم المسلمين، والاقتباس من المظاهر المختلفة

للحضارة العربية الإسلامية؛ التي ستفرض نفسها كحضارة أرقى على رجال الغرب (11).

وعندما يتقدم الزمن تنداح بالاحتكاك الحضاري غشاوات الجهل تدريجيًا، ولهذا فليس من المستغرب أن تزدهر التجارة الداخلية في عصر الحروب الصليبية، لحرص كل من المسلمين والصليبيين على المواد التي توفرها لهم عائدات التجارة، ومع هذا التطور الذي أملته الضرورات في

النواحي الاقتصادية؛ كان لابد من وجود تطور ولو بدرجة متفاوتة في النواحي الثقافية، وقد وقع هذا التطور فعلًا على النحو المصلحي الذي أشرنا إليه؛ فقد كيَّـفت أوروبا الثقافة والعلوم تكييفًا مصلحيًا؛ لا علاقة له بالحق ولا بالموضوعية، ولا بإنصاف الآخر، بل حسبها أن تأخذ منه ما

يفيدها من جانب وما يحميها من الإسلام والمسلمين (الأعداء الثابتين) من جانب آخر. وكما رأينا الجانب الإيطالي يخضع النواحي العسكرية للنواحي المصلحية والاقتصادية؛ كما تدلنا الوقائع التي أشرنا إليها؛ والتي ذكرها كثيرون مثل ميخائيل زابوروف صاحب كتاب «الصليبيون في

الشرق»، وقاسم عبده قاسم في كتابه: «ماهية الحروب الصليبية» وستيفن رنسيمان في تاريخه للحروب الصليبية (الجزء الثالث).

كما فعل الصليبيون هذا، في النظرة التكييفية، على النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية.. وبالتالي الدينية الخاصة بهم، كذلك فعلوا في نقلهم وتعلمهم من المعارف الإسلامية؛ خضوعًا للعنصرية، وحفاظًا على حاجز نفسيّ وفكريّ بينهم وبين المسلمين.

لقد حفزت الحروب الصليبية الفرنجة الهمج على التعلـّم من المسلمين، وقد اتسعت معرفتهم بما في العالم العربي من جغرافية بشرية، وتاريخ، وعلوم؛ مما خلق عندهم نهضة في دراسة القانون، والطب، والمنطق، وبدأوا بتكوين نقابات من المدرسين أسسوا عليها فكرة الجامعة. وهكذا نشأت

الجامعات من جامعة باريس إلى أكسفورد، وكمبردج بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي.

كما اتسعت خبرة الصليبيين وثروتهم، ووقفوا على فنون الشرق وصناعته، وما فيها من رونق وفن ودقة. والراجح أن المستوى العام للمعيشة في الغرب كما يشير إلى ذلك رنسيمان لم يرتفع إلا بفضل رغبة العساكر والحجاج العائدين في أن يلجأوا في أوطانهم إلى محاكاة ما اشتهر به الشرق

من مظاهر الحياة (12).

وأيضا كما يعترف رنسيمان سيصبح الأوروبيون بفضل ما يأخذونه من المسلمين في الحروب الصليبية قادرين على أن يميزوا بين السلوك، وأساليب الحياة الحضارية الإسلامية (العلوم، والتقنيات، والذهنيات، والتفلسف العربي والإسلامي …) وهذه يأخذونها وقد يعترفون أحيانًا بفضلها وقد

لا يعترفون في أحيان أخرى كثيرة!! لكنهم كما يؤكد رنسيمان يظلون محافظين على جهلهم وعدائهم للإسلام وعقيدته (عقيدة التوحيد) وهو ما يمثل ظلمًا تاريخيًا وأخلاقيًا كبيرًا

ومع ذلك كله يؤكد رنسيمان على القيمة الحضارية للحوار أثناء فترة الحروب الصليبية، مشيرًا إلى أن هذه الفترة التي امتدت قرنين ونصف من أهم مراحل التاريخ المؤثرة في المدنية الغربية؛ إذ إن أوروبا لم تكد تخرج من مرحلة غارات المتبربرين الطويلة الأمد؛ التي يطلق عليها العصور

المظلمة (العصور الوسطى)؛ حتى كانت بفضل المسلمين براعم ما نطلق عليه النهضة الأوروبية تأخذ في الظهور (13).

الهوامش

(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، 47، قول الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} (سورة الإسراء: 85).

(2) رواه البخاري.

(3) أرمسترونج كاترين: محمد، ط2، 1988م، مسطور للنشر، مصر، ص309.

(4) المرجع السابق، ص310.

(5) آل عمران: 59.

(6) الشهيد/ سيد قطب: في ظلال القرآن، انظر تفسير الآية (31ـ التوبة)

(7) مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام، ص192.

(8) مجلة الاجتهاد: بيروت، عدد28، دانييل ساهاس ص123ـ 124 بتصرف.

(9) مجلة الاجتهاد: مرجع سابق ص132 - 133بتصرف.

(10) شمس الدين الكيلاني: حقبة الحروب الصليبية، والوضع على طرفي المجابهة التاريخية، مجلة الاجتهاد، عدد 18، بيروت.

(11) شمس الدين الكيلاني: المرجع السابق.

(12) شمس الدين الكيلاني: المرجع السابق.
المصدر

مجلة الوعي الاسلامي
المصدر: http://www.iraqisg.org/ShowNews.php?id=4628

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك