الوحدة الإسلامية ومحـاربـة التعـصـب

الوحدة الإسلامية ومحـاربـة التعـصـب
كلمة سماحته التي ألقيت بالنيابة عنه في المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقد في لوس أنجلوس خلال الفترة من 2-4/8/1996م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين وبعد:

تمهيد:

جل الله القائل: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}سورة الأنبياء: [الآية: 92] الإسلام دين الوحدة والتوحيد، فالله واحد والدين واحد والمصير واحد.

إن الإسلام أزال الفوارق بين أفراد مجتمعه، فجعلهم يذوبون في بوتقة واحدة، وزرع بذور نجاح الوحدة فيها، من خلال شعور أفراد المجتمع بهذه الأخوة، ومن خلال وحدة ثقافية ولغوية واجتماعية، ومنع العدوان والتجاوز حتى لا يطغى بعض الأفراد على بعض.

لم يجعل وحدته تقوم على أساس عنصري، ولم يبن اتحاده على أساس اقتصادي، ولم تقم وحدة الإسلام على أساس جغرافي.

إن الوحدة التي دعا إليها الإسلام لا تقوم على المغالبة، فالأفراد متعاطفون متضامنون، وفيها تتحقق العدالة فلا عنصرية ولا عصبية، والعلو في مجتمع الإسلام يقوم على أساس فعل الخير لا على أساس نبل الدم.

يقول تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(سورة الحجرات: [الآية: 13].).

ويقول نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم: ((الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله))(أبو يعلى في مسنده، والبزار والطبري عن أنس وابن مسعود [كنز العمال جـ6 ص360].).

الوحدة الإسلامية في التاريخ:

عندما يتحدث البعض عن الوحدة الإسلامية قاصداً بها اجتماع المسلمين في دولة واحدة، يخيل إليه أنه يتحدث عن خرافة أو خيال.

ولئن كانت الوحدة الإسلامية خيالاً فأي شيء هو الحقيقة في هذا الوجود؟!

لما بنى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دولته الأولى على نطاق مدينته المنورة كان يبشر أصحابه بدولته الكبرى بفتح بلاد فارس، وبلاد الروم، واليمن... وفعلاً لم ينتقل إلى جوار ربه حتى جعل جزيرة العرب كلها دولة واحدة، وكان في مرضه الأخير عندما جهز جيش فتح الشام الذي أمّر عليه الشاب المجاهد أسامة بن زيد.

وتتابعت الفتوحات في عهد خليفته الصديق، واتسعت رقعة الوحدة، وهكذا في عهد عمر وعثمان.... ووصل الإسلام إلى حدود الصين ثم إلى حدود باريس غرباً، وصار الناس أمة واحدة ؛ العربي أخو الصيني، والفارسي أخو الرومي، وبقوا كذلك ماداموا ملتزمين بقول الله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(سورة الأنفال: [الآية: 46].)، و بمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى - ثم قال صلى الله عليه وسلم -: اللهم فاشهد))(البيهقي عن جابر مرفوعاً.).

ولما خالفوا هذا النهج تفرقوا وتشتتوا، وبعد أن سادوا نصف العالم خسروا أنفسهم، آثروا الاختلاف على الاتفاق، والفرقة على الوحدة، ونصّبوا على رأس الدولة الإسلامية أكثر من خليفة، حتى غدا بأسُهم بينهم شديداً.

ثم جاءهم الاستعمار الحديث ليقضي على ما بقي من بذور الوحدة، وزرع بدلاً عنها بذور الشقاق، وقضى على الخلافة، وقسم دولة الإسلام إلى دويلات وإمارات.

وبقيت الوحدة الإسلامية حلماً بعد أن كانت واقعاً حياً ملموساً، لكن بذورها في قلوب المسلمين ما زالت حية، تحتاج إلى من يسقيها ويرعاها، ويعيدها إلى الحياة من جديد.

كنت مرة في زيارة لدولة الصين وهناك رآني أحد المسلمين الصينيين، وما كاد بصره يقع على هيئتي الإسلامية حتى صاح بلسان أعجمي: الله أكبر ؟

وطبعاً فهمت سؤاله من عينيه المملؤتين شوقاً وحباً، فقد كان يسألني أأنت ممن يقولون الله أكبر ؟ فقلت له: الله أكبر.

وبدون مقدمات ولا تعارف أقبل علي معانقاً باكياً وقائلاً: {إنما المؤمنون إخوة}.

أيها الإخوة: لقد فرز هذا العصر كثيراً من المستجدات التي تؤثر في شكل الوحدة المأمولة، لكنها لا يمكن أن تؤثر في جوهرها، ويستطيع المسلمون أن يجدوا الإطار المناسب والأسلوب المناسب لوحدتهم إذا أرادوا ذلك.

مقومات الوحدة ومظاهرها:

إن عبادة إله واحد عظيم قدير، رحمن رحيم، يجعل العباد متراحمين متعاطفين يحس بعضهم بآلام بعض، يجمعهم الأمل الواحد والألم الواحد.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير.).

وعبادات الإسلام كلها تدعو إلى الوحدة وتعبر عنها: فالصلاة التي هي عمود الدين يقف المسلمون فيها صفاً واحداً لا فرق بين غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور، ولا رئيس ولا مرؤوس.... كلهم يضع جبهته على الأرض معلناً بأن الله أكبر من كل كبير.

وفي الحج يجتمع المسلمون على اختلاف ألوانهم في مكان واحد، يتخلون عن كل ثيابهم وأنانياتهم، ويلبون نداء الله الواحد، يتعلمون أخلاق المجتمع الإسلامي ؛ فلا رفث ولا جدال ولا فسوق.

أما الصوم ففي توقيته الزماني إشعار للمسلمين بعمق الوحدة، كلهم ممسك صائم عن المباحات والمحرمات المفسدة للصوم، يدفعهم إحساسهم بالجوع والألم إلى المواساة والنصرة للضعفاء والفقراء والمحتاجين.

وهكذا الزكاة التي هي حق مفروض في مال الأغنياء من المؤمنين للفقراء والمساكين، يدفعونها إليهم بلا منّ ولا أذى، تكاتفاً وتعاوناً على طاعة الله، والقصد أن يكون الله تعالى عنهم راضٍ.

والإسلام بعد هذا يفترض أن يحوي مجتمع الإسلام عناصر غير إسلامية، ويضع قواعد دقيقة لمعاملة هؤلاء، حتى لا يحسوا بالغربة أو الاضطهاد، بل يحسوا بالأمان والراحة والاطمئنان.

فلا إكراه في الدين، والفرد هو إنسان قبل أي اعتبار آخر، وللأخوة الإنسانية اعتبار عظيم في الإسلام، وليس أدل على هذا مما ورد في الحديث الصحيح أن جنازة مرت أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقام لها، فقيل له إنه يهودي، فقال: ((أليست نفساً ؟))(متفق عليه.).

ويروي أبو يوسف في كتابه ( الخراج ) أن عمر رضي الله عنه رأى شيخاً يهودياً يتكفف الناس فسأله: من أنت يا شيخ ؟ فقال: رجل من أهل الذمة، فقال عمر: ما أنصفناك، أكلنا شبيبتك وتركناك في شيخوختك، ثم أخذه إلى بيت المال وفرض له فريضة.

أليس هذا ما نسميه في عرفنا الحاضر " التكافل الاجتماعي " أو " ضمان الشيخوخة " ؟

ومرة ادعى أمير المؤمنين علي على يهودي سرق درعه فجاءا إلى مجلس القاضي، وجلسا معاً في مرتبة واحدة، ولما طلب القاضي البينة من المدعي جاءه بشهادة الحسن سبط النبي صلى الله عليه وسلم فردها، فقال علي: أترد شهادة سيد شباب أهل الجنة، فقال القاضي: إن قواعد القضاء تأبى شهادة الابن لأبيه.

ولما طلب القاضي البينة من اليهودي قال: الدرع لي وهي في يدي. وفعلاً حكم القاضي لليهودي بدرع أمير المؤمنين لعدم توافر البينة.

بعد هذه الحادثة ذهل اليهودي لما رأى من شريعة تحكم لخصم على حساب قائد الأمة ؛ فأعلن نزاهة التشريع الإسلامي، ونطق بالشهادة صادقاً بها قلبه.

أسباب الفرقة:

بعد أن تحدثنا عن الوحدة لا بد أن نتحدث عن ضدها، خاصة وأن الضد هو الواقع المسيطر على العالم الإسلامي، فنحدد أسباب الفرقة، جاعلين ذلك خطوة على طريق تحقيق الوحدة، مثلما أن تشخيص المرض هو الخطوة الأولى إلى تحقيق الشفاء.

إذا رجعنا إلى أول عهد الفرقة وتحديداً خلافة عثمان رضي الله عنه ؛ فإننا نجد أن بذور الفرقة دخلت عندما نسي المسلمون أدب الاختلاف، فسمحوا بذلك لفتيل الفتنة أن يشتعل.

وبقي الأمر كذلك في خلافة علي رضي الله عنه، ولما استلم الأمويون الخلافة ترسخت هذه الفرقة، بعد أن اضُطهد الموالي - الداخلون إلى الإسلام من غير العرب - ولم يعطوا حقهم.

وفي هذه الفترة اتجه الموالي إلى الفقه والعلوم فتفرغوا لها وصاروا مراجع في معظم العلوم الكونية والشرعية، وابتعدوا عن السلطة والحكم، وانطلقت بذور الفرق والطوائف من خلاف فكري وعلمي، حتى انتهى الأمر بهم إلى اختلاف طائفي سياسي.

وباختصار شديد يمكن أن نلخص أسباب التفرق الذي زرعت بذوره في فترة التخلف والانحطاط بالنقاط التالية:
- فساد الحكم عند الحكام : وبدا ذلك جلياً من خلال إهمالهم لمبدأ الشورى وجعلهم الحكم ملكياً وراثياً، مما ولَّد نقمة على الحكام أزالت ولاء الرعية لهم وفرزت حكاماً جدداً في الأقاليم النائية، وتنازع الحكام على السلطة واستعانوا بغير المسلمين على المسلمين؟‍!

2- الطائفية: وكانت انطلاقتها مع مقتل عثمان رضي الله عنه، وانقسم الناس إلى طوائف متناوئة متناحرة، مما شجع الخروج على السلطة ودخول النِحَل والطوائف الفاسدة.

3- إحياء اللغات والنزعات القومية: بعد أن كان اللسان العربي هو لسان الحديث والعبادة والعلم، ظهرت دعوات لإحياء اللغات القومية، وذابت بذلك اللغة العربية في كثير من أقاليم الإسلام، مما جعل كثيراً من هؤلاء يجهلون تعاليم الإسلام.

هذا عن الأسباب التاريخية، فماذا عن الأسباب الفكرية ؟ يمكننا أن نحدد أسباب الفرقه بما يلي:

1- العصبية: وهي التحيز الأعمى لقبيلة أو قوم أو عنصر أو لون، وهي المعول الهدام في جسد الوحدة الإسلامية، وعرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أن تعين قومك على الظلم))(أبو داود مرفوعاً.).

فالإعانة على الظلم والإمعان في الغي هي العصبية، وليس منها أن يحب الإنسان قومه ووطنه، بل هو شيء مأمور به، سأل أبي بن كعب النبي صلى الله عليه وسلم: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ولكن من العصبية أن ينصر قومه على الظلم))(المرجع السابق.).

ولما أراد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يبني دولة الإسلام كادت ريح العصبية العمياء أن تهزها، ولكنه تداركها وقضى عليها في مهدها، فقد ورد في كتب السيرة أن بعض أتباع عبد الله بن أبي سلول زعيم المنافقين أراد أن يثير فتنة فنادى على الأوس ونادى خصمه من المسلمين على الخزرج، واجتمعت القبيلتان تحييان ما دفنه المصطفى صلى الله عليه وسلم من العصبية البغيضة، واستلوا سيوفهم، وكادوا أن يقتتلوا حتى جاء الهادي الأمين مغضباً قائلاً: ((الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله وكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر، وألف بين قلوبكم))(تفسير ابن كثير 1/388. ذكر الحديث مسلم في صحيحه بلفظ: ((ما بال دعوى الجاهلية)) ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة)) [كتاب بالبر والصلة] [باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.)، وجاءه مرةً بلال الحبشي ببشرتة السمراء يشكو أبا ذر الذي عيره بسواد أمه، فقال له: يا ابن السوداء، جاءه يشتكي ظلم العصبية، وهنا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((طف الصاع، طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح))(أحمد وابن المبارك في البر والصلة بألفاظ متقاربة.).

وكان من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية))(أبو داود عن الجبير بن مطعم.).

ذاك هو موقف الإسلام من العصبية، كل العصبية، سواء كانت قومية أو قبلية أو عنصرية، ولا ننس أبداً كيف مزج النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعه حتى لم يعد يحس أحدهم بأي فارق، لا بلون ولا بجنس ولا بلغة، عقد المؤاخاة فجعل الحبشي أخا القرشي، والغني أخا الفقير.

ولما بدأت بذور الطبقية بالظهور من خلال الانتساب إلى بيت النبوة هدمها عليه الصلاة والسلام فقال: ((آل محمد كل تقي))( الطبراني في الأوسط عن أنس.) وأبدل نسب التقوى بنسب الجسد فقال: ((سلمان منا أهل البيت))(الطبراني والحاكم عن عمرو بن عوف.).

ولما كسفت الشمس عند موت ولده إبراهيم قال الناس كسفت الشمس لموته فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته))(متفق عليه.).

وعندما سرقت المرأة المخزومية وقدمت للعقاب جاءه من يتشفع لها فقال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))(البخاري.).

لقد محا كل أثار العصبية، حتى سمي التقاتل والتباغض الناشئ عنها كفراً فقال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))( رواه الترمذي.)، وسار أصحابه من بعده على ما سار عليه، وتذكر كتب التاريخ أنه في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه عاقب أميره أبو موسى الأشعري النابغة الجعدي بخمسين جلدة لأنه دعا بدعوى الجاهلية، ونادى يالعامر.

ختاماً فإن العصبية عدوة الوحدة اللدود، ولا بد لمن يسعى للوحدة من نبذها، وإحلال الأخوة الإيمانية مكانها التزاماً بقول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}(سورة آل عمران: [الآية: 103].).

2- التعصب المذهبي:

من الأسباب التي فرقت جمع المسلمين التعصب المذهبي، ونقصد بهذا الاصطلاح اتخاذ الناس مذهباً عقائدياً أو فكرياً أو فقهياً، وإتباعه والتعصب له، واعتبار ما عداه باطلاً.

وعلى هذا الأساس صارت المذاهب العقائدية والفقهية وسيلة للتفرقة بعد أن كانت - ولا تزال - مدارس فكرية عظيمة رفدت الفكر الإسلامي بموارد لا تنضب على مدى الأيام.

وصار المذهب ديناً، وأصبحت مخالفته كفراً وفسوقاً، وانقسمت جموع المسلمين ما بين سنة وشيعة، والسنة إلى مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية... والشيعة إلى إمامية وزيدية وإسماعيلية... وبين هؤلاء وهؤلاء فرق كثيرة كثيرة لا يعلم تعدادها ومآلها إلا الله.

وصدق رسول الله القائل: ((افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنين وسبعين فرقه، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي))(أحمد وأصحاب السنن والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة.).

والمشكلة أن كل فرقة من الفرق تدعي أنها على ما كان عليه رسول الله وأصحابه.

وكل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاك

ومن مظاهر هذه المذهبية البغيضة ما كنا نراه قبل خمسين عاماً من تحريق البعض مساجد البعض الآخر، والاعتداء على أموالهم، ونعتهم بالضلال والكفر.... حتى لقد رأيت في بعض الكتب الفقهية سؤالاً: هل يجوز لأتباع مذهبنا الزواج من أتباع المذهب الفلاني، ثم يأتي الجواب: نعم قياساً على الكتابية ؟! ومن ذلك ما كنا نراه في مساجدنا من أن الحنفي لا يقتدي بالشافعي، والمالكي لا يأتم بالحنبلي، حتى لقد وصل بهم الأمر إلى إقامة أربع جماعات في مسجد واحد، ومن أراد أن يتأكد فليزر مسجد بني أمية في دمشق فسيرى فيه أربعة محاريب، لكل مذهب محراب.

هذه بعض مظاهر المذهبية المقيتة التي فرقت المسلمين، وجعلتهم شعوباً وقبائل ليتقاتلوا ويتباغضوا بدل أن يتعاونوا ويتكاملوا.

ومرد كل ذلك إلى الجهل بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}(سورة آل عمران: [الآية: 105].).

وقال أيضاً: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}(سورة النساء: [الآية: 59].).

ورحم الله الشافعي الذي قال: ((لا يتعصب إلا جاهل، وما رأيت عالماً متعصباً)). فالذين اتخذوا المذاهب أدياناً هم أبعد الناس عن فكر أصحاب هذه المذاهب، فهذا الشافعي يقول: ((إذا صح الحديث فهو مذهبي)).

وأبو حنيفة يقول: ((إذا خالف كلامي كلام رسول الله فاضربوا بكلامي عرض الحائط)).

وكان رأيهم رضي الله عنهم بأن لكل مجتهد نصيب.

لقد تعلموا أدب الاختلاف، فبقي اختلافهم فكرياً ثقافياً، هو للتكامل أقرب منه إلى التناحر والتباغض.

هذه بعض أسباب الاختلاف الفكرية الرئيسة، وهناك غيرها الكثير من الأسباب الفكرية والأخلاقية، التي يمكن القضاء عليها بالحب والتعاون والتآلف، وبتعلمنا لأدب الاختلاف.

أدب الاختلاف:

من كلام الشافعي رحمه الله: تعلمت العلم في سنتين والأدب في ثمان عشرة سنة، ويــا ليتها كانت العشرين في الأدب.

والمتصدر للعلم والدعوة لا بد له من تعلم قواعد أدب الاختلاف:

1- أول هذه القواعد أن يحمل المسلم في قلبه الحب لكل البشر، وخاصة لإخوانه في الدين مهما اختلفت المذاهب والآراء.

2- أن تبقى الاختلافات ضمن حدودها العلمية والثقافية ولا تتخذ شكل العصبية والتحزب.

3- ترك الاختلافات ذات الطابع التاريخي ضمن إطارها في الماضي والبحث عما يقرب ولا يبعد، ويجمع ولا يشتت، قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت}(سورة البقرة: [الآية: 134].)، وما أحكم الشافعي الذي قال: لما سأله سائل عن موقعة صفين: ((واقعة كفاني الله شهودها، فلماذا لا أبرئ لساني من الخوض فيها)).

4- ينبغي أن نجتمع دائماً على ما اتفقنا عليه - وما أكثر ذلك - ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

5- يجب على المخلصين الغيورين على مصلحة الأمة القضاء على كل بذور الشقاق والتمزق مهما كانت كتاباً أو مقالة أو رأياً.... وسقاية بذور التآلف والتعاطف متناسين آلام الماضي، باحثين عن آمال المستقبل.

وأجمل مثال لهذا الأدب أئمة المذاهب الكرام، فأبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق، وأخذ الشافعي عن مالك ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وأحبه، وقال في حقه: أخذت عن محمد بن الحسن وقر(الوِقْرُ: الحمل. انظر: مختار الصحاح: مادة:/وقر/.) بعير، وعاصر أحمد بن حنبل الشافعي وتحابا في الله.

ومما يذكر عن الشافعي أنه صلى يوماً الفجر عند قبر أبي حنيفة رحمه الله فترك القنوت - وهو سنة مؤكدة في مذهبه - فسئل عن ذلك فقال: تأدباً مع صاحب هذا القبر.

وتحدثاً بنعمة الله تعالى فإن حياتي في الدعوة إلى الله وقد بلغت أكثر من نصف قرن قد أنفقتها جميعاً في التقريب بين المذاهب، وفي إلغاء الفوارق، ومحو العدوان.... فقد زرت إيران مرات كثيرةً ودعوت إلى الوحدة، وسأتوجه بعد هذا المؤتمر إلى المغرب لحضور المؤتمر الذي دعت إليه ندوة التقريب بين المذاهب التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وسألقي بحثاً عن تأثير التقريب بين المذاهب على الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم.

وزرت في الماضي كثيراً من الدول الإسلامية، وكنت دائماً أجد آذاناً مصغية لدعاء الوحدة، وقلوباً مفتحة لبذور المحبة والألفة والتعاون.

كنت دائماً أدعو إلى ترك الألقاب والأسماء، فهذا صوفي وذاك سلفي، وهذا سني والآخر شيعي، إلى آخر ما هناك، وأؤكد على ضرورة العودة والالتزام بما ألزمنا به الله تعالى في قرآنه {هو سماكم المسلمين من قبل}(سورة الحج: [الآية: 78].).

تأكيداً لهذه المعاني كان مجمع أبي النور الإسلامي في دمشق بيتاً لكل الدعاة المخلصين الذين لا يدعون إلى هوى أو أنا.

لكل واحد منا أخطاء إلى جانب ما يحمله من صواب، ولكن ما أعظم خطأ من يترك 95% من صواب أخيه ليسلط الأضواء على الخمسة الباقية، والله يقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات}(سورة آل عمران: [الآية: 105].).

ختاماً:

إن الوحدة الإسلامية ضرورة ملحّة تمليها الظروف الدولية والسياسية الراهنة، وتستدعي عملاً جاداً مخلصاً من كل قادر ؛ للقضاء على بذور الفرقة، والعودة إلى نهج المصطفى القائل: ((إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي))(الحاكم عن أبي هريرة.).

حتى نعود أمة واحدة كما كنا، وكما أراد الله لنا أن نكون - كل في مجاله وبالإمكانية والقدرة المتوفرة.

بذلك نلتزم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم))(متفق عليه.).

والحمد لله رب العالمين
المصدر: http://www.lahdah.org/vb/t44937.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك