ثقافة التعصب ومقتضيات الإصلاح

ثقافة التعصب ومقتضيات الإصلاح
تلف أقطار العالم موجة عارمة من العنف المتصاعد تكاد أن تغرقه في دوامة المحن والأزمات، فلا تلتفت يميناً أو شمالاً إلا وتشهد تلك الإثارة التي تكبد الواقع المآسي والجراحات، فتضاعف من همومه ومآزقه الحرجة، وتغرقه بالظواهر المرضية المستعصية، فما هي الدواعي والأسباب؟

ومن أين تنشأ تلك البؤر السقيمة؟

وهل للمناخ دور في تهيئة وسائلها وآلياتها؟

ثم هل الدين مسؤول عن انتشارها وتناميها؟

قبل الإجابة عن ذلك ينبغي الإشارة إلى بعض الأمور.

الأمر الأول: هوية التعصب والتغاير الديني:
قبل كل شيء ينبغي أن ندرك أن العنف لا دين ولا رسالة له، ولا يمتلك هوية ولا شرعية تدعم بناءه ووسائله، وهو مجهول التاريخ، فلم يقره دين من الأديان طوال المسيرة البشرية، بل إن رسالة الدين كانت تواقة لنشر قيم العدل والسلم والمساواة بين البشر، ولطالما جاءت مفاهيم لتؤسس مبادئ التعايش الإنساني المنبعث من الرحمة والرأفة، والتحسس لقضايا الناس كافة، وكان عنوانها الواضح ونداؤها الصريح قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[1]، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[2]، فعلى أساس هذه المعايير كان منطلق الرسالة وبناء حركتها وأسسها القويمة، أما النظرة المغايرة للفطرة والدين فإنها نتيجة تصورات البشر وتقديراتهم المنحرفة، ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾[3].

فقيم الحق الأصيلة تدعو إلى السلام ونشر بواعث الخير والصلاح في المجتمعات، وتسعى جاهدة لإرساء سبل التعايش ونبذ العدوانية والتعصب، وتستنهض قدرات الأمة وموروثاتها الخيرة في سبيل الهداية والرشاد، كيما تتوصل لتحقيق الأمن والاستقرار عند المجتمعات، يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[4]، وإذا كانت تتبنى وسيلة المواجهة والقتال في بعض مراحلها فذلك لصد الطغيان والعدوان، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ الله لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾[5]، فهي إنما تكون من أجل الله والقيم الحقة، لا لتهيئة منطلقات عدوانية تأجج الأجواء بالفوضى والفساد.

الأمر الثاني: منطلقات فكر التعصب عبر التاريخ:
لم تكن نشأة رسالة الأديان باعث على تهيئة أجواء التشنجات والأحقاد المستعرة بين البشر وإقامة السدود العصبية، ولم تكن تغرس في أتباعها أو تغذيهم على العدوانية، وإقصاء الآخر بأي حال من الأحوال، بل دأبت على إرساء التعاليم التي تعزز الروابط الإنسانية وتشيد جسور علاقاتها، وتعضد لحمتهم بالمفاهيم والرؤى التي تعمق منطلقاتهم وأهدافهم على نشأتهم وأصولهم، غير أن أولئك الأتباع لما واجهتهم من ظروف اجتماعية ضاغطة، ورغبات مذهبية وشخصية سوغت لديهم شق طريق عدواني قائم على التعصبات وسلب الآخرين حقوقهم، وإقصائهم من خارطة الوجود، ويبرز هذا النموذج واضحاً في التاريخ حين غدا كل طرف يدِّعي الحق له دون غيره ويرتدي عباءة الشرعية والحقيقة ويدفعها عن الآخرين، دون أن يذعن للمعايير والضوابط والمفاهيم الكاشفة عن القيم الحقه، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[6]، وهكذا يمتد هذا التصور عمقاً وتجذراً عبر الزمان والمكان بدعاوى وتصورات مختلفة تخدم الأهداف والمنطلقات ذاتها، وربما كان شعار الفرقة الناجية جارياً في هذا السياق ومُتَّفِقاً مع تلك المنطلقات، فكل فرقة تزعم أنها المركز الحقيقي لقيم الحق والصلاح وليس للآخر -ولو كان أكثر صلاحاً واستقامة وانسجاماً مع القيم الخلاقة- أي علاقة صحيحة بالحق وموازينه الحقيقية، وكما يقاس ذلك على المعايير القيمية والمبدئية فإنه ينساق إلى الاستنتاجات الفكرية والثقافية، وفي العصور الوسطى مارست السلطة الكنسية كل ألوان القهر والاستبداد بحق العلماء والمفكرين، فكل من تجرأ وأتى بفكر أو نادى بإصلاح لا يتوافق مع مبادئ نظم الكنسية ودعواتها، كان لها الحق في إخراسه واستئصاله، فأزهقت أرواح الكثير من المبدعين والمفكرين في سبيل تصاعد الفكر التعصبي.

كما أنها باسم الدين والانتصار للصليب شنت عدوانيتها على الآخرين، وكانت البشرية تعاني ردحاً من الزمن من تلك الحملات المسعورة فأساءت للدين المسيحي الذي قامت مبادئه على المحبة والعدل والمساواة بين البشر، وأغرقت البشرية بفوضى الحروب التي لا طائل لها، فمنيت الإنسانية بخسائر فادحة، لا في الأرواح فحسب، بل في القيم والمبادئ والأخلاق.

الأمر الثالث: ثقافة التسامح:
لقد بدا واضحاً مدى رفض العصبية في منظور الشريعة الغراء وتعاليمها السمحاء، ليس لأنها تنطلق من بواعث شخصية أو عرقية أو حزبية وتحقيقاً لمصالحها فحسب، لكنها تقوم على إعاقة حركة المجتمع من التقدم والانطلاق، وهي ظاهرة مرضية فتاكة تشل قدرات المجتمع وتفشل مشاريعه الإصلاحية والتغييرية، ومن هذا المنطلق تضافرت الروايات الواردة في هذا الصعيد، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من تَعصَّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه[7]. وفي حديث آخر قال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية[8]. وقال (عليه السلام): من تعصب عصبه الله عز وجل بعصابة من نار[9]. فهي لا تنم إلا عن فكر جاهلي يعيش ضيقاً في الأفق وقصوراً في الرأي وبُعد التصور، ولا تتسع مساحة فكره إلا إلى المحور والمحيط الذي ينشأ فيه، ولا يرى للفكر الآخر أي حق في التعايش، وهي خلاف المنطق السليم القائم على بسط وسائل الحوار وتذليل سبلها، لتندفع مسيرة التكافل والتطور في استنباط الرؤى والأفكار، وليس من بد إن يدعم بناء الحضارة ويضفي عليها حلة التقدم، هو مقدار ما تمتلكه المجتمعات من الانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربها وخبراتها ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): خذ الحكمة أنى كانت...[10] وقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها[11].

ولا يقتصر الأمر على قبول الآخر فيما يتصور من رؤى وأفكار وإنما فيما ينتمي إليه من اعتقادات وطقوس دينية، ولقد حض الدين على بناء ثقافة التسامح والتعايش وتعزيز جسور العلاقات الإنسانية، وبرغم ما قامت عليه مبادئ الدين وقيمه الأصيلة، إلا أنها لم تتعامل مع الآخر بمنطلق دوني، تقوم مساعيه على إقصاء الآخر وسلب حقوقه، إنما كانت انطلاقتها إنسانية، تنبعث من صميم هذا الأساس، وتقدر جهد الإنسان وما يقدمه من إنجازات حضارية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[12]. فلم يرد عن قيم الدين وتعاليمه إلا ما يدعم هذا البناء ويدفع حركة إنمائه وتطويره ليرقى بالمسيرة الإنسانية إلى أحسن الأحوال، وهذا ما دأب على نشره أئمة الإسلام في العهود التاريخية، حيث غرسوا بذور التسامح والتآلف تجاه الأطياف والتوجهات الأخرى التي لا تتفق معهم في الرأي والمنطلق، فهذا الإمام الصادق (عليه السلام) ينكر على بعض أصحابه حين يجدهم يجاهرون بالشتم ضد بعض الفئات لأنها مجوسية أو نصرانية أو ما أشبه، وقد ورد في الحديث أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لبعض أصحابه: ما فعل غريمك؟ قال: ذاك ابن الفاعلة؟ فنظر إليه أبو عبد الله (عليه السلام) نظراً شديداً، فقال الرجل: جعلت فداك إنه مجوسي نكح أخته، قال (عليه السلام): أوليس ذلك من دينه[13]. وفي حديث آخر، أن رجلاً سب مجوسياً بحضرة الإمام الصادق (عليه السلام) فزجره الإمام (عليه السلام) ونهاه، فقال له الرجل: إنه تزوج بأمه؟ فقال: أما علمت إن ذلك عندهم النكاح؟[14].

وعند قراءة فكر الصادق (عليه السلام) يتجلى هذا البعد في التسامح الثقافي ودعوته الحثيثة لتعزيز سبل التعايش واحترام الآخر، ورغم التباين والاختلاف الناشئ بين الطوائف إلا أنه يوصي أبان بن تغلب وهو من خواصه أن يجلس للإفتاء في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويفتي الناس حسب رأيهم، فعن ابن مسكان، عن أبان بن تغلب، قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أقعد في المسجد فيجيء الناس فيسألوني فإن لم أجبهم لم يقبلوا مني، وأكره أن أجيبهم بقولكم وما جاء عنكم، فقال لي: انظر ما علمت أنه من قولهم فأخبرهم بذلك[15].

وهكذا كانت سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) إذا عرضت له مسألة لم ينجز إلى رأي بل بَيَّنها من جميع الوجوه المختلفة ويبين رأي أهل البيت (عليه السلام)، رغم ما كانت تتمتع به هذه المدرسة من أصالة عريقة، ومصداقية في المنهج والمنطلق، إلا أنها كانت تقوم على التسامح والتعايش.

ونعود لنسأل من أين تنشأ تلك التوجهات؟ ومن يقف وراءها ويغذيها؟ ومن المسؤول عن انتشارها وامتدادها؟

أولاً: المنابع المُهيِّئة للفكر التعصبي:
لقد حاول الفكر الغربي المتصهين تكراراً ومراراً أن يصم المسلمين بصفة التعصب والإرهاب، ومارس ولا يزال تشويهاً للشخصية الإسلامية في هذا المجال، وظل الفكر الإسلامي وثقافته الأصيلة في دائرة الاتهام من قبل الدوائر الغربية طوال الحقب التاريخية، رغم ما يحمل من منطلقات وقيم واضحة على هذا الصعيد، وتتجلى هذه الهجمة الشرسة على الإسلام ومؤسساته وأفكاره حين ينحاز الفكر الغربي بكل إمكانياته وقدراته للدفاع عن الكيان الصهيوني، وهو يمارس أبشع ألوان التعصب العنصري، ويرتكب أبشع الجرائم التاريخية دون معارضة من تلك الدوائر التي تتذرع بالحقوق والحفاظ على السامية، وليس يعني ذلك أن نبرر حالة التعصب والإرهاب إذا اتخذتها طائفة من المسلمين، فالصورة واحدة، وهي من الخطورة بمكان، لتباينها مع الأصالة الدينية وقيمها الأصيلة، غير أن الإسلام يسوغ للمسلم ذلك للحفاظ على قيمه ومبادئه، بل يوجبه عليه إذا تعرضت مقدساته لهجوم داخلي أو خارجي، وهو من المنطلقات السليمة التي يقرها العقل والشرع عند جميع البشر، بل من حق كل مجتمع أن يحافظ على أصالته وهويته العقدية والتاريخية، وهو مسؤول عن كل ذلك ولا يجوز أن يفرط فيها بأي حال من الأحوال.

ثم إن العصبية ليست ملازمة للمجتمعات المتخلفة والنامية فحسب، وإنما قد تكون متأصلة لدى المجتمعات المتحضرة والمتقدمة أكثر من غيرها، فكم يموت من البشر، وكم تزهق من الأرواح تعصباً لمنهج أو فكر أو نهضة، ففي أبان الحروب التي خاضتها الدول المتحضرة وما رافقها من ثورات وتغييرات في عصور النهضة الأوروبية كان حصادها في سلب الأرواح وإزهاق النفوس يفوق كل التصورات، وكل ذلك بذريعة حفظ الفكر والمنهج، فعوض التخلص من الديكتاتورية تستنسخ ديكتاتورية أفظع من سابقتها فيما تقدم عليه من جرائم ومفاسد بحق الإنسانية، بدعوى الضرورة الإصلاحية، وما يمارس في عصرنا الراهن من ضغوط سياسية ومواجهات ما هو إلا لون من تلك الانعكاسات التي عاشتها تلك المجتمعات، ونقل لتلك الظواهر المرضية التي تولد الأحقاد والعصبيات بين شعوب العالم، لتكون المجتمعات عرضة للأخطار التي تلحقها بالخسائر والفشل، ليستعصى عليها الخروج من تلك المحن، وتشغلها بظواهرها وعللها، ولن تقوم لمجتمع قائمة ما لم ينعتق من توابعها وأمراضها، ويعود إلى آصالته وتراثه لينتهل منها العلوم والمعارف، ويستنبط من معينها الثقافة والرؤى التي تنهض به من ركام التخلف والتبعية.

ثم لا يعني بحال من الأحوال أنه لم يكن من العوامل المُهيِّئة والمساعدة التي تباشر إسهاماتها في تنشئة هذه الظواهر التعصبية وتنميتها في الأوساط الاجتماعية، مما ساعد على انتشارها وتغلغلها، فجعل لها هذه المكانة والقدرة على الانتشار والدعوة إلى أفكارها وتوجهاتها السقيمة، كيما تبقى المجتمعات بعيدة عن قيمها وتطلعاتها الطموحة لبناء واقع متميز، يبعثها في رحاب الحياة بفكر متألق وثقافة واعية، ولقد مارس أعداء الأمة قديماً وحديثاً الكثير من الأساليب والطرق لصرفها عن أهدافها الكبرى ومشاريعها التنموية، ولم يدعوا وسيلة إلا وظفوها في هذا المجال، كيما تتحقق أهدافهم ومخططاتهم في السيطرة على الأوضاع والمقدرات.

فينبغي علينا إزاء هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر المرضية أن نعي تلك المخاطر الجسيمة، والخطوب التي تحوم حولنا، فتتضافر جهود المصلحين والمخلصين لاقتلاعها والتخلص من بؤرها ومنابعها، وألاَّ نسهم بحال من الأحوال في انتشارها وامتدادها، ليتاح لها التجذر والانطلاق في عمق الواقع، وهذه مسؤولية عظيمة تجاه ديننا وقيمنا ومبادئنا، لا ينبغي أن نتخلى عنها، فما ننتمي إليه من فكر وعقيدة جاء ليطلق الإنسان في رحاب الحياة، بأفق واسع، وفكر نير، وثقافة واعدة، تستوعب آفاق الكون والحياة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[16].

ثانياً: الآفاق الضيقة جذور التأسيس:
لقد اتسعت مساحة الأفق في نظم الإسلام وانطلقت في تعاملها على أساس المعايير السليمة التي تحفظ للآخرين خصوصياتهم وحقوقهم ومكانتهم، ولم يكن هذا التصور منحصراً على ظروف الهدنة والسلم فحسب، وإنما هو منساق في استعار الخصومة والعداوة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[17].

فالمسلم لا يعيش ضيقاً في الفكر والثقافة إنما يتعامل على أساس العدل والحرية والمساواة فيما ينطلق منه، وما يستقي من منابعه، ونظرته للآخرين نظرة إنسانية أصيلة تحمل بعداً قيمياً خلاَّقاً، ومبدئية راقية، وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمالك الأشتر النخعي، لما ولاه على مصر وأعمالها، قال له وهو يبين له الأساليب التي ينبغي أن يتعامل بها مع الرعية: وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق[18].

لذا فإن من الخطأ الجسيم أن تتصور بعض التوجهات أن المشاكل والأزمات لا تعالج إلا بالمواجهة والعدوانية، وإثارة القلاقل والخلافات في الأوساط الاجتماعية، وأشد خطورة من ذلك ألاَّ تجد سبيلاً تلتمس منه ممارسة الإصلاح والتغيير بوسائل غير سليمة، وهو من الخطورة بمكان أن تنبني الرؤى والأفكار على هذا المنحنى، الذي يشغل الساحة الاجتماعية بالصراعات والنزاعات المريرة، ثم لا تحقق من المكاسب إلا الخصومة والتشنجات مع الأطياف الأخرى، ومن خلال القراءة السريعة للتاريخ يتجلى هذا البعد وما يحمل من حقائق، فالخوارج الذين انطلقوا من فكر تعصبي فثاروا بوجه الخلافة المتمثلة في ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) زعموا الإصلاح والتغيير، فاصطدموا مع سائر التوجهات فلم يستطيعوا أن يحققوا نجاحاً لحركتهم وأفكارهم، بل منوا بخسائر فادحة وفشلٍ ذريع، ولو أنهم اتخذوا وسائل السلم والإقناع لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وفي المقابل فإن الطوائف والتوجهات التي اتبعت وسائل الحوار كتب لها البقاء والاستمرار، ولقد كانت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مثالاً رائعاً في التعاطي والانفتاح على الطوائف الأخرى، فطوال تاريخها الشاق، الزاخر بالأحداث، لم يجعلها تقيم حاجزاً مانعاً عن التلاقي والتعايش، بل كانت دعوتها صريحة في إقامة الجسور وتشييد العلاقات الاجتماعية، إلا مع طوائف محدودة لديها انحرافات في العقيدة والمنهج، أما سائر التوجهات فكانت العلاقة واضحة، تتعايش معها بالتفاهم والحوار والترابط، وهكذا أدبوا أتباعهم ومريديهم كي لا تتلوث سلوكياتهم بالعقد والأحقاد، فورد عن الصادق (عليه السلام): كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً[19]. وجاء عن الإمام العسكري (عليه السلام): اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل من حسن فنحن أهله، وما قيل من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطهير في كتاب الله لا يدعيه أحد غيرنا إلا كذاب[20]. وهو الأمر الذي جعل كافة التوجهات تبدي إعجابها وتقديرها واحترامها لهذه المدرسة.

فبالمبادئ الخلاقة اتسعت رقعة التوحيد وانتشرت قيمه وتعاليمه في ربوع المعمورة، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[21]. فالأخلاق الراقية كان لها الخصب والقدرة على اجتذاب الناس إلى منظومة العقيدة وحظيرة الرسالة.

وفي هذا السياق يقول السيد الشيرازي (قدس سره): فقد كانت تسود القاعدة الأخلاقية النموذجية سواء فيما بينهم، أو مع العدو، أو في أنفسهم، وكان ذلك مما أوجب دخول الناس في دين الله أفواجاً، فإن الإنسان بطبيعته يلتف حول ذوي الأخلاق الرفيعة، بينما يتبرأ الناس من الذين لا أخلاق لهم، بل الإنسان يتبرأ من نفسه إذا رأى في ذاته مواصفات سيئة[22].

فالفكر العدواني الناشئ على التعصبية والنعرات والطائفيات لا يستطيع أن يؤسس توجهات ناجحة في الحياة، أو يوظف وسائله في طريق الإصلاح والتغيير، بل إن أدواته تنساق تجاه الهدم وزعزعة أرضية العلاقات الاجتماعية، وإغراقها بالأزمات والمحن التي تزيد من عللها وأمرضها، فتجعلها عرضة للأخطار والتقهقر في حركة دعوتها وبنائها.

ثالثاً: تشويش الرؤى واستلاب المعايير:
إن التوجهات التعصبية تغرق المجتمع بالمشاكل والأزمات المريرة، وتلقي به في ردهات الواقع المظلم، فيستنفذ من طاقته وقدراته الشيء الكثير، وتفوت عليه فرص البناء والتقدم، مما ينتج حالة فوضوية مستعرة بالخصومة والتشنجات العرقية والدينية والمذهبية، فينشغل كل مجتمع أو طائفة بالمواجهة مع الآخر فيدفعه عن خط الصلاح وسير الإصلاح، ويتولد لديه إثر ذلك الخصال الذميمة والمنفرة، فينساق المجتمع نحو التفكك والاضطراب في علاقاته واستقرار أوضاعه وأمنه، وهو الأمر الذي يجهد المجتمع ويشتت قدراته وإمكانياته، فتتقهقر مسيرته في طريق البناء والنمو، وتذهب مساعيه أدراج الرياح، ومن هذا المنطلق يوجه الإمام علي (عليه السلام) منطلق الإنسان ليكون مسخراً في بعد الإصلاح والتعمير، مجانباً لكل سبل الهدم والدمار، فيقول (عليه السلام): فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور[23].

إضافة إلى ذلك إن من أخطر ما تتعرض له أمة أو طائفة من البشر أن تتصور أنها قطب الرحى وألاَّ مجال للآخرين وأفكارهم في هذا الوجود، وكل ما يقدموه من إنجازات وتقدم ليس له أي قيمة، وقد ينشأ هذا التصور من دواعي عرقية أو لونية أو طبقية وما أشبه ذلك، غير أنه مخالف للفطرة الإنسانية وبعيد كل البعد عن الأصالة الدينية والأخلاق السليمة القائمة بين المجتمعات.

ولم تكن هذه التصورات وليدة اللحظة أو تركيبة حزب أو تنظيم، كما كانت عليه النازية في تعاملها مع سائر الشعوب، بل هي منذ القدم، ولقد ركز القرآن الكريم على هذه الظاهرة حين تحدث عن الواقع اليهودي الذي زعم أنه شعب الله المختار والأقرب إلى محبته، فقال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[24].

غير أن التصور الأقرب للصواب هو ما ينبعث منه الإنسان ومدى ما يحمله من صلاح يعود على الإنسانية بالخير والتقدم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[25]، فلا فضل لأحد من البشر على أحد إلا بما يحسنه، أما الأفكار الطبقية والتوجهات العنصرية التي تنمي حالة الاستعلاء والديكتاتورية، التي تهدم أكثر مما تبني، وتدمر أكثر مما تصلح وتعمر، فإنها بعيدة عن بواعث الخير والصلاح، وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ليس لعربي على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى[26].

رابعاً: مناهج التعصب ومنطلقات الإصلاح:
إن الميولات التعصبية هيأت الأرضية لاستيطان الكثير من الظواهر المرضية التي تغرق المجتمعات بالأحقاد والنزاعات القائمة على مظاهر عرقية ودينية، فيتمايز المجتمع على أساس تلك العناصر الهدامة فيفقد منطلقاته السليمة في تقويم الشخصية البشرية الصالحة وما تقدمه من إنجازات حضارية خيرة تدفع في تطوير وتقديم حركة البشر، وكلما تصاعد انتشار هذه التوجهات وأفكارها في المجتمع تفاقمت الأضرار التي تعيق انطلاقته فضلاً عن الخسائر التي يمنى بها، ولا فرق في ذلك بين مجتمع ومجتمع آخر، فكل مجتمع يسوغ تلك الأفكار والرؤى لتغلغل وتتجدر فإنه معرض للمخاطر التي تستلب منه صحته وعافيته، وفاعليته ونشاطه، فيصبح في طريق الجهل والضياع.

ومن الجدير ذكره أن نشير إلى تلك الأفكار الهدامة الشائخة التي أنبتت بذور الخلاف والنزاع هنا وهناك، ولا زالت تطلق أشعتها التحريضية لتعم الفوضى والأحقاد في صفوف المجتمعات وأروقتها الحساسة، فرغم أن تلك الأفكار والثقافات موروثات العصور البائدة إلا أنها تلقى تعاطياً وانسجاماً جيلاً بعد جيل، وتفجر جروحاً طويت في غياهب التاريخ القديم، وقد ثبت بالتجربة والبرهان مدى ضررها وعدم صلاحيتها وفائدتها للأجيال، سيما ونحن نعيش عصور النهضة والتفتح، وتقدم وسائل العلم وإمكانياته، ونواجه رهانات حرجة، تقتضي تجاوز تلك الأعراف والتقاليد التي تعيق فاعليتنا ونشاطنا، وتلقي بنا في ردهات الأنفاق المظلمة، فضلاً عن التحديات الكبرى والمخاطر الجسيمة التي تواجهنا.

ومع خبرتنا المتميزة، ومعرفتنا الواعية، بكل ذلك، إلا أننا لا نزال نجد تلك النعرات والطائفيات والتعصبات تملأ أقطار عالمنا العربي والمسلم، وكأنه قدر لا يجوز لنا الخلاص منه وتجاوزه، حتى وإن توصلنا لعلاج تلك الظواهر والعلل، وما نملكه من مثل ومبادئ راقية يجذبنا إلى الانسجام والتآخي والتعاضد، مهما بذر من اختلاف وتنوع في وسائلنا وأدواتنا، يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[27]. ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[28].

ولاغرو أن منهج الدين كان واضحاً في رؤيته للتعصب فلم يسوغ للمنتمين إليه اتباع السبل العدوانية الهدامة، فيؤسس من الرؤى والأفكار كما يعتقد، أو يجتهد حسب ما يشاء، بما تملي عليه ميولاته وتوجهاته، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾[29]، ولكي يبقى فكر المسلم وتوجهه صحيحاً فإنه يضع الركائز والضوابط التي يعود إليها متى نشأت الخلافات والنزاعات بين الفئات المختلفة، لتعود الأمور إلى طبيعتها وأسسها الأصيلة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[30].

ثم إنه لا مبرر لما يحمله الإنسان من تعصب وعدوانية تجاه الآخرين لمجرد عرقه أو معتقده ومذهبه، دون الانصياع إلى العقلانية والضوابط الشرعية، والمعاني الإنسانية، وقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[31]، فالانطلاق من الحق والعدل هو الأساس، لا مجرد الانتماء والتوجه والميولات الشخصية، فقد تكون جميع تلك الأسس لا مصداقية لها في منطلقاتها وتوجهاتها، وفارغة من محتوى الحقيقة، فمعاوية بن أبي سفيان حين قاد الأمة إلى صراع مرير وواجه الشرعية الدينية المتمثلة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم تكن دوافعه ومنطلقاته منبعثة من الأصالة والمثل، وإنما كانت دواعي وطموحات شخصية تبتغي الحصول على المناصب والامتيازات بطرق غير مشروعة، وقد أفصح عن هذه الحقيقة حين آل الأمر إليه بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، فوقف على أهل الكوفة فيما يسمى بعام الجماعة، وقال: يا أهل الكوفة أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون[32].

وفي الختام ينبغي التنويه إلى جملة من الأمور قد يكون من المهم الالتفات والإحاطه بموضوعاتها:

1- لا بد لنا ونحن نعيش الرهانات الحرجة والظروف القاسية أن تتضافر جهود المصلحين والمتنورين للتغلب على هذه الظواهر وتجاوزها، ومواجهة منابعها وبؤرها، وتعبئة الواقع بالثقافة الواعية والفكر الأصيل، الذي يأخذ بيد المجتمعات إلى تحقيق الاستقرار وتعزيز علاقاتها الاجتماعية، ومع أن المكتبات الإسلامية تزخر بتصورات المفكرين والمصلحين ورؤاهم التي شملت موضوعات متنوعة، إلا أنها لازالت بحاجة إلى طرق محاور مستجدة وقضايا مستعصية، هي بأمس الحاجة إلى استنباط الحلول والرؤى لعلاجها.

2- لا مناص من الاعتراف أن هناك أفكاراً ومناهج وتوجهات تميل إلى الاتجاهات التعصبية، وهي تمارس أدواراً تحريضية لإثارة النعرات والخلافات بين سائر أطياف المجتمع، غير أن علاج هذه الظاهرة المستحكمة لا يكون بالقمع والعنف، بل يحتاج إلى علاج ذلك بالوسائل السليمة القائمة على الحوار والإقناع، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[33].

إضافة إلى السعي الدائم لتصحيح المفاهيم والرؤى، والاستفادة من المناهج السليمة، التي تدعم بناء المجتمع ونسج علاقاته الاجتماعية، لاقتلاع جذور تلك الظواهر المرضية.

3- بيد أن العوائق الممانعة لخط الإصلاح والتغيير هائلة وكبيرة، وهي ترفض انطلاقة هذا المشروع في الأوساط الاجتماعية، وعدم الانسجام مع قيمه ومبادئه، إلا أن ذلك لا يمنع التواصل وإنشاء المؤسسات والدوائر المختصة بهذا الشأن، ومن الطبيعي التسليم أن عملية الإصلاح والتغيير لا يتأتيان بشكل فوري وعاجل، إنما يحتاجان إلى مسيرة شاقة وطويلة كيما تتحقق نتائجهما، وتقطف ثمارهما، والتاريخ يشهد على هذه الحقيقة، التي تكشف عن مسيرة الإصلاح والعراقيل التي واجهتها، ومدى المعاناة التي ألمت بها، لكنها استطاعت أن تتوصل إلى نتائج مرضية.

4- ثم ينبغي أن ندرك أن المسلم يمتلك رصيداً ضخماً في العقيدة والمنهج والتراث، يؤهله للنهوض والتخلص من ظواهره المرضية، وهو في غنى عن التماس الحلول من جهات أخرى أو مشاركته في علاج أوضاعه ومشاكله، إذ ليس هناك ما يضاهي هذه المنظومة التي ينهل منها المسلم عقيدته وفكره، ويتلقى عنها فلسفته في هذه الحياة، ويستوحي من ظلالها الوارفة ما يسعى لتلبيته وتحقيقه من احتياجات ضرورية، من إصلاح وتغيير في حركة انطلاقته الحياتية، فضلاً عما يمتلكه من مقومات وقابليات تجعله متقدماً ومتفوقاً على الآخرين، في ميادين الفكر والعمل، ولكي تنهض به تلك المؤهلات فإنه بحاجة إلى إعادة النظر، وصياغة ثقافته وفكره بمفاهيم مستجدة تواكب عصره وواقعه، لتستنتج من ظلالها شخصية متميزة.

5- وفي خضم تلك المجريات والأحداث المريرة التي تعصف بكياننا ومقدراتنا أما آن لنا أن نستشعر أننا أمة مثقلة بالظواهر المرضية، وأن تلك الأمراض تستشري في أعماقنا إلى النخاع، فأصبحنا ننشغل عن أهدافنا الكبرى وطموحاتنا الحضارية بالتوافه والجزئيات، مما دعا إلى تغلب خصومنا علينا في جميع الميادين، وتقدمهم في كل شيء، وفي المقابل واجهنا ذلك بالتقهقر والتراجع في كل شيء، كأننا نعيش بلا رصيد ثقافي ومخزون معرفي، قادر على أن ينتشلنا من علل تلك البؤر، ويخلصنا مما نحن فيه من مساوئ، ونحن نواجه رهانات حرجة تفرض علينا تجاوز كافة الإشكالات العرضية والهامشية، في وقت نحن أحوج إلى توثيق جسور العلاقات باللحمة والتماسك، لمواجهة تلك التحديات الحضارية، والأخطار المحدقة بواقعنا ومصيرناT

--------------------------------------------------------------------------------

[1] الأنبياء/107.

[2] سبأ/28.

[3] آل عمران/182.

[4] آل عمران/104.

[5] البقرة/190.

[6] البقرة/113.

[7] الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، موسوعة الكتب الأربعة (ج2)، ص297، دار التعارف للمطبوعات، 1411هـ، 1990م.

[8] المصدر، ج2، ص297.

[9] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج70، ص291، مؤسسة أهل البيت،1410هـ 1989م.

[10] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص99، مؤسسة أهل البيت،1410هـ 1989م.

[11] المصدر، ج2، ص99.

[12] الحجرات/13.

[13] الشيرازي، آية الله السيد محمد الحسيني، الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام، ص75.

[14] المصدر، ص75.

[15] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص80، مؤسسة أهل البيت،1410هـ 1989م.

[16]الأنفال/24.

[17] المائدة/8.

[18] نهج البلاغة، صبحي الصالح،خ53، ص427، دار الكتاب اللبناني، 1980م.

[19] العاملي، محمد بن الحسن الحر، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج1، ص56، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 1403هـ، 1983م.

[20] الحراني، الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة، تحف العقول، ص362، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1394هـ، 1974م.

[21] آل عمران/159

[22] الشيرازي، آية الله السيد محمد الحسيني، الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام، ص413.

[23] نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص295، دار الكتاب اللبناني، 1980م.

[24] المائدة/18.

[25] فصلت/33.

[26] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج73، ص350 مؤسسة أهل البيت،1410هـ 1989م .

[27] الأنفال/1.

[28] الحجرات/10.

[29] النحل/116.

[30] النساء/59.

[31] الأنعام/152.

[32] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد.

[33] النحل/125.

الشيخ ناجي زوادالمجتمع بين تطلعات الوحدة وإجهاضات الفرقة2011/07/29 | قضايا إسلامية وفكرية,العدد (29) السنة 14 - 1424هـ/ 2003م | القراءات:7قراءة التطلعات والرؤى في فكر الإمام الشيرازي2011/07/29 | ملف العدد,العدد (30) السنة 14 - 1424هـ/ 2004م | القراءات:20آفاق منهجية في نظرية الإصلاح2011/07/28 | قضايا إسلامية وفكرية,العدد (31) السنة 15 - 1425هـ/ 2004م | القراءات:13الإصلاح الاجتماعي منطلقاته وأبعاده2011/07/03 | قضايا إسلامية وفكرية,العدد (33) السنة 15 - 1425هـ/ 2004م | القراءات:17ثقافة التعصب ومقتضيات الإصلاح2011/05/29 | قضايا إسلامية وفكرية,العدد (35) السنة 16 - 1426هـ/ 2005م | القراءات:35 1 2
المصدر: http://albasaer.org/index.php/post/250

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك