بين هيمنة التعصب وحرية الفكر

بين هيمنة التعصب وحرية الفكر

محمد حسين فضل الله

يرى البعض أنَّ من الظواهر التي تطالعنا في العالمين العربي والإسلامي، ظاهرة المواطن العادي الذي ينصب نفسه رقيباً وشرطياً يجيش الدين أو الطائفة أو السلطة المدنية ضد ما يراه كفراً من وجهة نظره، وعندما نريد دراسة هذه الظاهرة، نجد أنها تنطلق من حرفية المفردات الدينية التي يستهلكها المواطن في وجدانه، ليحركها في الواقع الذي يحيط به. فالدين بحسب طبيعته، هو حالة ترتبط بالقضايا المقدسة للإنسان، فتلامس شعوره قبل أن تلامس عقله، ولذلك فإن أي نوع من أنواع الاختلاف، حتى الذي لا يصل إلى موقع التحدي، يخلق حالة شعورية حادة تتمظهر بكل الوسائل التي يملكها هذا الإنسان في ساحته. ومن الطبيعي أن تختلف هذه الوسائل باختلاف المستوى الثقافي الذي يتمتع به هذا الإنسان في تصوره لتلك المفردات، كذلك في تأثره بكل العلامات والمواقف الحادّة لها. وليس غريباً أن تنوجد هذه السوية في أي حالة دينية في العالم، وهي تالياً ليست حكراً على الإسلام.

أسباب العنف في المجتمعات

وعندما يصار إلى التعمق في دراسة هذه ظاهرة الحدة أو التعصب أو العنف، فإننا نرى أنها ظاهرة شرقية أكثر مما هي ظاهرة دينية، بالمستوى الحاد لحركة الظاهرة في الوجدان وفي الواقع. فنحن نلاحظ أن التجربة العلمانية التي استهلكها الشرقيون منذ عصر النهضة وحتى اليوم ـ التي تحركت في دائرة الفكرة القومية أو الماركسية أو الاشتراكية أو في بعض تجارب الفكرة الوطنية ـ كانت تتخذ الأسلوب نفسه وتعيش الجو عينه.

في هذا الإطار نحن نجد إلى جانب المفردات الدينية من كفر وزندقة وهرطقة كلمات كالرجعية والخيانة، والعمالة، والسقوط، وما إلى ذلك، مما جعلنا نستهلك جماع القاموس المتوافر حتى نفزع إلى قاموس المفردات الأجنبية من إنكليزية وفرنسية ككلمة نازي، فاشي، توتاليتاري، وما أشبه ذلك. لذلك بت أتصور أن الحدة التي يعيشها الإنسان الديني المسلم في الشرق، هي الحدة نفسها التي يعيشها الإنسان العلماني في هذا الشرق، لا سيما ما يتصل بالمفردات التي تدور حول موضوعات عامة كالتقدمية والرجعية أو الكلمات التي تدور حول المسائل السياسية المباشرة.

من خلال ذلك نفهم أن هذه الظاهرة ليست ظاهرة دينية محضة بما هو المضمون الديني في العمق، وإن كان له دور في ذلك، ولكنها ظاهرة تتصل بالحالة الانفعالية الشرقية التي استطاعت الماركسية أن تزيدها عمقاً، من خلال الأسلوب الماركسي في مواجهة الفكر المضاد أو الإنسان المضاد. وإنني أزعم بأن الإسلاميين عندما لجأوا إلى بعض الأساليب الحادة فإنهم كانوا، في المسألة السياسية، يختزنون الأسلوب الماركسي في ممارستهم للإسلام.

مع ذلك ثمة علماني قومي مختلف، يعيش عقلانية هادئة في علمانيته أو في مضمون الفكر العلماني الذي يلتزمه، وثمة إسلامي أيضاً يمتلك ثقافة واسعة وعقلاً هادئاً يمليان عليه مواقفه وتصرفاته في المسألتين الفكرية والسياسية.

وقد يرى البعض الآخر أنه وسط الصراع الفكري والسياسي العام الذي من سماته العنف، تتبدى الحالة الإسلامية وكأنها متجلببة بثوب مطلق القدسية، فتتعالى على القوانين الوضعية وشرائع حقوق الإنسان. ونحن نرى أن المسألة هنا هي أنك عندما تلتزم بقانون، فإنك لا تستطيع أن تفرق بين خصوصية قانون ما وخصوصية قانون آخر. لأنه عندما تنطلق في حركتك المضادة أو التي تمثل ردة فعل، لا بد أن تنطلق من قاعدة. وما هي القاعدة هنا؟ إنها الفكر الذي تلتزمه، والوضع السياسي الذي تعيشه، وهذان يشكلان وضعية معينة، فتعتبر أن الخروج على هذه القاعدة المتصلة بأساس وضعي، يمثل خروجاً على إنسانية الإنسان أو على قوميته، أو على الأشِياء الكبيرة التي يعتبرها مقدسات بطريقة علمانية، إذا صح التعبير، في هذه الحالة لا يختلف الإنسان الديني عن الإنسان الآخر، ولكن المسألة التي ترتبط بها، هي مسألة المضمون الديني. فالمضمون الديني يربط المسائل بالله، ولكننا في الوقت نفسه، نجد أن هذه المسألة عندما تدخل في المضمون الفكري، فإنك تعثر على إمكانية وجود أكثر من اجتهاد في فهم إرادة الله وفهم شريعة الله، ولهذا فإن المطلق في الفكر الديني يبقى محدوداً عندما يتحرك في تفصيلات المسألة الفكرية.

إننا عندما نريد أن نضع هذه القضية (العنف المتبادل) في نطاقها الطبيعي، يجدر بنا التساؤل مثلاً عن القومي الذي يعيش انسجاماً مع السلطة المدنية، كما أنه علينا أن نحدد ملامح هذه السلطة المدنية، هل هي السلطة المدنية التي تنفتح على الفكر القومي وتجسده قوانين ومناهج ومواقف؟ أم السلطة المدنية التي هي في تضاد مع الفكر القومي؟

إن القومي عندما يقف أمام سلطة مدنية تعادي الفكر القومي، فإنه يقف موقف اللاشرعية منها، فيُقمع عندما يتخذ موقفاً صلباً، ويُقمع عندما يتحرك في مواجهة السلطة. وهذه هي حالة المسلم أيضاً عندما يواجه سلطة غير إسلامية، فهو يرى الشرعية في الإسلام، كما يرى القومي الشرعية في الخط القومي، حسب ما يفهمه في إطار ومضمون الفكرة القومية، ليس هناك فرق في هذا المجال بين الإثنين. ومن الممكن جداً أن لا تجد القومي ثورياً في بعض الحالات، انطلاقاً من خضوعه للظروف الموضوعية، وربما لا تجد المسلم ثورياً في كثير من الحالات، سواء عندما تكون هناك ظروف موضوعية للثورة أو عندما لا يعيش معنى الثورة ككثير من المسلمين الذين يقولون: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[النساء:59] حتى لو كان أولو الأمر خونة أو منحرفين. غير أن المسألة عندما تتجه إلى الإسلاميين الحركيين فإن القضية تتحرك كما عند القوميين الحركيين.

وهنا لا أعيش عقلية التبرير أو الإدانة، ولكني أعيش ذهنية فهم الظاهرة بشكل موضوعي، لأنني لم أتحدث حتى الآن عن طبيعة تقويم الظاهرة في مسألة الصواب والخطأ وإنما أتحدث عن ملاحقة الظاهرة في خصائصها الموجودة على الأرض. ربما تكون فكرتك ـ المقياس، فكرة وضعية تلتزمها لتقيس التفاصيل على أساسها، وربما تكون تلك الفكرة دينية، يجري الالتزام بها بالسوية عينها.

أنني اتصور أن الكثير من حركات العنف التي تصاحب فتوى من هنا، وأخرى من هناك، تنطلق من مواقع العنف الذي يلف الأجواء الموجودة في الشرق أو في العالم الثالث والتحديات التي يواجهها من خلال القوى الكبرى، ولذلك فإن الأمر قد ينطلق من اختلاط المسألة الدينية بالمسألة السياسية أو اختلاطها والمسألة الأمنية، ولكن كثيراً من الناس يشيرون إلى نقطة واحدة من كل هذه النقاط المتعددة أو المتناثرة، دون أن يدرسوا طبيعة الواقع الموجود الذي قد تكون فيه المسألة السياسية أكثر حساسة من المسألة الدينية، أو المسألة الأمنية أكثر حساسية من المسألة السياسية وهكذا.

بين منطق السباب وحرية الفكر

أما بالنسبة إلى ما يقال عن تعدد الفتاوى فإن المسألة هنا تحصل كما في الفكر الوضعي تماماً، ألا يختلف الناس في تفسير القانون؟ ألا توجد اجتهادات متنوعة في القانون؟ إنّ الفتاوى تنطلق من قواعد في الفكر وفي الشريعة تماماً كما هي الأحكام التي تنطلق من مواد قانونية مندرجة في هذا القانون أو ذاك. إن الأحكام الفقهية والفتاوى تستند إلى مضمون إسلامي، كما هو الحال بالنسبة إلى قضية المرتد. مع ذلك لا نعثر على ممارسات فقهية إسلامية قاطعة بحق المرتدين في العالم الإسلامي. لكننا حينما نواجه قضية كقضية سلمان رشدي، نجد أنها أثيرت في دائرة الصراع بين الإسلام والغرب، ولهذا فإنها أخذت بعداً سياسياً إلى جانب البعد الديني، وخرجت على أن تكون قضية حرية فكر، وقد تطورت لتمثل تحدياً غربياً للإسلام وفي الوقت نفسه رد التحدي من قبل الإسلام للغرب. وتحول رشدي إلى رمز غربي ضد الإسلام بإسم الحرية، وتحول كذلك إلى رمز مرفوض إسلامياً من خلال إساءته إلى النبي(ص)، فمثلاً ربما لا تثير مسألة طه حسين أو نجيب محفوظ اهتمام الإنسان العادي في العالم الإسلامي لأنها مسألة تتصل بالمواقع الثقافية. وفي المواقع الثقافية يمكنك أن تتحدث بعقل بارد. ومع احترامنا لكل الدراسات التي تحدثت عن موضوع رشدي، فإننا لا نستطيع أن نحصر قضية مؤلف "آيات شيطانية" في إطار حرية الفكر بالمعنى الموضوعي لحرية الفكر. ربما انطلق سلمان رشدي بداية بنص أدبي يشتمل على إيحاءات، لكن تلك الإيحاءات اصطدمت بالحالة الوجدانية الإسلامية العامة. من مثل التحدث عن النبي بهزء وبطريقة أقرب إلى السخرية والسباب. والاستهزاء في هذا المقام لا يمكن أن يوضع في خانة الإبداع والفن، كما أنه لا يوجد ما يلزمنا بالتحرك في خط الإبداع كما لو كان مطلقاً. من هنا فإن قضية رشدي تعاظمت لأن المؤلف صدم الوجدان الإسلامي بطريقة قاسية وبعيدة عن الاحترام. وهكذا لا بد لنا في كثير من الحالات أن ندرس المسألة من خلال كل العناصر، وإن كانت بعض هذه العناصر انطلقت من واجهة معينة، هي موضوع الحكم الديني بالنسبة للمرتد.

هناك فرق بين أن تتحدث عن هذه المسألة في الإطار الهادئ الثقافي وبين أن تتحدث عنها في حرب حارّة يستعمل كل طرف فيها أسلحته. ففي حالة الحرب لا تستطيع أن تلقي أسلحتك بقطع النظر عن طبيعتها مع العلم أنّ هناك مرتدين كثيرين في إيران والعالمين الإسلامي والعربي، يكتبون كتباً متنوعة في هذا المجال، ولم تصدر فتاوى بقتلهم.. وإلا كان علينا، لو كان الأمر حاصلاً، أن نقوم بحملة تتناسب مع حجم الظاهرة.

التخلف يشمل الجميع

إننا عندما ندرس التاريخ الإسلامي، نجد أن الثقافة والإبداع والفنون شهدت نمواً متقدما ًفي الأجواء الإسلامية، التي كثيراً ما توصف اليوم بالتخلف. فأن تتحدث عن حقبة معينة في الواقع الإسلامي شهدت ممارسات معينة، لك أن تتحدث أيضاً عن حقبة أخرى شهدت ممارسات فظيعة جداً في التاريخ العالمي غير الإسلامي. هناك ممارسات إسلامية غير مبررة توازيها ممارسات غير إسلامية في الإتجاه عينه.

إن الواقع الذي كان يعيش فيه لبنان، والذي كان يقتل في خضمّه العلماء والمفكرون والسياسيون والصحافيون في نطاق الفتنة التي كانت تديرها الأيدي الخارجية، أوجد مناخاً من الجنون جعل المواقع المتحركة في دوامة من العنف تصم الآذان وتحول دون سماع أي صوت، ولمنع القضية أن تكون صراعاً فكرياً مجرداً. وظاهرة الصمت عن القتل، مشتركة في تاريخنا القريب سواء في مواقف علماء الدين بالنسبة لبعض المثقفين، أو في مواقف العلمانيين بالنسبة لبعض علماء الدين. أين هو الصوت العلماني المرتفع تنديداً بإعدام الشهيد السيد محمد باقر الصدر؟ لماذا لم يستنكر الماركسيون الإعدام مثلاً؟ وهكذا ربما لا يستنكر رجال الدين إعدام رجل يقف ضد الدين، باعتبار أنهم لا يرون ضرورة للإستنكار، على أساس أن القضية المطروحة في الساحة ليست قضية حرية الفكر بالمعنى المطلق، وإنما القضية المطروحة في الساحة هي، وجود معركة حادة يتبادل فيها العلمانيون والدينيون الأدوار. هنا أنا لا أسوّغ ولكنني أفسر الظاهرة، أضف إلى ذلك أنّ هناك ما يجب أن نلحظه فيما يتعلق بالهيصات الدعائية والتضخيم الإعلاميـة، وهكذا نرى أنه عندما تحصل معركة وينطلق الإسلاميون بداخلها وتنطلق فئات أخرى، فإنّ الاتهام يوجه إلى الإسلاميين.

تحديد معايير الخطأ والصواب

إنّ ما يحدد الخطأ والصواب في الإسلام، هو مسألة البرهان والحجة، وفي سياقهما تتاكد المسألة العقلائية حتى في دراسة وتقويم المضمون الديني، كذلك يتم تحديد كون هذا الأمر خطأ أو صواباً من حيث انسجامه أو عدم إنسجامه مع الخطوط الأساسية للدين. إننا نجد في القرآن الكريم عدة عناوين بهذا المعنى: {قل هاتوابرهانكم إن كنتم صادقين}[النمل:64]{ها أنتم هؤلاء حاججتم في ما لكم به علم فلِمَ تُحاجّون في ما ليس لكم به علم}[آل عمران:66]. إنه يؤكد على العلمية بمعنى اليقين الوجداني كأساس للحركة: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً}[الاسراء:36]. لذلك فإن مسألة عقلانية الجدل في عملية الخطأ والصواب التي تعتمد على مفردات الفكر والبرهان وما إلى ذلك، تمثل رقابة في المجال الفكري. وعندما نريد أن ننزل إلى المستوى الواقعي، نجد أن هناك عناوين أيضاً للواقع، فالحاكم ليس مطلقاً، فالحاكم في الإسلام لا يملك سلطة مطلقة، ليس عندنا في الإسلام حاكم يقف أمام الناس ويقول لهم: أنا أحكم بإسم الله وليس لكم الاعتراض. إنه مرهون بالسقف الذي حدّده رسول الله عندما قال في آخر حياته: "أيها الناس إنكم لا تعلقون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلاّ ما أحلّ القرآن، وما حرّمت إلّا ما حرّم القرآن" أي أن هناك برنامجاً موضوعياً بين أيدي الناس، يناقشون من خلاله الحاكم، في حركته، حتى لو كان نبياً.

ونستطيع أن نؤكد أن لا كهنوت في فهم القرآن وتفسيره، وليس هناك فئة من علماء الدين في الإسلام تملك ـ وحدها ـ شرعية تفسير القرآن وشرعية تفسير السنّة، (بقول مطلق). خصوصاً إذا كان هناك آخرون يملكون ثقافة في اللغة العربية وجوانب العلم الأخرى، لذلك فإن المثقف الملّم بالأدوات التي تتيح له فهم النص الإسلامي، يستطيع أن يفهم ويستنتج، فالقرآن مشاع لكل الناس، والسنة مشاع لكل الناس أيضاً وقد يخطىء المرء فيهما، فينبه إلى خطئه، وقد يصيب، تماماً كما هو الحال في مجال العلم وأحوال المختصين به.

إن مسألة الإجتهاد في الإسلام مثلاً لا بد أن تخضع لضوابط، وحين نجتهد في فهم الإٍسلام، فلا بدّ أن نخضع لقواعد اللغة العربية في إيحاءاتها وإيماءاتها، والقواعد الأخرى التي تعين على فهم النص، وغير ذاك من الضوابط العلمية والثقافية. وعندما نستنطق العلوم الإنسانية، نجد أنفسنا نقف أمام المطلق بعيداً عن النص الإسلامي أو المجرى الإسلامي للتفكير، ومن الطبيعي عند ذلك أن نجد أنفسنا غير قادرين على الوصول إلى نتائج إسلامية محددة في هذا المجال، ولكن عندما نحاول أن نطل من خلال العلوم الإنسانية على النص الديني من أجل فهمه بطريقة أفضل، فإننا نستطيع أن نمارس حريتنا في هذا الفهم، كما يستطيع الآخرون أن يناقشوا في صوابية هذا الفهم وعدم صوابيته.

والمسألة بحد ذاتها بحاجة إلى إيضاح، فهناك حقائق علمية وهناك نظريات علمية. إنك لا تستطيع أن تعتبر النظرية العلمية، حقيقة. ولذلك فإن بعض الناس حين يتحدثون عن العلم سواء في العلوم الإنسانية أو غيرها، فإنهم يخلطون بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية. وكثيراً من أنصاف المتعلمين يعتبرون أن نظرية داروين هي حقيقة علمية، بينما هي نظرية علمية، ويستوي في ذلك الكثير من النظريات التي تناقش التاريخ الإنساني أو تتحدث عن عمر الأرض.

إن الإسلام لا يمنع الإنسان من أن يناقش حتى التاريخ الذي يتحرك في القرآن أو في غيره، ونحن نعرف في الثقافة الإسلامية نظريات واسعة تقول أن النص إذا خالف الحقيقة العلمية، فإنه يؤوَّل لمصلحة الحقيقة العلمية وتأويله لا ينطلق من تكلف، بل من خلال رحابة اللغة التي تتشكل في نطاق الإستعارة والكناية والمجاز وما إلى ذلك. ولقد كتبت منذ 25 سنة في إحدى المجلات في العراق، أن علينا ألا ننطلق في منهج الدراسات الإسلامية، مقتصرين على دراسة السند، لأنه ربما ينسب إلى الثقات أشياء غير معقولة، فعلينا أن نناقش السند والمتن معاً وندخل الظروف الموضوعية التي عاشها النص في ذلك الوقت لنصل إلى فهم عميق وممتد. أما الصور القاتمة التي تتبدى هنا وهناك في عالمنا الإسلامي، من حيث تحكم الجهل بالعلم أو تحكم الذين لا يعلمون بالذين يعلمون، فإنها لا تنحصر في الجانب الإسلامي فقط، بل في أكثر من موقع في العالم، وبديهي أن الذين يحكمون العالم اليوم، لا يملكون مستوى فكرياً متقدماً.

مشكلة العقيدة أم مشكلة العقائديين!!

إن العصبية الإسلامية، التي كثيراً مايجري الحديث عنها، هي حالة تمثل للفكر بشكل حاد، انطلاقاً من العوامل الخارجية التي تترك تأثيراتها على الإنسان. والعصبية الإسلامية بالمعنى المختنق للعصبية تعني أن لا تفسح للآخر أن يعبر عن فكره وأن لا تعترف بوجوده.

المشكلة أننا في الشكل متعصبون إسلامياً وعلمانياً ومسيحياً. وفي الواقع فإن مشكلتنا ليست متأتية عن المسيحية أو الإسلام أو الفكر العلماني، إنها مشكلة الذين ينتمون إلى هذا الفكر أو ذاك، عندما تضغط عليهم الأوضاع السياسية والأمنية والثقافية بشكل حاد، فمن الطبيعي في هذه الأجواء أن تشعر أن حريتك مصادرة.

غير أن هناك فرقاً بيت الالتزام والتعصب، الالتزام هو أن تنتمي إلى فكرة ما مع انفتاحك على الفكر الآخر. والتعصب هو أن تنتمي إلى فكر وتنغلق على الفكر الآخر. وهناك كلمة لأحد أئمة أهل البيت، هو الإمام زين العابدين في العصبية، أراني أكررها بشكل دائم: "" إنّ العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين. وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن أن يعين قومه على الظلم." هناك حديث عندنا يقول: " إن من تعصّب أو تعصب له فلقد خلع ربقة الإسلام من عنقه." إننا لا نعتبر التعصب تديناً، إنّ التدين هو الالتزام، أن تلتزم بالفكر شيء، وأن تتعصب له بمعنى أن تمنع الآخر من أن يناقشك في فكرك، شيء آخر. والعصبية هي أيضاً وأيضاً ليست حكراً على الإسلاميين أو الشرقيين، فهناك عصبية في الغرب، إن الغرب عندما يتحرك في بعض مفرداته ضد الشرق، يعيش شخصانية غربية في مواجهة شخصانية شرقية. المسألة التي نواجهها هي أن العصبية ليست حالة فكرية إنما هي حالة في تمثل الفكر، حالة في تمثل الانتماء، وهذه المسألة لا تتصل بطبيعة الفكر، وإنما تتصل بالأجواء التي تتحرك فيها مسألة الانتماء الفكري هنا وهناك.

إنني أتصور أن العلماء من رجال الدين يملكون رحابة فكر بحيث أنك تستطيع أن تناقشهم في كل شيء، وهم يدخلون في أي حوار حتى حول وجود الله. قد يكون العلماء قلة. ولكن عندما تتحدث عن ظاهرة فكرية، فيما هو الفكر، فإن من الطبيعي أن تتحدث عن الذين يملكون مسؤولية هذا الفكر. أما الذين لا يملكون مسؤوليته، فلا تستطيع أن تعتبرهم أصحاب فكر، بل هم من عناصر الظاهرة الاجتماعية المواكبة لهذا الفكر. أو الظاهرة السياسية لهذا الفكر. والظاهرة السياسية كثيراً ما تخضع لظروف حادة. علينا أن نعالج التعصب الديني كما نعالج أي حالة تعصب أخرى في المجتمع، إن القضية هي أنه عندنا حمى سياسية وفكرية ودينية، وعلينا أن نعمل جميعاً من أجل معالجة هذه الحمى. هناك فرق بين أن تقتل المريض المحموم وبين أن تشفيه.

انتهاك المقدسات الدينية خيانة!

إن ما يثار حول المثقف العربي الذي يقف أعزل بين تطاحن الأنظمة العربية والجماعات الإسلامية، ويبدو عالقاً بين مقدسين المقدس الديني والمقدس السياسي، يجعلني تواقاُ إلى تحديد المفردات: المثقف، الأنظمة، الخ. هل يمكن مثلاً أن نتصور المثقف خارج الزمن وخارج حركة الظروف الموضوعية التي تتصل بحياة الناس؟ إني أتساءل في الجانب السياسي أكثر مما أتساءل في الجانب الفكري عندما أقول لو أن مثقفاً انطلق ليفلسف ويشجع احتلال بلد ما لبلده، واضطهد من قبل جماهير بلده أو دولته باعتبار أن تشجيعه هذا يساعد المحتل على إلغاء كل المقدسات الوطنية والقومية، فهل نعتبر هذا المثقف شهيداً حياً وأننا يجب أن نصنع له تمثالاً؟ لا أود أن أمضي كثيراً في تبسيط المسألة، ولكن إذا اعتبرنا أن هناك مقدسات قومية أو وطنية ينبغي حمايتها، فلماذا لا نعتبر أن للمقدسات الدينية أيضاً احترامها وقداستها؟ لماذا نعتبر السلوك الأول خيانة وطنية وقومية. ولا نعتبر انتهاك المقدسات خيانة أيضاً؟

ليست الأرض وحدها التي تمثل علاقة حميمة بالإنسان، فالمقدسات أيضاً تمثل علاقة حميمة بالإنسان. إن هناك فرقاً بين أن تناقش فكر الإسلام وبين أن تسب نبي الإسلام أو تسخر منه. وهناك فرق بين أن تناقش المسألة السياسية في الجانب الوطني في عملية الاحتلال وغيرها ـ كالذين يناقشون المقاومة في لبنان الآن من حيث أنها تثير ردة فعل من قبل إسرائيل، فتلجأ هذه الأخيرة إلى التدمير ـ وبين أن تجلس وتستهزئ بالمقاومة وتيسر العذر للمحتل والمحتلين. إن هناك فروقاً بين هذه وتلك، ولكن عندما نريد دراسة المسألة في بعدها الإنساني، فإننا نقول إن المثقف لا يملك حرية في مجال المقدسات الدينية وإلاّ كان علينا أن نترك للمثقف الحرية في أن يخون وطنه، فلماذا إذن نرجمه بالحجارة أو نحكم عليه بالإعدام عندما يمارس خيانة الوطن!

بؤس ثقافي شامل

إن القمع الفكري الموجود في العالم الثالث والدول العربية هو قمع الإنظمة، لنحاول رصد القمع الذي يقوم به الإسلاميون، والقمع الذي يقوم به العلمانيون ـ إذا صحت تسميتهم بذلك ـ نجد أن نسبة القمع لدى الإسلاميين لا تصل إلى 10% .إن الممارسات التي تقوم بها الأنظمة في حجز حرية الفكر أو إنزال رتبته، لا تنطلق من نظرة إسلامية. غير ذلك، أنا أتهم التيار العلماني، أنه ليس مستعداً للدخول في حوار موضوعي مع الإسلاميين، لذلك نقول إن الإسلاميين الذين يختلفون في درجاتهم الفكرية ـ كما يختلف العلمانيون في ذلك ـ يملكون فكراً قد تناقشه فتوافقه أو لا توافقه، فلم تصر على اعتبار هذا الفكر، ظلامياً، رجعياً متخلفاً ومتعصباً... ولا تعترف أن هناك بؤساً ثقافياً قومياً؟!

إن كثيراً من القوميين ليسوا مستعدين أن تناقش معهم فكرة القومية، وغير مستعدين أن تناقش معهم فكر عبد الناصر أو فكر ميشيل عفلق وما إلى ذلك، إنني كإسلامي غير بعيد عن الواقع، وجدت نفسي أتحدث مع القوميين والناصريين والماركسيين منذ نشأتي الأولى، بطريقة موضوعية فالآية القرآنية تقول: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}[سبا:24]. هذه هي طريقة الإسلام في الحوار، تارة أقارعك بالقرآن لأقدم لك الفكر القرآني بطريقة عقلانية، فلماذا تعتبر ـ يا أخي العلماني ـ أن الحديث عن آية قرآنية لا ينسجم معك؟ أنت واحد من إثنين، مؤمن بالقرآن أو غير مؤمن به، وفي كلا الحالين، فإنني أقدمه لك على أساس أنه يمثل خطي الفكري، فلتتعرف إلى فكري، حتى أستطيع أن أناقشك من موقع فهمك لفكري وفهمي لفكرك.

إننا نجد كتباً كثيرة لمثقفين إسلاميين يناقشون فيها الفكر القومي من خلال رموزه وكذلك الفكر الماركسي وبطريقة علمية موضوعية، فهل ثمة ما يدعوك حين تقرأ فكر محمد باقر الصدر في "فلسفتنا" أو "إقتصادنا" إلى اعتبار ذلك الفكر من قبيل القمع الفكري للآخر؟ قد يكون هناك مفكرون قوميون بائسون يتساوون في البؤس مع بعض رجال الدين الأميين، ناهيك بأن الأمية متفشية هي أيضاً في أوساط القوميين والماركسيين. إن القرآن لا يفرض نصه على الذين لا يؤمنون به، لذلك قال لهم: {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[النمل:64].

الحرية الجنسية تحتاج لضوابط أخلاقية

إن الحرم الذي يفرض على بعض المؤلفات العربية في الجنس، لا يدل بالضرورة إلى أن هناك سلبية إسلامية حول الجنس، إن الذين يعيشون السلبية هم الشرقيون. عندما نطالع كتب العلماء الأقدمين، نجد "الكشكول" وكتاب "زهر الربيع". إن كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه" ألفه عالم مسلم، ولعلك لا تجد هناك أي كتاب أدبي من كتب الأقدمين إلا وتعثر فيه على حديث جنسي بالتعبير الصريح. إقرأ "الأغاني" وكل الكتب التي ألفت في ذلك العصر تقف على صحة الأمر. إن الشعراء الذين كانوا يتحدثون بطريقة إباحية، نقل شعرهم إلينا العلماء والأدباء والكتّاب المسلمون الذين عاشوا في القرنين الثاني والثالث إلخ. ولهذا فإني لا أعتبر أنّ مسألة الجنس من حيث المبدأ، مسألة محرمة إسلامياً، ولكن هناك ناحية لا تتصل بالموقف الإسلامي فقط، هي وجود كتابة جنسية رخيصة لا تمنحك أي قيمة أو قيمة فنية إبداعية بل أنها تصيبك بالغثيان في كثير من الحالات. قد نجد مثلاً، كتباً جنسية مؤلفة من قبل علماء مسلمين، ولكنك تجد الشعر الذي فيها، شعراً غير موزون، وتعثر فيها على كلمات غير دقيقة من حيث التركيب اللغوي العربي وهذه الكتب وغيرها، تؤثر سلباً في الوجدان العام باعتبار أنها تسيء في كثير من الحالات إلى البعد الأخلاقي خصوصاً في أوساط المراهقين والمراهقات.

إنني أتساءل في سياق النبرة الصارخة بالحرية لماذا لا نبيح المشاهد الفاضحة في التلفزيون؟ لماذا لا نبيح العري الذي يمثل الجمال الجسدي للإنسان؟ لماذا لا نبيح الكتب الرخيصة التي كتبت للإثارة؟ ثم أجيب أننا لا نستطيع التحدث عن مادة ثقافية بالمطلق خارج نطاق التوازن الاجتماعي، لذلك فإن الإسلام من هذه الناحية هو كالمسيحية وكأي نظام آخر يؤمّن التوازن الجنسي في المجتمع، حتى لا يقع هذا الأخير في الفوضى العمياء.

أما الكتب التي تتحدث بشكل علني عن الجنس فلا مشكلة معها، فهناك باب في الفقه الإسلامي يتحدث عن الحيض والنفاس. وتعيش من خلالها في أجواء جنسية إنما بطريقة معينة. ماذا تحدثنا كأناس مسؤولين في مجتمعاتنا الحالية، هل نقبل أن تنتشر الكتب الرخيصة بين المراهقين والمراهقات؟ هل أسمح لولدي أو لولدك، لإبنتي أو لإبنتك أن تقرأ هذه الكتب وهي في الخامسة عشر؟ إن المسألة تقتصر على الجانب الاجتماعي والمسألة الأخلاقية، ولا تقتصر بالمطلق على المسألة الثقافية. لقد عاش الإسلام في الشرق وانطلق منه، حتى أنّ النبي محمداً(ص) حين كان يؤتى بإنسان زانٍ إليه، كان يسأله عن خصوصية الحادثة بألفاظ نعتبرها فاحشة هذه الأيام، مما يدل على أن الناس كانوا يتحدثون عن الجنس بشكل طبيعي، تماماً كما يتحدثون عن الطعام والشراب. نقرأ في التراث الإسلامي أن امرأة جاءت إلى النبي محمد(ص) وهو جالس بين أصحابه وقالت: يا رسول الله زوجني. فالتفت النبي وقال: من لها؟ فقام شخص وقال: أنا، فقال له الرسول: هل معك شيء (فراش وغير ذلك)؟ فقال الرجل: كلاّ، ثم قال النبي: من لها؟ فقال هذا الرجل:"أنا". فسأله النبي: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم فأجابه النبي: زوجتك إياها. أما الآن إذا وقفت إمرأة في المسجد وقالت زوجني أيها العالم، يقول الناس: إن شرش الحياة قد انقطع.. إذن هناك ظروف اجتماعية ذات طابع قهري.

بعض الكتّاب مثل إحسان عبد القدوس يقحمون المسألة الجنسية إقحاماً في أقاصيصهم، وهناك كتاب غربيون يتناولون الجنس بطريقة طبيعية وفنية راقية، وهناك كتب تتخصص بالقُبل والنوم مع المرأة، لمزيد من الإثارة، وأنا لا أستطيع من خلال توازني الواقعي والاجتماعي أن أفسح المجال أمام كتب الإثارة فيتحول البيت عندي إلى حالة طوارئ جنسية.

إذن القضية ليست قضية مواقف علماء أو تحريم ومنع. فإذا جربنا على سبيل المثال، عزل العلماء فلم نستأنس برأيهم أو إشارتهم وأطلقنا الكتاب الجنسي والإباحي في المجتمع المحافظ وغير المسلم حتى، فماذا تكون ردة فعل المجتمع؟ إذهب إلى أي قرية من القرى المسيحية في البقاع وانشر كتاباً جنسياً سترى نفسك مواجهاً بالرفض والإدانة. القضية إذن منطلقة من اختلال علاقة النص الجنسي بالواقع الاجتماعي في تقاليده وعاداته بعيداً عن حدّ المسألة الدينية، فالمجتمع غير المتدين يحمل بدوره أفكاراً أخلاقية بطريقة تقليدية.

في سياق تطورنا الفكري يجب أن نواجه الأسئلة المباشرة بصراحة، هل نحن مع الحرية المطلقة للإنسان؟ وهل الأخلاقية تعني الحرية؟ حين نحل هذه المسألة الفكرية، تصبح باقي الأشياء تفاصيل، عندما نتحدث من خلال الفلسفة التي تؤكد الحرية الجنسية، علينا أن نعتبر أن العري حالة طبيعية وأن نمارس الجنس في الشوارع كما الأكل والشراب وإذا لم نفعل ذلك نكون قيدنا الحرية الإنسانية بالضوابط الأخلاقية الموجبة في مجتمعاتنا ثمة ازدواجية بين الفكر والواقع...

فنحن كشرقيين نعيش واقعياً حالة الشرف والعفة، وفكرياً نسير في عدة اتجاهات، فلماذا مثلاً، لا يسمح مثقف علماني أن يأتي شاب لينام مع شقيقته في المنزل كما هو حاصل في الغرب؟! ألم يتعاون ذلك الرجل الفلسطيني في أميركا مع زوجته على قتل ابنته لأنها انحرفت؟! نحن نشعر أنّ في داخل كل منّا بدوياً يتحرك في كل القيم المختزلة سواء كانت شعورية أو لا شعورية.

أخيراً إنني أتصور أن حركة الإنسان العلمية والثقافية تفرض عليه أن يطلع على كلّ شيء ويناقش في كل شيء. أنا لا أؤمن أن ثمة شيئاً غير قابل للنقاش ولذلك فإني أؤكد أن لا مقدسات في الحوار، وليس هناك شخص ممنوع أن تحاوره. إلاّ إذا كانت المسألة تتصل بمرحلة سياسية تجعل من الحوار أداة من أدوات الصراع السياسي، ولكن في المسألة الفكرية عليك أن تحاور كل الناس وفي كل شيء. وتكون الحجة والبرهان هما الأساس. ونحن نعتبر أن التاريخ الإسلامي في كل تجاربه هو تاريخ في التنوع الثقافي وقد جعل هذا التنوع من الإسلام حضارة ومن المسلم شخصية إنسانية غنية.

المصدر: http://www.alwihdah.com/fikr/adab-ikhtilaf/2010-04-26-1246.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك